من تاريخ الحبشة

تاريخ الحبشة حافل بالحوادث والعبر والمجد والمآسي، ولكن أكثره غامض، وقليله جلي. وسننشر فيما يلي فذلكات تاريخية عن الحبشة:

كان الدكتور «جونسون» أول من وضع القاموس الإنجليزي، ونقل إلى لغة قومه كتابًا بعنوان «رحلة في الحبشة»، وهي التي قام بها الأب «لوبو» رئيس إحدى بعثات الجيزويت فيما بين سنتي ١٦٢٤–١٦٣٣، وعندما غزا العرب الحبشة لم يجد إمبراطورها وقتذاك — وهو المسمى «داود» — مندوحة عن أن يطلب المساعدة من «دون كريستوفر دي غاما» نجل الرحالة البرتغالي المعروف، فأمده بأربعمائة من البرتغاليين صمدوا في قتالهم المسلمين أشهرًا غير قليلة، وقابل الإمبراطور «سيجويد» هذه المساعدة من البرتغاليين باعترافه بالبابا رئيسًا للكنيسة في بلاده غير أن هذا الاعتراف لم يدم طويلًا؛ إذ بعد موت الإمبراطور المذكور أُلحِقت الكنيسة بالحبشية في رعويتها إلى بطريرك الأقباط الأرثوذكس حتى اليوم.

(١) الحروب الحبشية القديمة

يقول المؤرخ الفاضل الأستاذ محمد عبد الرحيم:

لقد قضى تنازع البقاء على الإثيوبيين «الحبشيين» بحروب دائمة وفتن ثائرة، فكانت الأمة في عصورها الأولى وقرونها الوسطى بين سابق ولاحق وغالب ومغلوب، تقف تارة موقف المهاجم وتقف طورًا موقف المدافع مع قدماء المصريين والآشوريين بآسيا واليمانيين والحميريين وغيرهم، ولم يَعُد السيف إلى غمده إلا في فترات بسيطة قد لا تكفي للأهبة والاستعداد لدرء ما يأتي به الغد من كارثة كبرى وجائحة عظمى، حتى لا يكاد يرى المرء غير ملاحم دموية وحركات عسكرية ومفاوضات سياسية. وكانت مصر في سنة ٧٢٠ قبل الميلاد مفككة العُرى منقسمةً إلى عشرين ولاية صغيرة يُهيمِن على كل ولاية أمير مستقل، وكان بعضهم لبعضهم عدوًّا كملوك الطوائف بالأندلس، ولكل أمير من الحصون والقلاع ما يدعو إلى الدهشة. وقد ظهر في الوجه البحري ملك يُدعَى «تفنخت»، وكان هذا جريئًا مقدامًا طامح النفس، يريد التغلب على تلك الولايات الصغيرة ليمد نفوذه على جميع القطر المصري؛ فعبأ جيوشه وهاجم تلك القلاع والحصون حتى تم له إخضاع قسم صالحجر وقسم أتريب وقسم منف، ولم يستطع أحد من الأمراء أن يوقف تقدمه، ولم يزل كذلك حتى اجتاح بلاد الصعيد ودان له بعض أمرائها بالطاعة وفرض عليهم الضرائب وكانوا خاضعين لمملكة إثيوبيا، ولما بلغ ذلك «بيعنخي» الإثيوبي تميَّز غيظًا وعقد النية على محاربة الملك «تفنخت» المصري الذي سطا على أملاكه بلا مسوغ. وهناك تقدمت جيوش إثيوبيا وحاربت الجيوش المصرية حتى قضت على نفوذها في صعيد مصر، وقد وُجِدت أخبار تلك الحرب العظيمة مدوَّنة على الآثار بالهيروغليفية، فنقلها من تاريخ السودان القديم الدكتور حسن كمال باشا الأثري الشهير، فقال يبتدئ الأثر بالعبارة الآتية:

في غرة شهر توت سنة إحدى وعشرين من حكم «بيعنخي» قال جلالته: بلغني أن تفنخت تغلب على مدينة منف واستولى على الصعيد، فأطاعه الأمراء وأعيان البلاد ولم يُغلَق دونه حصن، واعترفوا له بالسيادة في أقسامهم، فأباح لهم الحكم على البلاد كما كانوا؛ فعظموه بما يستحقه ذكاء عقله، فانشرح فؤاده. قال بيعنخي: وكانت تأتيني الرسل كل يوم من الأمراء وقواد الجيوش سائلة عن سبب سكوني وعدم مدافعتي عن بلاد الوجه القبلي وأقسامها ومخبرة لي بما فعل «تفنخت»؛ فأمرت قوادي وضُبَّاط عَسْكرِي الذين كانوا في مصر أن استعدوا لقتاله وسَلْب مواشيه وسُفُنه التي في النيل، وأمددتهم بجنود ونصحت لهم بعدة نصائح قبل توجههم إلى القتال، فقلت لهم: «لا تهاجموا في أثناء الليل هجوم المتلاعبين بل اهجموا متى رأيتم أن العدو أعد جيوشه وخيوله للمسير إليكم، وإذا قامت الحرب فاعلموا أن آمون هو الذي أرسلنا إليهم، فإذا وصلتم مدينة طيبة فاغتسلوا في مياه معابد آمون واسجدوا له وقولوا: ثبِّت أفئدتنا على الحق لنحارب في ظِلِّ سيفك.» ففعلوا ما أوصاهم به، ثم زحفوا منحدرين في النيل، فقابلتهم سفن حربية عليها جند كثيف مُسلَّح، فحدثت بينهما معركة هائلة أظهر فيها الفريقان غاية الحرص، إلا أنه ما لبث أن تطرق الوهن إلى عزائم المصريين؛ فتغلب الإثيوبيون عليهم وغلبوا تلك السفن الحربية المصرية والآلات والمؤن، وهناك تضاعفت همم عسكر الإثيوبيين وزاد نشاطهم؛ فاستأنفوا الزحف شمالًا. هذا ورغمًا عن تضافر أمراء الأقاليم المصرية على مظاهرة الملك «تفنخت» فإن الإثيوبيين تغلبوا عليهم وظفروا بهم، ثم كتبوا إلى ملكهم «بيعنخي» كتابًا ذكروا فيه أسماء من قتلوهم من الأعداء، فما كاد ذلك الملك يقرأ كتاب قواد جنده حتى استشاط غضبًا وتميَّز غيظًا وتلوَّن كالنمر وأمرهم بأن لا يتركوا جنديًّا من جيوش مصر إلا قتلوه؛ فأوغل الإثيوبيون في بلاد مصر ولحق بهم الملك «بيعنخي» وتولى القيادة العامة بنفسه، ولما وصل إلى مدينة أرمنت سلمت إليه بعد قتال شديد دام الكر والفر فيه متبادلًا بين المصريين والإثيوبيين وبعده خرج حاكم أرمنت ووقف خاضعًا أمام ملك إثيوبيا، ثم قال له: «لقد جعلتني سطوتك في هذه الحال!»

وأحضر إليه الهدايا والطرف من الخيل، ثم جاء ملك أهناس بهدايا من ذهب وفضة وأحجار نفيسة وجياد بديعة، ولما تشرف بالمثول أمام ملك إثيوبيا خر ساجدًا تواضعًا وإجلالًا. وهناك أيقن المصريون بشدة بطش ملك إثيوبيا وجبروته وأوجسوا خيفة من شره، ومن ثم دانت له البلاد وطأطأت لسطوته الأجناد؛ فأوغل في بلاد مصر حتى بلغ مدينة منف، وكتب إلى سكانها قائلًا: «لا تقفلوا أبوابكم ولا تحاربوا أيها الناس القاطنون في المدينة؛ لأني سأدخل وأخرج من غير إساءة إليكم.» إلا أن سكان المدينة لم يأمنوا على حياتهم منه وصمموا على حربه ورده خائبًا، وهيهات! وكانت المدينة إذ ذاك محاطة بسياج من مياه الفيضان، أما جلالة الملك بيعنخي فإنه عقد مجلسًا حربيًّا من قواد جنده، وقرَّ رأيهم على دخول «منف» عنوة. وهناك صفَّ الأسطول الإثيوبي حول المدينة ووُجِّهت سهامه عليها، وبدأ بهجوم عنيف، وفتك عسكر الإثيوبيين بالمصريين فتكًا ذريعًا ودحضوا من شوكتهم بسرعة مدهشة، ودخل جلالة الملك بيعنخي معبد «بتاح» وقدَّم له القربان من بقر وعجول وأوز وغير ذلك من أنواع القرب، ثم دخل قصر المنف. وكانت هذه المعركة من أهم البواعث في إخضاع القطر المصري لملك إثيوبيا الذي أتته أمراء الوجه البحري يحملون الجزية والهدايا خاضعين لسلطانه، وقد سار جلالته إلى عين شمس لأداء الصلاة شكرًا لما أفاء الله به عليه من فتح عظيم وخير عميم، فوفد إليه بها أربعة عشر أميرًا من أمراء مصر، وبعث إليه الملك تفنخت رئيس المصريين يقول له: «اكتم غيظك؛ فإني وجل من رؤيتك لعدم مقاومتي نار حربك وامتلأ قلبي بفزعك؛ فأسألك العفو عني، وأعلم أنك بذرت بذورًا حصدت محصولها في إبان حصادها.» ثم أردف ذلك بهدايا قيِّمة من الذهب والفضة، وأقسم يمينًا مقدَّسة بأن لا يخالف له أمرًا ولا يعكر لسياسته صفوًا ولا يسيء لأحد من عماله؛ فرفض ملك إثيوبيا وعفا عنه بعد القدرة عليه، وما كاد يمر ملك إثيوبيا في بلاد حتى هتف له المصريون قائلين: «أيها الملك المنصور، لقد أتيت وحكمت الوجه البحري وحل الفرح في قلب أمك التي ولدتك فصرت شهمًا، وأعطاك آمون جوهرة؛ فبُشرى لكِ أيتها البقرة التي ولدت ثورًا كان على ممر الدهور ذكرًا مخلَّدًا وملكًا مؤيَّدًا، ألا وهو الملك المحب لطيبة.» وقد كان ذلك النفوذ الإثيوبي في مصر واختلاط الإثيوبيين بالمصريين اختلاط الحاكم بالمحكوم عادة سببًا أكسب الشعب الإثيوبي صبغة مصرية بحتة، حتى أُشكِل على بعض الأثريين، فقال اليونانيون منهم: «إن السودان أصل رقي مصر ومنشأ مدنيتها.» وذلك لما رأوه من تربية بيعنخي وأنظمته وما شيَّده من المعابد والآثار المحلَّاة بالنقوش والكتابة الهيرغرافية بالقطر المصري. وما لبث ذلك المظفَّر زمنًا طويلًا بمصر حتى حن لوطنه ومسقط رأسه بمدينة نبتة «أي مروي»؛ فعاد إليها بعد أن سلَّم مقاليد الأمور إلى تفنخت المصري الذي حلف له يمين الطاعة كما أسلفنا.

وما كادت جيوش إثيوبيا تصل إلى نبتة حتى ثار المصريون وشقوا عصا الطاعة؛ فانعسكت الآية وكانت النهاية بداية، فهذا أمر طبيعي وحكم بديهي متى حانت للمغلوب الفرصة لاغتنام الحرية ونزع قيود العبودية. أما تفنخت فقد رُدَّت بضاعته إليه، وانتحل لنفسه الألقاب الفرعونية، وجيَّش الجيوش الجرارة، وأعدَّ السفن الحربية، وظل ثماني سنين في حرب عوان مع بعض أمراء مصر الخارجين عليه حتى أخضعهم لطاعته، ومهدت له البلاد ودام نافذ الكلمة فيها إلى أن أدركته الوفاة، وخلفه ابنه «بوكوريس» مؤسس العائلة الرابعة والعشرين. وبقي صعيد مصر في يد مملكة إثيوبيا، وكانت الحدود الفاصلة بين مصر وإثيوبيا مدينة «أهناس» الداخلة في نطاق النفوذ الإثيوبي، ووالي هذه المدينة هو قائد الأسطول الإثيوبي. وقد شيَّد بيعنخي معبدًا للمعبود «موت» وآثارًا بسيطة، ولكنه كان ذا دهاء وذكاء، فأراد أن يحتفظ لعائلته بسلطة «آمون» ووراثة عرش مصر؛ فوهب زوجته المسماة «أمادريس» إلى شعب «نوبت» الأميرة الكاهنة بنت الملك «أوسور كون» الثالث في طيبة، وكان ذلك في سنة ٧٠٧ قبل الميلاد.

ومن أغرب ما رواه التاريخ أن كبشًا نطق في السنة السادسة من حكم الإمبراطور الروماني أوغسطوس، فقال: «إن مصر ستبقى تعسة تعبة تسعمائة سنة.» وكان القطر المصري إذ ذاك مهدَّدًا بغزو الآشوريين، وكان الولاة لا يُقدِّرون المسئولية حق قَدْرها، فصدق الله نبوءة الكبش، فتضاءلت حالة البلاد المركزية، وتعارضت الأهواء السياسية، واضمحلت موارد الثروة، وأجدبت الأرض، وأخذت الترع والقصور في التلف. وجاء في التوراة ما معناه:

إن ملوك تانيس صاروا لا عقول لهم، وملوك منف ضلوا وأضلوا قومهم؛ فقضينا أن نعطي مصر لرجل جبار يتولى أمرها ويدير شأنها. ففسَّر الأحبار الملك الجبار بالملك «شاباكا» الإثيوبي.

وقال المؤرخ السيد محمد عبد الرحيم: لم يهمل الإثيوبيون التدبير لاسترجاع ما فقدوه من ولايات مصر التي نادت باستقلالها بعد أن تُرِكت في يد الملك تفنخت، بل حشدوا الجيوش وأعدوا المعدات ووطَّدوا العزم على غزو مصر مرة ثانية لتدارك ما فات وللاحتفاظ بما هو آتٍ.

وفي سنة ٧١١ قبل الميلاد بدأت قوات إثيوبيا في زحفها شمالًا تحت قيادة الملك شاباكا أخي بيعنخي وزوج ابنته، وقد أمكن جيوش الإثيوبيين إخضاع مصر بغير عناء ووقع الملك بوكوريس في أسر «شاباكا» الإثيوبي، فدفنه حيًّا — حنقًا وتشفيًّا — وتبوَّأ شاباكا عرش مصر، وهو الذي أسس العائلة الخامسة والعشرين. وكانت مصر إذ ذاك مهددة بغارات الآشوريين كما أسلفنا، وكان الملك الإثيوبي ماكرًا كثير الدهاء، فأشعل نار الفوضى في فلسطين وسوريا، ووعد الآشوريين بالمساعدة إن تقدموا لاحتلالهم؛ فاغتر الآشوريين بتلك الوعود العرقوبية وتقدم ملك الآشوريين في جند كثيف وهاجم فلسطين. وبعد معارك دموية أسر «هوشع» ملك اليهود وحاصر سمرية إلا أنه مات بها فنادى الآشوريون بالقائد العام «سرجوز» ملكًا عليهم وهو الذي أخضع سمرية وواصل الآشوريون زحفهم إلى أن اشتبكوا مع جيوش مصر في حرب هائلة هُزِم فيها المصريون وفرَّ الملك شاباكا الإثيوبي ضاربًا في الصحاري والقفار ضالًّا عن الطريق حتى اهتدى إليها بدلالة راعٍ من فلسطين، ولما رأى المصريون فشل الملك شاباكا وفلول جنده إلى إخلاء الوجه البحري وعاد أدراجه إلى طيبة ومات بها الملك شاباكا غمًّا؛ لما مُنِي به من الهزيمة وتبديد جنده وقد خلفه ابنه «شاباتاكا» وكان الأمير كأبيه حزمًا وعزمًا وإقدامًا؛ فإنه ما كاد يقبض على زمام الأمور حتى انصرف انصرافًا كليًّا إلى تجييش الجيوش وإعداد المعدات الحربية، وكان المصريون — لحسن حظه — في شغل شاغل لتفرق كلمتهم وتعارض أهوائهم، وبينما هم يتنازعون على الرياسة إذ أحدقت بهم كتائب الإثيوبيين، فاجتاحت البلاد وبسطت نفوذها إلى أقصى حدود القطر المصري، وقبل أن يجني «شاباتاكا» ثمار نصره المبين وثب عليه طهراقة بن بيعنخي، فقتله في سنة ٦٨٨ قبل الميلاد، وتولى المُلْك مكانه، ودعا أمه من مروي إلى مدينة «تانيس» عاصمة الإثيوبين بمصر في تلك العصور؛ لكي تتمتع بحقها في الملك باعتبارها والدة جلالته، ولقد مهدت البلاد لطهراقة ودانت له الأمة المصرية بالطاعة عشر سنين لم يحدث في غضونها ما يعكر صفوه ولا نُكِّست أعلامه لخطب جلل، بل خطا بمصر خطوات متناسبة؛ حيث شيَّد بها قصورًا شامخة ذات شرفات بديعة، وزيَّنها بالأثاث وبالرياش في تانيس ومنف وطيبة، ولم يشغله ذلك عن الاستعداد لدفع ما تتمخض به الأيام من الطوارئ الأجنبية التي تحدق بالبلاد من آنٍ لآخر، خصوصًا من البلاد الآسيوية، بل أعد لها ما استطاع من قوة. وفي سنة ٦٨١ قبل الميلاد تولى على مملكة الآشوريين ملك يُدعَى «آشور أخي الدين» وكان هذا جريئًا إلى درجة التهور، فرأى نفوذ مصر في سوريا وفلسطين يتعاظم شأنه، وربما يكون خطرًا يهدِّد كيان مملكة آشور فزحف في جند كثيف لغزو مصر، وبسط نفوذه عليها أو — على أقل تقدير — خض شوكتها، فتنجاب سُحُب الخطر عن نظره.

وما كادت جيوش الآشوريين تصل إلى شرق الدلتا حتى خرجت للقائها الجيوش المصرية بقيادة جلالة الملك طهراقة، وهناك اصطدم الفريقان، وجرت بينهما ملحمة دموية اشتد فيها الطعن والضرب. وقد أظهر المصريون إذ ذاك أقصى ما يُستطاع من ضروب البطولة والاستخفاف بعزمات العدو، حتى تمكنوا بذلك من كبح جماح الآشوريين، وفطم مطامعهم في استعمار القطر المصري، إلا أن تلك الهزيمة لم تفتَّ في ساعد العدو الذي ما لبث أن كر راجعًا في سنة ٦٧٠ قبل الميلاد، وباغت مصر بحرب مزَّق بها الجيوش المصرية شر ممزق، ودخل البلاد قسرًا بحد السيف، ولما أطلت جيوش الآشوريين على مدينة منف أخلاها الملك طهراقة فارًّا إلى الوجه القبلي. ولما رجع الملك آشور أخي الدين نقش على صخور نهر الكلب بجوار رمسيس الثاني كل ما عمله بمصر وفلسطين، وبيَّن للملأ انتصاراته الباهرة في كرته الجريئة على مصر، وصوَّر نفسه في شكل رجل عظيم يقود أسيرين تدل صفاتهما على أنهما ملك الشام وطهراقة ملك إثيوبيا.

هذا وجاء في تاريخ السودان لمؤلفه حسن باشا ما نصه: «وهكذا حكمت مملكة آشور مصر بعد أن حكمها الليبيون فالسودانيون، ولا يخفى أن هذين الأخيرين كانا شديدَيْ الشبه بالمصريين، يحافظون على ديانتهم وعاداتهم وأخلاقهم، ويتطبعون بطباعهم ويتقلدون بملوكهم.» وقال علماء الآثار أنه لم يثبت لديهم للآن أن الآشوريين تقلبوا على مدينة طيبة، وإنما من المعلوم أن الملك طهراقة التزم خطة الدفاع في شمال بلاد النوبة. أما ملك آشور فإنه عاث فسادًا في بلاد الوجه البحري وشدَّد النكير على سكانها، حتى اضطرهم إلى الاستنجاد بالملك طهراقة، فأخذوا يراسلونه سرًّا لإنقاذهم من الكابوس الآشوري المخيم على ربوع البلاد، ولكن سرعان ما بلغ ذلك آشور أخي الدين الذي قبض على دعاة الفتنة وأودعهم أعماق السجون. أما الوجه القبلي فلم يزل خاضعًا لطهراقة الذي ولى ابنه «تانوت آمون» حاكمًا عليه في سنة ٦٦٣ قبل الميلاد، وجعل مقامه في طيبة وبقي هو في نبتة «أي مروي»، وكان «تانوت آمون» كبير الهمة طامحًا إلى استرجاع ما فقده أبوه من أملاكه بمصر، فتأهب لذلك وسار في جند كثيف إلى الشمال، وحارب أمراء الوجه البحري وأخضعهم لحكمه، ولكنه ما كاد يعيد السيف إلى غِمده حتى كرت عليه جيوش الآشوريين في سنة ٦٦١ قبل الميلاد، وفتكت بالجنود المصرية الإثيوبية وخرَّبت مدينة طيبة وسلبتها مجدها، وهدمت الحصون والقلاع.

ولما اشتدت وطأة الآشوريين بمصر طمحت نفوسهم إلى ما وراءها، وضعفت لدى الإثيوبيين إلى درجة العجز عن وقاية الحقوق وحماية الأرواح وصون الأعراض؛ أجالوا الفكرة وأمعنوا الروية في بقاع القارة الأفريقية، فلم يجدوا أرحب صدرًا ولا أخصب أرضًا ولا آمن جانبًا من قطرهم الحالي، كثير الجبال والكهوف والغابات؛ فقرروا الانتقال إليه شيئًا فشيئًا، أما العاصمة فنُقِلت إلى مدينة البجراوية في سنة ٥٦٠ قبل الميلاد، فبعدت الأمة قليلًا عن منطقة الخطر المحدق بها والذي كان يتهددها من غارات الآشوريين الذين عاقت سفنَهم الشلالاتُ، وبذلك فُطِمت مطامعهم وكفوا أذاهم عن الإثيوبيين الذين كان فصلهم عن مصر واختلاطهم بقبائل الزنج سببًا في تلاشي ثقافتهم المصرية التي رفعت مستواهم العلمي إلى ما كانت عليه فراعنة مصر كما تدل آثارهم الآن، واشتغل الإثيوبيون بحروب متواصلة مع قبائل الزنج لإخضاعهم وتسخيرهم لخدمتهم، وهذه وسيلة من وسائل الاسترقاق.

وعندما ساد الرومانيون في مصر ومدُّوا رواق نفوذهم إلى مروي السفلى وجزيرة الخرطوم انتقل الإثيوبيون مرة واحدة إلى هضابهم الشامخة وساحاتهم الفسيحة، وكان ذلك في خلال القرن الرابع بعد الميلاد، فوجدوا هناك حصنًا طبيعيًّا نسقته يد القدرة الإلهية بحالة كانت جنة لحياتهم السياسية وصيانة هيئتهم الاجتماعية منذ تلك القرون المتطاولة والعصور المتوغلة. وهنا فلنترك الماضي هنيهة ولنتساءل فنقول: ماذا يكون عندما تحدث الغارة الجوية التي تتألف من ألف طائرة إيطالية مسلَّحة فوق سماء الحبشة حتى تحجب ضوء الشمس لكثافتها وتصم الآذان بدوي المراجل وحفيف القوادم وقصف القنابل، وحتى تعقد بذلك إكليلًا من الغازات ومواد المهلكات على قنن تلك الجبال. وهل هذا وحده كافٍ لإرهاب الحبشة وإرخاء أعصاب أولئك الأُسْد التي تزمجر في زوايا الكهوف، فتترك العرين مذعورة من هول ما أصابها حتى تسير الفيالق الإيطالية لاحتلال أديس أبابا تترنح أعطافها على نغمات الموسيقى أظن الجواب سلبيًّا أكثر منه إيجابيًّا وإن قال قائل لماذا فنقول له أن الحبشة أمة جافة الطبع قضت جل حياتها بين صلصلة السيوف وموارد الحتوف وأنها حريصة على استقلالها إلى درجة الجشع. وقد ترى بطن الأرض خيرًا من طهرها عندما تفكر في سيطرة الأجنبي، وربما تلجأ إلى كهوفها وعندما يظن العدو أنه مهد بغارته الجوية طريقًا مأمونًا إلى الاحتلال سارت مشاته فتجد في كل عرين كمينًا وفي كل خطوة داء دفينًا، فيقبض هؤلاء الجفاة بحلاقيم ذلك الجند الجديد المتوغل في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا يصلح له غذاؤها، فتكون المصارعة عنيفة والمجزرة رهيبة مخيفة، وربك أعلم بالعاقبة؛ فسبحان القائل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.

هذا ولنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: قد اشتهر الإثيوبيون في هضابهم باسم الحبشة وما بقي منهم على شطوط النيل عُرِف باسم النوبة. والنب في لغتهم هو الذهب؛ أي: سكان بلاد الذهب. قال هيردوت: «وكان في إثيوبيا عين ماء تنعش أهلها،١ ومروج مخضرة يانعة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكان الذهب في بلادهم كثيرًا جدًّا، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأشياء الدنيئة كالسلاسل التي يسحبون بها الأسرى.» ويقال إن اثنين من ملوك إثيوبيا المعاصرين لقمبيز ملك مصر هما نستاسن وحروساتف أخضعا أكثر بلاد الزنج، وقهرا كل قائم في سبيل النفوذ الإثيوبي جنوبًا.

(٢) اكتشافات حبشية

كانت الآثار الإثيوبية٢ منذ عصورها الأولى في دثار الإهمال لم تمتد إليها يد المكتشفين سوى تلك النقوش والخطوط الهيلوغرافية القائمة على الجبال والصخور، لا يعرف السودانيون منها شيئًا عدا نسبتها إلى الأعمال الكفرية القديمة غير آبهين لها إلى سنة ١٢٣٦ﻫ الموافق ١٨٢٠م؛ حيث امتد نفوذ محمد علي باشا إلى ربوع السودان. ولقد أُمِيط الأذى عن سبيل العلماء الأثريين الذين أخذوا يجوبون الصحاري والقفار منقبين عن تلك الآثار العظيمة في نبتة، وصنم، وجبلة البركل … وغيرها بدنقلا، والبجراوية، وسوبا، وعلوي … وغير ذلك من البلاد الواقعة على ضفاف النيل. وإليك نبذًا صغيرة عن خلاصة تلك الاكتشافات؛ قال المرحوم كمال باشا: «كانت بلاد إثيوبيا مملكة شورى، فإذا أرادوا انتخاب ملك كانوا يعقدون في معبد آمون بمدينة نبتة مجلسًا يجتمع فيه الكهان والنواب الذين ينتخبهم القضاة وبعض العلماء والعساكر والضباط، فإذا اجتمع المجلس دخل الإخوة الذين هم من العائلة الملكية إلى معبد آمون ووقفوا أمام هذا المعبود المشير بأصبعه إشارة اتفاق إلى الإنسان الذي تريد الكهنة انتخابه من العائلة الملكية لتوليته الملك، ومتى تم الانتخاب واستقر الرأي على واحد جعلوه ملكًا عليهم وظل طول حياته تحت سلطة الكهنة، فليس له أن يشهر حربًا أو يجري شيئًا مهمًّا في الحكومة إلا إذا استأذن المعبود آمون وكهانه، فإن عصا أو أراد الاستبداد قرَّر الكهنة قتله، فلم يكن بد من تنفيذ هذا الحكم فيه. وكما كان هذا القانون مشدَّدًا على الملك أيضًا كان مشدَّدًا على الرعية، فإذا خالف أحد الرعية رأي الكهنة أو غيَّر أقل شيء في الشعائر الدينية عدُّوا عمله بدعة سيئة وحكموا عليه بالقتل.

وقد اتفق في آخر القرن السابع أن بعض الكهنة أتى بدعة سيئة في شعائر الدين المصري القديم، منها إباحة أكل لحم القربان نيئًا — وهي عادة بني الأسود — فتوجه الملك الحاكم إلى معبد آمون بنبتة وحكم بطرد من ابتدع شيئًا في الديانة، وحرَّق ما وجده من آثار تلك البدع السيئة؛ فعلى هذا أُخرِج أصحاب هذا المذهب الجديد من بلادهم إلى جهات بعيدة واتخذوا لهم فيها مساكن وتمكنوا من هذا تمكنًا قويًّا.» إلى أن قال: «لذلك استمروا ناهجين هذا النهج حتى ظهر سيدنا عيسى — عليه السلام — وبقيت هذه العادة إلى الآن متأصلة في بعض الحبشان، فهم يأكلون اللحم النيئ، ويسمونه «رنيدة».»

وبعد انفصال الإثيوبيين عن مصر ظهرت فيهم الثروة والغنى، وأصبح ملوك مصر يبعثون إليهم الجواسيس من بلاد الكنوز ممن يحسنون لغة إثيوبيا، فصار هؤلاء يرودون البلاد ويستكشفون أحوالها حاملين الهدايا لملوك إثيوبيا، وكانت مصنوعات من التبر، والحلل الحمراء الأرجوانية، والروائح العطرية، وأنبذة التمر التي كان يُعجَب بها ملك إثيوبيا. وأراد مكافأة ملك مصر على ما أسداه إليه من عظيم الهبات؛ فبعث إليه بقوس أوترها أمام سفرائه، وقال لهم ما معناه: إن ملك إثيوبيا ينصح ملك العجم أن لا يحضر إلا بنفسه لحربنا على كثرة جندنا ولا يكون حضوره إلا إذا قدر هو أو أحد رعيته أن يوتر قوسًا عظيمة مثل هذه القوس وحده كما أوترها وحدي في الحال، فإن لم يمكنه فليحمد الإله المعبود حيث لم يرزق إثيوبيا الطمع في المسير إلى بلادهم العجم.

فلما أُبلِغ ذلك إلى الملك قمبيز استشاط غضبًا وسار في جند عظيم يريد الحبشة طائشًا متهورًا مسلوب الحواس، فلم يعتنِ بتنظيم جيوشه ولا إعداد ذخائره، فظل في الصحراء بعساكره — أي في عتمور أبي أحمد — وما كاد يقطع ربع الطريق حتى بلغ الجهد منه مبلغًا عظيمًا، حيث انتهى إلى سهول رملية قاحلة لا ماء بها ولا كلأ، فأخذوا يأكلون دواب الحملة، ولما انتهت صار يأكل بعضهم بعضًا بالاقتراع؛ أي: كل عشرة رجال يقترعون واحدًا منهم، ومتى وقعت القرعة على رجل منهم أجهزوا عليه وأكلوه في الحال، ولما اشتد بهم الضنك خاف الملك قمبيز على نفسه، فقفل راجعًا بمن بقي من عسكره حتى وصل إلى طيبة، وأراد تعويض ما خسره فاستعمل أقصى حدود القسوة مع أهل مصر، وسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها من ذهب وفضة، ولما وصل إلى منف التي كانت أعظم مدن العالم، وكان هناك موسم مشهور لإقامة عجل جديد يُسمَّى «أبيس» على التخت المعد لإقامته، وكان يوم احتفال كبير ومهرجان فخم به جمع عظيم من الناس فرحين مستبشرين بذلك الموسم، فظن قمبيز أنهم مسرورون بهزيمته، فقتل الكهان والأمراء وأرباب المعابد، وبُعثِرت الآثار، فذاع ذلك وشاع وملأ الأسماع، فوقعت الرهبة في قلوب الإثيوبيين، وتقهقر تانوت آمون بما بقي من جيوشه إلى مروي. وكان ذلك آخر عهد الإثيوبيين بمصر، وقد أخذت مدينة طيبة في الاضمحلال حتى صارت تلالًا خربة تحوي أعظم آثار العالم صلابة ومتانة. وإلى هنا يعلم القارئ اللبيب أن دولة إثيوبيا عظم شأنها وتضخم سلطانها حتى ضمت إليها مملكة الفراعنة، وحاولت بسط نفوذها على دول آسيا، وكان ذلك الفشل الأخير مثبطًا لهمم الإثيوبيين، فلم يفكروا بعده في إعادة نفوذهم بمصر، بل كانوا يعانون عبأ ثقيلًا وهو رق الكهنة وغطرستهم التي تدل بوضوح تام على سخافة العقول وفساد العقائد الدينية. ولقد كان كهنة آمون يأمرون ملك إثيوبيا بالاستقالة فينزل عن عرشه بلا مسوغ، وفي بعض الأحيان يأمرونه بالانتحار فلا يسعه إلا أن يقتل نفسه بنفسه رجاء المغفرة من وثنه؛ فلله در ابن مطروح حيث قال:

يا له من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفلِ

وبفضل تلك العقائد وببركة أولئك الكهنة وهنت قوى الإثيوبيين وتضاءل نفوذهم وسقطت هيبتهم إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ فإن تلك الدولة الموطدة الدعائم التي كانت تهيمن على أقطار واسعة وأراضٍ خصبة وديار رحبة؛ صارت هدفًا لغارات المغيرين وعبث الطامعين، حتى اضطرت إلى إخلاء نبتة والتوغل في مجاهل أفريقيا إلى هضابها إلى الآن.

(٣) حول تسمية إثيوبيا بالحبشة

يقول المؤرخ الإيطالي «لامبرتي سورينتينو» بأن اللفظ الإفرنجي الذي بالإنجليزية Abyssinia وبالإيطالية Abissinia مشتق من اللفظ العربي «الحبشة» التي فعلها «حبش».
وقد رجعنا إلى القواميس اللغوية، ونجترئ بالخلاصة التي ذكرها «مجد الدين الفيروزآبادي» صاحب «القاموس المحيط» ص٢٦٦ جزء ٢ حيث قال:

الحبش والحبشة محركتين، والأحبش بضم الباء: جنس من السودان، جمعه: حبشان وأحابيش. والحبشة: بلاد الحبشان. والحبشان بالضم: ضرب من الجراد، وكثمامة الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة كالأحبوشة.

ولا يخرج ما ورد في القواميس الأخرى عن مثل هذه المعاني؛ فليرجع إليها من يشاء.

وقد ذكر مراسل البلاغ بأديس أبابا أنه قد تقابل مع أحد الوطنيين ممن تلقوا علومهم في مصر، فأظهر له دهشته من أن الصحف المصرية تسمي بلاده باسم الحبشة، وهو الاسم الذي يمقته الأحباش ويرون فيه إهانة لهم وتحقيرًا، وبهذه المناسبة نذكر لمحة تاريخية عن الاسمين ورأي الحبشان فيهما: أما عن كلمة «حبشة» فهناك فرضان فيها؛ الأول: وهو ما عُرِف عن أهالي الحبشة الأولين من سكنى المغارات والكهوف، وهذه تُسمَّى بالحبشة «واشا»، وقد عُرِفت بلادهم بهذا الاسم الذي حُرِّف وصار حبشة. وهذا الفرض في ظني لا يستقر، وإن كان بعض المؤرخين يأخذون به. أما الفرض الثاني: فهو تسمية البلاد باسم القبائل والشعوب التي نزحت من جزيرة العرب إلى بلاد إثيوبيا، وهذه القبائل كانت خليطًا من شعوب مختلفة؛ ولذلك سميت حبشات، وقد فتحت البلاد وأذلت أهلها، وكانت على شيء من الثقافة، فعلمت الوطنيين سكنى المنازل وتهذيب الأسلحة الحجرية، وأطلقت اسم الحبشة على بلادهم، ومعناها — كما ذكرت — خليط.

وكلمة إثيوبيا التي يعتز بها الأحباش هو الاسم الرسمي الذي تستعمله الحكومة في مكاتباتها الرسمية، وهذه التسمية ترجع في رأي علماء الأحباش إلى مجيء إثيوبس حفيد حام وتأسيسه لبلادهم، وقد عُرِفت البلاد التي أسسها باسمه فصارت إثيوبيا، وهذه كانت تتسع أحيانًا فتشمل أجزاء كبيرة من أفريقيا وآسيا حتى الهند، وتنكمش أحيانًا أخرى فتقتصر على الأجزاء الأفريقية المعروفة. وتروي الأساطير أن حاكمًا مسيحيًّا يُسمَّى «يوحنا» كان يحكم هذه الإمبراطورية الشاسعة التي كانت تضم جزءًا كبيرًا من الهند وبلاد العرب وشرقي أفريقيا، وكانت تُعرَف إذ ذاك باسم إثيوبيا، ثم قام أحد الملوك الأحباش واستقل بالملك وأطلق اسم إثيوبيا على بلاده.

هذا موجز تاريخي للاسمين، أما الأحباش فيرون في كلمة «حبشة» إهانة لهم ولبلادهم، ولا يجري هذا الاسم على لسان حبشي واحد؛ لأنه يذكرهم بعهد الذل الذي قاسوه من إغارة القبائل الأجنبية على بلادهم، فضلًا عن دلالته على عدم صفاء جنسهم وشعوبهم.

•••

على أن القراء يلحظون أننا آثرنا إطلاق لفظ «الحبشة» على البلاد الإثيوبية في تعليقاتنا وتأريخنا للحوادث؛ وذلك لأن «الحبشة» هو الاسم العربي وكتابنا بالعربية، ولأن الاسم يرجع إلى أساس معقول، فالحبشان خليط من الأقوام، ولا تزال الحبشة ذات رءوس وممالك، ولأن الكتب العربية والصحف المصرية والعربية تستعمل كلمة «الحبشة» في كتاباتها، فوجبت مراعاة هذا الاستعمال المشهور والذي في الوقت ذاته ليس خطأ أو بدعًا.

وليس لإخواننا الحبشان أن يبرموا بهذا الاستعمال، ومهما يكن معنى لفظ «الحبشة» منبئًا عن حطة أو مهانة في نظرهم، فإن التلفظ به ولا سيما على لسان المصريين والعرب لا ينبئ إلا عن أنه عَلَم على تلك البلاد المعينة المعروفة. والمعاني المستهجنة لبعض الألفاظ تفقد وجودها بالعرف والاصطلاح والاستحالة إلى مسميات محترمة.

ويشبه برم الحبشان باسم «الحبشة» مقت سكان بلاد «العجم» لاسم «العجم» ومطالبتهم بتسميتها «بإيران».

ولمجمع اللغة العربية الملكي أن يبت في اسم الحبشة، ويبدله إلى إثيوبيا أو نحوها.

(٤) الحبشة بين القرن الرابع والقرن التاسع عشر

يقول السنيور «لامبرتي سورنتينو» أن كلمة «الحبشة» مأخوذة من فعل عربي اسمه «حبش»، وأن «الحبشة» تكون إذن «مجموعًا من الأقوام!»٣

وفي القرن الرابع دخلت الحبشة في حظيرة المسيحية، وفي سنة ٥٢٥م ظهر مشروع غزو اليمن. ولكن انتشار الإسلام وقوته بعدئذ حملت الحبشان على الانسحاب من السواحل العربية، والاكتفاء بتوسيع الحبشة داخل القارة الأفريقية.

وتاريخ الحبشة في القرون الوسطى غامض جدًّا، وجملة ما يُقال فيه أنه كانت هناك ثلاث أسر تتنازع ملك الحبشة، وقامت حرب بين المسيحيين والمسلمين، وضعف المسيحيون حتى أنجدهم البرتغاليون الذين تغلغلوا في الحبشة من البحر الأحمر، وقتلوا زعيم المسلمين سنة ١٥٤٣، وبعد انتصار المسيحيين عادت الحبشة إلى الفوضى مرة أخرى. وكان دخول البرتغاليين سببًا في نشر المذهب الكاثوليكي، وانقسم مسيحيو الحبشة قسمين: قسم يؤازر المذهب الكاثوليكي، وقسم يقاومه. ونجح القسم الأخير؛ حيث اضطر النجاشي «سوسنيوس» الذي قبل الديانة الرومانية، إلى النزول عن الملك سنة ١٦٣٢ بعد حكم سبع سنوات، وخلفه النجاشي «فاسيليوس» الذي حكم من سنة ١٦٣٢ إلى ١٦٣٧، وأسس مدينة «جندار» في الشمال الشرقي من الحبشة وفي شمال بحيرة تانا، وما لبثت البلاد أن عادت إلى الفوضى وعاد الرءوس إلى طغيانهم ومنافساتهم، وكان النجاشي ضعيفًا طوع بنانهم، يعيِّنونه ويقيلونه من آنٍ إلى آخر، وأصحبت شوا وجالا ولاستا وجوجيام وسمين وتيجري دويلات مستقلة متنازعة، حتى ظهر عقب النصف الأول من القرن التاسع عشر الرأس كاسا، وتغلب على الرءوس وأصبح ملكًا للملوك.

(٥) الملك تيودور والحرب مع الحبشة

بعد أن ضم الخديو إسماعيل محافظتي سواكن ومصوع إلى مصر، قرر أن يصل بين مصوع وكسلا بخط حديدي، حيث مر هذا الخط بسنهيت «كرن» بكسر الكاف؛ ليسهل المواصلات بين السودان والبحر الأحمر، وكان يعد البلاد الواقعة بين البلدين ومعها «سنهيت» أرضًا مصرية منذ فتحها محمد علي الكبير، ولكن النجاشي تيودوروس ملك ملوك الحبشة عارض الخديو وادعى أن «سنهيت» أرض حبشية، ومن ثم قام الخلاف بينهما.

(٦) بين إنجلترا والحبشة

منذ فتحت إنجلترا عينها على القارة الأفريقية، طمحت إلى أراضي الحبشة، بسبب كتب الرحالة والمؤرخين الذين تحدثوا عن كنوز الحبشة وخيراتها والمنازعات بين ملوكها وقبائلها. وكان من أثر ذلك زيارة الكونت جورج فالنتيا ومستر هنري صولت للحبشة سنة ١٨٠٥ وتعرفهما بملك الحبشة «إمبوالا سيوني»، وزيارة صولت للحبشة ومعه كتاب من الملك جورج مصحوبًا بهدايا إلى ملك الحبشة وإلى زعماء القبائل، ثم زار مستر كوفن والأسقف جوبات الحبشة سنة ١٨٣٠ وعاصمتها جندار. وفي سنة ١٨٤٤ عقد الميجر هاربس مندوبًا من حكومة الهند معاهدة مع الرأس سملا سيلاسي ملك شوا، وزار جلالته عقب ذلك بريطانيون آخرون منهم جونستون وروستيه وهركورت، وبل وبلودن، الذي عينه اللورد بلمرستون وزير الخارجية البريطانية — باطلاع الملكة فكتوريا — قنصلًا في مصوع ثم في الحبشة، وفي أثناء ذلك تمكن القنصل من عقد معاهدة صداقة سنة ١٨٤٩ مع الرأس «علي» أقوى ملوك الحبشة، ثم أفل نجم الرأس علي ونزل للإنجليز عن حق حماية رهبان الحبشة في القدس. ثم ظهر الرأس كاسا٤ قويًّا جامعًا للقبائل، ثائرًا على صهره الملك علي، فوقعت بينهما حرب هزم فيها جيش الملك علي وقتل الملك نفسه.

ثم أعلن الرأس كاسا نفسه ملكًا لملوك الحبشة، وتُوِّج في ٧ فبراير سنة ١٨٥٥ باسم «تيودور الثاني».

ويقول السنيور «لامبرتي سورينتينو» إن الرأس كاسا قد نشأ نشأة عسكرية وإنه كان رجلًا مهيبًا، وكان برنامجه توحيد البلاد الحبشية وجلعها وحدة سياسية ومملكة قوية، وقد نجح في إخضاع الرءوس الإقليميين؛ ولذا يمكن عد «تيودور» أول مؤسس للحبشة الحديثة، وعقد الصلات السياسية والتجارية مع البلاد الأوروبية ولا سيما مع فرنسا وإنجلترا.

ولكن «تيودور» عاد فأوجس خيفة من تغلغل النفوذ الإنجليزي، ولعله كان واقعًا تحت تأثير النفوذ الفرنسي يومئذ، فألقى القبض على مستر كامرون قنصل إنجلترا وعلى الموظفين والمبشرين والتجار الإنجليز؛ فأثار هذا الفعل ثائرة الإنجليز ووسطوا الخديو إسماعيل لإطلاق سراح الأسرى، ولكن تيودور أصرَّ على بقائهم في الأَسر، فلم ترَ إنجلترا بدًّا من إرسال بعثة عسكرية بقيادة سير روبرت نابيير. وتحالف الخديو مع الإنجليز ضد الحبشة، وأمر الخديو عبد القادر الطوبجي باشا — محافظ مصوع — بمساعدة الجيش الإنجليزي برًّا، وبأن يكون الأسطول المصري تحت أمره. وقد تغلغل الجيش الإنجليزي وحلفاؤه داخل بلاد الحبشة، واحتل «مجدلا» التي تقع شمالي أديس أبابا، وانتحر «تيودور» وانسحب الإنجليز، وآل ملك الحبشة إلى الملك يوحنا.

هذا وقد كان عدد الحملة الإنجليزية بقيادة السير روبرت نابيير أربعة آلاف إنجليزي، وتسعة آلاف وخمسمائة هندي من بومباي إلى زولا قرب مصوع، وأخذ معه عشرة آلاف حيوان بينها بغال وأفيال لجر المدافع الخفيفة والثقيلة. وكان الإمبراطور مخيمًا في مجدلا على بعد أربعمائة ميل عن زولا التي بلغها الإنجليز في شهر نوفمبر سنة ١٨٦٧، وكان الطقس يتراوح بين حر لاذع وبرد قارص، قال عنه ستانلي الرحالة أن ست بطانيات صوف لم تكفِ ليلًا لدفئه.

وكان تيودور مكروهًا من القبائل في بلاده؛ فلم يتعرض أحد منها لمواصلات الجيش الإنجليزي الطويلة، ولولا ذلك لما أمكنها الإقدام بتلك السهولة، ولاسيما أن الجنرال نابيير٥ اهتم جدًّا بأمر القبائل، فأخذ معه نصف مليون دولار نمسوي فضي تحمل صورة ماريا تريزا مؤرَّخة سنة ١٧٨٠، وقد جرى ضربها خصيصًا له في فيينا. هذه النقود المتداولة في الحبشة كانت ذات تأثير عظيم في القبائل المتنكرة للنجاشي، فحملت إلى القائد الإنجليزي أطعمة لعشرين ألف جندي وعلفًا لستين ألف حيوان، وجعلت تهدم خيامها وتقدمها وقودًا للطباخين.

وقد جرت معركة واحدة في هذه الحرب قُتِل فيها ٥٦٠ حبشيًّا وجُرِح كثيرون، أما الإنجليز فلم يخسروا إلا خمسة عشر جريحًا فقط شُفوا جميعًا فيما بعد، ومات منهم بالأمراض ١١ ضابطًا و٣٧ رجلًا.

ومما يُؤثَر عن هذه المعركة أن الإمبراطور تيودور نفسه لما رأى ما حل بجماعته من الهزيمة المشئومة انتحر في ساحة القتال برصاصة أطلقها على صدغه من مسدس فضي كانت الملكة فكتوريا قد أهدته إليه سنة ١٨٥٤.

(٧) بين الحبشة والمماليك

وصف «حسام» العلاقات التي قامت بين ملوك الحبشة ومماليك مصر وبعض الخديوين، فقال: مما يدل على أن مقام مصر كان عظيمًا من ٦٠٠ سنة أن جيرانها كانوا يخشون بأسها فيخطبون ودها. ومن هؤلاء الجيران مملكة الحبشة؛ فقد أرسل ملكها إلى سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون رسولًا في سنة ٧١٢ﻫ ومعه هدية قُوِّمت بمائة ألف دينار أو أكثر من ذلك، حتى عُدَّت من النوادر.

وجاء رسل ملوك الحبشة أيضًا في أيام الأشرف برسباي، ثم في أيام الظاهر جقمق، وكذلك في سنة ٨٨٠ﻫ في عهد الأشرف قايتباي، وقد شاء الرسل أن يجلسوا بحضرته على كراسي كانت معهم فلم يمكنهم النوب من ذلك، وعمل لهم السلطان موكبًا بالحوش من غير شاش ولا قماش، ثم مضت مدة طويلة لم يحضر فيها أحد من رسل ملوك الحبشة حتى أيام السلطان الغوري.

•••

وقد وصف ابن إياس في كتابه بدائع الزهور كيف حضر هؤلاء الرسل في أيام السلطان الغوري ومعهم الهدايا النفيسة والكتب التي تحوي الألفاظ الحسنة والنعوت العظيمة لسلطان مصر.

قال ابن إياس ما ملخصه:

وفي يوم الخميس ١٥ محرم سنة ٩٢٣ﻫ حضر قاصد من عند ملك الحبشة، فعمل له السلطان موكبًا بالحوش من غير شاش ولا قماش — كما تقدم للأشرف قايتباي — وجلس السلطان على المصطبة التي أنشأها بالحوش، ونصب على رأسه السحابة الزركش، واصطفت الأمراء عن يمينه وشماله كل واحد منهم في منزلته، ثم طلع القاصد من الصليبة وصحبته: الأمير أزدمر المهمندار، وجماعة الرءوس النوب، ومن المماليك السلطانية … وغير ذلك. وقد حضر مع القاصد ستمائة رجل منهم نحو خمسة من أعيان الأمراء، وكانت أوساطهم كلهم مشدودة بحوائص كهيئة الزنانير، وفيهم من هو عريان مكشوف الرأس وعلى رأسه شوشة شعر، وفيهم من في أذنه حَلَق قدر القرصة وفي أيديهم أساور ذهب.

وأما القاصد الكبير، فذكروا أنه كان ابن أمير كبير الحبشة، وقيل إن أباه هو الذي حضر في دولة الملك الأشرف قايتباي، وكان على رأسه خودة مخمل أحمر فيها صفائح ذهب وفيها بعض فصوص، وعلى رأس الخودة درة كبيرة مثمنة، وعليه شايات حرير ملوَّن وعلى رءوسهم شدود حرير، وذكروا أن فيهم شخصًا شريفًا.

ولما شقوا من الصليبة كان معهم طبلان على جمل يضربون عليهما، وكان صحبتهم البطرك وعليه برنس حرير أروق، وقد ركب أعيانهم الخيول والباقون كانوا مشاة، فطلعوا القلعة من سلم المدرج وفي مقدمتهم البطرك، فلما وصلوا إلى باب الحوش أرادوا أن يجلسوا بحضرة السلطان على كراسٍ حديد عالية كانت معهم، فلم تمكنهم رءوس النوب من ذلك كما حدث في أيام الملك الأشرف قايتباي.

ولما وصل هذا القاصد إلى الحوش قبَّل الأرض، فلما وصل إلى أوائل البساط قبَّل الأرض هو ومن معه من أعيان الحبشة، ولم يدخل معه بحضرة السلطان غير سبعة أنفس أما الباقون فلم يدخلوا، فلما قُرِّبوا من السلطان قبَّلوا الأرض بين يديه ثالث مرة، ثم قدَّموا كتاب ملك الحبشة، وقيل إنه كان في غلاف من الفضة وقيل من الذهب، فلما قُرِئ على السلطان وجد فيه ألفاظًا حسنة ونعتًا عظيمًا للسلطان، ومما جاء فيه:

وإن قصادنا أتوا إلى مصر ليزوروا القمامة التي بالقدس؛ فلا تمنعوهم من ذلك.

واستمر رجال الحبشة واقفين على أقدامهم نحو خمس درج حتى قرأوا كتابهم، ثم انصرفوا ونزلوا من القلعة، فرسم لهم السلطان أن يقيموا في ميدان المهارة الذي بالقرب من قناطر السباع إلى أن يسافروا، وأرسل لهم خيامًا ضُرِبت لهم من داخل الخيام، ووكل بباب الميدان جماعة من المماليك يمنعون من يدخل إليهم من العوام، فلما نزلوا من القلعة نزل معهم الوالي والمهمندار وجماعة من رءوس النوب، فوصلوهم إلى الميدان خوفًا عليهم من العوام أن يرجموهم، فكان لهم يوم مشهود؛ لأن قصاد ملوك الحبشة لا يدخلون مصر إلا قليلًا تبعًا لبعد بلادهم، حتى قيل إن هذا القاصد وصل مصر بعد سفر أَمَدُه تسعة أشهر.

ثم إن القاصد أرسل إلى السلطان تقدمة لم تكن كبيرة، وقيل إنها قُوِّمت بنحو خمسة آلاف دينار أو دون ذلك، فلما عاينها السلطان وبَّخ الذي طلع بها وأحضر له قوائم هدايا ملوك الحبشة إلى الملوك السابقة، وأحضر له عدة تواريخ يذكر فيها هدايا ملوك الحبشة إلى ملوك مصر، فقُرِئت عليه. ولكن ضعف ملوك الحبشة بالنسبة إلى ما كانوا عليه من قديم الزمان؛ حتى نقل بعض المؤرخين أنه كان لملوك الحبشة على نواحي النيل ستون مملكة لا ينازع بعضها بعضًا فيما بأيديهم من الأراضي التي هناك، أما في أيام السلطان الغوري فقد ضعف أمرهم بالنسبة إلى ما كانوا عليه من قبل ذلك.

وبعد أن قام قاصد الحبشة في الميدان ثلاثة أيام سافر هو ومن معه إلى القدس ليزوروا «القمامة». ا.ﻫ.

أما في تاريخ مصر الحديث، ففي سنة ١٢٩٩ﻫ أرسل علاء الدين باشا العامل يومئذ على شرق السودان إلى ديوان الخديو «توفيق باشا» يقول: جاءت رسل نجاشي الحبشة، وبينهم قسيس من قسوسهم اسمه «ملاك برهان فيروت»، ومعهم عشرة رجال آخرون، منهم خمسة من أئمة الدين، وترجمان اسمه يعقوب، وعشرة من الأتباع الذين يحملون متاع الوفد، فدفع إليَّ كبيرهم كتابًا من النجاشي يقول فيه:

باسم سيدنا يسوع المسيح كلمة الله … إلخ.

من الملك المحب يوحنا ملك صهيون نجاشي الحبشة وملك ملوكها إلى حضرة المحب المكرم علاء الدين باشا.

نخبركم أننا بنعمة سيدنا يسوع المسيح نحن وجميع عسكرنا ورجال مملكتنا حائزون كمال الصحة والعافية، ممتعون بالراحة الوافية، ونود استمرار العلاقات بيننا وبين حكومة مصر، ونحب تثبيت أحسن الصلات الودية. وإنه مرسل لكم يا محبنا الباشا هدية، وهي حصان من جياد الخيل؛ إشارة إلى التودد والمحبة والسلام. ا.ﻫ.

وكان مع ذلك الوفد أيضًا هدايا أخرى بعضها إلى بطرك القبط بديار مصر وبعضها إلى الخديو؛ وهي عبارة عن عشرة كمام من الفضة المموهة بالذهب، ونيشانين من الذهب الخالص، وثماني درقات، وكمية من الزاد، وزهاء ألف وخمسمائة جنيه فرنسوي برسم القدس الشريف، وكتاب إلى الخديو توفيق باشا. وكانت وجهة جميع رجال الوفد ببيت المقدس ليلبثوا فيه ما شاء الله، وقد حضر أولئك الحبشان ومثلوا بين يدي الخديو، ونزلوا بدار البطريركية القبطية بالقبيلة، وتجد تفصيل ذلك في الجزء الرابع من كتاب الكافي.

ويذكر القراء أنه في سنة ١٩٢٤ كان إمبراطور الحبشة الحالي هيلا سيلاسي ما زال وليًّا للعهد، وكانوا يطلقون عليه اسم «الرأس تفري»، وقد جاء إلى مصر لزيارتها في طريقه إلى أوروبا، فاستقبلته الحكومة استقبالًا رسميًّا، وكان يرأس الوزارة في ذلك الوقت المغفور له سعد زغلول.

وكذلك فإنه منذ سنوات قليلة قدمت كريمة إمبراطور الحبشة الحالي إلى مصر لعمل عملية جراحية لها في المستشفى القبطي بشارع الملكة نازلي، وقد عُمِلت العملية وشُفِيت المريضة.

(٨) حملات مصر على الحبشة٦

أثارت رغبة الخديو إسماعيل في الفتح وتوسيع المُلْك وإنشاء إمبراطورية أفريقية في نفسه إعداد حملات عسكرية لغزو الحبشة، والهيمنة على منابع النيل الأزرق فيها؛ فجرد ثلاث حملات عسكرية: (١) حملة بقيادة أندروب بك الدانيمركي سنة ١٨٧٥، ثم (٢) حملة بقيادة منزنجر باشا السويسري سنة ١٨٧٥ وهُزِمت الحملتان، ثم (٣) حملة بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال لونج باشا «الأمريكي»، وباءت بالفشل في مارس سنة ١٨٧٦، وعُقِدت بين الخديو وبين الملك يوحنا معاهدة، قضت بانسحاب الجيش المصري من الحبشة وترك «سنهيت» لمصر، وبفتح التجارة بين مصوع والحبشة، وكانت هذه الحملات مغامرة وخطأ.

(٩) المحالفة الحبشية الإيطالية

وقد كتب مستر مارسيل برات مقالات متتابعة عن رحلة له في الحبشة وعن تاريخها وأسباب النزاع الحالي بين الحبشة وإيطاليا، وقد نشرت «الديلي تلغراف» هذه المقالات، وقد تكلم حضرته عن مخالفة بين إيطاليا والحبشة، فقال:

يقال إن النجاشي يوحنا قد حصل على مدافع وذخيرة من الإنجليز، ونجح في إخضاع كل مزاحميه، واتخذ لنفسه لقب نجاشي النجاشيين أو «ملك الملوك»، ولما تُوِّج في أكسوم — المدينة المقدسة — في سنة ١٨٧٩ تَسمَّى باسم يوحنا، وكان حكمه سلسلة طويلة من الحروب الداخلية.

كان منليك أكبر خصوم يوحنا، وكان الإيطاليون يؤيدونه لأن مصلحتهم في أن يبذروا الشقاق في الحبشة، وأخيرًا قُتِل يوحنا في حربه مع الدراويش؛ فمكنت وفاته منليك من تولي السلطة. وكان عرش منليك ما يزال مزعزعًا؛ فاستعان بالإيطاليين الذين رأوا في الملك الجديد حليفًا نافعًا؛ فسارعوا إلى عقد محالفة معه — محالفة ١٨٨٩ الشهيرة.

قد يكون من المفيد في الموقف الحاضر أن نقرأ واحدًا أو اثنين من نصوص المعاهدة التي جاء فيها:
  • (١)

    إن جلالة أمبرتو الأول ملك إيطاليا وجلالة منليك ملك ملوك الحبشة لكي يجعلا السلم مفيدًا ودائمًا بين مملكتي إيطاليا والحبشة في سبيل الصداقة والتجارة.

  • (٢)

    على أن يكون سلامًا ودائمًا وصداقة بين صاحب الجلالة ملك إيطاليا وصاحب الجلالة ملك ملوك الحبشة، وبين وارثيهم وخلفائهم ورعاياهم والسكان الذين تحت حكمهم.

  • (٣)
    تجنب أي نزاع على مشكلة حدود الأقاليم التي يتولى الطرفان المتعاقدان السيادة عليها. تقوم لجنة مؤلفة من مندوبين إيطاليين ومندوبين حبشيين برسم خط تحديدي على الحدود يُرسَم طبقًا للنصوص الآتية:
    • (أ)

      خط الهضبة العالية بين الحدود الإيطالية الحبشية.

    • (ب)

      تدخل قرى هالاي ساجانيتي في الأراضي الإيطاليا.

    • (جـ)

      يبدأ من نقطة آدي بوانس تعيين الحدود بخط يسير مباشرة شرقًا وغربًا.

  • (٤)

    تكون تجارة الأسلحة عن طريق مصوع مباحة لملك ملوك الحبشة.

  • (٥)

    يُعقَد لإمبراطور الحبشة قرض مقداره أربعة ملايين ليرة في بنك إيطالي بضمان الحكومة الإيطالية، ويُتفَق على أن إمبراطور الحبشة من جانبه يسلم للحكومة الإيطالية المذكورة جمارك هرر ضمانًا لدفع فوائد الدين وتصفيته.

  • (٦)

    لما كان الرق مخالفًا لتعاليم الدين المسيحي؛ فإن جلالة ملك ملوك الحبشة يتعهد بأن يمنع بكافة الوسائل التي يستطيعها مرور قوافل الرقيق في بلاده.

ولما حققت الدبلوماسية في إتمام أغراض هذه المعاهدة؛ فإن الإيطاليين استطاعوا احتلال هرنت وأسموه بغير معارضة.

تقول الأنباء المعلنة حديثا أن ليج ياسو حفيد منليك، وملك ملوك الحبشة المعزول قد تُوفِّي. فإذا ثبت أن هذا صحيح فإن التاريخ خليق أن يعيد نفسه؛ لأن إيطاليا تفقد حليفًا قويًّا لأن الأمير ما يزال له أنصار، وأي حرب داخلية في الحبشة تكون لمصلحة إيطاليا.

(١٠) الإمبراطور هيلا سيلاسي

ظهر في طليعة رجال العالم اسم الإمبراطور هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة الحالي، فهو قائد الجيوش الحبشية، وموقد الحماسة، وقد صرح بأنه لن يقبل أية حماية أو انتداب أو وصاية أو أي اتفاق أو قرار يمس استقلال الحبشة، وأنه مستعد فقط للاتفاقات الاقتصادية، وهو يجتمع بشعبه وبمراسلي الصحف ويدلي بالتصريحات، ويعمل ليل نهار.

وقد وصف الأستاذ كامل صمويل مسيحة هذا الإمبراطور، فقال: كتب الإمبراطور منليك مرة إلى الدول الأوروبية يقول:

إن الله القادر على كل شيء، هو الذي حمى بلاد الحبشة حتى الآن، وإني متأكد كل التأكيد بأنه سيظل يحميها في المستقبل.

هذا ما قاله الإمبراطور منليك في بداية هذا القرن، واليوم يردد ابن أخيه ووريثه الشرعي العبارات عينها، وبالأسلوب نفسه، وفي اللغة الفرنسية عينها؛ فيكتب لجامعة الأمم يقول:

في تاريخ الحبشة ما يزيدني ثقة وإيمانًا في القدرة الإلهية على حماية الحبشة.

وقد يكون من الطريف أن تعلم الألقاب التي يحملها الجالس على عرش الحبشة مع حظها الضئيل من الحضارة والرقي … صاحب الجلالة الإمبراطورية ملك الملوك … الأسد الظافر من سبط يهوذا … الإمبراطور العظيم المنحدر مباشرة من سلالة ملكة سبأ وبيت داود!

•••

وُلِد الرأس تفري عام ١٨٩١، وهو ابن الرأس ما كونن الذي كان حاكمًا على هرر أغنى أقاليم الحبشة بلا جدال، والذي كان يملك الأراضي الشاسعة الغنية بمعادنها وحاصلاتها.

وتلقى علومه على النمط الأوروبي على يد رهبان فرنسيين يقيمون في هرر؛ فتثقف تثقيفًا عاليًا، فهو يقرأ الفرنسية ويتكلمها بطلاقة، ولا يمل من دراسة تاريخ بلاده وأدبها، وعلى اتصال بالحركتين الأدبية والعلمية في أوروبا.

وعناية الرأس تفري بالآداب شديدة، وقد لازمته حتى بعد تركه للرهبان الفرنسيين.

وقد أسس في أديس أبابا — عاصمة بلاد الحبشة الجديدة — مطبعة تتولى طبع المؤلفات الأكليركية الحبشية القديمة طبعًا متقنًا منقحًا.

وهو فضلًا عن هذا يحب التأليف فهو واضع مقدمة كتاب لكريسوستوم، وهو عبارة عن مجموعة عظات وتحذيرات، القصد منها الإصلاح والحض على الاستقامة.

ووقعت الاضطرابات الداخلية عام ١٩١٦ بسبب اتصال «ليج ياسو» بتركيا، فعُيِّن الرأس تفري نائبًا لعمته الإمبراطورة زوديتو؛ فأظهر نشاطًا عظيمًا.

واضطر عام ١٩٢١ للسير على رأس جيش مؤلف من عشرة آلاف مقاتل فقبض على «ليج ياسو».

وفي عام ١٩٢٣ ألقى الرعب في قلوب مواطنيه المحافظين على القديم بزيارته الرسمية لعدن وصعوده لأول مرة بالطيارة إلى طبقات الجو العالية.

ولما كان الرأس تفري إيديا ليست — العائش في عالم الخيال والأحلام — فقد ساعد على انضمام بلاده إلى جامعة الأمم.

وزار عام ١٩٢٤ روما وباريس ولندن، زيارات رسمية للاتصال بالعالم الخارجي.

ثم خلف الإمبراطورة … زوديتو. واعتلى العرش عام ١٩٣٠، واتخذ لنفسه منذ ذلك الوقت اسم «هيلا سيلاسي».

والإمبراطور تفري مطلع على السياسة الغربية، واقف على سير المخترعات الحديثة، شغوف بها إلى حد بعيد.

وإن الإنسان لتأخذه الدهشة إذ يرى التباين العظيم بين رجل يقبل على شراء سيارات رولزوريس في الوقت الذي يستعمل رجاله القوس والرمح، وبين أمة تنضم إلى جامعة الأمم في الوقت الذي تسمح فيه بفظائع الرق!

ومع هذا فقد بذل الإمبراطور تفري جهودًا جبارة لتحسين حالة بلاده، فهو وإن لم يكن قد أدى الخدمات التي أداها الإمبراطور منليك بعده إلا أنه يعمل بجد وهمة.

وإنه من الإنصاف أن نذكر أن شعبه يعيقه عن الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية؛ ذلك لأن من طبيعة الحبشي أن يفكر سنوات قبل أن يعمل عملًا يتطلب أسابيع، فهذا التأجيل هو السر في انحطاط الحبشة إلى هذا الحد، ولكن من الإنصاف أيضًا أن نذكر أنه في الوقت الذي يبدأ فيه الحبشي في العمل يفعل في أسابيع ما يفعله سواه في سنين، وقد ثبتت هذه الحقيقة مؤخرًا وشهدت بها السلطات الحربية العليا في أوروبا.

كان منليك أول من أدخل التلغرافات إلى الحبشة منذ ٤٠ سنة.

ثم جاء هيلا سيلاسي من بعده، فأدخل التلفون والسيارة من نوع رولزرويس دفعة واحدة، وعلى هذا فإن الأجنبي لا يستطيع أن يتحدث عن الحبشة أو يكتب عن الحبشة دون أن يذكر هذه السيارات الفخمة.

وأدخل هيلا سيلاسي أيضًا الكهرباء، والطيارات، ومدافع الحصار، والدبابات، والمدافع الرشاشة. ونظم الجيش وجاء بالضباط الاختصاصيين في تنظيم الجيوش من البلجيك والسويد بحجة أنهم من رعايا الدول «المحايدة» التي يثق بها.

والطرق الموجودة في الحبشة الآن صالحة إلى حد، ولكن نظام التلغرافات ما يزال في حاجة ماسة إلى تحسين؛ فإن الأسلاك ثقيلة، وفي بعض الأحايين تُعلَّق على الأشجار؛ ولهذا فإنها مُعرَّضة كثيرًا للسقوط. وهذه الأسلاك معلقة على قضبان يأكلها النمل الأبيض فتسقط، ولكن بجانب هذا تجد المخاطبات اللاسلكية بين أطراف الحبشة وبين أديس أبابا وكل أنحاء العالم.

•••

والتجارة وإن كانت ما تزال ضئيلة الشأن إلا أنها سائرة سيرًا حثيثًا في طريق التقدم.

•••

حدث منذ عهد قريب أن سافر أمير حبشي إلى اليابان في مهمة شبه دبلوماتكية، وبينما هو هناك تعلَّق بحب ابنة أحد نبلاء اليابان، وأراد أن يقترن بها ففشل، ولكنه نجح في عقد اتفاقية تجارية، فاستطاع هذا الحبشي أن يقدِّم للنبيل الياباني امتيازًا لاستغلال مليوني فدان من الأراضي الصالحة لزراعة القطن … قدمها صفقة رابحة لهذا النبيل الياباني السعيد الحظ.

وفي الحقيقة أن عمل الإمبراطور هذا لا يُعَد غريبًا منه؛ فإنه يرتاب أشد الريبة في الدول الأوروبية التي لها مصالح في الحبشة والتي تملك بعض مستعمرات قريبة منه، فلا يريد التقرب منها سواء أكانت تأتي إليه بالفروض والهدايا أم لا تحمل إليه شيئًا، في الوقت الذي يرحب بصداقة الدول التي تقول أنها بعيدة عنه كالولايات المتحدة واليابان، فيسعى إلى خطب ودها بمنحها الامتيازات التي لا تكاد تُعقَل كلما انتابته الملمات ووقع في الضيق والمحن.

حياة الإمبراطور كلها إنما هي عبارة عن ظفر العقل على المادة … الرجل مستقيم في كلامه … بسيط في معيشته … بشوش … مجامل … ضئيل الجسم … يقرب لون بشرته من لون العاج … ساميٌّ في تقاطيع وجهه وملامحه لا يعرف غير العمل المتواصل المضني، فهو يُكَب على عمله من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل … شديد الشغف بالقراءة والاطلاع على المؤلفات العلمية وعلى الأخص العلمية منها.

جمع في قصره أحد المخترعات: اللاسلكي … السينما … الضوء الكهربائي … بل رئيس مطبخ أوروبي! وتجد ضمن حدود قصره لبانة عصرية تمد المؤسسات الأوروبية بما تحتاج إليه من ألبان … وزبدة … وجبنة.

ولكنك تجد خارج قصره مظاهر الوحشية، فهناك تجد الزعماء الذين ما يزالون يعيشون على النمط الإقطاعي، ولا يخضعون إلا لقوانينهم التي تعارض قوانين الإمبراطور وأحكامه؛ أمثال الرأس هيلو الذي هجم مرة على أديس أبابا مع ألوف من أتباعه للاستيلاء على العرش!

والإمبراطور تفري سياسي مشهود له بالحذق والمهارة، لم يقع في الأخطاء التي وقع فيها أمان الله الذي حاول أن يرغم الشعب على قبول الإصلاحات العصرية التي كان يريد أن يدخلها عنوة واقتدارًا دون أن يهيئ العقول لها؛ ولهذا فإنه لم يلاقِ المصير الذي لاقاه أمان الله.

وليس أدل على دهائه من أنه عند زيارته لأوروبا عام ١٩٢٤ جمع كل الزعماء الذين ينتظر أن يحدثوا القلاقل في أثناء تغيبه عن البلاد «وحملهم» معه، وتكاليف هذا «الحمل» — ولا شك — ونفقات نقله أقل بكثير من نفقات إخضاعهم إذا عمدوا إلى الثورة في غيابه.

والإمبراطور دبلوماتيكي، يستخدم الأساليب الدبلوماتيكية كلما وجد أية مناسبة لاستخدامها، ويستعمل السياسة والحكمة في مفاوضاته مع كنائس الشرق الأدنى التي تنافس كنيسته، وقد استطاع أن يحصل من بطريرك القدس الأرثوذكسي على حق بناء كنيسته بالقرب من القديس إبراهيم، فتحققت أمنية طالما تمنتها الكنيسة الحبشية الأصلية.

ولكن مع هذا فالدبلوماسية لا تفيده كثيرًا كما أن سياسة الشدة لا تنفعه كثيرًا، وكان آخر ملك مطلق في العالم اليوم بعد أن قُضِي على الملكية المطلقة في سيام، ولا يمكنه أن يحافظ على سلطته المطلقة إلا بقدر ما تساعده العوامل الجغرافية وطبيعة الشعب الحبشي، هذا الشعب الواثق من مقدرته الحربية ثقة لا حد لها، وإلا لو كان في وسع هذا الملك المطلق أن يفعل ما يريد لكان قد استطاع أن يقضي على تجارة الرقيق؛ فينقذ بلاده من سمعتها الشائنة في نظر الغربيين والشرقيين، وعلى الأخص وهو يعلم قبل سواه أن بلاده أول مملكة اعتنقت المسيحية!

•••

هذا وقد قضى هيلا سيلاسي سني حداثته في بلاط أديس أبابا تحت إشراف النجاشي منليك، وكان زميلًا في الدراسة لحفيد منليك اللدج ياسو بإشراف حنا صليب بك مدير معارف الحبشة وناظر مدرستها. ثم عُيِّن حاكمًا لولاية سيدامو، ثم لهرر. وكان الرأس «تفري» يخشى اللدج ياسو، ودبر مؤامرة ضده انتهت بخلع ياسو في ٢٦ ديسمبر سنة ١٩١٦، وبتعيين الأميرة أوزير زوديتو إمبراطورة، والرأس تفري نائبًا لها ومنفذًا لأوامرها، وقامت ثورة في أديس أبابا سنة ١٩٢٧ ضد الرأس تفري فقمعها.

وتحمَّس الشبان للرأس تفري، وتظاهروا طالبين تعيينه إمبراطورًا، فعُيِّن وليًّا للعهد، على أن أشياع زوديتو، وكانوا يبيِّتون له مؤامرة، فقاد الرأس جوكسا أوليه زوج زوديتو ثورة، ونشبت موقعة «زربيت» قُتِل فيها جوكسا، وبعد يومين ماتت زوديتو، وقيل إنها ماتت مسمومة، فنُودِي بهيلا سيلاسي إمبراطورًا.

ويقول الأستاذ أنيس داود أنه لم يكد يتولى الحكم حتى اهتم بإنشاء جيش قوي كامل العدة والسلاح، وأقام له فرقة من الحرس انتخب أفرادها من أقوى شبان الأحباش، وعزل بعض حكام المقاطعات الذين كان يشك في ولائهم له، وعيَّن بدلًا منهم من أهله ومن الموالين له. وغضب على الرأس كاسا حينما توهم أن له يدًا في هرب اللدج ياسو الذي كان في حراسته، ولكنه عاد فصالحه، واتهم الرأس هيلو أمير قوجام بمؤازرة اللدج ياسو، وحكم عليه بالإعدام، ثم عفا عنه واستبدل الحكم بالأشغال الشاقة إجابة لطلب نيافة الأنبا كيرلس مطران الحبشة، وشطر مقاطعة التجرة شطرين؛ ترك أحدهما للرأس سيوم حفيد الملك يوحنا كاسا أمير المقاطعة الشرعي، وعين لحكم الشطر الثاني الدجاز سيلاسي العدو الألد للرأس سيوم، وانتزع إقليم سيدمام من الدجاز «بورون» وزير الحربية وأبعده إلى مقاطعة العروسي، وعزل الدجاز هبنا ميكائيل حاكم مقاطعة «ليمو».

ولما مات الأنبا متاءوس مطران الحبشة لم يرضَ أن يعيِّن مطرانًا حبشيًّا كما كان حزب الشبيبة الحبشية يريد، بل أصرَّ على وجوب مراعاة التقاليد القديمة وتعيين مطران قبطي، بشرط أن يُعيَّن معه خمسة أساقفة من الأحباش؛ حتى لا تكون السلطة الدينية في يد المطران القبطي وحده، وبهذه الوسيلة ينقي تدخل رؤساء الدين في شئون المملكة وبسط نفوذهم عليها كما كان في الزمن الماضي.

وهذه السياسة كلفت الإمبراطور نفقات طائلة ناءت بها ميزانية الدولة فضلًا عن الأموال التي أنفقها على حفلة تتويجه، وعلى شراء الأسلحة الحديثة من كل نوع والذخائر، وعلى البعثات العسكرية التي استقدمها من الخارج لتدريب الجيش.

وقد كانت البلاد قبل اعتلائه العرش يحكمها زعماء ورءوس من الشيوخ المحافظين على التقاليد القديمة، ولكن الإمبراطور هيلا سيلاسي أثار الحماسة في قلوب الشبيبة الحبشية، وقد دفعهم للمطالبة بأن يكون لبلادهم ميناء على البحر الأحمر، وبينما هو يطأطئ رأسه خضوعًا للكنيسة القبطية فإنه في الوقت ذاته ينادي بوجوب العطف على الدول الإسلامية وشد أزرها ومناصرتها، ويعمل بنشاط في التقرب بين العنصرين المسيحي والإسلامي، وفي يده الآن مستقبل بلاده، فإن أصر على الاحتفاظ بالاستقلال وعدم التفريط في شيء من حقوق بلاده فإن الرءوس والزعماء الذين يضمرون له الحقد لن يجدوا حجة لإثارة الشعب عليه، أما إذا تهاون ورضي التسليم بما تريده بعض الدول من منح بعض امتيازات سياسية واقتصادية للدول الاستعمارية؛ فإن الحرب الأهلية لا بد أن يندلع لسانها، فتكون عاقبتها أشق من عاقبة الحرب الخارجية.

(١١) الوزارة الحبشية: أعضاؤها ومستشاروها

تتألف الإمبراطورية من ٧٠ مقاطعة، وهي تحكم حكمًا إقطاعيًّا، ولجلالة النجاشي بعض مقاطعات خاصة يديرها مباشرة.

أما حكومة أديس أبابا الإمبراطورية فلها هيمنة عليها على الشئون الخارجية وعلى كثير من مرافق الدولة.

وتُؤلَّف حكومة أديس أبابا من ١٢ وزارة، ويلحق ببعضها مستشارون أجانب.
  • (١)

    وزارة الخارجية، ولها مستشار سويدي.

  • (٢)

    وزارة الداخلية، ولها مستشار إنجليزي.

  • (٣)

    وزارة التجارة، وليس لها مستشار أجنبي.

  • (٤)

    وزارة البريد والتلغراف والتلفون، ولها مستشار فرنسي.

  • (٥)

    وزارة المالية، ولها مستشار أمريكي.

  • (٦)

    وزارة الزراعة.

  • (٧)

    وزارة الأشغال العمومية، ولها مستشار ومهندس أول فرنسيان.

  • (٨)

    وزارة المعارف العمومية والفنون الجميلة.

  • (٩)

    وزارة الحربية، ولها بعثة حربية بلجيكية.

  • (١٠)

    وزارة البلاط الإمبراطوري.

  • (١١)

    وزارة الحقانية، ولها مستشار سويسري.

  • (١٢)

    وزير حامل ختم الإمبراطور.

(١٢) مدينة هرر

وصف الأستاذ محمد علي إبراهيم لقمان مدينة هرر، فقال: كانت مدينة «هرر» التاريخية القديمة في يوم من الأيام جزءًا من مصر، وأحد أقسام تلك الإمبراطورية المصرية الواسعة إلى عهد قريب، وقد بُنِيت هذه المدينة التاريخية منذ أربعمائة وخمسين سنة، ومؤسسها هو «الحاج نور».

وتقع مدينة «هرر» على رابية عالية، وعدد سكانها اليوم يربو على الستين ألفًا، وهي ضيقة الأزقة قذرة جدًّا، خلا بعض مساكن الإفرنج، كما أنه ليس فيها إدارة بلدية تنظم أحوالها الصحية وأكثر بيوتها من الطين، وهي حقيرة منخفضة، وليس فيها سوى طريق واحدة تجري فيها السيارات؛ وهي طريق «فس مجالا» يعني السوق الكبرى. وفي هرر مستشفى فرنسي وبعض مدارس للمبشرين ومستشفى آخر لهم، وكنيسة — بل كنائس — وجملة من القصور البديعة، وقصر شامخ الأركان مرتفع البنيان كلَّف حكومة الحبشة مبلغًا كبيرًا، وقد أنشأته بمناسبة زيارة الإمبراطور «لهرر»؛ لأنها مسقط رأسه.

ويحدق «بهرر» سور قديم، لكن الدولة الحبشية لا تألو جهدًا في ترميمه، وهرر تكاد تكون المدينة الوحيدة التي تكثر فيها حوانيت الخمر والمطاعم، ولها خمسة أبواب، فإذا خرج الإنسان إلى خارج المدينة ينحدر إلى مساكن الأوروبيين؛ ليجد نفسه في فردوس من فراديس الدنيا، فهي تشبه جزيرة أو صخرة عالية وسط بحر متلاطم بالأمواج، فإذا أطل المرء من نافذة بيته في هرر رأى أرضًا كأنها الجنة في بهائها ورونقها واخضرارها وبساتينها المثمرة بلا انقطاع ما تعاقب الليل والنهار.

ويسكن هرر جمع خليط من الهرريين، وهؤلاء لا يسمون أنفسهم أحباشًا ولا عربًا، ويأنفون من كل نسبة غير انتسابهم إلى هرر الخضراء، وهم مزيج من الأمم ولهم لغة مستقلة والكثيرون منهم يتكلمون العربية والحبشية والصومالية، والحبشية نفسها تنقسم إلى لغتين: الأمحارا، والقنو. وفي هرر أحباش وصومال وعرب وإفرنج، غالبًا من اليونانيين وبعض الأرمن.

وأكثر الإفرنج الذين في هرر يديرون البارات والمطاعم العديدة فيها، أما القناصل وأصحاب الوظائف فيقيمون خارج هرر، وسكان هرر لا ينقصون عن ٦٠ ألفًا من جميع الأجناس.

ولا ترى في هرر أندية ولا جمعيات ولا محافل للعلوم والآداب، وليس فيها مدارس تعلِّم اللغات الأجنبية سوى مدرسة للمبشرين، ومن أغرب الأمور أن لهم فيها ثلاث عشرة سنة وهم يقومون بمهمتهم على أتمِّ وجه دون أن يتمكنوا من استمالة أحد من المسلمين، وكل ما هنالك أنهم استمالوا ولدًا من الأرثوذكس فحوَّلوه برتستنتيًّا، وهرر لو اعتنت بها حكومة الإمبراطور ونظفتها وعمرتها وأصلحت الطريق إليها من جقجقة ومن دردوة؛ فإنها تصبح درة في أرض الحبشة وزهرة في مدن الشرق.

والجو في هرر معتدل لا حرارة مهلكة ولا شمس ساخنة، فالمطر يسقط غالبًا رذاذًا، وينهمر في بعض الأحيان؛ فتمتلئ به الوديان وتدفق منه العيون، وحول هرر خمسة أنهر يجري ماؤها دائمًا عذبًا سائغًا للشاربين، ومن المؤسف أن تذهب هذه الأرض لقمة سائغة للاستعمار الإيطالي لا قدر الله.

(١٣) خطة الحرب الحبشية

أثار فتح قناة السويس رغبة الدول في احتلال ثغور على البحر الأحمر، فاستولت إنجلترا على الصومال الإنجليزي، وفرنسا على الصومال الفرنسي وميناء جيبوتي، وإيطاليا على أريتريا سنة ١٧٦٩، والصومال الإيطالي سنة ١٦٨٥، وميناء مصوع.

وقد أرسلت إيطاليا سفنًا تحمل مستشفيات وسفنًا للمواد الغذائية تكفي لستة أشهر، وأنشأت طرقًا، وأقامت «كوندينسات» لتحويل ماء البحر المملَّح إلى ماء عذب.

وكتب مكاتب حربي في جريدة المنشستر غارديان مقالًا في الخطة العسكرية التي يُتوقَّع أن تجري عليها إيطاليا إذا نشبت الحرب في الحبشة، فقال: إن الحالة السياسية تقتضي من القيادة نصرًا عسكريًّا سريعًا حاسمًا، والوقت المحدد للفوز بذلك بين أكتوبر من هذه السنة وأبريل أو مايو من السنة القادمة؛ عندما تبدأ الأمطار في الهطول، فتصبح الأعمال العسكرية صعبة — إن لم نقل مستحيلة. فالهدف الذي ترمي إليه إيطاليا من الناحية العسكرية في الحدود الزمنية التي يفرضها جو الحبشة هو الوصول إلى خطة سكة الحديد قبل أبريل أو مايو سنة ١٩٣٦، وعند الإيطاليين في الأريتريا والصومال ٣٠٠ ألف رجل في الجيش والخدمات التابعة له وللإدارة، ثلثاهم بقيادة الجنرال ده بونو في الأريتريا والثلث الباقي في الصومال الإيطالي بقيادة الجنرال غرازياتي وهو تابع للجنرال ده بونو في القيادة العامة. وينتظر أن يبدأ الزحف في الصومال والأريتريا في وقت واحد وقد يتقدم الزحف من الأريتريا على الزحف من الصومال قليلًا، ويكون الهدف الأول للزحف من الشمال عدوة، حيث وقعت المعركة المشهورة سنة ١٨٩٦ التي خُذِل فيها الإيطاليون، ولا يُظَن أن جيشًا من الأحباش يصمد للإيطاليين في الموقعة، فإذا فعل فالغالب أن الإيطاليين يفوزون عليه هناك فوزًا حاسمًا.

يدعي الإمبراطور مزهوًّا أنه من سلالة سليمان وملكة سبأ، وهو يُكنَّى بملك الملوك ورب الأرباب وأسد يهوذا، وهذا الأسد نفسه هو شارته الشخصية، والسيادة غير المؤكدة التي يمارسها في القبائل البعيدة التي يشكو الطليان منها مر الشكوى؛ هذه السيادة يمكن فهمها تمامًا إذا تذكرنا دائمًا ذلك الميل الطبيعي المركب في غريزة الحبشي من تجنب المضايقات الشخصية والحاجة إلى الطرق الصالحة والأنهر الملاحية وبطء تقدم التعليم كما فُهِم في العالم الغربي؛ ولهذا فإن الحبشي شجاع إلى حد التهور، شديد المراس، قوي الاحتمال، يحسن استخدام بندقيته، وهو صائد ماهر.

عند وضع الخطط لمقاومة الغارات الأجنبية ينبغي أن يُحسَب حساب نظام الرءوس الإقطاعي؛ فكل رأس يقدِّم حصته من الرجال قلوا أو كثروا، وكما هي الحال من الزعماء العرب فإن المنافسات الحقيرة والمشاجرات قد تتدخل في أساليب الحرب؛ فصغار الرءوس قد يتحركون لفض نزاع خاص أو مساعدة رأس صديق إذا كان في شدة.

من الصعب أن نقدر قوة الجيش الحبشي أو قيمته الحربية، ومع أن هذا الجيش يشمل فرقًا من المدفعية والفرسان والمشاة؛ فإن الإنسان لا يسمع شيئًا عن المهندسين، وهؤلاء في مثل هذه البلاد من ألزم اللزوميات؛ لكي يكون الجيش سريع النقل منظَّم التموين.

وبجانب الحرس الإمبراطوري يوجد الرجال الذين يقدمهم الرءوس، وهؤلاء قد يبلغ مجموعهم ٢٠٠ أو ٣٠٠ ألف، وبجانب هؤلاء أيضًا التجنيد العام الذي قد يأتي بستمائة ألف أو ٧٠٠ ألف أو أكثر منهم من الرجال. على أن هذين الصنفين الأخيرين غير نظاميين وليس لديهم بنادق حديثة، وهم يجيدون القتال في المعارك التي يلتحم فيها الفريقان، ولكن الفوز إنما يُدرَك بالمفاجآت كما حدث في «عدوة» في أول مارس سنة ١٨٩٦، فهناك كان الجيش على أقسام وتعذر على الفرق المتصلة أن تتصل ببعضها حتى بالإشارة، وكان منليك سريعًا في تبين النقطة الضعيفة في خط الدفاع الإيطالي، فمزق الفرق المتباعدة واحدة أثر أخرى، ثم حشد قواه أمام قوة القلب فأبادها بعد هجوم بقوة لا تُدفَع.

«فعدوة» ذكرى فخار للأحباش وذكرى ألم للطليان، وهي ترتفع على مائة ميل للجنوب من أسمرة — أهم مواقع الأريتريا في الوقت الحاضر — وهذا يجعل من المحقق تقريبًا أن أهم هجمة إيطالية ستُوجَّه ضد «عدوة» وأن جيشًا جانبيًّا يمكن أن يجعل قاعدته زولا، التي تبعد حوالي ٣٠ ميلًا جنوبي مصوع على الساحل، وقد كانت هذه قاعدة السير روبرت نابيير سنة ١٨٦٨ وآثار طريقه إلى «سنافة» قد تكون موجودة، ويمكن تحسينها والعودة إلى استخدام الطريق حتى هذا المكان.

المسافة الجوية بين أسمرة وعدوة مائة ميل وعلى بعد أربعين ميلًا شمال عدوة في هذا الخط يجري من الشرق للغرب نهر مريب، وهذا قد يبدو عقبة كأداء للتقدم الإيطالي حتى تنشأ طرق صالحة وتكون الطرق مكشوفة أمام المخافر الحبشية، وستكون جبهة القتال الحبشية بين أكسوم وأدجرات «الواقعة على ٦٩ ميلًا من زولا وطريق نابير» وطول الخط كله مارًّا بعدوة، أربعون ميلًا مكشوفة بين أكسوم وعدوة «عشرة أميال»، وجبلي في بقية المسافة، وهذا يجعله صالحًا للدفاع إذا أمكن أن تضمن منطقة لضرب النار عن كثب.

مسألة التموين عند الأحباش ذات أهمية كبرى، فإذا فرضنا أن قواتهم الجنوبية تجعل قاعدتها في جواندر على بعد ١٣٠ ميلًا جنوب غرب أكسوم «بالجو»؛ فإن كل قطر التموين يجب أن تهبط إلى مصب نهر تا كازي «أكثر من ٣٠٠٠ قدم تحت الهضبة المجاورة»، وهذه مشكلة بالنسبة للمهندسين الأحباش، وكذلك فإن الأمطار تستمر من أبريل إلى أواسط سبتمبر. ومن ثم فإن أيًّا من الحبشيين لا يستطيع قبل الأسبوع الأول من أكتوبر أن يبدأ عملياته الحربية آمنًا.

أما كون الإيطاليين جادين في أعمالهم الهندسية الهائلة؛ فدليله الأنباء التي ترد الآن عن مجهوداتهم في تحسين إنشاء الطرق الكثيرة، وفي مد الخطوط الحديدية إلى الأمام، وغيرها من سبل النقل. وهم يهيِّئون كذلك خزانات كبرى لا لخزن مياه الشرب بل لمياه الري أيضًا، وهم يصنعون شبكة من الترع وقنوات المياه فوق هضبة أسمرة لرفع المحاصيل التي ينتفع بها الإنسان والحيوان.

•••

سافرت من أديس أبابا ثلاثة قطارات تُقِلُّ خمسة آلاف جندي نظامي وجهتها جهات هرر والأوجادين، كما قام «البيتودد مكونن» حاكم «لكمتي» على رأس عشرة آلاف جندي إلى الشمال، وقد كان منظر توديع الجنود لأهليهم وأولادهم مؤثِّرًا، ولا سيما حينما أقبل الجنود على أولادهم يقبِّلونهم.

وقد صدرت أوامر الإمبراطور إلى القائد التركي محمد وهيب باشا بتوليته قيادة جيوش الجنوب إلى هرر، وتحرك بجزء كبير من الجيش المرابط هناك إلى «جيرلجوبي» بالقرب من «ولوال»، وقد طلب مددًا آخر فأُرسِل إليه جزء كبير من الجيش النظامي الموجود بأديس أبابا. وسفر القائد التركي وهيب باشا إلى نقطة جيرلجوبي يُعَدُّ في الواقع بداية الأعمال الحربية المنتظرة.

ومن أخبار ولوال أن الإيطاليين يتجمعون في جهات عصب؛ وهي ميناء تبعد قليلًا عن الحدود الحبشية المحاذية لمقاطعة «واللو» مقر ولي العهد حيث يوجد جيش لا يقل عن مائتي ألف مقاتل، وسافرت ثلاث طائرات إلى تلك المقاطعة حاملة القوَّاد والمهندسين، ويُرجَّح أن يبدأ الهجوم الإيطالي من تلك المنطقة. على أنه لا بد لاجتيازها من قطع منطقة قاحلة هي صحراء الدنقلي، وهذه مأهولة بشعب حربي قوي المراس وهو شعب الدنقلي، وتُعَدُّ هذه المنطقة من مجاهل أفريقيا نظرًا لتعصب أهلها وصعوبة الوصول إليها.

وقد وصل٧ من مدة أحد الزعماء الآشوريين، وهو ملك «كمبر»، وتجنس بالجنسية الحبشية والتحق بخدمة الجيش الحبشي لتدريب الجنود، ويقال إنه من كبار القواد العارفين بفنون حرب العصابات ولا سيما الجبلية منها، وقد سافر إلى مقاطعة «واللاجا» أمس أول للبدء بالعمل.

•••

وأنشأ الميجر ريد في جريدة نيوزكرو نيكل مقالًا أتى فيه على الاحتمالات التي قد تقع فيما إذا نشبت الحرب ما بين إيطاليا والحبشة، فكان مما قال:

مؤكد من اليوم أن الأحباش سيستبسلون جد الاستبسال في الحرب والدفاع عن بلادهم، وعندهم من العقبات الطبيعية مثل الجبال والمنحدرات والهاويات ما يعينهم كثيرًا على الدفاع عن بلاد يعرفونها حق المعرفة، فنتيجة الحرب إذن رهن بالطريقة التي يجري عليها الإيطاليون.

وإذا نظرنا إلى الطليان وجدنا أنهم من مدة مضت يدرسون طبوغرافية الحبشة خصوصًا في مناطق ثلاث تجاور حدود الأريتريا، وفي ثلاث مناطق أخريات على الصومال الإيطالي.

أما المناطق الثلاث الأولى فهي وادي بركة الجاش، ويؤدي إلى غندار مجاورًا لإقليم عدوة، ثم الأراضي الممتدة إلى ما وراء سهول عدوة حتى المكلا ومجدلة.

وهذه الطريق كانت طريق البريطانيين في حملتهم على الحبشة في سنة ١٨٦٨، ثم سهل الدناكل المؤدي من عساب إلى مجدلة أيضًا، وإلى إقليم أوزجا حتى القسم الشمالي من الطريق الحديدي من أديس أبابا إلى جيبوتي؛ فمن هذه المناطق أو الطرق الثلاث يُنتظَر أن يكون الزحف الإيطالي من الأريتريا على شمالي الحبشة.

أما من ناحية الصومال الإيطالي، فالمعروف أن الطليان اشتغلوا كثيرًا في إعداد خرائط للمنطقة الكائنة غربي الحدود التي لم تُعيَّن في إقليم أوجادين بما في ذلك الما آبار المشهورة في ولوال، ووارداير، وجرلجوبي، ثم يكون الاتجاه شمالًا بغرب إلى هرر — وهي المدينة الحبشية الثانية في الأهمية ووطن الإمبراطور، ثم طريق وادي وياشيلي مع الخط الحديدي لمجاريشو الموصول بالخطوط الإيطالية التي مدها الطليان في الأشهر الأخيرة، ثم خط نهر جوبا ودولا حتى بلدة خبير.

على هذه الخطوط الستة يُحتمَل كثيرًا أن يجري الزحف الإيطالي على الحبشة وأهمها سهولي عدوة، وطريق أساب «عصب»، وطريق هرر، ووادي وياشيلي. أما الطريقان الباقيان فيكونان في الجنب لاجتذاب بعض الجنود الحبشية.

ومن المستصعب على الأحباش الدفاع عن الخطوط الستة في آنٍ واحد، فأهم قواتهم محشودة ناحية الشمال في غندار وعدوة وملا كال. وقد مُدَّت المواصلات ما بين هذه الأماكن وأديس أبابا إلا أنها مواصلات غاية في الصعوبة؛ فالطرق غاية في الرداءة ببلاد الحبشة، ومن أشق الأمور تموين ربع مليون من الرجال بواسطة هذه الطرق.

أما تحت الخط الحديدي من أديس أبابا إلى جيبوتي فالقوات الحبشية مبعثرة؛ لهذا نقول إنه إذا سهل على الطليان الإشراف على الأراضي الممتدة على يمين الخط الحديدي وشماله، فالاستيلاء على العاصمة الحبشية ميسور.

ويقول بعض الخبراء أن الزحف على هرر لا يستلزم غير أسبوع، والمظنون أن الطيارات ومركبات التانكس تقوم أولًا بنقل الجنود والذخائر والماء، ثم تنشأ نقط تحمي الاتصال بالصومال الإيطالي.

وسوف تكون الحميات في الشهور الأخيرة من هذه السنة آفة الطليان إلا إذا سهل عليهم الإسراع باجتياز المناطق الرديئة الجو خصوصًا في أوجادين.

وسوف يكون أشد هجوم في اتجاه الجنوب ناحية سهول الدناكل وتجتنب بالمفاجآت.

ويظهر أن مسألة النقل ستكون عقدة العقد للفريقين؛ فالطليان يعتمدون على الجرارات والبغال، والأحباش على البغال فقط.

وإذا ضرب الطليان ضربة قويَّة شفوا بها الغليل من ثأر عدوة، فربما أدَّى هذا إلى الصلح بعد ذلك في ظلال الوساطة والحالة المعنوية الجديدة.

(١٤) اقتسام أفريقيا والتوازن

نشر الكاتب شبرد ستون في مجلة نيويورك تيمس مقالًا عن اقتسام الدول الكبرى لقارة أفريقيا، جاء فيه ما يلي على ذكر الخلاف الحبشي الإيطالي قال:

إن الاستعدادات الحربية التي يقوم بها السنيور موسوليني لغزو الحبشة ليست إلا تجديدًا لعادة أوروبية قديمة؛ ففي النصف الأخير من القرن الماضي تنافست بعض الدول الأوروبية في انتزاع قطع من القارة الأفريقية وإخضاعها لحكمها، ولكن إيطاليا لم تخرج في صف الرابحين من هذا التنافس؛ فموسوليني يحاول الآن أن يعوِّض ما فات.

تفُوق القارة الأفريقية قارة أوروبا ثلاثة أضعاف مساحتها، ولكن معظمها خاضع لدول أوروبا، إلا أن بريطانيا وفرنسا أوسع الممالك الأوروبية ممتلكات في أفريقيا، وتأتي بعدها الدول الأوروبية الأخرى. وتدل الإحصاءات على أن عدد الأوروبيين الذين هاجروا إلى هذه البلدان واستوطنوها يسيرٌ إذا قِيس بمساحتها الشاسعة وضغط السكان في البلدان المستعمرة.

وتبلغ مساحة القارة الأفريقية نحو ١١٤٦٠٠٠٠ ميل مربع، موزَّعة كما يلي:

المساحة (ميلًا مربعًا) عدد السكان
بريطانيا ٣٤٠٩٦٩٢ ٤٧٢٥١٩٠٠
فرنسا ٣٦٩٧٦١٠ ٣٥٤٤٠٥٠٠
إيطاليا ٩٤٦١٣٤ ٢٢١٠٠٠٠
بلجيكا ٩٢٢٠٨٣ ١١٥٠٠٠٠٠
البرتغال ٧٨٧٦٠٨ ٦٦٠٤٠٥٠
مصر ٣٥٠٠٠٠ ١٥٠٠٠٠٠٠
الحبشة ٣٥٠٠٠٠ ١٠٠٠٠٠٠٠
إسبانيا ١٢٨٦٩٦ ٧٨٤٠٠٠
ليبيريا ٤٥٠٠٠ ١٧٥٠٠٠٠

وتقول جريدة «الأوتوبري» الإيطالية أنه إذا قرَّرت بريطانيا أن تغلق قناة السويس فلا ريب في أن حربًا بين بريطانيا وإيطاليا تنشب على أثره؛ فليس إذن من قبيل الفكاهة أن نوازن بين قُوَى بريطانيا وإيطاليا في البحر المتوسط، وهو البحر الذي يُنتظَر أن يكون ميدانًا للحرب بينهما. ويجدر بنا توصلًا إلى هذه الموازنة أن نقسِّم البحر المتوسط إلى ثلاث مناطق، ففي المنطقة الغربية تفُوق قوة إيطاليا قوة بريطانيا؛ لأن إيطاليا تستطيع أن تعتمد على قواعدها في سردينيا وصقلية وليجوريا، أما بريطانيا فلا قاعدة لها في هذه المنطقة إلا جبل طارق، وفي المنطقة المتوسطة إيطاليا متفوقة كذلك؛ لأن صقلية قريبة من ليبيا، حالة أن بريطانيا ليس لها إلا جزيرة مالطة، ولكن بريطانيا متفوِّقة في المنطقة الشرقية لأنها تستطيع أن تعتمد على قواعدها في مصر وفلسطين وقبرص حالة أن إيطاليا لا تستطيع أن تعتمد إلا على جزائر الدوديكانيز ورودوس، فإذا حاولت بريطانيا أن تغلق القنال فإيطاليا تستطيع بسهولة أن تغلق الطريق البحري بين صقلية وشمال أفريقيا وتبقى هي تستعمل بوغاز سيناء لمرور سفنها.

وللمستر همند اقتراح خاص بالمستعمرات الأفريقية وتوزيعها، وقاعدة هذا الاقتراح أن تُوضَع جميع البلدان الأفريقية التي مقاليد حكمها في أيدي الأوروبيين تحت رعاية جامعة الأمم؛ فحكم هذه البلدان في رأي المثاليين من رجال السياسة يجب أن يكون وديعة في أيدي الشعوب التي تمرَّنت على الحكم ولها من ثقافتها ما يؤهلها لأن تحكم حكمًا آيته الاستئثار والعدل ومصلحة المحكومين. وتحقيق هذه الأغراض العليا لا يمكن أن يتم إلا بوضع مقاليد حكمها في أيدي جامعة الأمم.

هذا ما يقوله همند. ولسنا في حاجة إلى القول بأننا لا نوافق عليه ونرى الشعوب الشرقية جديرة بالاستقلال التام.

حادث ولوال ولجنة التحكيم

وقع على مقربة من الحدود في «ولوال» عدوان من قبائل حبشية على أراضٍ تعدها إيطاليا تابعة لها، في ديسمبر سنة ١٩٣٤، فاحتجت إيطاليا على الحبشة، وقالت الحبشة أن «ولوال» داخل حدودها، فلا اعتداء على أملاك إيطاليا، وأبى مندوب إيطاليا التسليم بأن «ولوال» في حدود الحبشة، وأُلِّفت لجنة تحكيم من مندوبي الحبشة وإيطاليا ولم تنجح في مهمتها.

فطلبت الحبشة تأليف لجنة التحكيم، وقررت عصبة الأمم تأليفها للفصل في حادث ولوال من اثنين عن إيطاليا، واثنين عن الحبشة والخامس مسيو بولينيس عن اليونان، ووضعت تقريرها وقدمته للعصبة في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر إلى مجلس العصبة في اجتماعه السنوي السادس عشر، وقررت اللجنة أن لا مسئولية على كل من الحبشة وإيطاليا.

جبل طارق

في رسالة واردة من جبل طارق نبأ وصول أسطول المياه الإنجليزية، وقد أحدث دهشة عظيمة في الدوائر السياسية؛ لأن هذه الدوائر كانت تظن أن هذا الأسطول سيذهب إلى شواطئ اسكتلندا لإجراء مناورات.

وتقول هذه الرسالة أن المدخل الجنوبي الذي يؤدي إلى الميناء البحرية سيُغلَق كما أُغلِق المدخل الشمالي، وأن طيارات القوة الجوية تحلِّق فوق المضايق باستمرار.

وقد نُشِر بلاغ رسمي أُلصِق بجدران جبل طارق فيه مناشدة للأهالي بإطفاء جميع الأنوار في تلك المنطقة للضرورة القاضية بذلك، ونصح للأهالي بالحصول على «الشمع» للإنارة، على أن هذا النور الضئيل يجب أن يُستَر أيضًا بكل عناية، وكل من خالف هذه الأوامر يتعرض للعقاب الصارم.

المؤتمر الثلاثي في باريس

المؤتمر الثلاثي هو مؤتمر باريس بين فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، ومن اقتراحاته على عصبة الأمم منح إيطاليا امتيازات اقتصادية في الحبشة لا تمس استقلالها.

ثم جمع بعد ذلك مؤتمر باريس بين الدول الأوروبية الثلاث التي يهمها الموضوع إنجلترا وفرنسا وإيطاليا؛ لبحث المسألة والوصول إلى نتيجة سلميَّة ترضي الطرفين على أنه إذا لم تُحَلَّ المسألة في هذه الاجتماعات ترجع المسألة إلى عصبة الأمم لتُحَلَّ حلًّا نهائيًّا.

وقد اجتمع المجلس بعد فشل مؤتمر باريس لرفض إيطاليا قبول الامتيازات التي تقدمت بها إنجلترا وفرنسا.

وفي أثناء انعقاد الجمعية العمومية لمجلس العصبة تكلَّم مندوبو الدول عن وجوب الوصول إلى حل سلمي مع احترام ميثاق العصبة، وتوقيع العقوبات على المعتدي إذا تعذر الوصول إلى هذا الحل.

لجنة الخمسة في عصبة الأمم

ثم أُلِّفت لجنة الخمسة من مندوبي إنجلترا وفرنسا وتركيا وبولونيا وإسبانيا، لعلها تصل إلى حل يرضي رغبات إيطاليا ويحفظ كرامة الحبشة واستقلالها هذا.

ولجنة الخمسة مؤلَّفة من مادرجا «مندوب إسبانيا»، ولافال عن فرنسا، وأيدن عن إنجلترا، وتوفيق رشدي أراس عن تركيا، وبيك عن بولونيا.

اقتراحات لجنة الخمسة

وجاء من جنيف في ١٩ سبتمبر سنة ١٩٣٥ أن اقتراحات لجنة الخمسة تتألف من مقدمة وبروتوكول ومشروع للمساعدة.

وتشير المقدمة إلى تعهدات الحبشة في سنة ١٩٢٣ في شأن النخاسة وتجارة السلاح، وإلى طلب الوفد الحبشي المساعدة على تحسين أحوال الحبشة المالية والاقتصادية والسياسية وترقيتها.

وينص البروتوكول على قبول الحبشة بوجه عام للاقتراحات، ويقضي مشروع المساعدة بإعادة تنظيم جميع المصالح والخدمات العامة تحت رعاية عصبة الأمم وبواسطة مستشارين أوروبيين.

أما مهمة البعثة الأجنبية وواجباتها، فتكون كما يلي:
  • (١)

    إبطال الرقيق، ووضع حد لفوضى الإتجار بالسلاح، وتأمين سلامة التجار والنزلاء الأجانب، ومنع الغزوات وتجارة الرقيق.

  • (٢)

    تشجيع الاستثمار الاقتصادي لموارد الحبشة بمنح الأجانب امتيازات التعدين، وتوفير الفرص لاستغلال الأرض والتجارة وإنشاء المشروعات الصناعية وتحسين خدمة البريد والأشغال العامة، وإيجاد وسائل النقل والمواصلات بمساعدة الاختصاصيين الأجانب.

  • (٣)

    وضع شئون البلاد المالية تحت رقابة شديدة وتعديل نظام الضرائب.

  • (٤)

    تتخلى الحكومتان البريطانية والفرنسوية عن شقة من الأرض في الصومال البريطاني والصومال الفرنسوي لتسهيل تعديل الحدود الإيطالية الحبشية، وإعطاء الحبشة منفذًا إلى البحر.

وفي تلغراف من لندن في ١٩ سبتمبر سنة ١٩٣٥ أن «الديلي تلغراف» نشرت نصًّا للاقتراحات التي صاغتها لجنة الخمسة في مشروع الصلح الإيطالي الحبشي، وقد أرسل إليها بهذا النص مكاتبها بجنيف، وأكد لها أنه نص الوثيقة الرسمية.

ويظهر منه أن لجنة الخمسة تشير بإعادة تنظيم إثيوبيا بقدر ما يتسنَّى تنظيمًا كليًّا، وتوصلًا لهذا الغرض تنصح بإنشاء قوة بوليسية خاصة للمحافظة على السلامة وعلى المصالح الأوروبية في الحبشة.

وهناك اقتراح ثانٍ بشأن إنشاء فصائل من البوليس على الحدود لمقاومة تجارة الرقيق.

ويتضمن اقتراح ثالث اشتراك الرعايا الأجانب في توسيع البلاد الاقتصادي، وحق تملكهم للأراضي، وإنشائهم لأعمال صناعية.

والاقتراح الرابع خاص بمشروع معقَّد يتعلق بالأشغال العامة وبإعادة تنظيم خدمات البريد والتلغراف.

ويتضمن اقتراح خامس فرض رقابة شديدة على الميزانية.

والاقتراح السادس خاص بإعادة تنظيم المحاكم الأهلية والمختلطة.

والاقتراح السابع يختص بترقية الشئون الصحية والتعليم.

ويظهر أن إنجلترا وفرنسا وافقتا على سؤال الحبشة أن تنزل عن أراضٍ لإيطاليا مقابل النزول للحبشة عن أراضٍ في الصومال، مؤلَّفة على الأرجح من ممر بين الصومال الإنجليزي والصومال الفرنسوي تنتهي إلى «زيلع».

وتعترف فرنسا وإنجلترا في الوقت ذاته بحقوق إيطاليا في توسع اقتصادي في الحبشة.

وقد حددت اللجنة في ختام تقريرها صلاحية هذا المشروع لخمس سنين، وهي مدة يمكن تعديلها.

وقد قبلت الحبشة مقترحات لجنة الخمسة ورفضتها إيطاليا، والحرب على الأبواب.

فقد اجتمع مجلس الوزراء الإيطالي الذي انعقد برئاسة السنيور موسوليني «الدوتشي» — رئيس الحكومة وزعيم إيطاليا وزعيم الحركة الفاشستية — يوم السبت ٢١ سبتمبر سنة ١٩٣٥، وأصدر البلاغ الآتي:

أخذ مجلس الوزراء علمًا بالمقترحات التي تضمنها تقرير لجنة الخمسة وبحثها بحثًا دقيقًا، وهو مع تقديره للمجهود الذي بذلته لجنة الخمسة يرى أن الشروط المعروضة غير مقبولة؛ لأن هذه المقترحات لا تعطي أساسًا أدنى كافيًا لتحقيق مصالح إيطاليا الحيوية وحقوقها.

وقد انتهى اجتماع مجلس الوزراء في الساعة الأولى بعد الظهر بعد سماع بيان موسوليني الذي استغرقت تلاوته ساعة كاملة، وعاد للاجتماع يوم ٢٤ سبتمبر؛ انتظارًا لتطورات الحالة السياسية وللبحث فيما بقي من برنامجه، وعقد اجتماعات تالية. وسنزيد هذا الأمر بيانًا عند الكلام على عصبة الأمم.

البعثة الحبشية في اليمن

أرسلت الحكومة الحبشية بعثة إلى صنعاء «عاصمة اليمن» لتأكيد صلات التفاهم والصداقة القائمة بين البلدين، ورئيس هذه البعثة هو «بلاتا أيلا جيري» موفدًا لمهمة مؤقتة، فمدة إقامته ببلاد اليمن لن تزيد على ثلاثة شهور.

ويُعَد «بلاتا أيلا» من أذكى الأحباش ومن أكثرهم ثقافة واطلاعًا، علاوة على تضلعه في اللغات الأجنبية وإلمامه باللغة العربية، وقد أُشِيعت روايات كثيرة عن سفر هذه البعثة وعن أغراضها، وهي تدور حول اتفاقات سياسية تم التمهيد لها منذ مدة، ويرجو الأحباش أن يُوفَّق «بلاتا أيلا» في مهمته، وأن تكون هذه البعثة بداية عهد تعاون وثيق بين اليمن والحبشة، بل بين دول الشرق جميعًا.

الفاشستية والحرب

كثر الحديث حول جماعات الفاشست الإيطالية التي نظمها السنيور موسوليني، ولبس أفرادها القمصان السوداء.

وفكرة لبس القمصان سواء أكانت سوداء أو حمراء أو زرقاء أو غيرها قديمة، وقد اتخذ غاريبالدي القمصان الحمراء شعارًا لجنوده في محاربة آل بوربون في نابولي.

وقد أنشأ موسوليني الحركة الفاشستية ونظمها في إيطاليا لمقاومة البلشفة التي اتصلت بإيطاليا سنة ١٩١٩ على أثر الاضطراب والاستياء اللذين تملكا النفوس بعد الحرب، واستولت على الحزب الاشتراكي. والاسم «فاشستي» مستمد من كلمة إيطالية معناها: رباط أو عصابة. وكانت تُطلَق من قبل على النقابة أو الجمعية.

وقد التفَّ الأعضاء حول موسوليني من جميع أنحاء إيطاليا، وأخذ الشعب ينظر إلى الفاشستية كوسيلة للخلاص مما أحاق به من المحن. ويرجع الفضل في نمو الحركة السريع إلى حسن تنظيمها، وقد سُلِّح كل رجل من أعضائها، وأخذت جموعهم تهاجم الاجتماعات الشيوعية، وتقاوم الاعتصابات وتشل حركات الإضراب، ولم تلبث القمصان السوداء أن أصبحت رمز النظام وشعار القانون. وفي أكتوبر سنة ١٩٢٢ تمكن موسوليني من تسلم مقاليد الشعب الإيطالي، ولا يزال نجمه منذ ذلك الحين في صعود وتألق. هذا وقد أفادت الحركة الفاشستية إيطاليا وأنقذتها من فوضى الأحزاب والحكومات وجعلتها وحدة، ومن سن ١٢ سنة ينتظم الصبية في جماعات «الباليلا» ويتعلمون حمل السلاح، وفي إيطاليا عشرة ملايين فاشست أصحاء، ومساحتها ٣١٠٠٠٠كم وسكانها ٤٣ مليونًا.

الفاشستية في إنجلترا

وفي أواخر سنة ١٩٣٢ أُنشِئت في إنجلترا هيئة سياسية مماثلة للفاشستية الإيطالية يرأسها السير أوزوالد موزلي، ويلبس أفرادها القُمُص السوداء ويُحَيُّون بيديهم على الطريقة الإيطالية. وزعيم هذه الحركة معروف في عالم السياسة؛ فقد كان عضوًا في مجلس العموم عن المحافظين ست سنين، ثم انضم إلى حزب العمال، وانتُخِب عضوًا برلمانيًّا مدة خمس سنين.

الفاشستية في ألمانيا

والقمص السمراء هي شعار جنود الهجوم النازية في ألمانيا، ويلخص تاريخ نشأتها أن أدولف هتلر الذي كان جنديًّا في الحرب العالمية برتبة «أونباشى» انضم إلى حزب العمال الألماني في ميونيخ في سنة ١٩١٩، واستطاع بشخصيته القوية المغناطيسية أن يصير زعيمًا له. وفي سنة ١٩٢٠ أبدل الحزب اسمه إلى «حزب العمال الألمان الوطنيين الاشتراكيين»، وجعل شعاره صليبًا معقوفًا أسود اللون في دائرة بيضاء فوق علم أحمر، وكانت غاية الحزب سحق الشيوعية، وكان يحيط بزعيمه هتلر الاضطرابات وشعب الغوغاء. وفي سنة ١٩٢١ نظَّم «بوليس» هتلر فرقًا واشتركت هذه الفرق في معارك دامية انتصارًا لزعيمها، فأُطلِق عليها لقب «ستورم بتيلونج» أو ما معناه «جنود الهجوم»، ثم أخذت هذه القوة في النمو حتى أصبحت جيشًا عسكريًّا منظمًا منفصلًا تمامًا عن الجيش النظامي.

وكانت نية هتلر متجهة في سنة ١٩٣٤ إلى إلغاء هذا الجيش، ولكن الثورة الأخيرة ضد النازي حملته على استبقائه.

القمصان الرمادية وغيرها

وفي إنجلترا هيئة منظمة يرتدي أفرادها القمصان الرمادية، وغايتها مقاومة الفاشستية البريطانية ومنع مظاهراتها.٨

ثم هناك أصحاب القمصان الحمراء وهم شبان حزب العمال المستقل.

وفي النمسا هيئة يلبس أفرادها القمصان الخضراء، وهي مؤلفة لمقاومة النازي، وتُعرَف باسم «هيموهر»، وزعيمها البرنس «فون ستار همبرج» أحد أقطاب رجال السياسة في النمسا ومن الوزراء الحاليين.

وفي النمسا أيضًا هيئة أخرى يلبس أفرادها القمصان الرمادية.

بقي هناك قميص ملوَّن آخر هو القميص الأزرق الذي يلبسه أفراد حزب التضامن الفرنسي، ويلبسه أيضًا في أيرلندا أنصار الجنرال أودفي خصم المستر ديفاليرا؛ رئيس حكومة أيرلندا الحرة وأشد معارضي سياسته.

(١٥) مصر والمسألة الحبشية

المصريون يعطفون على الحبشة ويودون بقاء استقلالها، وتتجه السياسة الإنجليزية ومصالحها إلى منع غزو إيطاليا للحبشة، وإن كانت توافق على منح امتيازات لإيطاليا في الحبشة، وقناة السويس في مصر قد تُتَّخَذ أداة لمعاقبة إيطاليا بإغلاق القناة في وجه سفنها، وإيطاليا تهدِّد بحرب أوروبية إذا أُغلِقت القناة وفُرِضت العقوبات، والقناة في مصر. وحشدت إيطاليا جنودًا في طرابلس، ووصلت إلى مصر جنود بريطانية وهندية، ورابط الأسطول الإنجليزي في الإسكندرية وبورسعيد، وهو يحرس الشواطئ.

وتخشى مصر أن تكون ميدان حرب، وقد عقد الوفد المصري اجتماعات وعقدت الصحف فصولًا ضافية في طلب أن يكون اشتراك مصر في الحرب، إذا اسْتَعَرَتْ ودخلت إنجلترا فيها وطلبت إلى مصر مساعدتها أو اضطرت مصر للدفاع عن حدودها ضد الإيطاليين وسواهم، أن يكون الاشتراك على قاعدة المحالفة الحرة.

ودارت محادثات بين صاحب الدولة توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء وبين دار المندوب السامي، وأصدر المجلس مساء يوم الاثنين ١٦ سبتمبر سنة ١٩٣٥ البلاغ التالي:

بلاغ مجلس الوزراء

منذ بدء الاضطراب الدولي الحالي، قام حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا — تلبية لشعور الشعب المصري — بعدة محادثات ودية مع سعادة السير مايلز لامبسون المندوب السامي البريطاني بمصر، ثم مع سعادة المستر كلي المندوب السامي بالنيابة في صدد الأمور التي تشغل بال البلاد، سواء كان فيما يتعلق بالأثر الذي قد يحدثه تطور الموقف الدولي في مصالح مصر، أو بالوسائل التي قد تُضطَر مصر إلى اتخاذها للدفاع عن مصالحها.

وقد أسفرت تلك المحادثات عن البلاغ التالي الذي أرسله سعادة نائب المندوب السامي باسم حكومته إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، وهو:

إن حكومة جلالة الملك تدرك مصالح مصر حق الإدراك وتعرف القلق الذي يساورها في الوقت الحاضر، فليثق دولة الرئيس بأنه إذا دعت الظروف فإن حكومة جلالته ستواصل إطلاع الحكومة المصرية ومشاورتها في شأن جميع تطورات الموقف الدولي التي قد تمس مصر عن قرب.

لجان الدفاع عن الحبشة

تألفت في أغسطس سنة ١٩٣٥ في جمعية الشبان المسلمين لجنة عامة للدفاع عن استقلال الحبشة برياسة حضرة صاحب المجد النبيل إسماعيل داود وبرعاية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، وللجنة فروع.

ووصلت إلى اللجنة طلبات من ألوف المتطوعين للحرب في صفوف الجيش الحبشي وفي التمريض، وبلغ عددهم ١٣ ألفًا.

ولم يُسمَح للنبيل إسماعيل داود بجواز سفر للسفر إلى الحبشة أولًا، وسُمِح له ولحاشيته بعدئذ.

  • لجنة بطركخانة الأقباط: وقام غبطة الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط الأرثوذكس بتأليف لجنة من حضرات أصحاب النيافة المطارنة، ولفيف من حضرات أعضاء المجلس الملِّي العام برياسة غبطته؛ لإرسال بعثة طبية إلى الحبشة.

    وقد قبِل سمو الأمير عمر طوسون جعل هذه اللجنة أيضًا تحت رعايته كما كانت لجنة جمعية الشبان المسلمين برعايته.

  • لجنة مالية متحدة: وقد رُئِي تأليف لجنة مالية متحدة من اللجنتين برياسة سموه، وبعضوية خمسة عن اللجنة القبطية وخمسة عن اللجنة الإسلامية، واجتمعت اللجنة المالية المتحدة بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة يوم الأحد ٢٩ سبتمبر سنة ١٩٣٥ برياسة سموه وبحضور النبيل إسماعيل داود، وأصدرت قرارات منوَّعة فيما يتعلق بتأليفها النهائي والشروع في جمع الاكتتابات وإرسال بعثة طبية للحبشة.

رأي جمعية الاتحاد النسائي

عُقِدت جمعية الاتحاد النسائي برياسة حضرة صاحبة العصمة السيدة هدى هانم شعراوي، ووجهت النداءات التالية:
  • (١)

    نداء إلى الشعب الإيطالي بتاريخ ٣ أغسطس سنة ١٩٣٥ بمناشدته — باسم العدالة والإنسانية — أن يحمل حكومته على العدول عن خطتها العدوانية في غزو الحبشة، وعلى انتهاج خطة الاتفاق مع الحبشة تحت رعاية عصبة الأمم.

  • (٢)

    نداء إلى عصبة الأمم بتاريخ ٣٠ أغسطس سنة ١٩٣٥: بلفت نظرها إلى أن مصر في حالة شاذة؛ فهي مستقلة ومحتلة بالأجنبي معًا! وليست عضوًا في عصبة الأمم، وتوشك أن تكون ميدانًا من ميادين الحرب بسبب النزاع الحبشي الإيطالي وبسبب وجود قناة السويس في مصر، وأخيرًا بمناشدة العصبة أن تظل أداة للعدالة وعاملًا على السلام، وأن لا تكون أداة لتحقيق مطامع الاستعماريين.

  • (٣)
    نداء إلى دولة توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء بتاريخ ٣ سبتمبر سنة ١٩٣٥: باطلاع دولته على نسخة من النداء الذي وجهه الاتحاد إلى عصبة الأمم، وبلفت نظر دولته إلى إعداد وسائل الدفاع عن مصر من الغارات الجوية والغازات السامة، وإلى أن اتخاذ الحكومة المصرية سياسة مماثلة للحكومة الإنجليزية في المسألة الحبشية، قد يجعل مصر دولة محاربة لإيطاليا، وبذا تخرج مصر عن حيادها، ولذا فإن الاتحاد يطلب إلى دولته بيان القواعد والشروط التي بمقتضاها تخرج مصر من حيادها …٩

(١٦) بيانات منوعة عن الحبشة

منذ ظهر النزاع الحبشي الإيطالي، رحل إلى الحبشة وكتب عنها كثيرون من الصحفيين والسياسيين، وقد وصف حضرة الأستاذ خضر فضل الله الحبشة بعد رحلة قام بها، ومما كتبه عنها: «الحبشة في داخلها بلاد جبلية خصبة كثيرة المطر والأنهار، وقلما توجد فيها منطقة خالية من ماء، وليس فيها صحراء ولا «عتمور». وتؤلف مجاري الماء أنهرًا صغيرة شديدة التيار؛ لأن الماء ينحدر فيها من أعالي الجبال فيُسمَع له هدير في سيره، ويصب معظم هذه الأنهار في بحيرة «تانا» حيث ينبع النيل الأزرق ويجري متجهًا إلى السودان، فمصر، إلى أن يصب في البحر المتوسط.

وتُزرَع في الحبشة جميع أنواع البقول والحبوب؛ كالقمح والشعير، والذرة الشامية والفول، والعدس والحمص، والحلبة والكمون، والكزبرة والفاصوليا والباسلة … إلخ، والطيف والداقشا — وهما نوعان من الذرة يماثلان السمسم حجمًا ويُستعمَلان للخبز أو «الكسرة»؛ فالطيف خبزه أبيض أو أسمر، والداقشا خبزها أحمر، وهما بمثابة الذرة الرفيعة عند أهل السودان، وتُزرَع كذلك الذرة الرفيعة ولكن في الأماكن المنخفضة الحارة.

ويستعمل أهل هذه البلاد القمح والشعير غالبًا في صنع «البوظة»، كما أنهم يستعملون منها «قلوة» يتسلون بها مع شرب القهوة المرة.

هذا ويُزرَع البُن بكثرة في أرض الحبشة، وخصوصًا في جهات ولقا، وجمة، وسدامو، وزقي … إلخ، أما البقول والخضر فجميعها تجود في أرض الحبشة.»

(١٧) من عادات الحبشان وزواجهم

ننشر هنا بعض العادات مضافًا إلى ما سبق لنا ذكره:

يكاد ألا يكون هناك اختلاف محسوس في طباع الأحباش يمكن تعيينه، ومن عادتهم أنه إذا حل ضيف دارًا، فأول ما يعمله صاحب الدار هو أن يأمر عبده أو عبدته أو ابنه أو ابنته أو زوجته — إن لم يكن له خدم أو أولاد — أن يغسل رِجلَي الضيف، وعلى الغاسل بعد الفراغ من عمله أن يقبِّل الرجل المغسولة، أما إذا كان الضيف راهبًا أو قسيسًا فصاحب الدار هو الذي يغسل رجل ضيفه، كذلك لا يُؤكَل الطعام إلا بعد أن تذوقه الزوجة أو الخادمة التي أعدته.

ومن غريب عاداتهم أن أعظم ما يُكرَم به الضيف هو أن تُطبَخ له دجاجة، ولكنَّ لهم في صنعها شأنًا؛ ذلك أنهم يقطِّعونها قطعًا معدودة، ولا يُسمَح للمرأة بأكل بعضها، كما أنه لا يجوز للرجل أن يأكل القِطع التي للمرأة، وإذا نقصت قطعة واحدة فالويل للزوجة، وإما تُرمَى الدجاجة أو يُؤتَى بالقطعة الناقصة منها!

والزواج في الحبشة على أنواع كثيرة، فمنه زواج القربان؛ وهو ما يسميه المسيحيون بالإكليل، وهنا تختلف تقاليد الأحباش عن غيرهم من المسيحيين في أن البعض منهم يعاشر المرأة كزوجة سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فإذا راقت له أخلاقها عقد عليها بالقربان؛ وهذا نهايته الموت.

والنوع الثاني ما يسمونه «القال كدان»؛ وهو زواج يبدأ باتفاق بين والدَيْ الزوج والزوجة، فيدفع الزوج مهرًا من الريالات لا يزيد على ثلاثين يُضاف إليها عدد قليل من البقر والدواب من بغال وحمير … إلخ. ويدفع والد الزوجة مثل هذا المهر ويعيش الزوجان في بيت منفصل عن والديهما، فإذا قام بينهما خلاف احتكما إلى الشيوخ يسعون جهدهم لإصلاح ذات البين، وإلا فطريقة فصلهما هو اقتسام المال وكل ما جددوه في بيتهما بالتساوي، ويحق للزوج في هذا النوع من الزواج أن يرُدَّ زوجته حتى للمرة العشرين فأكثر، كما أنه يجوز له أن يضم إليه خادمة أو اثنتين تكونان بمثابة سريتين، يُسمُّون أولاهما «قرد» والأخرى «جن قرد»، وليس للزوجة حق ما في الاعتراض على الزوج. وهذا النوع من الزواج مثل الزواج المدني، وهو أكثر شيوعًا من سواه.

ويوجد نوع ثالث؛ وهو الزواج بالماهية وهم يسمونه «قردنة»، وهو يتلخص في أن يتفق الرجل مع المرأة على أن يهبها مربوطًا أو معاشًا يتفاوت بين عشرة ريالات وعشرين ريالًا في السنة مع كسائها وأكلها، وهذا النوع من الزواج كثير الشيوع أيضًا.

وهذه الأنواع من الزواج شائعة بين المسيحيين واليهود واللادينيين.

أما الزواج الإسلامي فيكون بحسب النصوص الشرعية.

ومن شروط الزوجية المهمة عند الأحباش قاطبة أن لا ينام الزوج بعيدًا عن زوجته، بل أن يحتضنها وأولادهما إلى قربهما حتى ولو كان معهم ضيف، وإذا اتفق أن نام الزوج منفردًا كان ذلك دليلًا على أنه لا يحب زوجته، فترفع أمرها إلى الشيوخ شاكية سوء فعلته.

وطعام الأحباش مؤلف بالأكثر من البقول الناشفة كالبسلة المطحونة ويسمونها «شرو»، والفول المدمس، والعدس، والحمص؛ لأنهم يصومون نحو ثلثي السنة، وهم يكثرون الشطة في طعامهم حتى يصير لونه محمرًّا ويصبح حارًّا، بحيث يتعذر أكله على أحد سواهم. وهم يفضلون أكل لحم ذكور المعز على سواه من لحوم المواشي مع أنهم لا يشربون لبن المعز مطلقًا، ويحبون أكل اللحوم النيئة رغمًا من علمهم بأنها تولد الدود في أمعائهم ويستطيبون أكلها كثيرًا، وهم يشربون في كل شهر شربة الدود ويسمونها «كوسو»، ولا يأكلون من الخضر إلا نوعًا واحدًا يسمونه «قرمن» وهو أشبه بورق الفجل وطعمه.

شرب الماء قليل جدًّا عند الأحباش، وشرابهم العادي هو «البوظة» أو ما يسمونه «تلا»؛ وهي تُصنَع من الشعير أو القمح؛ وذلك بأن يُحمَّص القمح أو الشعير، ثم يُطحَن ويختلط بصفصاف شجر يسمونه «قيشو» أو أخرى يسمونها «صدو». وهاتان الشجرتان لا تنبتان إلا في الحبشة ويُستعمَلان خميرة للشراب.

وهناك نوع آخر من الشراب يُسمُّونه «طج»؛ وهو يُصنَع من العسل، وكيفية صنعه هو أن يُحضَر بالعسل ويُمزَج بالماء ويُخلَط بالقيشو أو بالصدو، وبعد أن يخمر يُشرَب. وكلا هذين النوعين من الشراب مُسكِر.

إن كل عطلة في أرض الحبشة هي عيد مقدَّس، وأهم هذه الأعياد هو «المستقل» أو عيد الصليب.

ويليه عيد رأس السنة ويسمونه «قديس يوهنس»؛ وفي هذا العيد تُشعَل النيران ويغنون فيه أغنية التهاني برأس السنة، ويلعبون بالأزهار، ويذبحون الذبائح في بيوتهم، ويشربون الشراب … إلخ. وهناك أيضًا «فلسنا» وهو عيد العذراء، وعيد الميلاد ويسمونه «لوتا»، إلى غير ذلك من أعياد القديسين والملائكة.

وتحتفل الحكومة والأهالي بعيد رأس السنة الهجرية، وقد وقع في ١٢ سبتمبر حيث أُنِيرت شوارع المدينة بالكهرباء، وانتشرت المشاعل في أحياء أديس أبابا المختلفة، وسارت غفيرة من الجماهير تتقدمها الطبول مخترقة أحياء المدينة، واستمرت كذلك إلى أواخر الليل، وفي الصباح أُقِيمت الصلوات في الكنائس، واستقبل جلالة الإمبراطور القُوَّاد والزعماء وأعيان الجاليات الأجنبية، وقد أُقِيم استعراض حربي في ساحة القصر الإمبراطوري بحضور ممثلي الصحف العالمية.

وعند الظهر مُدَّت الموائد على الطريقة الحبشية لإطعام أكثر من خمسة آلاف شخص بالقصر الإمبراطوري، وهو ما يسميه الأحباش «جبر»؛ وفيه يجلس المدعوون من الجنود والأتباع على الأرض أمام موائد مرتفعة قليلًا، ويتناولون خبزهم المصنوع من نوع خاص من الحبوب، وهم يسمونه «أنجرا»؛ وهو يقوم لديهم مقام «الصحون» عندنا ويسكبون فيها الأدم على الخبز، وعندما تُؤكَل طبقة من هذا الخبز يُؤتَى بنوع آخر من الطعام يُوضَع على طبقة أخرى منه، وهكذا. ويشرب الأحباش خلال ذلك كميات كبيرة من مشروبهم الوطني «التتج»؛ وهذا الشراب مصنوع من بعض النباتات ومخلوط بعسل النحل، وطعمه مستساغ وأثره المسكر شديد.

•••

ومما يُذكَر عن السَّنَة الحبشية أنها تتفق في بدئها ونهايتها مع السنة القبطية المصرية، والفرق بينها وبين السنة الإفرنجية سبع سنوات، وقد تنبأ الفلكيون الأحباش بأن سنة ١٩٢٨ الحبشية ستكون بداية عصر جديد للحبشة تخرج فيه من عزلتها وتنتصر على أعدائها، ويتولى جلالة الإمبراطور الحالي قيادتها إلى مدارج الرقي والتقدم.

هذا ويتزاور الأحباش في هذا اليوم للتهنئة، ويحملون في زياراتهم باقات من الزهر والورود، وتحيتهم المألوفة لهذه المناسبة هي «انكوتاتاش»، وهي كما نظن كلمة عبرية ينسبونها إلى الملك سليمان عند تحيته لملكة سبأ، ومعناها «اللؤلؤ لك».

وقد انقضى يوم العيد دون أن يحدث ما يكدِّر الصفو أو يُخِلُّ بالأمن العام.

والأحباش ميَّالون بطبيعتهم إلى اللهو والطرب، وإذا أُقِيم عرس اشتركوا فيه — رجالًا ونساء صبيانًا وبناتٍ — وغنوا أغاني العشق والهيام، وزمروا وطبلوا ليلًا ونهارًا مدة سبعة أيام متوالية. ونوع آخر من الأفراح يُقام للصيادين إذا صاد أحدهم فيلًا أو أسدًا أو وحشًا من الوحوش الضارية، وهذه الأفراح لا تشترك فيها النساء بل تقتصر على الرجال والصبيان، فيتغنون بالأغاني الحماسية، ويُلبِسون المُحتفَل به جلد الوحش الذي قتله، ويطلقون الرصاص ويلعبون ألعاب الفروسية مدة ثلاثة أيام.

ونوع ثالث وهو يختص بالقسس فقط، وذلك في أعياد القديسين والملائكة؛ فإنهم يخرجون التابوت من الهيكل المقدس، ويضربون الطبول، ويزمرون ويرقصون أمام التابوت مهلِّلِين.

(١٨) في القضاء

والقضاء في الحبشة يختلف تمام الاختلاف عن كل قضاء آخر في العالم؛ فهو قائم على أساس الرهان، فإذا اختلف شخصان على شيء ما احتكما إلى الشيوخ وراهن أحدهم الآخر على إن لم يكن الحكم كذا وكذا يعطيه بغلة أو مبلغًا من المال … إلخ. وعلى الآخر إما أن يُسلِّم بحق الآخر عليه أو يَقبَل الرهان، وحينئذ يأتي كل منهم بشهوده ويكون الحكم على نسبة عدد الشهود، فالذي تكون شهوده أقل من شهود الآخر يدفع الرهان.

(١٩) قبائل الحبشة وبيانات عنها

يتألف سكان الحبشة في الوقت الحاضر من ٢٨ قبيلة مختلفة الأجناس والعقائد والطباع، ومتباينة في مراقي الارتقاء. وفي التالي بيان بأسماء هذه القبائل ولغاتها وعقائدها الدينية مع ملاحظات على بعضها؛ وهو:
  • قبيلة تفري: لغتها التفرية؛ وهي أصل اللغة الحبشية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون والربع الباقي مسلمون. وهم الأحباش الأصليون، ومنهم الملكة بلقيس أم منليك الأول.
  • قبيلة قوندري: لغتها الأمهرية، و أفرادها مسيحيون و مسلمون و يهود، ومعظم ملوك الحبشة القدماء منهم.
  • قبيلة قوجام: لغتها الأمهرية، و أفرادها مسيحيون والربع الباقي مسلمون.
  • قبيلة مقز: لغتها الأمهرية، وجميع أفرادها مسيحيون، ومنها نشأ منليك الثاني.
  • قبيلة أمهرا: لغتها الأمهرية، وجميع أفرادها مسيحيون، وهم سادة البلاد الآن.
  • قبيلة القالا: لغتها الأروموية، ونصف أفرادها مسيحيون والباقي نصفهم مسلمون والنصف الآخر لا دين لهم، وأصلهم من جنوب أفريقيا.
  • قبيلة قراقي: لغتها القراقية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الآخر مسلمون، وأصلهم من أريتريا الإيطالية.
  • قبيلة هررجي: لغتها الهررية، وأفرادها كلهم مسلمون، وهم أكثر قبائل الحبشة حضارة ومدنية.
  • قبيلة كفا: لغتها الكفاوية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الباقي لا دين لهم.
  • قبيلة ولامو: لغتها الولاموية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الباقي لا دين لهم.
  • قبيلة قمرا: لغتها القمراوية، وربع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
  • قبيلة سدامو: لغتها الأروموية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
  • قبيلة كنتا: لغتها الكنتاوية، وربع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
  • قبيلة ورجي: لغتها الأروموية، وكل أفرادها مسلمون.
  • قبيلة قمانت: لغتها الأقوية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون لا دين لهم، ونساؤها أجمل نساء الحبشة.
  • قبيلة ولو: لغتها الأمهرية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
  • قبيلة بجو: لغتها الأمهرية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
  • قبيلة لاستا: لغتها الأمهرية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
  • قبيلة سقوطا: لغتها السقطاوية، و أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
  • قبيلة أقو: لغتها الأقوية، نصف أفرادها مسيحيون والنصف الآخر يهود.
  • قبيلة الصومال: لغتها الصومالية، وجميع أفرادها مسلمون.
  • قبيلة دنكل: لغتها الدنكلية، وأفرادها كلهم مسلمون.
  • قبيلة وطاوط: لغتها البرتاوية، وأفرادها كلهم مسلمون وهم يرجعون في أصلهم إلى السودان.
  • قبيلة برتا: لغتها البرتاوية، و أفرادها مسلمون، والباقون لا دين لهم.
  • قبيلة برون: لغتها البرونية، وأفرادها كلهم لا دين لهم.
  • قبيلة قمز: لغتها القمزاوية، وأفرادها كلهم لا دين لهم.
  • قبيلة ماجبيه: لغتها الماجية، و أفرادها مسلمون والباقون لا دين لهم.
  • قبيلة قدلا: لغتها القدلاوية، وأفرادها كلهم لا دين لهم.

(٢٠) كنيسة أكسيوم ورهبان الحبشة

كنيسة أكسيوم هي أول كنيسة في الحبشة «كنيسة سانت ماري الصهيونية»، وهي قائمة إلى اليوم، وأسسها «القديس فرومانتيس» يتبعها عشرة آلاف راهب قسيس، والقساوسة يُسمَح لهم بالزواج ما عدا المطران والاتشوجوا الذي مركزه جندار؛ وهو رئيس ديني حبشي بجانب مطران الحبشة.

وقد وصف شاهد عيان كنائس الحبشة، فقال: وحسبك أن ترى بناء كنيسة فتعجب من هندستها ونظامها، ومن القسيسين الذين لا يفتُرون عن تلاوة أناشيدهم أبان الصباح والعشي، وفي غسق الليل وظهيرة النهار.

فالكنائس في بلاد الحبشة جميعها سداسية البناء، تحيط بها «الأفاريز» إحاطة السوار بالمعصم، ويعلوها سقف هرمي الشكل ذو أضلاع ستة.

وما أدري لِمَ اختار أبناء إثيوبيا الشكل السداسي لبناء معابدهم، وإن كنتُ أعرف أن الأمطار التي تهطل غزيرة على بلادهم قد تكون سببًا في أن يختاروا الشكل الهرمي سقفًا لمعابدهم ولبيوتهم، حتى التي يتخذونها من الحشائش والقصب.

فأما القسيسون فهم ألوف وألوف من الرجال والنساء، يحملون بأيديهم عصيًّا طويلة يعلوها صليب نحاسي أو فضي.

وتُرَى فوق رءوس القسيسين العمائم البيضاء من «الشاش» الرقيق كتلك التي يتخذها الناس في مصر؛ لذلك كان الأحباش إذ يرون البعثة المصرية الدينية وعمائمها البيضاء يقولون: هؤلاء قسيسون مسلمون.

وتُرَى الكنيسة والناس من حولها خاشعون ينظرون من طرف خفي، ويبلون ثرى جدرانها بالقبلات الحارة.

(٢١) إمبراطور الحبشة صحفي ومدير مطبوعات

قال قنصل تركيا العام في أديس أبابا — وكان يقضي إجازته في تركيا — لرجال الصحافة في استانبول من حديث لهم معه إنهم يمكنهم أن يعدوا النجاشي زميلًا من زملائهم.

وكان مما أخبرهم به أنه تظهر في أديس أبابا ست جرائد، اثنتان منها تُحرَّر بالفرنسوية وواحدة باليونانية، وواحدة بالإيطالية، وواحدة بالحبشية. قال: والإمبراطور نفسه يشرف على الصحيفة الأخيرة المسماة «بهانينا» ويحرر يوميًّا مقالتها الافتتاحية.

والنجاشي يشرف مع هذا على مكتب الصحافة وأقلام النشر والدعوة الحكومية، وهو يحرص كل الحرص على أن يستقي مندوبو الصحافة الأجنبية ومراسلوها المعلومات التي من شأنها أن تعزز نفوذ الإمبراطورية وتعود عليها بالذكر الجميل.

(٢٢) من الملكة فكتوريا إلى النجاشي

كان الفونغراف في عهد الملكة فيكتوريا لا يزال في مهده وكانت الأسطوانات لا تزال تعمل من الشمع، ومع ذلك سمحت تلك الملكة العظيمة بأن يُحفَظ صوتها بأسطوانة وهي تلقي رسالة بعثت بها إلى نجاشي الحبشة حينئذ — وكان الإمبراطور يوحنا كاسا — تتمنى فيها الخير له ولبلاده.

وحُفِظت هذه الأسطوانة مدة ثم اختفى أثرها؛ فظُنَّ أنها أُتلِفت، ولكنه عُثِر عليها أخيرًا في محفوظات شركة أديسون بك في لندن، وُوجِد أن فيها عطبًا يسيرًا فأصلحوه على أهون سبيل.

وقد طلب مجلس الإذاعة اللاسلكية البريطاني من جلالة الملك جورج الخامس أن يسمح لهم بإذاعة هذه الأسطوانة في أنحاء العالم، فإذا تفضل جلالته وسمح بذلك سمع العالم قريبًا صوت الملكة فكتوريا يتردد على أسماعهم بعد أكثر من نصف قرن.

(٢٣) المحكمة التجارية وسوق الحبشة

سوق «الجباية»: وهو سوق أديس أبابا الذي يعقد كل يوم سبت محكمة تجارية تُعقَد فيه.

وسوق «الجباية» هو أهم سوق في الحبشة، والأسواق في الحبشة مجتمعات القبائل والعشائر والتجار والأُسَر.

(٢٤) جيش غريب في الحبشة

من الجيوش التي أخذت قبائل الجالا القاطنة في مناطق البحيرات بالحبشة تجنِّدها لقتال الطليان جيش مزوَّد بكل أنواع الوحوش الضواري التي روَّضها جنود تلك القبائل، وتقول إحدى الصحف الأمريكية نقلًا عن مبشرة تقيم في تلك الأقطار أن منظر فرقة من فرق هذا الجيش تلقي الرعب والفزع في أقوى القلوب وأشدها جلدًا، ومن رأيها أن غزو الحبشة من الأمور غير الممكنة وبخاصة مع وطنية أهالي البلاد.

(٢٥) بحيرة تانا

يخرج منها النيل الأزرق ويُدعَى عند خروجه نهر «الأباي»، ويتوقف عليها فيضان النيل. وخروج النيل الأزرق هو من الجنوب الغربي من الحبشة ومساحة تانا ١١ ألف ميل مربع، وعمقها في بعض جهاتها ٢٥٠ قدمًا؛ فهي أوسع من مديريتي القليوبية والمنوفية معًا.

وفي بحيرة تانا جزر، ولها ديور وكنائس قديمة مقدَّسة، وهي مطمح أنظار إنجلترا؛ فهي ترجو من إنشاء خزَّان بها زيادة ماء الري في الجزيرة بالسودان، وتسعى لاشتراك مصر في إنشاء هذا الخزان، وقد أُشِيع منذ شهرين أنه عند إعلان إيطاليا الحرب على الحبشة تتقدم جنود إنجليزية ومصرية لاحتلال منطقة بحيرة تانا.

وطالما اجتمع١٠ مجلس الوزراء المصري في عهد حكومات مختلفة للبحث في مسألة مشروع خزان تانا، وتعيين الاعتمادات الأولية والدائمة، وعقد الاتفاق مع حكومتي إنجلترا والسودان والحبشة في هذا الصدد.

(٢٦) لجنة دولية للدفاع عن الحبشة

اشتد عطف الكثيرين في أوروبا وأمريكا والشرق على الحبشة. وفي أنباء أوروبا أنه تألفت لجنة دولية من دعاة السلم وأنصار الشعوب المغلوبة على أمرها، غرضها الدفاع عن الحبشة في المحنة القاسية التي تتهددها الآن من وراء الاستعمار الإيطالي، وقد تألفت لجان عديدة في مختلف أنحاء العالم لتحقيق هذا الغرض، وكان الفرع الفرنسي برياسة مسيو كوت وزير الطيران السابق في وزارة دالاديه الأخيرة هو حلقة الاتصال الفعلية بين جميع اللجان والفروع.

وقد عقدت اللجنة الدولية مؤتمرًا في اليوم الثالث من سبتمبر دعت إليه الكثيرين من مختلف الجهات والجنسيات، وقد لبى بعضهم الدعوة واعتذر الفريق الذي لم يُهيَّأ له الاتصال بمقرها لبعض الأسباب.

ونحن ننشر فيما يلي تعريب نص البلاغ الذي أذاعته سكرتيرية اللجنة عن المؤتمر المذكور: في الثالث من سبتمبر انعقد المؤتمر الدولي للدفاع عن الحبشة والسلام، وهو المؤتمر الذي نظمته اللجنة الدولية للدفاع عن الشعب الحبشي، وقد ضم هذا المؤتمر مائة وثلاثين مندوبًا يمثلون مائة وخمسين مؤسسة من جميع النِّحَل والمشارب.

أما اللجنة التي أشرفت على هذا المؤتمر فقد تألفت من نورمان أنجيل حامل جائزة نوبل للسلام، وإدغار يونغ قائد البحرية الإنجليزية — عن بريطانيا العظمى.

ومن بيير كوت وزير الطيران سابقًا، وجان بانلفه، ومارك سانغنيه، وفرانسيس جوردان — عن فرنسا.

ومن كامبولونغي، رئيس العصبة الإيطالية لحقوق الإنسان، وجيناردي النائب الطلياني سابقًا عن — اللافاشستيين الطليان.

ومن ميسترس غارفي وميسالي — عن الشعوب المستعمرة والأقليات الوطنية.

وقد اتخذ هذا المؤتمر جملة قرارات هامة للدفاع عن الحق الدولي والمؤسسات التي تتولى هذا الدفاع، وللدفاع عن الشعب الحبشي في كيانه واستقلاله، وللدفاع عن السلام؛ الهدف الأسمى لجميع البشر.

وأعلن المؤتمر أن هذه الحقائق أصبحت من الآن فصاعدًا وقفًا على ضمير العالم بأسره، لقد أعلن ذلك أمام الممثلين المسئولين للدول الأعضاء في جامعة الأمم وأمام ممثلي أعظم الدول وأصغرها أيضًا، وهي الدول التي سيُكتَب لها الهلاك المباشر في حال نشوب حرب.

ولقد أهاب المؤتمر إهابة أخيرة بالكتل الشعبية في العالم بأسره، والشباب المرهون لكوارث الحرب، والنساء الخائفات على أولادهن، والمثقفين المؤمنين بمبادئهم وأديانهم، وذراريهم، لقد أهاب بهؤلاء جميعًا إلى الاتحاد العملي والتكاتف المناضل في سبيل السلام.

وحيَّا المؤتمر البحريين الذين يُضرِبون عن شحن العتاد الحربي إلى إيطاليا، والعمَّال الذين لا يقابلون الأوامر التي يلقيها عليهم المعتدي بسوى كتف الذراعين، والجنود الطليان الذين يدركون أن عدوهم ليس في أفريقيا، وحيَّا جميع الذين يستهلون الحرب بإشهار الحرب على الحرب ويَحُولون دون إرسال الأسلحة والمدد المالي إلى الحكومة الإيطالية.

وقرر المؤتمر إنشاء مكتب دولي للاتحاد والتعاون في سبيل تنفيذ هذه القرارات.

وفي ليل ٣ سبتمبر سافر وفد إلى جنيف، أعضاؤه: السير نورمان أنجيل، وبول بيران نائب باريس وأحد زعماء الحزب الاشتراكي الفرنسي، والحاج ميسالي نائبًا عن أفريقيا الشمالية والعرب، والسيد دوليقي من أعضاء اللجنة العالمية لمقاومة الحرب والفاشستية، والسيدة فارين إحدى العاملات البارزات في الحزب الراديكالي؛ فقابلوا رئيس مجلس العصبة وبسطوا له الحالة الدولية ورأي المؤتمر في وجوب اجتناب الحرب … إلخ.

(٢٧) في محطة جيبوتي وطرق الحبشة

جيبوتي ميناء فرنسية على البحر الأحمر، وهي الطريق للوصول إلى الحبشة، فيستقل المسافر من جيبوتي القطار إلى أديس أبابا، وفي جيبوتي عشرات الجنسيات، فتجد اليوناني والأرمني والإنجليزي والهندي والصومالي والإيطالي والأسود والأبيض من جيبوتي إلى أديس أبابا، وتكاليف السفر من جيبتوي إلى أديس أبابا ١٦ جنيهًا، ويكلف شحن الطن ٤٢ جنيهًا.

كانت تجارة الحبشة تمر عن طريق زيلع في الصومال الإنجليزي أو الخرطوم من حدود السودان، وكانت التجارة بالقوافل التي يستغرق سفرها أسابيع.

والخط الحديدي خط مفرد تملكه شركة فرنسية أسهمها ٤٠ ألفًا، ودفعت مليون بندقية للإمبراطور منليك الثاني مقابل الامتياز، وافتتحت الشركة القسم الأول من جيبوتي إلى ديرداوي، وطوله ٣٠٩كم سنة ١٩٠٢. ثم وقفت عملها وعادت إليه سنة ١٩٠٦ فأتمت باقي الخط سنة ١٩١٢، واستخدمت ١٠ آلاف عامل، ومدت ٤٧٦كم، وتوقف الجمال القطارات.

وكانت الشركة على وشك الخراب، فأنقذها الإمبراطور هيلا سيلاسي، وهي تربح كثيرًا.

ويُقال إن مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية عند زيارته روما أهدى إلى إيطاليا ٣٠٠٠ سهم، والقطارات والمركبات على الخط قديمة، وهناك مركبة للبِيض لا يُسمَح للسُّود بدخولها، وفي الصومال الفرنسي — حيث يمر الخط — كثير من المتسولين، وطول الطرق الحديثة في الحبشة ٦٥ ميلًا فقط، والقديمة المعبدة ٢٥٠٠ ميل.

(٢٨) ضباط الحدود

جهلاء لا يعرفون اللغات الأجنبية ولا يميِّزون بين جوازات السفر الحقيقية والمزيفة، وإجراءاتهم بطيئة معطَّلة، ولا يعرفون أسماء العواصم الأجنبية ولا الجغرافيا.

ويخطف العمال الحقائب، ويهجم الحمالون على الركاب، الذين يضطرون لمتابعة الحمالين الخطافين.

(٢٩) بعثة فرنسية

وصلت بعثة فرنسية مؤلَّفة من ستة أشخاص إلى أديس أبابا، دعتهم الحكومة لحفظ الأمن العام بدلًا من موظفين بلجيكيين آخرين.

(٣٠) واحة ولوال

ولوال واحة في الصومال الإيطالي، وقد تصادم فيها الإيطاليون والأحباش في ديسمبر سنة ١٩٣٤، واتخذ الإيطاليون الحادث ذريعة لغزو الحبشة وإثارة النزاع الحالي وتمسكهم بالاستيلاء على الحبشة كلها.

(٣١) إعلان التعبئة العامة

في أنباء الحبشة أن الإمبراطور أعلن التعبئة العامة للجيش، وأن هذا قد يعجِّل بالتحام الأحباش بالإيطاليين وبإعلان الحرب، وأن عواصم أوروبا قد قَلِقت لهذا النبأ.

وسنبيِّن هذا بجلاء عند الكلام على عصبة الأمم.

(٣٢) مساحة الحبشة ومدنها ورقيقها

بما أن مساحة الحبشة ٣٥٠ ألف ميل مربع؛ فهي تعادل مساحة فرنسا وإيطاليا وسويسرا وهولندا — ومساحة فرنسا ٢١٢٥٠٠ وإيطاليا ١١٠٥٠٠ وسويسرا ١٦ ألفًا وهولندا ١٢ ألفًا.

وهي إمبراطورية إقطاعية، أهم ممالكها شوا في قلب الجبال، وهزمت الممالك الحبشية الأخرى.

وفي الحبشة حوالي مليون من الرقيق على الأقل، وقد تمكن الإمبراطور الحالي من إعتاق الكثيرين منهم.

(٣٣) صناعتها وتجارتها

وليس في الحبشة مصانع، وبها صناعات يدوية خفيفة، وصادراتها: البن، والعاج، والجلود غير المدبوغة، والفلفل، والذهب. ووارداتها: الأقمشة، والملح، والأرز. وتجارتها الخارجية مليون جنيه.

ومن معادنها الذهب والفضة والنحاس والبوتاس والبلاتين والحديد والفحم والبترول، وتنتج الشعير والبقول وقصب السكر والدخان والقطن والبن — وموطنه ولاية كافا — التي من اسمها اشْتُق اللفظ الإفرنجي Café. ومن الحيوانات: الفيل، ووحيد القرن، والأسد، والنمر، والضبع، والذئب، والجاموس، والزرافة، والقرد، والتمساح، وفرس النهر.

(٣٤) كثرة القسس والرهبان

في الحبشة ألوف القسس والرهبان، وهم يعيشون عالة على الشعب المتديِّن الخاضع لنفوذهم المؤمن برسالتهم، وهم رجعيون، وقد قدَّر أحد الكتاب الأوروبيين عددهم بمليوني نفس، وهو عدد نحسب أنه مُبالَغ فيه، ولكن — على كل حال — يزيد عدد رجال الدين على كل نسبة معقولة.

ولرجال الكنائس أدوار يقومون بها في السياسة، وتقلب الملوك وخلعهم، وفي الدسائس والمنافسات، وتجريح الكبراء والمثقفين أوروبيًّا باسم الدين، وبإسناد الإلحاد إليهم!

والإمبراطور الحالي برم بكثرة القسس والرهبان، وفي حاجة إلى نصرتهم في هذه الظروف!

١  لعله يقصد بحيرة تانا أو زانا أو نسانا؛ التي هي مخزن أو مستودع ماء النيل الأزرق، وتقيم على ضفاف هذه البحيرة قبيلة وبطو، وقبيلة الإمارة؛ فالأولى تدين بالإسلام والثانية بالمسيحية، ومكان النيل عند مخرجه من البحيرة محبوس.
٢  النيل.
٣  راجع: [من تاريخ الحبشة] من هذا الكتاب.
٤  كاسا؛ ترجمتها: عوض، وقد أطلقت والدة الرأس كاسا هذا الاسم على ولدها؛ لأنه — فيما يقال: قد جعلته عوضًا عن شقيقه الأكبر الذي تُوفِّي.
٥  ينطق الفرنسيون الاسم نابييه Napier.
٦  راجع كتابنا «السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية»، جزء أول، ص١٦٣.
٧  البلاغ.
٨  الأهرام.
٩  راجع ص٢، ٣، ٤ من مجلة الاتحاد النسائي «المصرية» L’Egyptienne عدد ١١٥ شهري أغسطس وسبتمبر سنة ١٩٣٥.
١٠  راجع في مسألة بحيرة تانا ومشروع خزانها ووصف البحيرة وجزرها وكنائسها، الجزء الثاني من كتابنا «السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤