الذكرى

مترجمة

وقف أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش الملك فرديناند والملكة إيزابيلا على شاطئ الخليج الرومي تحت ذيل جبل طارق قبل نزوله إلى السفينة المعدة لحمله إلى أفريقيا، وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر، فألقى على ملكه الذاهب نظرةً طويلة لم يسترجعها إلا مبللةً بالدمع، ثم أدنى رداءه من وجهه وأنشأ يبكي بكاءً مرًّا، وينشج نشيجًا محزنًا حتى بكى مَن حوله لبكائه، وأصبح شاطئ البحر كأنه مناحة قائمة تتردد فيها الزفرات، وتسبق العبرات، فإنه لواقفٌ موقفه هذا وقد ذهل عن نفسه وموقفه إذ أحس هاتفًا يهتف باسمه، بصوتٍ كأنما ينحدر إليه من علياء السماء، فرفع رأسه فإذا شيخٌ ناسكٌ متكئٌ على عصاه واقفٌ على باب مغارةٍ من مغارات الجبل المشرف عليه ينظر إليه ويقول: «نعم، لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء، فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال. إنك ضحكت بالأمس كثيرًا، فابكِ اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم.

لو أن ما ذهب من يدك من ملكك ذهب بصدمةٍ من صدمات القدر، أو نازلةٍ من نوازل القضاء، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة، لهان أمره عليك، أما وقد أضعته بيدك، وأسلمته إلى عدوك باختيارك، فابكِ عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد له عن مصابه عزاءً ولا سلوى.

لا يظلم الله عبدًا من عباده، ولا يريد بأحدٍ من الناس في شأن من الشئون شرًّا ولا ضيرًا، ولكن الناس يأبون إلا أن يقفوا على حافة الهوة الضعيفة فتزل بهم أقدامهم، ويمشوا تحت الصخرة البارزة المشرفة فتسقط على رءوسهم.

لم تقنع بما قسم الله لك من الرزق، فأبيت إلا الملك والسلطان، فنازعت عمك الأمر، واستعنت عليه بعدوك وعدوه، فتناول رأسيكما معًا، وما زال يضرب أحدهما بالآخر حتى سال تحت قدميكما قليبٌ من الدم فغرقتما فيه معًا.

لي فوق هذه الصخرة يا بني الأحمر سبعة أعوامٍ أنتظر فيها هذا المصير الذي صرتم إليه، وأترقَّب الساعة التي أرى فيها آخر ملكٍ منكم يرحل عن هذه الديار رحلةً لا رجعة من بعدها؛ لأني أعلم أن المُلك الذي يتولى أمره الجاهلون الأغبياء لا دوام له ولا بقاء.

اتخذ بعضكم بعضًا عدوًّا؛ وأصبح كل واحد منكم حربًا على صاحبه، فسقتم المسلمين إلى ميادين القتال يضرب بعضكم وجوه بعض، والعدو رابضٌ من ورائكم يتربص بكم الدوائر، ويرى أن كلًّا منكم قائدٌ من قواده ينبعث بين يديه لقتال أعدائه، والمناضلة على ملكه، حتى رآكم تتهافتون على أنفسكم ضعفًا ووهنًا فاقتحمكم، فما هي إلا جولةٌ أو جولتان حتى ظفر بكم معًا.

ستقفون غدًا بين يدي الله يا ملوك الإسلام، وسيسألكم عن الإسلام الذي أضعتموه وهبطتم به من علياء مجده حتى ألصقتم أنفه بالرغام، وعن المسلمين الذين أسلمتموهم بأيديكم إلى أعدائهم ليعيشوا بينهم عيش البائسين المستضعفين، وعن مدن الإسلام وأمصاره التي اشتراها آباؤكم بدمائهم وأرواحهم ثم تركوها في أيديكم لتذودوا عنها، وتحملوا ذمارها، فلم تحركوا في شأنها ساكنًا حتى غلبكم أعداؤكم عليها، فأصبحتم تعيشون فيها عيش الأذلاء، وتُطردون منها كما يُطرد الغرباء، فماذا يكون جوابكم إن سئلتم عن هذا كله غدًا؟

ها هي ذي النواقيس ترن في شرفات المآذن بدل الأذان، وها هي ذي المساجد تطأ نعال الصليبيين في تربتها مواقع جباه المسلمين، وها هو ذا المسلم يفر بدينه من مكانٍ إلى مكان، ويلوذ بأكناف الهضاب والشعاب، لا يستطيع أن يؤدي شعيرةً من شعائر دينه إلا في غارٍ كهذا الغار الذي أعيش فيه!

ليت المسلمين عاشوا دهرهم فوضى لا نظام لهم ولا ملك ولا سلطان، كما يعيش المشردون في آفاق البلاد، فقد كان خيرًّا لهم من أن يتولى أمرهم رجال مثلكم طامعون مستبدون يلفون على أعناقهم جميعًا غلًّا واحدًا يسوقونهم به إلى موارد التلف والهلاك من حيث لا يستطيعون ذودًا عن أنفسهم، وما تفعل الفوضى بأمَّةٍ ما يفعل بها الاستبداد.

يسألكم الله يا بني الأحمر عني وعن أولادي الذين انتزعتموهم من يدي انتزاعًا أحوج ما كنت إليهم، وسقتموهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا إخوانهم المسلمين قتالًا لا شرف فيه ولا فخار، حتى ماتوا جميعًا موت الأذلاء الأدنياء، فلا أنتم تركتموهم بجانبي آنس بهم في وحشتي وألجأ إلى معونتهم في شيخوختي، ولا أنتم ذهبتم بهم إلى ميدان قتالٍ شريفٍ فأتعزى عنهم من بعدهم بأنهم ماتوا فداءً عن دينهم ووطنهم، فهأنذا عائشٌ من بعدهم وحدي في هذا الغار الموحش، فوق هذه الصخرة المنقطعة أبكي عليهم، وأسأل الله أن يلحقني بهم، فمتي يستجيب الله دعائي؟»

ثم اختنق صوته بالبكاء، فأدار وجهه ومشى بقدم مطمئنة يتوكأ على عصاه حتى دخل مغارته وغاب عن العيون، فنالت كلماته من نفس الأمير ما لم يَنَل منها ضياع ملكه وسقوط عرشه، فصاح: «ما هذا بشرًا، إنما هو صوت العدل الإلهي ينذرني بشقاء المستقبل فوق شقاء الماضي، فليصنع الله بي ما يشاء، فعدلٌ منه كل ما صنع.»

ثم انحدر إلى سفينته وانحدر أهله وراءه، فسارت السفينة بهم تشق عباب الماء شقًّا، فسجل التاريخ في تلك الساعة: أن قد تم جلاء العرب عن الأندلس بعدما عمروها ثمانمائة عام.

بعد مرور أربعة وعشرين عامًا على تلك الحوادث، لم يبقَ في إفريقية حيٌّ من بني الأحمر إلا فتى في العشرين من عمره، اسمه «سعيد» لم يَرَ غرناطة، ولا قصر الحمراء، ولا المرج، ولا جنة العريف، ولا نهر شنيل، ولا عين الدمع، ولا جبل الثلج، ولكنه ما زال يحفظ في ذاكرته من عهد الطفولة تلك الأناشيد الأندلسية البديعة التي كان يترنم بها نساء قومه حول مهده، ويُرددن فيها ذكر آبائه وأجداده وآثار أيديهم وعزة سلطانهم في تلك البقاع، وتلك المراثي المحزنة المؤثرة التي بكى فيها شعراء الأندلس ذلك المجد الساقط والمُلك المضاع، فكان كلما خلا إلى نفسه ردد تلك المراثي بنغمة شجية محزنة تستثير عبرته، وتهيج أشجانه، فلا يزال يبكي وينتحب حتى يشرف على التلف، فكان لا يتمنى على الله من كل ما يتمنى امرؤ على ربه في حياته إلا أن يرى غرناطة ساعةً من زمانٍ يشفي بها غُلَّة نفسه، ثم ليصنع الدهر به بعد ذلك ما يشاء.

وكان كلما همَّ بالذهاب إليها قعد به عن ذلك أن وراءه عجوزًا من أهله مريضة، وما كان يستطيع أن يتركها، ولا يجد من يعتمد عليه في القيام بشأنها حتى وافاها أجلها، فركب البحر من سبتة إلى شاطئ ملقة، ثم انحدر منها إلى غرناطة متنكرًا في ثوب طبيبٍ عربيٍّ من أطباء الأعشاب يَتَبَقَّل في جبال الأندلس وسهولها حتى بلغ ضاحيتها ساعة الأصيل، فوقف على هضبة من هضاب جبل الثلج، فرأى الأمواه تنزلق عنه في هدوء وسكون، كأنها فوق سطحه اللامع المتلألئ قميصٌ من النور، أو قبةٌ من البلور، حتى تصل إلى سفحه فإذا هى حياتٌ بيضاء مذعورة، تنبعث ههنا وههنا، لا هم لها إلا النجاة من يد مطاردها حتى تعثر بجدول ماء في طريقها فتدغم فيه وتنساب في أحشائه.

ثم التفت إلى المدينة فرأى على البعد أبراجها العقيقية الحمراء، وقبابها العالية الشماء، ومآذنها الذاهبة في جو السماء، فوقف أمام هذا المنظر الجليل المهيب موقف الخاشع المتخضع، وضم إحدى يديه إلى الأخرى، ووضعهما على صدره كأنما هو قائم أمام المحراب يؤدي صلاته، ولبث على ذلك برهة ثم صاح بصوتٍ عالٍ رددته الغابات والحرجات يقول: «هذا ميراث آبائي وأجدادي، لم يبقَ لي منه إلا وقفة بين يديه كوقفة الثاكل المفجوع بين أيدي الأطلال البوالي، والآثار الدوارس.

هذه مضاجعهم ينام فيها أعداؤهم، وهم لا مضاجع لهم إلا رمال الصحراء وكثبان الفلوات.

هذه قصورهم، تشرف على الأرض الفضاء، وتطل من عيون نوافذها، كأنما تترقب أن يعودوا إليها فيعمروها كما كانوا فلا يفعلون.

هذه قبابهم وأبراجهم رافعة رأسها ليلها ونهارها إلى السموات العلا، تدعو الله أن يُعيد إليها بُناتها وحماتها فلا يستجاب لها دعاء.

في هذه البساتين كانوا ينعمون، وتحت هذه الظلال كانوا يقيلون، وعلى ضفاف هذه الأنهار كانوا يغدون ويروحون، واليوم لا غادٍ منهم ولا رائح، ولا سانح تحت هذه السماء ولا بارح!»

ثم نظر إلى الأفق فرأى الشمس تنحدر إلى مغربها، ورأى جيش الليل يطارد فلول جيش النهار فيبددها بين يديه تبديدًا، فتهافت على نفسه وهو يقول: «هكذا تدول الدولات وتسقط التيجان، وهكذا تحل الظلمات محل الأنوار، وهكذا تنتشر سحب الموت على وجه الحياة.»

ثم توسَّد ذراعه واستغرق في نومه بين وطاء الأرض وغطاء السماء، فلم يستفق حتى مضت دولة الليل، فمشى إلى نهرٍ جارٍ في سفح الجبل فصلى عنده صلاة الفجر، ثم انحدر إلى المدينة يفتش عن خانٍ يأوي إليه، فلم يجد في طريقه من يرشده إلى طلبته حتى بلغ «شنيل»، فمشى على ضفته يتفقد البذور ويتلمس الأعشاب وينتظر يقظة المدينة بعد هجعتها.

وإنه لكذلك إذ انفتح بين يديه باب قصرٍ عظيم، وإذا فتاة إسبانية خارجة منه قد أسبلت على وجهها خمارًا أسود شفافًا، وأرسلت على صدرها صليبًا ذهبيًّا صغيرًا، ومشى وراءها غلامٌ يحمل على يده الكتاب المقدس، فلمحته في مكانه فأدهشها موقفه، فدنت منه ورفعت قناعها عن وجهها، فإذا الشمس طالعة حسنًا وبهاءً، وقالت له بلسان عربي تخالطه بعض العجمة: «أغريبٌ أنت عن هذا البلد أيها الفتى؟»

قال: «نعم، لقد نزلت به الساعة فلم أعرف طريق الخان الذي يأوي إليه الغرباء، ولم أجد في طريقي من يدلني عليه.»

فسمعتْ في صوته رنة الشرف، ورأت بين أعطافه مخائل النعمة فأهمها أمره، وأشارت إليه أن يتبعها لتدله على ما يُريد، فمشى بجانبها حتى بلغا موضع الخان، فحيَّته بابتسامهٍ عذبة، وقالت له: «لا تنسَ أن تزورني أيها الغريب كلما عرضت لك حاجة.» ثم سارت في طريق كنيستها.

كما أن السماء في ظلمة الليل تختلف إليها النجوم فتضيء صفحتها، وتمر بها الشهب فتلمع في أرجائها، حتى إذا طلعت الشمس من مشرقها محا ضوؤها ضوء جميع تلك النيرات؛ كذلك القلب الإنساني لا تزال تمر به مختلف العواطف وأشتات الأهواء مجتمعةً ومفترقة، حتى إذا بلغ وأشرقت عليه شمس الحب غربت بجانبها جميع تلك العواطف والأهواء.

فقد أصبح الأمير ينظر إلى غرناطة منذ الساعة بعينٍ غير العين التي كان ينظر بها إليها من قبل، ويرى في وجهها صورة الأنس بعد الوحشة، والنور بعد الظلمة، والحياة بعد الموت، فسكن ثائره وبردت جوانحه، وهدأت في نفسه ثورة الغضب التي كانت لا تزال تعتلج بين أضلاعه، فكان إذا مر بمسجدٍ من تلك المساجد التي استحالت إلى كنائس، استطاع أن يقف أمامه هنيهةً علَّه يرى الفتاة الإسبانية بين الداخلات إليه أو الخارجات منه، وإذا رأى الصليب مشرفًا على رأس مئذنةٍ ذكر الصليب الذهبي الجميل الذي رآه على صدرها يوم اللقاء، فاغتفر منظر هذا لمنظر ذاك، وإذا سمع أصوات النواقيس ترن في أجواز الفضاء ذكر أنه كان يسمع ذلك الصوت الرنان في الساعة التي رآها فيها، فأَنِسَ به وسكنت نفسه إليه.

وكذلك أصبح هذا الأمير المسكين ولا همَّ له إلا أن يتمشى صبيحة كل يوم على ضفاف نهر «شنيل» يقلِّب نظره في أبواب القصور المشرفة على ذلك النهر؛ علَّه يعرف قصر الفتاة فلا يعرفه، وفي وجوه الغاديات والرائحات من الفتيات علَّه يراها بينهن فلا يراها، حتى إذا نال منه اليأس انكفأ راجعًا إلى مقبرة آبائه في ظاهر المدينة فجلس بين القبور يذرف دموعًا غزارًا، لا يعلم هل هي دموع الذكرى القديمة أو دموع الذكرى الجديدة!

نكب الدهر «فلورندا» منذ عامين نكبةً لا تزال لوعتها متصلةً بقلبها حتى اليوم، فقد كان أبوها رئيس جمعية «العصابة المقدسة» التي قامت في وجه الحكومة أعوامًا طوالًا، تطالبها بالحرية الدينية والشخصية لجميع الشعوب المحكومة على اختلاف مذاهبها وأجناسها، حتى أعيا رجال الحكومة أمرها، فدسوا لرئيسها من قتله غيلةً تحت ستار الظلام، فحزنت ابنته عليه وعلى أمها التي ماتت على إثره حزنًا شديدًا ما كان يفارقها في جميع غدواتها وروحاتها، فأصبحت وهي لم تسلخ الثامنة من عمرها تعيش في قصورها عيش الزاهدات المتبتلات، فكان لا يراها الرائي إلا ذاهبةٌ إلى الكنيسة أو عائدة منها، لا يصحبها إلا غلامها، أو واقفةً على أطلال الدولة الماضية ورسومها تُقلِّب فيها نظر العظة والاعتبار، أو هائمةً على وجهها في مروج غرناطة وبساتينها حتى ينزل ستار الليل فتعود إلى قصرها، وكذلك كان شأنها في جميع أيامها، حتى سماها أهل غرناطة «الراهبة الجميلة».

فإنها لسائرةٌ يومًا بجانب مقبرة بني الأحمر، إذ لمحت على البعد فتًى عربيًّا على أحد القبور كأنما يقبِّل صفائحه ويبلُّ تربته بدموعه، فرثت لحاله، ومشت نحوه حتى دانته فأحس بها، فرفع رأسه، فعرفها وعرفته، فقالت له: «إنك تبكي ملوكك بالأمس أيها الفتى، فابكِهم كثيرًا، فقد جفَّ تراب قبورهم لقلة من يبكي عليهم!»

قال: «أترثين لهم يا سيدتي؟»

قالت: «نعم؛ لأنهم كانوا عظماء فنكبهم الدهر، وليس أحق بدموع الباكين من العظماء الساقطين.»

قال: «شكرًا لك يا سيدتي، فهذه أول ساعة شعرت فيها ببرد العزاء يدب في صدري مذ وطئتْ قدماي أرضكم هذه.»

قال: «هل زرت قصورهم وآثارهم التي تركوها من بعدهم في هذه الديار؟»

فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه، فإذا دمعةٌ تترجج في مقلتيه وقال: «لا يا سيدتي، لقد حاولت الدنو منها فطردني عنها الموكلون بأبوابها، كأنما هم يجهلون أن ليس بين الأحياء جميعهم في هذا العالم كله من هو أولى بها مني.»

قالت: «أتمتُّ إلى أحدٍ من أصحابها بنسبٍ أو رحمٍ؟»

قال: «لا يا سيدتي، ولكني عبدهم ومولاهم، وصنيعة أيديهم، وغرس نعمتهم، فلا أنسى ولاءهم ما حييت.»

قالت: «إن رأيتك غدًا في مثل هذه الساعة في هذا المكان ذهبت بك إلى ما تريد منها.»

قال: «لئن فعلت لا يكونن امرؤٌ على وجه الأرض أشكر لنعمتك مني.» فحيته وانصرفت، ومضى هو إلى خانه بين صبابةٍ تقيمه وتقعده، وأَمل يُميته ويحييه.

وفت «فلورندا» لصديقها العربي بما وعدته به، فجاءته في اليوم الثاني فأزارته بعض الآثار، ثم جاءته في اليوم الثالث فأزارته بعضًا آخر منها، وهكذا، ما زالا يجتمعان كل يوم ويفترقان، ويختلفان إلى ما شاءا من الرسوم والآثار، لا ينكر الناس من أمرهما شيئًا، فقد كانوا يقولون إذا رأوهما معًا: إن الراهبة الجميلة تحاول أن تهدي الفتى العربي إلى دينها القويم، حتى استحال العطف الذي كانت تضمره له في نفسها مع الأيام إلى حبٍّ شديد، وكذلك العطف دائمًا طريق الحب، أو هو الحب نفسه لابسًا ثوبًا غير ثوبه، إلا أن أحدًا منهما لم يجرؤ أن يكاشف صاحبه بما أضمره له في نفسه، حتى جاء اليوم الذي عزم على زيارة قصر الحمراء، وهو آخر ما بقي بين أيديهما من الآثار، فلا لقاء بينهما بعد اليوم.

وقف الأمير أمام قصر الحمراء فرأى سماءً تطاول السماء، وطودًا يُناطح الجوزاء، وهضبة تشرف على الهضاب، وسحابة تمر فوق السحاب، وجبلًا تحسر عن قمته العيون، وتضل في جوانبه الظنون، وحصنًا تتقاصر عنه يد الأيام، وتتهافت من حوله السنون والأعوام.

ثم دخل فإذا ملكٌ كبير، وجنةٌ وحرير، وقبابٌ تفضي إليها النجوم بالأسرار، وأبراج تنزلق عن سطوحها يد الأقدار، وصحون مفروشة بألوان الحصباء، كأنها الرياض الزهراء، وجدرانٌ صقيلةٌ ملساء تصف ما بين يديها من الأشياء، كما تصف المرآة وجه الحسناء، وكأن كل جدارٍ منها لجةٌ متلاطمة الأمواج، يحبسها عن الجريان لوحٌ من زجاج، فمشى يقلب نظر العظة والاعتبار، بين تلك المشاهد والآثار، ويتنغم في نفسه بقول القائل:

وَقَفْتُ بالحمراءِ مُسْتَعْبِرًا
مُعتبِرًا أَنْدُبُ أَشْتَاتَا
فَقُلْتُ: يَا حَمْرَاءُ هَلْ رَجْعَةٌ؟
قَالَتْ: وَهَلْ يَرْجِعُ مَنْ مَاتَا؟
فَلَمْ أَزَلْ أَبْكِي عَلَى رَسْمِهَا
هَيْهَاتَ يُغْنِي الدَّمْعُ هَيْهَاتَا
كَأنَّما آثارُ مَنْ قَدْ مَضَوْا
نَوادِبُ يَنْدُبْنَ أَمْوَاتَا

حتى وصل إلى الساحة الكبرى، فرأى صحنًا مفروشًا ببساطٍ من المرمر الأصفر، قد دارت به في جهاته الأربع أربعة صفوفٍ من الأعمدة النحاف الطوال، وتراءت في جوانبه حجراتٌ متقابلات، تعلوها قبابٌ مشرفاتٌ، فعلم أنها حجرات الأمراء والأميرات من أهل بيته، فهاجت في نفسه الذكرى، وشعر أن صدره يحاول أن ينشق عن قلبه حزنًا ووجدًا.

وأحس بحاجته إلى البكاء فاستحيا أن يبكي أمام «فلورندا»، فتركها في مكانها لاهيةً عنه بالنظر إلى بعض النقوش، ومشى إلى بعض تلك القاعات حتى داناها، فكان أول ما تناول نظره منها سطرًا مكتوبًا على بابها، فما قرأه حتى صاح صيحةً شديدة قائلًا: «وا أبتاه!» وسقط مغشيًّا عليه، فلم يستفق إلا بعد ساعة طويلة، ففتح عينيه فوجد رأسه في حجر «فلورندا»، ووجد في عينيها آثار البكاء، فقالت له: «لقد كنتُ أعلم قبل اليوم أنك تكاتمني شيئًا من أسرار نفسك، والآن عرفت أنك لست عبد بني الأحمر ولا مولاهم كما تقول، ولكنك أحد أمرائهم، وأنك الساعة في قصر جدك وأمام حجرة أبيك، فما أسوأ حظكم يا بني الأحمر! وما أعظم شقاءك أيها الأمير المسكين!»

فلم يجد سبيلًا بعد ذلك إلى كتمان أمره، فأنشأ يقص عليها قصته وقصة أهل بيته، وما صنعت يد الدهر بهم مذ جلوا عن الأندلس حتى اليوم، فلما فرغ من قصته نظر إليها نظرةً منكسرة وقال لها: «فلورندا، إن جميع ما لقيته من الشقاء بالأمس يصغر بجانب الشقاء الذي تدخره لي الأيام غدًا.»

قالت: «وأي شقاءٍ ينتظرك أكثر مما أنت فيه؟»

فأطرق هنيهةً ثم رفع رأسه وقال: «إنني أستطيع أن أحتمل كل شيء في الحياة إلا أن أفارقك فراقًا لا لقاء من بعده!»

قالت: «أتحبني أيها الأمير؟»

قال: «نعم، حب الزهرة الذابلة للقطرة الهاطلة.»

قالت: «وهل تستطيع أن تحب فتاةً مسيحيةً لا تدين بدينك؟»

قال: «نعم؛ لأن طريق الدين في القلب غير طريق الحب، ولقد وجدت فيك الصفات التي أحبها فأحببتك لها، ثم لا شأن لي بعد ذلك فيما تعتقدين.»

قالت: «وهل تستطيع أن تحب بلا أمل؟»

قال: «ولِمَ لا يكون الحب نفسه غايةً من الغايات التي نجد فيها السعادة إن ظفرنا بها؟ ومتى كان للسعادة في هذه الحياة نهاية محدودة، فلا نجد الراحة إلا إذا وصلنا إلى نهايتها؟»

وكان الليل قد أظلَّهما، فبرحا مكانهما ومشيا يتحدثان حتى بلغا الموضع الذي اعتادا أن يفترقا فيه، فوضعت «فلورندا» يدها في يده وقالت له: «سأحبك كما أحببتني أيها الأمير، وسيكون حبي لك بلا أمل كحبك، ولقد فرَّق الدين بين جسدينا، فليجمع الحب بين قلبينا.» وتركته وانصرفت.

ثم مرت بهما بعد ذلك أيامٌ سعدا فيها بنعمة العيش سعادةً أنستهما جميع ما لقيا في حياتهما الماضية من شقاءٍ وعناء، فأصبحا فوق أرض غرناطة وتحت سمائها طائِرَيْن جميلَيْن يطيران حيث يصفو لهما وجه السماء، وتترقرق صفحة الهواء، ويقعان حيث يطيب لهما التغريد والتنقير، فليت الدهر ينام عنهما ويتركهما وشأنهما، ولا يَنْفُسُ عليهما هذه الساعات القليلة من السعادة التي ابتاعاها بكثير من دموعهما وآلامهما، والتي لا يملكان من سعادة الحياة سواها، فإن خسراها خسرا كل شيءٍ.

بينما هما جالسان ذات يوم على ضفة جدولٍ من جداول عين الدمع، إذ مر بهما «الدون رودريك» ابن حاكم مدينة غرناطة، فرآهما في مجلسهما هذا من حيث لا يريانه، وكان قد رأى «فلورندا» قبل اليوم فأحبها، فاختلف إلى منزلها أيامًا يتحبَّب إليها ويدعوها إلى الزواج منه، فأبت أن تصغي إليه، وقالت له: إنني لا أتزوج ابن قاتل أبي. فانصرف بلوعةٍ لا تزال في نفسه حتى اليوم، فلما رآها جالسةً مجلسها هذا زعم في نفسه أنها ما أوصدت باب قلبها في وجهه إلا لأنها كانت قد فتحته من قبل لذلك الفتى العربي الجميل الذي يجالسها، فذهب إلى قصرها في اليوم الثاني ليفضي إليها بما وقع في نفسه، فأبت أن تقابله، فخرج غاضبًا يحدِّث نفسه بأفظع أنواع الانتقام.

وما هي إلا أيام قلائل حتى سيق الأمير سعيد بن يوسف بن أبي عبد الله، سليل بني الأحمر ملوك هذه البلاد بالأمس ومؤسسي مجدها وعظمتها، وبناة قلاعها وحصونها، وأصحاب قصورها وبساتينها، ذليلًا مهانًا إلى محكمة التفتيش متهمًا بمحاولة إغراء فتاةٍ مسيحية بترك دينها، وهي عندهم أفظع الجرائم وأهولها.

وقف الأمير أمام قضاة محكمة التفتيش، فسأله الرئيس عن تهمته، فأنكرها، فلم يحفل بإنكاره، وقال له: «لا يدل على براءتك إلا أمرٌ واحد، وهو أن تترك دينك وتأخذ بدين المسيح!» فطار الغضب في دماغه، وصرخ صرخةً دوَّت بها أرجاء القاعة وقال: «في أي كتابٍ من كتبكم، وفي أي عهدٍ من عهود أنبيائكم ورسلكم أنَّ سفك الدم عقاب الذين لا يؤمنون بإيمانكم، ولا يدينون بدينكم؟

من أي عالم من عوالم الأرض أو السماء أتيتم بهذه العقول التي تصوِّر لكم أن الشعوب تُساق إلى الإيمان سوقًا، وأن العقائد تُسقى للناس كما يُسقى الماء والخمر؟

أين العهد الذي اتخذتموه على أنفسكم يوم وطئت أقدامكم هذه البلاد أن تتركونا أحرارًا في عقائدنا ومذاهبنا، وألا تؤذونا في عاطفةٍ من عواطف قلوبنا، ولا في شعيرةٍ من شعائر ديننا؟

أهذا الذي تصنعون اليوم، والذي صنعتم بالأمس، هو كل ما عندكم من الوفاء بالعهود والرعي للذمم؟!

نعم لكم أن تفعلوا ما تشاءون، فقد خلا لكم وجه البلاد وأصبحتم أصحاب القوة والسلطان فيها، وللسلطان عزةٌ لا تُبالي بعهدٍ ولا وفاء.

إن العهود التي تكون بين الأقوياء والضعفاء إنما هي سيفٌ قاطعٌ في يد الأولين، وغلٌّ ملتفٌّ على أعناق الآخرين، فلا أقال الله عثرة البلهاء ولا أقرَّ عيون الأغبياء!

أنتم أقوياء ونحن ضعفاء، فأنتم أصحاب الحق الأبلج والحجة القائمة، فاصنعوا ما شئتم فهذا حقكم الذي خوَّلتكم إياه قوتكم.

اسفكوا من دمائنا ما شئتم، واسلبوا من حقوقنا ما أردتم، واملكوا علينا مشاعرنا وعقولنا حتى لا ندين إلا بما تدينون، ولا نذهب إلا حيث تذهبون، فقد عجزنا عن أن نكون أقوياء، فلا بد أن ينالنا ما ينال الضعفاء!»

ثم حاول الاستمرار في حديثه فقاطعه الرئيس، وأمر أن يُساق إلى ساحة الموت التي هلك فيها من قبله عشرة آلاف من المسلمين قتلًا أو حرقًا، فسيق إليها واجتمع الناس حول مصرعه رجالًا ونساء، وما جرَّد الجلاد سيفه فوق رأسه حتى سمع الناس صرخة امرأةٍ بين الصفوف، فالتفتوا فلم يعرفوا مصدرها، وما هي إلا غمضةٌ وانتباهة أن سقط ذلك الرأس الذي ليس له مثيل.

يرى المارُّ اليوم بجانب مقبرة بني الأحمر في ظاهر غرناطة قبرًا جميلًا مزخرفًا، هو قطعة واحدة من الرخام الأزرق الصافي، قد نُحتت في سطحها حفرة جوفاء تمتلئ بماء المطر، فيهوي إليها الطير في أيام الصيف الحار فيشرب منها، ونقشت على ضلع من أضلاعها هذه السطور:
هذا قبر آخر بني الأحمر
من صديقته الوفية بعهده حتى الموت
فلورندا فيليب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤