الفصل الأول

تمهيد

السكون مُخيم على أعالي لبنان، والناس راقدون ساكنون غير حاسبين لغدر الليالي حسابًا، وإذا بصوت استغاثة سُمع كأنه صادر من أعالي الجبل، تلته طلقات نارية، ثم عاد السكون فشمل كل ما حول تلك البقاع.

هبَّ نفرٌ من شبان قرية مسيحيَّة صغيرة مجاورة لتلك البقعة، وهم يحملون بنادقهم — وساروا نحو مصدر الصوت — فإذا بهم يسمعون أنين مجروح ووقع أقدام خيل من بعيد.

دنوا إلى حيث وجدوا «ناطور» القرية؛ أي خفير كرومها ملقًى على الأرض يتخبط بدمائه، فلمَّا شاهد أبناء بلدته، قال: «قتلني المتاولة.» ولفظ النفس الأخير.

ثارت النخوة في رءوس البعض فعمدوا إلى أخذ الثأر في تلك الساعة، ولكن كان بين الحاضرين فتًى شجاع باسل عُرف بشدة بأسه ومراسه، فلم يكن أحدٌ يتهمه بالجبن، إلَّا أنه كان عاقلًا أريبًا، فنظر إلى أصحابه، وقال: مهلًا! ليس هذا وقت أخذ الثأر، بل الآن وقت دفن الميت وبعدئذٍ نبحث عن الغريم؛ إذ لا يصح أنْ يذهب البريء بجريرة المذنب، فقد يكون للقاتل أو القتلة سبب حملهم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء.

كان هذا يجري في تلك القرية الصغيرة، بينما كان نفرٌ من شبان قرية متوالية صغيرة عائدين إلى قريتهم، وفي مقدمتهم زعيمهم سلمان أحمد، فأبصر بهم الشيخ صالح كبير أهل قرية العمروسة المجاورة لقريتهم، ودنا منهم وقد رابه أمرهم وأدرك غايتهم، فقال: لا حول ولا قوة إلَّا بالله! تبًّا لك يا سلمان أحمد، لقد حمَّلتنا وزرًا ووصمتنا بوصمة العار، حتى أصبحنا مضغةً في الأفواه، وأقمت البلاد وأقعدتها وعطَّلت الأعمال، وأوقفت المزارعين عن حصادهم وزدت العداء بيننا وبين مَن يجاورنا من المسيحيين استحكامًا، وكنت يا هذا السببَ في جرِّ الكثيرين مكبلين بالحديد إلى غيابات السجون، وبعضهم أبرياء لا ذنب لهم إلَّا أنهم أبناء بلدتك أو أقرباؤك، أو يدينون بدينك، فبئست القرابة إذا كان ما يجنيه الإنسان منها مثلما جنى أهلك منك، وهل تحسب أنَّ الدين يأمر بمثل ما فعلت؟ حاشا للدين أنْ يكون كما تفعلون وإلَّا كان الكفر خيرًا منه بكثير.

هذا ما قاله الشيخ صالح كبير قرية العمروسة من قرى البقاع الغربي، حينما رأى سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة على رأس عصابة من الرجال الأشداء، وقد عاد من لبنان بعدما أوقع الرعب في قلوب المسيحيين، ونكَّل بكل مَن تعرض له في الطريق.

كان سلمان أحمد رجلًا شديد المراس شريرًا فاسقًا عُرف ببطشه ودهائه، فاتخذه بعض الحكَّام الأشرار آلة في أيديهم، وهكذا كان هو يستفيد من هؤلاء الحكَّام الأشرار فيتخذهم معوانًا للشر ولابتزاز الأموال وللربح الحرام.

والذي زاد تحرج الحالة أنَّ جماعة من أعيان المتاولة أسسوا جمعية في بعلبك؛ لنصرة أبناء دينهم ورفع شأنهم، فتحوَّل بعض فروعها تباعًا إلى نوادي عصابات تعمل للفتك بأعداء الطائفة، وتهديد الآمنين من أبنائها إذا لم يكونوا من مؤيدي العصابات. فبدلًا من أنْ تعمل الجمعية على لمِّ شعث الطائفة، وإنشاء المدارس والمكاتب لتنوير العقول وتهذيب الشبان، وإقامة الحفلات الأدبيَّة وما أشبه مما كان ينوي القائمون بأمرها أنْ يفعلوا لرفع مستوى الأخلاق وإعلاء شأن الأمَّة، أصبحت الجمعيَّة في يد فتيان لا يقيمون للأمور وزنًا، ولا يعرفون كيف تعمر البلدان وتصلح الأديان النفوس، فاندسَّ بين أفراد الجمعيَّة السفحة والمجرمون وأفسدوا على المصلحين خطتهم، وضاع ما كانوا يأملون.

ولسوء الحظ أنَّ سلمان أحمد رئيس فرع الجمعيَّة في قريته المجاورة لقرية العمروسة، جعل من الجمعيَّة سُلمًا يرتقي بواسطته إلى أغراضه السافلة.

سار سلمان أحمد في طريقه، وإذا بشابٍّ جميل الطلعة، ممتلئ البدن، تبدو على محيَّاه أمارات الطيبة ومكارم الأخلاق، قد أقبل على الشيخ محيِّيًا، وقال: مَن هؤلاء الذين مروا بك؟ فكأن الشر كان باديًا على محياهم، ولولا حرمة الشيخ لكان لي معهم شأن، فقد سمعتهم يشتمون أهل قريتنا ويتوعدون، وعرفت منهم سلمان أحمد، وهو شيخ قريته، وكان الأجدر به أنْ يتخذ له من الأصحاب غير هؤلاء الأجلاف.

فأنصت الشيخ إلى كلام محمد الهلالي الذي كان يكلمه، وقال: آه يا محمد إنَّ سلمان أحمد زعيم هؤلاء، وهو أكثرهم شرًّا، وأبعدهم عن الفضائل، وأقلهم رجوليَّة عند اشتداد النوائب؛ فهو جبان يسطو حين لا يجد مَن يدافع، ويجبن حين يلاقي الشجعان البواسل، وهذه شيمته التي عُرف بها، فكم كان علَّةً لخراب بيوتٍ، يتَّم أطفالها، ورمَّل نساءها، ثمَّ تظاهر لها بالمودة والإخاء، وأوقع الشر بين أفراد العائلة الواحدة، متهِمًا بالجريمة بعض الأبرياء، وما ذلك إلَّا حبًّا بربحٍ يسيرٍ، أو بالظهور بمظهر المتنفذ لدى الحكَّام، أو جرًّا للمغانم لنفسه ولو على جثث القتلى، فقال محمد — وقد عراه الذهول: ويحه وهو يريد أنْ يكون لنا صهرًا! ثمَّ سكت متألمًا.

وكان محمد شابًّا جميل الطلعة، بشوش الوجه، شديد الجسم، مفتول العصب، تلقَّى مبادئ العلوم على يد الشيخ صالح بعد أنْ تعلم مبادئ القراءة في مدرسة القرية الصغيرة، أمَّا الشيخ صالح فكان رجلًا تقيًّا فاضلًا، عكف على درس الكتب والتبحر في العلوم، قانعًا بعيشٍ رضيٍّ بعيدًا عن الفخفخة والمجد الباطل، يجول في الصباح في الحقول عاملًا بضع ساعات في زراعته مشرفًا عليها بنفسه، ثمَّ يعود إلى منزله فيأخذ في الدرس، أو يقصد بعض إخوانه حيث يجتمع به بعض الطلاب الأذكياء من أبناء القرية، فيأخذون عنه مبادئ العلم، وحيث حلَّ الشيخ صالح كان مجلسه مجلس وقار، فإذا تكلَّم أنصت كل مَن حضر إلى سماع أقواله وإلقاء الأسئلة عليه، فكان يجيب السائل بما آتاه الله من علمٍ وشاهده في رحلاته الكثيرة من الاختبار.

وكأن الله أراد الخير لتلك القرية، فأوجد فيها ذلك الشيخ الصالح وزوده بعلمٍ غزير، وعقل راجح، وقلب كبير، وصدر رحب، وخبرة واسعة، وأعده لمثل هذه المهمَّة؛ إذ دعته أحواله العائلية وهو صغير إلى التغرب عن قريته، فقضى سنوات في دمشق في أيام حداثته، ثمَّ عرضت لوالده أمور حملته على التغرب إلى مصر، فحمل ابنه صالحًا معه حيث كان يتردد على الأزهر ويدرس على أئمته، ثمَّ انتقل من مصر إلى جهات مختلفة، فكان يخالط علماءها وأدباءها ويستفيد مما يراه علمًا واختبارًا؛ حتى إذا عاد إلى قريته الصغيرة كان قد خبر حلو الزمان ومره، ودرس أحوال العمران، وشهد من غرائب الأمور ما جعله خبيرًا بأمور العباد، عالمًا فاضلًا ساعيًا للخير مجرَّدًا عن الهوى، ورأى تأخُّر قومه فسعى سعيًا حثيثًا لإزالة أسباب الجفاء بين العائلات مبتدئًا بقريته الصغيرة، فكانت كلمته مسموعة عند الجميع، خصوصًا وأنه لم يظهر تغرضًا لعائلته، بل كان في كل أموره عنوان التسامح ومكارم الأخلاق، وكان كريمًا جوَّادًا لا يبخل بماله عند الحاجة، بل يجود بنفسه وماله في سبيل إغاثة الملهوف وإصلاح الأمور.

وكان أول ما فعله أنْ حثَّ أهل بلدته على إصلاح زراعتهم والاهتمام بأمورهم الخاصَّة، فأوجد بينهم حركة جديَّة أدت إلى تحسين زراعاتهم وجودة غلالهم، وتحسين نتاج مواشيهم، فكان ذلك مدعاة إلى تفضيل التجار حاصلات تلك القرية على حاصلات ما سواها من قرى البقاع، فضلًا عمَّا كانوا يجدونه من أهلها من التسامح وكرم الضيافة وحسن المعاملة.

وكان يوسف الهلالي والد محمد تلميذ الشيخ أكثر أصدقاء الشيخ اجتهادًا في إصلاح أموره الدنيوية والانقطاع إلى أعماله، فكان عنوان الاجتهاد، فوفقه الله في أعماله ووسَّع عليه رزقه ورزق عياله، وكان منزله بمثابة مضافة لأهل القرية ولمن يقصدها من الغرباء.

وكان ليوسف الهلالي أيضًا ابنة حسناء شبَّت على الفضيلة ومكارم الأخلاق، ومع أنها لم تتلقَّ من العلم إلَّا مبادئ القراءة البسيطة، كانت إذا جلست تتكلم مع رفيقاتها خلتَها على جانبٍ عظيمٍ من العلم والتهذيب؛ وذلك لأن والديها كانا من خاصَّة القوم؛ فأبوها كان — كما أسلفنا — واسع الخبرة عُرف بين أقرانه برجاحة العقل، وأمها كانت من فضليات السيدات، اشتُهرت بتدبير منزلها وإخلاصها لزوجها، وحسن قيامها بتربية ولديها، فكأن هيفاء ورثت الكثير من خلال والديها، وكانت نفسها تواقة إلى العلم والاطلاع، وهي سريعة الفهم شديدة الملاحظة، فساعدها ذلك على التحصيل، فكانت تأخذ ما لديها من الكتب وتجلس أحيانًا أمام أخيها تقرأ ما يعن لها بصوتٍ عالٍ، وتتوسل إليه أنْ يصلح هفواتها ويساعدها على تفهم ما استعصى عليها، وفضلًا عن ذلك فإنها كانت كلما علمت أنَّ الشيخ صالح عندهم تجلس في غرفة محاذية لا يفصلها عن مجلسه إلَّا فاصل خشبي، وتصغي إلى أقواله وتعاليمه حينما كان يلقي الدروس على الفتيان الذين يجتمعون مع أخيها للاستفادة من الشيخ، وهكذا أخذت هيفاء عن الشيخ كثيرًا من آرائه الفلسفيَّة وتعاليمه المتنوعة، دون أنْ يشعر بها أحدٌ أو تدرك هي سر تأثير ذلك في نفسها.

الأذن تعشق قبل العين أحيانًا

بلغت هيفاء الرابعة عشرة من عمرها، فكانت آية حسن جمعت بين الجمال والكمال، مع ما اشتهر عنها من تدبير المنزل، ولطف الحديث، وعذوبة الصوت، فكانت النساء يتزلفن إليها وكلٌّ منهنَّ تود لو تستطيع أنْ تخطبها لابنها أو لشقيقها، وهي لا تظهر ميلًا إلى الزواج، بل كلما فاتحها أحد بذلك غضت نظرها أو خرجت من الغرفة خجلًا وتجنبًا للكلام في هذا الموضوع، وكانت تشعر أنه ليس بين أبناء قريتها مَن ملأ قلبها حبًّا أو قرت عينها بمرآه؛ لأنها كانت تطمح بما لا تجده هنالك.

والذي جعلها تنظر إلى شبان القرية نظرة الإشفاق لا نظرة الإعجاب، ما رأت من الفرق بينهم وبين سليم نجل سمعان إلياس أحد تجَّار زحلة صديق والدها، الذي كان يأتي كل عام في أيام الموسم فيشتري ما يفيض عن حاجة القرية من الحبوب بأثمان موافقة، كما أنَّ أهل القرية إذا قصدوا محله في زحلة عاملهم أحسن معاملة.

وكان سليم يتلقى دروسه في إحدى كليات بيروت، وقد امتاز بين أقرانه بالذكاء والاجتهاد؛ فأحبه والده لذلك محبة عظيمة حتى كان لا يستطيع مفارقته في أيام العطلة فيصحبه معه أينما ذهب.

جاء هذا الشاب المهذب إلى القرية ظانًّا أنَّ أهلها لا يزالون في أحطِّ دركات الجهل، كما يتبادر إلى ذهن كثيرين من تلاميذ المدارس إذا زاروا القرى النائية عن العمران، ولكن سليم كان كثير التأدب فلم يُظهر الاحتقار لأهل القرية، ونزل مع أبيه ضيفين مكرمين على يوسف الهلالي، ودُعي الشيخ صالح لتناول الطعام مع بعض أعيان القرية، فبعد أنْ أكلوا ما لذَّ وطاب قاموا إلى بهوٍ كبيرٍ حيث جلسوا يتحدثون.

وكانت الثورة التركية في ذلك الحين قد قضت على استبداد عبد الحميد، وأخذ الناس يتحدثون بفضلها ويعظمون قدرها، فقال الشيخ صالح: ما رأيكم فيما آلت إليه الأمور، فلقد سمعت أنَّ القسيس والشيخ تعانقا في بيروت تعانق الإخوان، والله إنني لأحب مثل هذا الاتحاد جدًّا، ولكنني أخشى أنْ يكون ما حدث سابقًا لأوانه.

ولما كان سليم شابًّا شديد الحماسة والإخلاص لوطنه، وقد حضر حفلات كثيرة وطنية شهد فيها تآخي الأخوين المتنابذين، وسُرَّ كما سر كل متعلمٍ من هذا الاتحاد، وأخذته هزة الطرب ونشوة الحماسة الوطنية، وشعر مع غيره من الشبان أنَّ أمل الشرق في التخلص من العبودية للتقاليد وللجهل أوَّلًا، وللاستعباد السياسي ثانيًا قد تحقق أو كاد، استفزه قول الشيخ وقال: لمَ تعتقد يا مولاي أنَّ ما حدث سابقٌ لأوانه؟!

– لأن الطفرة محالٌ يا بنيَّ، وما ورثناه من التقاليد والعادات من أجيال لا يزول في يوم أو يومين، والنفوس على ما هي عليه، والجهل والتعصب متفشيان في البلاد، فلو اتفق الناس في بيروت وكانوا في دمشق وبقية البلدان العربية على عكس ما هم عليه في بيروت، لا يلبث هذا الاتفاق أنْ يزول بالسرعة التي تمَّ فيها، ولكننا يا بني نشعر معكم — شبان اليوم — بضرورة الاتحاد متى توفرت أسبابه، وتوطدت أركان المحبة والإخلاص بين الطوائف المختلفة، وتوحدت الغايات واتفق الجميع على خطة واحدة وسياسة عامَّة يتبعونها، وإلَّا كانت المساعي عقيمة، وأولئك الذين يتصافحون اليوم بهذه السهولة يعودون إلى الخصام سريعًا.

سمع سليم هذا الكلام من الشيخ صالح ولم يكن يظن أنَّ رجلًا قرويًّا يبلغ هذا المبلغ من العلم فبُهت؛ إذ كان يتوقع من رجلٍ قروي معمَّمٍ أنْ يتكلم بما ينمُّ عن تعصبٍ وجهلٍ، فإذا به يسمع آراء يعجز عن الإتيان بأفضل منها أساتذته، فنظر إلى الشيخ وقال: مهلًا يا أستاذ، إنَّ كلامك لهو عين الصواب، ولكننا — نحن الشبان — نرى غير رأي الشيوخ. أنتم تتمهلون ونحن نحب العجلة.

– العجلة من الشيطان يا بني.

– بل في الحركة بركة — كما يقولون — وهذا ما نراه نحن؛ لأن التمهل والجمود يضران بالقضية المشتركة، فإننا الآن نتآخى ونتعاضد ونتعاهد على العمل متحدين، وبعدئذٍ نعد الوسائل التي تؤدي إلى الغاية المطلوبة.

فضحك الشيخ، وقال: «بل أنتم يا بني تبنون فوق أسس واهية؛ فما نفع العهود والمواثيق إذا لم يكن ثمت اتفاق على المبادئ التي هي أساس العمل؟ لا أقول هذا إضعافًا للهمم ولا تقليلًا من أهمية ما تمَّ للآن، ولكن الأيام بيننا وسنتعثر بالخيبة ونعود بالفشل مرارًا قبلما يتم لنا ما نريد.»

فوجم سليم عن الكلام قليلًا، ثمَّ قال — محاولًا إرضاء الشيخ واستجلاب رضاه، وإقناعه بوجوب تأييد الحركة التي كان سليم يعتقد أنها لا تقوم إلَّا إذا أيدها رجال الدين والعلم وأصحاب النفوذ: قد يكون ذلك، ولكننا نحن الشبان نعتقد أنَّ الشيوخ الذين يفوقوننا خبرة ومعرفة لا يقفون في سبيل الحركة، بل يشجعونها كلما سنحت لهم فرصة وينورون الأذهان ويفتحون القلوب؛ تمهيدًا لليوم المنتظر، نعم نحن أقل خبرة وحنكة، ولكن يا حضرة الأستاذ ألا تظن أنَّ المستقبل لنا وبيدنا، وأنَّ العمل يحتاج إلى خبرة الشيوخ، ولكن لا غنى له عن همة ونشاط وحماسة، فإذا اتحدَّ الشيوخ والشبَّان تمَّ لنا ما نريد.

فافترَّ ثغر الشيخ وارتاح إلى هذا الحديث، ثمَّ قال: «يا بني، لولا الأغراض وتضارب الغايات لكنَّا الآن على ما نشتهي ونريد، ولكن ما نفعل بطلاب الوظائف وأرباب الألقاب وزعماء الجماعات ورؤساء الطوائف المتنابذة المتنافرة؟ هل يرضى أحدٌ أنْ يكون للآخر ظهيرًا فيهدم بذلك شخصيته، أو يخسر لقبه ويتخلى عن مقامه وعظمته الفارغة وزعامته الزمنية؟ سِر يا بني أنت وأمثالك بحول الله، واطلبوا العلم أينما تجدونه، واجتهدوا في بث الدعوة إلى الاتحاد ونبذ التعصب الذميم، وحب التضحية في سبيل الغايات السامية، فكلما ازددتم عددًا وزادت قوتكم قرُبْنا من الغاية المطلوبة، وزال ما بين الطوائف من الجفاء.

اعلم أننا ما دمنا نعمل متفرقين طوائف متعددة مختلفة الغايات، وزعماؤنا يسعون للصعود على مناكب هذا الشعب المسكين إلى إدراك غاياتهم الشخصية، مضحين بالأمَّة في سبيل مطامعهم الذاتية، لا أمل لنا بالنجاح. ولكن يوم الشرق قريب؛ فسوف تفتح هذه الحركة العيون، ويدرك الزعماء أنَّ تضحية النفس والنفيس في سبيل الوطن وإعلاء شأنه هي غاية الغايات، ويتعلم الشعب أنَّ الاتحاد والتضافر على العمل هما الدعامة الكبرى لتحقيق أمانينا المشروعة، وإحلالنا بين شعوب الأرض الحرَّة في المنزلة التي نستحقها، ليتني كنت أعيش لأرى تحقيق هذه الأمنيَّة!»

هذا ما دار من الحديث بين الشيخ وسليم، بينما كانت هيفاء تتسقط حديثهما من وراء ستارٍ معجبة بآراء ذلك الشاب النبيل والشيخ الجليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤