عن الرجل والنملة

بعيون فاغرة فاهًا رحنا نراقب الباب وهو بالعصبية الشديدة يفتح والكتلة البشرية تدفع من خلاله لا نتبينها إلا حين فقط تستقر في ركن الزنزانة الفارغ. حتى السباب المعتاد الذي كان لا بد يصاحب الفتح والإغلاق والتكويم، من فرط الدهشة، لم نتبينه؛ إذ قد حل الصمت لا نجرؤ على قطعه مخافة أن يجدَّ جديد وأن يكون وراء البداية ما وراءها.

يتغامق الظلام في العادة بعد التمام. الخامسة بالضبط موعده. النزلاء صامتون لمقدمه إذ المفروض أن يحل الصمت ليتمكن حراس الليل من التغيير مع حراس النهار ويتمكن شاويش النهار من تسليم شاويش الليل، صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث الخطأ وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العدد. الباشاويش هو المخطئ ولكن الشتائم تنهمر فوق رأس النزلاء، وثمة جري، وصوت الكوالين الحديد يزأر وأبواب أخرى تنهمد حتى لتكاد تدك الحائط الحجري، وأخيرًا، يجري الأزيز النهائي لمفصلات باب العنبر الكبير، وتخفت الأصوات مع الأقدام مبتعدة، ويحل الصمت. ويستمر، للتأكد أنهم جميعًا ذهبوا، وأن النهار المتعب انتهى. وكأنما فجأة، تنفجر من الصدور الزعقات والقهقهات والشتائم مكونة مولد المغربية المعتاد.

السكوت في النهار طوال النهار أحد الأوامر المتعارف عليها الصارمة، الألسن تتيبس في الأفواه لقلة ما تتحرك، الحناجر مخشوشنة من فرط السكوت، فقط حين تذهب قوة النهار ويُترك العنبر في حراسة ثلاثة حراس ليل عواجيز في الغالب، قريبي الإحالة إلى المعاش، فقط حين يطمئن الجميع إلى ذهاب الجميع يفرج كل نزيل عن لسانه ويبعث الحياة في شفتيه وفمه وصدره، ويزعق، ويشتم، بكل ما يملك من قدرة وقوة يصرخ ويشتم وكأنما ينتقم من السكوت وأوامر الشلل ويزاول الغريزة التي طال حبسها، غريزة أن يشتم ويشتم، فمن فرط ما يتلقى النزيل من شتائم طول النهار وهو عنها ساكت وبالأمر متسامح تتكوَّن له فعلًا غريزة الشتم تنهال بها كل زنزانة على الأخرى ويتبارى في مزاولتها الجميع، بفن وخلق وابتكار، لأسماء الأم وجسدها يُختلق ألف تعبير وتعبير.

في أحيان قليلة جدًّا يحدث، أن فجأة، يدور المفتاح في قفل الباب الكبير ويُفتح العنبر، وهنا، وفي لمحة خاطفة واحدة يتسمر كل شيء في مكانه ويحل أعمق وأغرب صمت، صمت الترقب الرهيب لما عساه يكون السبب في فتح الباب.

وتتعدد الأسباب وتكثر، وذات مرة تجد السبب باب زنزانتك نفسه وهو لروعك يُفتح وكتلة بشرية ما، تنزلق، ليعود الباب ينغلق. قبل أن تسأل أنت القادم أو يفتح هو من تلقاء نفسه فمًا للكلام تنهمر مئات الأسئلة من قريب ومن بعيد ومن أقصى الدور الثالث نفسه تتساءل عن حكاية هذا الذي دخل، فلا تدخل بعد التمام إلا حكاية مهولة، لا بد في الحال أن تعرف، وهكذا إن لم تبادر وتجيب، حتى قبل أن تعرف أنت ما هي الإجابة، تنهمر عليك أنت الشتائم هذه المرة وتؤرق عظام أمك وأبيك وأعضائهما أحياء كانوا أم أمواتًا. قفص حياة رهيبة يتولى فيها أناس حبس أناس وخنق أناس وضرب أناس وحشدهم وتكديسهم هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات.

– ما بك يا عم؟ خير!

سمعت أنا وحمزة البسيوني، زميلي في الزنزانة الذي تصادف أن اسمه يشبه اسم قائد السجن الحربي حيث تتم كل ألوان التعذيب، تشابه كان يجعله وبالتالي يجعلني هدفًا لتعليقات ونخزات وتعذيب لا حد لها.

– مالك يا عم مالك؟

قالها حمزة هذه المرة، بأمل أن يجيب القادم. ومكومًا في الركن لا يتحرك كان لا يزال. الأسئلة تترى تخترق باب الزنزانة المصنوع من قضبان متوازية من حديد، لا إجابة، والنتيجة سيول من الشتائم تلعنني وتلعن حمزة. ما أغرب قدرة الإنسان على تعذيب نفسه وتعذيب الآخرين إذا وقع عليه عذاب لا يملك منعه. معذَّبون يعذبون معذبين. ما أبأسه من محبس داخل محبس وعذاب في لب عذاب!

لا رد ولا تحرك ولا كان باديًا عليه أن سيرُد. أيكون ما نسمعه منه ليس تنفسًا عميقًا إن هو إلا نشيج وبكاء، بكاء الصامتين لا حول ولا قوة، وجدت أنفسنا نقترب من الرجل نحيط به مشفقين. أيدينا تطبطب عليه ونستخرج كنزنا الثمين، الشمعة الوحيدة التي نملكها وندخرها للحظات الحاجة القصوى، أشعلناها، بضوئها الذي بدا باهرًا، مددت يدي ورفعتها من الكتف إلى الرأس أعدله وأرى الوجه.

كدنا نموت أنا وحمزة رعبًا فكلانا طبيب ونعرف ماذا تعنيه تلك الصفرة المتكاثرة المتشاحبة التي لوَّنت الوجه. الحدقات الواسعة المفتوحة وهي تمعن النظر في الفراغ وفي اللاشيء. ما لم ننبهه مات. انهلنا عليه بالأسئلة نستفسر إن كان قد ضُرب وأين ضُرب وفي أي مكان من جسده يؤلمه أكثر. قسنا النبض وعددنا مرات التنفس. الصدمة فعلًا واضحة ولكن لا أدري أي إصابة في الجسد، لا جرح، لا خدش، لا بطن، منفوخ، لا شيء.

وتنفيذًا للمعاهدة المعقودة مع الحارس الليلي ساومناه على كوب القهوة. أصرَّ على عشر سجائر ونحن لا نملك إلا علبة. وافقناه على مضض كثير. أخيرًا أصبح في يد الرجل كوب قهوة معجز المذاق في تلك اللحظة، وسيجارة «وينجز» بأكملها، وعلى ضوء الشمعة دماء قليلة بدأت تسري في الوجه الخراب، همهمة، تمتمة، تنهدات الكل يختلط بالكل والكلمات بالأصوات والإشارات ورفض أن يفصح.

نلح بكل ما نملك من طاقة إلحاح، والرفض البادي على هيئة صمت هو وحده الجواب. تشاورنا أنا وحمزة، نتركه؟ نخفف الوطأة عنه؟ نترك كل شيء للصباح؟ ولكن حب الاستطلاع فينا لا يمكننا نحن أنفسنا مقاومته، والإلحاح، إلحاحنا وإلحاح بقية الحجرات والزنازين كلما احتمى الرجل بصمته، وتداخلت رغبته في الإفضاء كما يتداخل حيوان القواقع إلى عمق القوقع كلما شعر بلمسة الأصبع. وبكل نعومة رحنا نداعبه، ثم، فجأة، تركناه.

تركناه.

حتى كاد يغلبنا النوم. وكل الألسنة المطالبة في الخارج قد سكنت.

– هل سأموت؟

رفع الرأس فجأة بالسؤال وكأنما إجابة متأخرة جدًّا عن قولنا له: نحن أطباء، لا تخف. فضفض حتى تستريح، ولا تخف، فنحن نريد مصلحتك، نحن أطباء.

– هل سأموت؟

ودون أن نتفق، لم نُجِب. رحنا فقط ننظر إليه ولا نجيب فما كنا نريد تطمينه حتى لا يئوب إلى سكوته وفي نفس الوقت لم نكن نريد إزعاجه حتى لا يتمسك بموقفه.

فجأة وجدت حمزة ينفجر فيه غاضبًا مؤنبًا إياه على هذا الموقف الطفولي الذي لا معنى له بالمرة. معتقل سياسي. ألست كذلك؟ كان واضحًا من ثيابه المدنية أنه ليس مسجونًا. إذن لماذا هذا التثبت بالصمت؟! أخائف هو على نفسه؟! وماذا يمكن أن يحدث له أسوأ من هذا الذي حدث والذي جاءوا به إلى هنا بسببه وعلى تلك الحال القريبة من صدمة الموت.

فعلًا، يعني ح يكون جرى لك إيه؟

بعمق تنفَّس وتنهَّد وقال ببطء ونظراته تعود تنغمس في الفراغ: أوحش شيء على ظهر الأرض.

وكدنا نبتسم في رثاء، ماذا يمكن أن يكون قد حدث؟

عاد يقول: أوحش شيء على الأرض. حدث لي ما لم يحدث لبشر. ومرة أخرى استخففنا بكلامه، وكدنا نقهقه. سبعة عشر شهرًا ونحن في هذه الزنزانة معًا. سجن مصر محطة يتوقف القادمون من السجن الحربي في طريقهم لطره وأبو زعبل والواحات، والقادمون من تلك الليمانات في طريقهم للمستشفى أو للإفراج أو لعذاب آخر في السجن الحربي. وارد وصادر وحركة دائبة جعلتنا نصادف كل ما يمكن أن يخطر على البال من تهم ومتهمين ومعتقلين وأسباب اعتقال، وتعذيب، ومعذبين. النفخ والضرب وكي نصف البطن الأسفل وهتك الأعراض وكل شيء، ولم تبقَ وسيلة لم نعرفها أو يأتي لها ذكر. وكل منهم، مثل هذا القادم، يعتقد أنه الوحيد الذي حدث له هذا أو مارسوا معه ذاك.

ماذا يمكن أن يكون قد وقع له؟

– أوحش شيء على ظهر الأرض.

– ماذا مثلًا؟

– أوحش شيء على ظهر الأرض:

نمت مع نملة.

وانفجرنا ضاحكين.

قطعًا هو لا يبدو مختل العقل وإن كان واضحًا أنه في طريقه لاختلال عقله. وبوجه جاد صارم يحمل كل ما في هذا العالم من ندم يقولها. نام مع نملة. وانفجرنا ضاحكين.

وإلى الصباح التالي ظللنا نضحك. ونتذكر ملامحه وهو ينطقها فتصاب معداتنا بالمغص من فرط ما ننحني ونضحك.

وعلى رأي كليلة ودمنة، قلنا له في الصباح التالي، وكان تقريبًا لا يزال على نفس جلسته وقرفصته وانكماشه على نفسه: وكيف كان ذلك يا أستاذ؟

لم يكن تبدو عليه سيما المعتقلين السياسيين. معظمهم كانوا مثقفين، حليقي اللحية والشارب، خريجي أو طلبة جامعات. هذا كان له شارب، أصفر وغزير ومتهدل على شفته العليا يكاد يلامس السفلى. وجهه خشن لا بد من كثرة مزاولته عمله خارج المكاتب والمنازل في الخارج حيث الريح والتراب ولفح الشمس. في الحقيقة لم نفاجأ حين قال لنا إنه عمدة. حين تستخرجها من الحالة التي كان عليها، والسكينة التي آلت إليها ملامحه وقوامه، وتفرده، وتوقفه، وقصيرة سيرته الأولى ويتبدى لك على حقيقته، تجد أنه حقًّا وصدقًا لا بد كان واحدًا من أولئك العمد من طراز: اخرس يا ولد. شهم كريم، يذبح للضيف خروفًا إذا رأى، ويسافر إلى آخر الدنيا تلبية لنداء مستغيث. عمدة ومعتقل سياسي. جديدة جدًّا هذه المرة. والنكتة أن يكون شيوعيًّا مثلًا ومن منظمة «ح.م» المغالية في شيوعيتها واتهامها لكل الشيوعيين الآخرين أنهم عملاء للبوليس السياسي. الأقرب للمعقول أن يكون واحدًا من أعضاء الهيئة الوفدية، فليس هناك عمد في تنظيم الإخوان المسلمين، ولكن، لا تعجب أبدًا إذا اتضح في النهاية، أنه ماركسي يؤمن بالمادية التاريخية، وربما قد قرأ رأس المال واللينينية.

في الليلة التالية ساءت حالته وارتفعت درجة حرارته وأصبح نبضه ١٤٠، وبدا وارم الوجه مختنق السحنة وكأنه سينفجر بعد قليل، انهلنا عليه بالأسئلة لنعرف منه ذلك الذي وصفه بأنه أوحش ما في الدنيا.

وتكلم …

متقطع الأنفاس.

أخرج من صديريه البلدي الداخلي علبة سجائر «كرافن أ» عشرين سيجارة كاملة، وعزم علينا، ولم نصدِّق أنفسنا ونحن ننفث دخان الكرافن وبكل ما نملك وما أصبح لنا من طول بال نصبر على كلماته التي تخرج بعد عناء، ولهاثه بين الكلمات.

تكلم …

بدأها من منتصفها، أو من حيث بدأ يهتم هو بها، لا نعرف. قال: هذا الوغد، يونس بحري. قتلني. بالأمس فعلًا قتلني، وسأموت، ولكني لن أموت قبل أن أغرس أسناني في زوره وأقضم حنجرته ابن الأنيتة هذا.

جالسين وفي أمان الله وبعد يوم شاق من تكسير البازلت وحمله في المقاطف والسير به نصف كيلو، من السابعة والصخر فوق أكتافنا والرمل في عيوننا وأفواهنا وأقدامنا العارية ينغرس فيها الشوك والزلط والمسامير، وجلسنا آخر النهار، قبل طابور العودة نستريح. وكانوا ثلاثة ضباط أحدهم هذا الخسيس يونس بحري. ناداني. منذ أن رآني ورأيته وأنا أشفق عليه وعلى نفسي أن يناديني. ناداني. تلكأت ولكني قلت أقصر الشر وألبي نداءه. ذهب. وقفت. تركني واقفًا واشتبك في حديث فاتر مع زميله. قلت: أفندم. رمقني بنظرة، ثم عاد إلى حديثه الفاتر. اللهم طولك يا روح. قلت، وعزمت أن أؤجل أي اشتباك فجسمي مهدود ولن يحتمل أي ضرب. والبداية واضح أنها ستنتهي بضرب. اقصر الشر يا ولد. واصبر.

هناك، بعد ربع ساعة أو أكثر. التفت ناحيتي وقال: روح هات نملة من هناك. وأشار إلى كومة تراب قريبة.

صحا مخي من غفوة الوقوف وخُيِّل إليَّ أني لم أسمع جيدًا وسألته: أجيب ماذا؟

هب فيَّ صائحًا: نملة، ألا تعرف النملة يا بن اﻟ…؟

سكتُّ.

مرة أخرى: تعرف النملة واللا لأ؟

قلت بتسليم: أعرفها.

قال وهو يلتفت إلى زميله: روح هات نملة.

طول الله روحي وذهبت إلى حيث أشار، وتفرست في كومة التراب مليًّا حتى وقعت عيني على نملة حمراء كبيرة نسميها في بلادنا حرامي النمل. انقضضت عليها بقبضتي ودون أن أفعصها أمسكتها في قبضتي وعُدت بها.

ووقفت أمامه وقلت: أهه النملة يا أفندم.

– وريني.

فتحت يدي كان رآها، قال: ولازم تجيبها حمراء هي رخره يا بن اﻟ «…» الشيوعية.

عضضت على شفتي السفلى، لا بد أنها جُرحت. وسكت، بنظرة من أسفل إلى أعلى رمقني وقال: دي إيه؟

قلت ببراءة ما بعدها براءة: نملة يا بيه.

قال …

خيِّل إليَّ أني حقيقة لم أسمع؛ فقد كان الطلب الذي طلبه غريبًا جدًّا وغير معقول بالمرة، سألته: أفندم.

قال: اخلع هدومك!

– نعم؟!

أشار لحامل الكرباج وزميله حامل الشومة.

رفعت يدي مسلمًا قائلًا: حاضر يا بيه، أخلع هدومي. ولكني ترددت، نظرت حولي بركن عين، طابورنا المنكود الحظ قابعًا كصفين من طابور ذباب الكدح والزق والزجر. في دائرة واسعة رهيبة يلتف حوله سور من عساكر يحملون الأسلحة الأتوماتيكية بكافة ألوانها، قريبًا منه تناثرت فرقة الضرب تحمل الهراوات والكرابيج والنبابيت والأحزمة والقضبان الحديدية. أنا واقف وحدي ويونس بحري مُقْعٍ على كرسيه أمامي. ولا مفر.

استنهضني بشخطه ولما كنت كما قلت قد قررت أن أؤجل الاشتباك فقد مددت يدي الأخرى وبدأت خلع جلبابي، وخلعت الصديري، عاريًا كما ولدتني أمي أمامه.

– قلعت هدومك!

– زي ما أنت شايف يا بيه.

– طيب «…» النملة اللي في إيدك دي.

خيِّل إليَّ أني حقيقة لم أسمع، وكيف أسمع، وما طلبه لا يمكن أن يمر إلا من عقل مجنون، حتى المجنون نفسه يخجل أن يطلبه.

– نعم؟!

الكرباج مرفوع فوق رأسي والنبوت يهيَّأ للانقضاض ويونس بحري تجمدت نظراته النارية على هيئة الأمر الذي أمره، والدنيا، وسور العساكر حاملي المدافع، والطابور، والبازلت والجبل والصخر والطريق، وكل شيء سكت وصمت وتآمر يستحثني أن ألبي.

انتفض الفلاح الخبيث الذي فيَّ يقلب الموقف الجاد الرهيب وقلت فجأة: بس دي دكر يا بيه!

لم يضحك، ولا أحد من القريبين أو البعيدين ضحك، بكل صرامة قال: روح هات واحدة نتاية.

وكالذي نوَّمه المنوم المغناطيسي استدرت وقصدت كومة «التراب» وعسعست بيدي. طبعًا كان أول ما خطر لي أن أبحث عن نملة أنثى، ولكني كدت أضحك من نفسي لأني انسقت وراء المشهد فعلًا وأخذته جدًّا، وسألت نفسي: كيف أعثر على الأنثى، وما الفرق بين النملة الذكر والنملة الأنثى، بل هل توجد نملة أنثى ونملة ذكر. المقصود عُدت إليه ووقفت أمامه وفتحت قبضتي على نفس النملة وقلت: ها هي نملة أنثى.

قال: يالله …

– يالله ماذا؟

سألته. قال: تاني … اسمع …

وفوجئنا بجعجعة أوامر تقرقع، واقترب سور العساكر حتى أطبق على طابور المعتقلين، واستقرَّ أفراد فرقة الضرب فانتصبت واقفة مشرعة أسلحتها الفاتكة الرهيبة، وهوى الكرباج من خلفي وسمعت صفيره وهو يشرخ الهواء كالسكين القاطع مغورًا في جلدي ولكن يونس بحري تلافاه، في آخر لحظة وأمسك باليد المهوية وقال بصوتٍ مخيفٍ صوَّبه إلى كل أذن تسمع: اسمع، أنا لا أريد ضربك، فأنا أعرف أنك من النوع الحميري الذي لن يؤثر فيه أي ضرب أو تعذيب ولكني سأضرب تلامذة ابتدائي هؤلاء.

أشار.

والحراس يعرفون إلى مَن يشير؛ فقد كان ثمة خمسة صبيان صغار لا يتجاوز أيهم السادسة عشرة، معنا في الطابور، إذا ضُربوا يصرخون بل يصوصون كالكتاكيت المذعورة وتغور صرخاتهم في لحمنا الحي بحيث يصبح أهون لأي منَّا أن يُقطَّع بالسواطير ضربًا ولا يسمع صرخة الواحد منهم.

جزعت والحق يُقال، وسقط قلبي في قدمي مخافة أن ينفِّذ الوعد. يا عم يا يونس ما كنا قاعدين في أمان الله، ماذا دار في عقلك النجس ليقلب سلامنا هذا إلى لحظة الرعب هذه حتى ليبدأ الجو يحفل برائحة الدم واللحم المفروم.

تطويل الروح لم يَعُد يجدي. ماذا تريد يا أيها القومندان؟

– يا لله.

ولأنني ضامن أني سأكون على حق في تساؤلي رفعت صوتي مستغيثًا مستعينًا بالله من هذا الهول الذي لا أعرفه: إزاي بس يا بيه أنا في عرضك! إزاي؟!

– زي الناس. هكذا قالها.

– زي الناس إزاي؟!

– زي الناس يا ابن اﻟ… ويا بن اﻟ… ماذا تفعل الناس؟

– ولكنها تفعلها مع الناس والإناث الكبار، وهذه نملة!

– ولو. اعتبرها ناس، اعتبرها إناث.

– حاضر.

قافزًا الفلاح الخبيث إلى نجدتي مرة أخرى قلت: حاضر يا بيه.

وعملت أني فعلًا أزاول ما أمرني به، وأنا، زيادة في الاندماج، قد رسمت على وجهي ابتسامة سادة. استيقظت منها على صوت نبوت يشرخ، يشرخ الهواء. ويشرخ ظهرًا من ظهور «التلامذة» إلى جواري. التفتُّ على الصرخة، أهذه صاعدة من عظام الأقدام لكائن حي إنسان صغير يتألم؟! انفجر قلبي وتدفق منه الدم الفائر غصة ولوعةً.

– لا تمثل يا بن الكلب، اندمج. أتضحك عليَّ؟ اندمج. أنت خالع الآن ملابسك وهذه أنثى، نملة مش نملة لا يهم. هذه أنثى. اندمج. وسأراقب وجهك وملامحك، وأقسم برحمة أمي إن لم أرَك تفعل ما قلته سأشرِّح تلاميذك وأنت وكلكم معه. وأنت تعرف وكلكم تعرفونني.

وكان واضحًا من وجهه المسمر بالجديري القديم أنه لا يهزل، حاولت أن أجد فرجة احتمال أو عُشر احتمال للتهاون فلم أجده، هذا إنسان مجنون وقد تقمصته حساسية المجانين للحقيقة، ولن يصدق غيرها ولن أستطيع أبدًا خداعه وعليَّ أن أفعلها. حاولت. ولكني في منتصف المسافة استدركت وطلبت منه العذر.

وجمعت نفسي وبأقصى ما أستطيع من قدرة على أمر النفس أمرتها. أحسست أن شُهَبًا كشهب الجنون تتراءى لعيني، ومن فرط الانضغاط بدأ العقل في مخي يطقطق. مجنون أمر، وأمر مجنون، ولا بد أن أستجيب، ومجنونًا لا بد، لكي أستجيب، أن أصبح. أنا فعلًا رجل ضخم، وهذه نملة، وبكل كياني عليَّ أن أصغر نفسي وأستحيل من إنسان إلى حشرة، وعليَّ التخيل أني ذكر نملة، تستثيرني أنثاي أنثى النملة، وأنام معها. وكلما فشلت، كلما توقفت، كلما غام وعيي بالمشهد وباستحالة التحول. وأحسست التهديد يحوم كغربان البين حول التلامذة الصغار وحول الطابور أتصاغر وأتصاغر ويكسوني العرق وتطقطق عظامي وتتدشدش دون أن تصبح كفي في حجم ساق النملة، وساق النملة لا يكاد يُرى ولا بد أن أهوى بوعيي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي ورأسي وبطني وساقي وعنقي وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القادمة، مستسلمة، في يدي. هكذا، رأيتها، بألف عين دقيقة لي تكوَّنت، قد استجابت، وكفَّت عن الحركة، ووقفت واضطجعت. لو كانوا قد عذبوني وقطعت الجبل كله، لو ربطوني إلى ذيل حصان جرى بي القُطر كله من أقصاه إلى أقصاه، ألف جلدة، لو فعلوا ما هو أكثر وأكثر لما أحسست بربع معشار ما مر عليَّ من عذاب حتى أفلت الزمام ولم أعُد أستطيع الكف وجسدي يمضي يتصاغر ليصبح نملة ويستمر نملة ويعيش ويحب ويزاول الحب نملة. وعند لحظة النهاية فقدت الوعي.

قالوا لي إنهم حملوني حملًا إلى الليمان.

وإنهم خافوا من صراخي أثناء الليل واستجار الزملاء من عضي وتمزيقي لملابسهم وملابسي، وحملوني إلى مستشفى سجن مصر، ومن هناك إلى هنا. وهمس لي التومرجي الأسمر العجوز وأنا في الطريق إليكم أنهم يفكرون في الإفراج الصحي عني. ولو، ما الفائدة، وقد نمت مع النملة واعترفت، وكان الذي كان؟

ولأن لا أبشع في السجن للمنتظرين المحاكمة من كلمة اعتراف، فقد وقفنا على أطراف تحفزنا أنا وحمزة ونحن نسأله بماذا اعترف ولماذا اعترف.

قال وهو يشيح بيده: وأنا وسط العذاب، في منتصف المسافة بين كوني بشرًا وكوني ذكرَ نمل انكسرت إرادتي ولم أحتمل، وقلت كل ما عندي بأمل أن يتوقف أمر يونس بحري وأن يكف العذاب، ورغم الاعتراف لم يوقف المجرم الأمر، وحتى ولو كان أوقفه فأنا نفسي كنت غير قادر لحظتها أن أوقف عذاب التحول، إرادة أن أكون بشرًا أفلتت وصارت لي إرادة نملة لا تقوى أبدًا على كتمان.

•••

ورغم إعادته إلى المستشفى فقد سمعنا أن حرارته ظلت ٤١ طول الليل ورغم جسده المتين الضخم، في الصباح التالي مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤