الخيانة مرتبةٌ أعلى

إذا أخذنا خطًّا أفقيًّا وجعلناه مِقياسنا، وأطلقنا منه خطوطًا كشعاعات الشمس بحيث تُغطي المائة والثمانين درجةً التي تُشكِّل زاوية الخط الأفقي، وإذا رسمنا منحنًى لتصرفات السادات بدءًا من ميلاده حتى مَصرعه، وضمَّنَّاه كل ما كان يُقدِم عليه من تصرفات تبدأ من غرفة نومه الخاصة إلى أكبر منابر العالم وأوسعها حيث شهودها بالملايين، فإننا سنلمح قاسمًا مشتركًا واحدًا بين هذه التصرفات جميعها؛ ذلك هو: الانعدام التام لمراجعة يقوم بها الضمير أو وقفة لتبين موضع القدم، أو — في النهاية — أي انتباه أو اهتمام بما قد يقوله الناس عن صاحب ذلك التصرف أو قائل ذلك القول أو الأخذ بذلك الموقف.

وإذا لم ينهَ الإنسان نفسه بنفسه، أو لم ينهَه ضميره، أو زوجه، أو صديقه، أو جاره، وإذا لم يهتم هو حتى لو كان الناهي أقرب المُقرَّبين؛ فما هي القوة التي ستمنع ذلك المُخطئ أن يرتكب ذلك الخطأ؟ ومن يقف حائلًا بين صاحب ذلك الوجه المكشوف الذي لا يهمُّه أحد، وبين الإقدام على فعل أي شيء أو قول أي شيء أو اتخاذ أي موقف؟

إن الضمير والتعقُّل والآخرين هي الوسائل التي منحها الله سبحانه لعباده ليُقيِّموا بها أنفُسهم ويُقيِّموا أفعالهم ويحكموا بها على أنفسهم وعلى الآخرين.

فإذا انعدمت تلك تمامًا، فماذا يمنع المخطئ أن يُخطئ، والمسيء أن يُسيء، والشريف حتى أن يسرق، والمواطن أن يُفرِّط أو يخون؟

خوف الله سبحانه. قد يقول قائل: ولكن الخوف من الله لا يتأتَّى إلا لمالك لضمير أو لعقل أو لمُشيرٍ أمين؛ فإذا انتفى هذا كله لم يعد بين ذلك الشخص وبين القيام بأحطِّ الأعمال حائل.

ولهذا، فالمانع الوحيد الذي كان يحول بين الرجل وبين العمل الخبيث هو عامل واحد ليس هناك غيره؛ الخوف، الخوف الجشع على النفس والذات والثروة والسلطات، الخوف أن يؤدي هذا العمل إلى الخطر على النفس أو الحياة. وسدًّا لهذه الثغرة اتخذ السادات لنفسه واحدًا من أكفأ أجهزة الحراسة الخاصة، دُرِّب تدريبًا شاقًّا ودقيقًا في الولايات المتحدة، بل كان فيه بعض الأمريكيين المُكلَّفين بأدوار أخطر من أن يُعهَد بها لغيرهم.

ومُحتميًا بهذا الخندق البشري راح السادات من مَكمنه ومأمنه يُطلِق النار والتصرفات والأخطاء في كل اتجاه.

وفي مكمنه هذا ومأمنه يعبد الله إذا عبده عن خوف، ويُقنع نفسه أنه ما دامت العلاقة بينه وبين الله عامرة، فلا يهمُّ أبدًا كيف وإلى أي مدًى تكون علاقته بالناس.

ونسي أن علاقة العبد بالله سبحانه ليست علاقةً خاصة، إنما هي علاقة تعمر أو تخرب بكمِّ ونوع علاقة الإنسان ببني الإنسان من حوله، بحيث حين يظلمهم، هم عبيد الله، تنتفي علاقته السوية بالله، ويُحاسبه الله دنيا وآخرة حساب الظالم.

وقد حاسَب الله السادات حساب الظالم.

وقبل يوم الساعة حلَّت ساعته، وأفتح الجرائد كلها وأقرأ ما تزدحم به المحاكم وألسنة الناس وصفحات الكُتاب من صورٍ مُروِّعة لحقبة السادات وأفعاله؛ كتاب يكفي لإدخال صانعيه ولو كانوا بالملايين إلى سراديب جهنم، فما بالك وهذا كله من تدبير وصنع نفس بشرية واحدة رَكِبها الشيطان.

كان حريًّا بظروف كظروف العرب ومصر قبل ٧٣ أن تخلق — لو تركت الظروف والمواقف وحدها — قائدًا جديرًا بالمرحلة جدارة المرحلة به.

ولكن المسائل لم تتمَّ بالتلقاء وبقانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح. كان من حظنا التعس أن تتجمَّع الوساوس على عبد الناصر بحيث تُحتِّم عليه أن يختار أقل زملائه ورفاق ٢٣ يوليو قدرة على قيادة الحقبة التالية؛ خوفًا من أن يختار الرجل القوي المناسب فتُسوِّل له نفسه — للخليفة المختار — أن ينقلب على قائد الثورة.

ولهذا اختار نائبًا له إنسانًا لا يمكن أن يرضى به أحد رئيسًا.

اختار المُهرِّج ليترحَّم الناس على جديته هو، الساذج ليترحَّم الناس على حِذقه، المحبَّ للظهور ليترحَّم الناس على تواضعه وتقشُّفه أقل الناس إيمانًا بالمساواة والاشتراكية ليترحَّم الناس على القائد الشعبي الاشتراكي.

والقاعدة الذهبية أن الحاكم الضعيف يصبح أكثر الطغاة رعونة وخوفًا من الرجال الأقوياء والشعب القوي، وحتى الرأي الحصيف.

وجاء هذا الاختيار الذي مهَّدت له أطرافٌ عربية وأوعزت به الاستخبارات الأمريكية عن طريق مُستشاريها، الذين كان يحتلُّ بعضهم أمكنةً قريبة جدًّا من صانع القرار، عبد الناصر، جاء هذا الاختيار بردًا وسلامًا على الغرب بزعامة أمريكا.

ولعلمهم بمدى قلة شعبيته وهوان شأنه، تولَّوا حقنه بفيتامينات التأييد والوعود، وربما التلويح أنه حتى لو دخل الحرب فلن يخسرها.

وكان عند ظنهم.

ففي أقل من أربع سنوات كان اتجاه مصر الثوري قد صُفِّي تمامًا لمصلحة أمريكا، ومن معاداة الاستعمار إلى التسليم الكامل بالتبعية له.

وعجَّلت الحرب بعجلة التحويل.

وما كادت تنتهي حتى كانت البقية الباقية من آثار الثورة قد التهمها الانفتاح، وأتت عليها القروض، ونهبها اللصوص.

وحتى كانت إسرائيل قد تحوَّلت من ألدِّ الأعداء إلى الشريكة في المفاوضات والسلام المُتهافت المُستسلم.

والأشقاء والحلفاء العرب قد أصبحوا ألدَّ الأعداء.

والقطاع العام، ابن الثورة البكر، أصبح ابن الحرام المنبوذ.

والطهارة الثورية وقد توارت خجلًا من زحف الدنس والرشوة والدعارة.

وأفقنا جميعًا لنجد مصر قد دحرجها السادات وعصابته إلى مُستنقَع «مجاري»، لا مكان لرجل نظيف أو عمل نظيف أو تصرُّفٍ سويٍّ فيه.

وما كانت كامب ديفيد، وما جرى منذ مبادرة التهامي والسادات ومفاوضات ديان، تهامي في الغرب، وكيسنجر والسادات في أسوان، وغيرهم وغيرهم، إلا الامتداد الطبيعي لسياسةٍ اقتصادية، حرب على الشعب، وسياسة حرب على كل ما يمتُّ إلى الوطن ومبادئه. وبنفس أساليب عصابة النهب والحكم وسمسرة التليفونات والأوتوبيسات واللحوم الفاسدة والمخدرات، قنع القائمون عليها بفتات موائد بيجن وبن أليسار وفايسمان وشامير وبورج.

وعلى مائدة تضم السفَّاحين في ناحية، ومُجرمي الحرب والمشاركين في صنع هزيمة الثغرة من ناحية، والطامعين في فلسطين والعرب من ناحية، والمسلمين بكل ما يستر العورات أمام المصريين والعرب من ناحية، اجتمع اللصُّ والطابور الخامس والمستعدُّ لبيع أهله ليظفر بالكرسي.

اجتمعوا — هكذا قالوا — ليتفاوضوا.

وقبل أن يبحث إنسان عن كُنه مفاوضات وجدية مفاوضات، فإن نظرةً واحدة لماهية المُتفاوِضين كافية — دون أي شيء آخر — لإدراك النتائج.

نتائج لا ترقى حتى لمستوى الخيانة.

فالخيانة دائمًا بمقابل يحصل عليه الخائن من الطرف الآخر؛ فإذا كان إطلاق سراح أيدي الطرف الآخر لينهب بلده ويُدمِّر حلفاءه ومعسكره؛ أي يُضيف من عنده لمكاسب الجانب الآخر، فإننا أمام نوع من الخيانة لم يحدث من بيتان أو سينجمان ري، أو أي عميل يُفاوض حتى أولئك الذين صنعوا منه عميلًا.

ولأن هذا قد حدث، وتمَّت بالدخول في سراديب كامب ديفيد أغرب وأعجب مفاوضات حدثت في التاريخ، فقد كان رد الشعب على ما حدث هو أيضًا أغرب وأعجب رد لشعب على مُفاوِض.

وحادث المِنصَّة سيبقى دائمًا من عجائب التاريخ السبع؛ لأن ما سبقه وأدَّى إليه سيبقى دائمًا مثلًا للتفريط في حقوق أي شعب، عجيبة هو الآخر، فريدة بين ما يحفل به التاريخ من عجائب.

وهو حادثٌ جرى حتى قبل أن تعرف أو تُحلِّل كل التفاصيل، أو يرفع الغطاء عن كل مُستنقَعات الخيانة.

فما بالك حين يحدث في القريب العاجل هذا؟

ويردُّ على كل مُناصِر لكامب ديفيد التي كانت، وكل كامب ديفيد في طريقها للحدوث، وكل المرحلة الكامب ديفيدية المقبلة، يردُّ عليها بإفحام لا يقلُّ عما حدث في ٦ أكتوبر عام ١٩٨١م.

أيها المُتشدِّقون المُحاولون خداع التاريخ والناس، لا أقول لكم العاقلُ من اتَّعظ.

فالإجهاز على المُذنِبين في محاكمة لم تستغرق دقائق وشاملة بالنفاذ لم يَعظكم.

وعليكم — كلما جاءت لكامب ديفيد سيرة — أن تُبادروا بحفر خنادق عميقة الغور.

وآه لو علمتم أنها مهما غارت بكم وغُوِّرتم في أعماقها فإن يد العدالة ستُطبِق عليكم.

ليس فقط لكامب ديفيد.

وإنما لأبشع جريمة ارتُكبت في حق شعبنا على مدى تاريخه.

جريمة تجريده من ثورته، وحقوقه، واشتراكيَّته، وسلاحه، وأشقَّائه، وتاريخه، وتركه عريانًا يرتجف بين الذئاب.

استعِدُّوا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤