هل هي مجرد مصادفات؟

أعود إلى مراجعة ما حدث منذ وفاة عبد الناصر المُفاجئة في سبتمبر ١٩٧٠م بعد اختياره، وبلا مقدِّمات أيضًا، بل بعد غضبة على السادات شديدة الوطأة جعلته يعتكف في بيته ويقول إنه أُصيبَ بنوبةٍ قلبية، بعد اختياره نائبًا أوحد لرئيس الجمهورية،١ وانقلاب ١٥ مايو الذي أطاح بكل ما تبقَّى من رجال عبد الناصر وسياسته، ودخول مصر في طورٍ جديد. ولأن الشعب كان قد انتهى بمظاهرات وأحداث ٧٢ إلى أنه من المستحيل إقامة أي سلام مع إسرائيل إلا بعد حرب معها تُعيد له، حتى ولو لم تعد الأرض، تُعِيد له على الأقل، وبالتالي للعرب أجمعين، احترامهم لأنفسهم؛ وبهذا تُتيح لخطة من يريد إخضاع المنطقة بأسرها للسياسة الأمريكو-إسرائيلية، أن تمضي قُدمًا، وكأنها تطبيقًا لتكتيك لينين خطوةٌ إلى الخلف لتقفز خطوتَين إلى الأمام.

ولكن حرب ٧٣ أدَّت، ليس إلى خطوتَين فقط، وإنما لمكاسب لإسرائيل والولايات المتحدة لم يكن أشدُّ المُتفائلين يحلم بها.

وخطوةً خطوة مضت الخطة الجهنمية تُحقِّق النجاح تِلو النجاح.

وهنا يقفز سؤالٌ هام، أهم سؤال في الحقيقة: أهي محض مصادفة أن يلي قيادةَ مصر شخصٌ كالسادات؟ مصر التي كانت تقود الكفاح العربي في ذلك الوقت، بمعنى أن يكون قائد المعسكر العربي كله رجلًا أفصح ما يقوله تعليقًا على أي شيء: «صح.» رجل خارج قدرته على الغدر، لا يوجد لديه بارقة ذكاء أو لماحية واحدة، رجل بدأ تاريخه «الوطني» بالتجسُّس لحساب الألمان، وانضمَّ لمجموعةٍ إرهابية خرج من قضيَّته معهم كالشعرة من العجين، وما كاد يُفصَل من الجيش ويُعاني بعض الشيء حتى هُرِع يُسلِّم نفسه ليوسف رشاد يعمل معه في الحرس الحديدي الذي أنشأه ذلك الطبيب الملكي الهُمام ليُحارِب الضباط الوطنيين ويغتالهم لحساب الملك. ومن الغريب أيضًا أني شهدت — وأنا أعمل طبيب امتياز عقب تخرُّجي من كلية طب قصر العيني — طرفًا من تاريخ الحرس الحديدي حين أطلق أناس من ذلك الحرس النار على الضابط عبد القادر طه (شقيق نائب مجلس الشعب السابق والمعروف باتجاهاته الوطنية التقدمية أحمد طه)، شهدت وكنت الشاهد الوحيد في القضية، وبناءً على شهادتي وحدها؛ إذ كان عبد القادر طه قُبَيل موته الذي نتج عن خمس رَصاصات أُطلقت عليه من الخلف ومن الأمام واخترقت جميعها صدره، ولولا قوته الجسمانية الخارقة لمات في الحال، لحسن الحظ أحضروه إلى قصر العيني وهو في بداية حالة الصدمة، وحاولنا ما استطعنا أن نُعالجه ليتغلَّب على الصدمة، وتُجرى له جِراحة كبرى نستخرج فيها الرصاصات الباقية، ولكن لم يكن هناك ثَمة أمل على الإطلاق، ومات عبد القادر طه، وحين أدركت أنه قاب قوسَين أو أدنى طلبت منه أن يذكُر أسماء من اغتالوه؛ إذ كنت قد أدركت أنه لا يريد أن يتَّهم أحدًا وكأنه خائف تمامًا من غرمائه، وحين عرف منِّي أن الأمل في حياته يتلاشى ذكر لي صراحةً اسم شخص (علي حسنين) هو الذي اصطحبه إلى كمين في المنيل، وذكر أيضًا اسم أنور السادات. وحاولت أن أستفسر أكثر ولكن المنيَّة لم تُمهِله.

رجل أصبح واضحًا الآن أن مجلس قيادة الثورة كان يُعارِض انضمامه للضباط الأحرار؛ لأن الجيش كله كان يعرف أنه من رجال يوسف رشاد، وأن عبد الناصر ضمَّه في اعتقادي ليكون عينًا له على تحركات الحرس الحديدي ويوسف رشاد؛ ولهذا اختاره عبد الناصر ليُذيع البيان الأول للثورة حتى «يُخدِّر» الملك والحاشية، ويجعلهم يعتقدون أن رجلهم هو الذي يُذيع البيان، وأنها لهذا لا بد أن تكون ثورة موالين، أو على حدِّ تعبير حيدر باشا قائد الجيش «زوبعة في فنجان».

رجل كهذا وأكثر بكثير من هذا، فليس هنا مجال استعراض تاريخه كله، وليرجع من يشاء إلى مرافعة الأستاذ عبد الحليم رمضان مُحامي خالد الإسلامبولي؛ ففيها أشياء في حياة السادات الشخصية تشيب لهولها الوِلدان.

ولكن الذي يهمُّنا هنا هو أن السادات، أو شخصًا كالسادات، هو الذي كان على رأس المعسكر العربي عشيَّةَ حرب أكتوبر.

والسؤال الذي أُعاوده مرةً أخرى: أهي صدفةٌ محضة أن يكون في هذا الموقع الخطير شخص كالسادات، وفي مقابله من؟ كيسنجر من ناحية وبيجن والمُتطرفين والليكود من ناحيةٍ أخرى؟

١  الظروف التي أحاطت باختيار السادات نائبًا أوحد لرئيس الجمهورية لا تزال منطقةً مُظلِمة في تاريخ مصر، لم يتطوَّع بإجلائها من عاصروا الفترة، ومدى تدخل المرحوم الملك فيصل والاستخبارات الأمريكية في هذا التعيين، فليتكلم الساكتون عن الحق، الشياطين الخُرس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤