كلمة تمهيدية

جرت العادة المألوفة بين الأمم المتمدنة ألا يجوز لسياسي نشر ما عرفه من خفايا الأمور في إبَّان وظيفته وإباحته إلا بعد مُضِي خمسٍ وعشرين سنة على الأقل من تاريخ حدوثها. ولا تسمح الوزارات الخارجية بالاطِّلاع على التقارير السِّرية المحفوظة في خزائنها، إلا بعد تَصرُّم خمسين سنة على وفاة محررها. هذا هو السبب الذي من أجله تربَّصتُ إلى هذا اليوم لنشر بعض الحوادث السياسية التي مثلتُ بها دورًا، أو وقفتُ على خفاياها طيلة السبع عشرة سنة التي تولجتُ في أثنائها القنصليات الأربع الكبيرة؛ وهي بوردو، وباريس، وبروكسل، وبونس إيرس.

هذا وقد شاءت الأقدار أن يكون إنشاء هذه القنصليات ما عدا قنصلية باريس من نصيبي. ولا يغرب عن الذهن ما يجده المرء عند مفتتح الأعمال الخطيرة من المشاق والعراقيل والمعضلات. ومن المعلوم أيضًا أن مهمة القناصل اقتصاديةٌ أكثر منها سياسية، أما أنا فكان حظِّي منها أن تكون مهمتي سياسية أكثر منها اقتصادية، مع أني لم أكن قط ميَّالًا إلى هذا السلك. فإن ما تلقنته في دار العلوم السياسية في أثناء إقامتي الطويلة بباريس، وما درسته من تواريخ الساسة والسياسة جعلاني أدرك أنني لست من أربابها؛ إذ يترتب على السياسي أن يكون ذا أخلاقٍ وسجايا خاصة. فإذا كان حاد المزاج مثلًا أو عديم الصبر والأناة أو سريع التأثر فلا يصلح قط لتلك المهنة.١

يروى عن البرنس دي تالايرين الذي كان وزير خارجية نابوليون الأول، والذي يُضرَب المثل بحنكته ودهائه أنه إذا ضربه أحد في قفاه، فلا يختلج له سُرٌّ من أسارير وجهه. وعلى السياسي أن يُبدي كثيرًا عكس ما يُكمن ويعتقد، وأن يتظاهر بجهله ما يعرف ومعرفته ما يجهل.

ويحق له أن يكذب لخدمة وطنه وحكومته. وليس ذلك بمستغرب؛ إذ لا أزال أذكر، عندما كنت طالبًا بكلية اليسوعيين في بيروت، أن أستاذًا في الفلسفة شرح لنا في أحد الأيام ما يسمُّونه «الكذب التقي»، وهو أنه يَحلُّ للمرء أن يكذب إذا كان ينجُم عن كذبه خيرٌ. والداهية «بسمارك» قد افتخر بتزويره ما يسمونه «برقية أيمس» التي كانت سببًا لشهر الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا.

وإلى القارئ تفصيل الحادثة، مأخوذة بحروفها من مفكِّرات «بسمارك» نفسه. قال بعد أن ذكر كدَرَه العظيم من تساهل مليكه «غليوم الأول» نحو سفير فرنسا:

عزمت على الاستقالة من منصبي، فدعوت إلى تناول الطعام في منزلي، المارشال «مولتك» (قائد الجيوش البروسية وقتئذٍ)، ووزير الحرب الجنرال «روون». وبينما نحن على الطعام جاءني ساعٍ بيده برقيةٌ مكتوبة بالأرقام، يوقِّعها مستشار الملك الخاص في أيمس (حيث كان يستحم) فأمرتُ بحلها سريعًا. ولما أتاني بها قرأتها على مسامع ضيفيَّ، فعَلَتْ على وجهَيْهما ملامحُ الكآبة من الضعف الذي أبداه الملك أمام سفير فرنسا، وقد تجاوز الحد في قحته، وانقطعنا عن الطعام والشراب. أما أنا فاستعَدْتُ قراءة تلك الرسالة مرارًا، وكان الملك غليوم قد أذن لي بنشرها، فأخذت حينئذ قلمًا وحذفت منها بعض الجمل فانقلب معناها انقلابًا تامًّا، ثم التفتُّ إلى المارشال «مولتك»، وألقيت عليه أسئلةً مختلفة تتعلق بجيوشنا ومهماتنا وعاقبة الحرب، أو هل الأجدر بنا التربص قليلًا ريثما نكمل استعداداتنا لها؟ فأجابني للحال: إذا كان لا مندوحة من الحرب؛ فالأولى بنا السرعة في شهرها؛ وإلا فكل مماطلة تجرُّ علينا أخطارًا. فقرأتُ عليهما الرسالة فأبرقتْ أسارير وجهَيْهما، وقالا: قد تغيرت نغمتها الآن. فقلت: ستصل هذه الرسالة إلى باريس قبل منتصف الليل، وسيكون تأثيرها على الثور الفرنساوي تأثير الراية الحمراء. ونجاحنا السياسي منوطٌ بشَهْر الحرب علينا؛ إذ يهمنا قبل كل شيءٍ أن تكون فرنسا البادئة بإعلان الحرب، وأن نكون نحن مدافعين. فسرَّ المارشال «مولتك» بذلك سرورًا عظيمًا، ثم أرسل نظره إلى السماء وصاح: «إذا قُدِّر لي الحياة؛ كي أتمكن من قيادة جيوشنا في هذه الحرب، فإلى جهنم النار هذه العظام.» وقرَع صَدرَه بكلتا يديه.

ولا يخفى أن التزوير صنيع مكروه تقتصُّ من مرتكبه العدالة، ومع ذلك، كما رأى القارئ، فقد كان «بسمارك» فخورًا بتزويره، ولم أسمع عن أحد أن انَتقَد أو جرَّم هذا الارتكاب المعيب. أما أنا فإنني من رأي السياسي الإنكليزي «وليم باتل» القائل: «إن الحقيقة وحدها يجب أن تكون دعامة السياسة.» ولهذا قد اتخذتها قاعدةً لي في جميع المشاكل التي أُلقي على عاتقي حلُّها — كما سيرى القارئ في حينه — ولحسن الحظ قد تكلَّلت كلها بالنجاح.

١  ذكر الأستاذ هومبرتو دي كمبوس عضو المجمع العلمي البرازيلي قصة هامة حول موضوع السياسة والصفات التي يجب أن يتحلى بها المشتغل بالسياسة، قال: كان رجل ذا مكانة عالية في العالم التجاري وصاحب رأسمال كبير ودائرة عظيمة الاتساع. وبينما كان جالسًا في أحد الأيام في مكتبه أخذ يفكر بأحد أصدقائه مدهوشًا من نفوذه الواسع بين الناس، فنسب ذلك إلى تدخله في الشئون السياسية، فاعتزم أن ينخرط في ذات السلك. ورأى أن انتخابه نائبًا عن إحدى المقاطعات من الأمور السهلة لأسباب شتى؛ منها أنه غني ومصلح وكريم، فضلًا عن أن الشرف عنده كان في الدرجة الأولى. ثم نهض وسار رأسًا إلى دار زعيم سياسي لحزب الجمهوريين، وفاتحه بعزمه وأكد له أنه سيُرشِّح نفسه نائبًا عن إحدى المقاطعات، فأجابه الزعيم أن لا بأس بالأمر ما دام في نفسه نزعة في السياسة. ولكن عليه كسياسي أن يكون طويل الأناة، كثير الجلَد، يتحمل أقوال الخصوم بصدر رحب وثَغْر باسِم. ومضى الزعيم في حديثه وهو يفتش في محفظة أوراقه إلى أن قال: وأنا لا أشك في أن لديك وثائق تدحض أقوال خصومك المجانين الذين يتناولون حكايتك مع تلك الأرملة وأولادها!
وما إن سمع التاجر الكبير هذه التهمة، حتى وقف وقال، والحدة بادية عليه: إن التهمة كاذبة من أصلها، وإنه رجل شريف لم يختلس مال أحد. وحبذا لو عرف المفتري ليريه عاقبة الاختلاق.
فسكَّن بالَه الزعيم السياسي، وقال له: صبرًا يا عزيزي، هل تصرعك الحدة إلى هذا الحد وأنت تطلب السياسة ومنازعها ومراميها؟ ففطن الرجل إلى حقيقة حاله واعتذر.
ولكن الزعيم قال له: حسن إذا كان ثائرك ثار لحادث بسيط من هذا النوع؛ فماذا تقول لو اطلعت على وثائق بين والدتك وشخص مجهول؟
فتغيرت ملامح الرجل إذ ذاك، وعلت وجهَه صفرة الموت، وقال: إن هذا منتهى السفالة واللؤم. فأي نذل قال هذا القول؟! وهم بالانصراف مزمجرًا. وإذا بالسياسي يقول له: متى انتُخبت نائبًا وسياسيًّا؛ فستسمع العجائب من المفتريات والأكاذيب. سيقولون عن امرأتك وعلاقتها بالصيرفي فلان! فصاح التاجر: ويل للكذبة والمنافقين؛ إنهم سيجعلون مني قاتلًا.
فوقف الزعيم السياسي وهدأ ساكنه، وأبلغه أن ما سمعه هو اختلاق منه ذَكَره ليمتحن قدر صبره، ونصح له أن يبتعد عن السياسة؛ لكيلا يصبح قاتلًا.

•••

مضى على الحادث عشرة أعوام، ورجع التاجر إلى زيارة الزعيم السياسي صديقه فرغب هذا في أن يمتحن طول أناة صديقه، وعما إذا كانت تغيرت أخلاقه، فسأله فجأة: أصحيح ما شاع أمس أن أختك هربت وسائق السيارة، وأن امرأتك ساعدتهما مساعدة فعالة؟
فضحك التاجر وقال للزعيم: دعهم يقولون ما يشاءون؛ فإني لا أنظر إلى هذه الترهات. فصافح الزعيم صديقه، وقال له: الآن أصبحت صالحًا للسياسة، فأهلًا بالزميل الكريم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤