رفض ليوبولد الثاني ملك البلجيك قبول سفير عثماني

عندما عُينت قنصلًا عامًّا في بروكسل، عاصمة البلجيك، وخُوِّلت حق الإشراف على قناصل الدولة، كان سفير الدولة العثمانية في ذلك الوقت قره تيودوري أفندي، وهو يوناني الأصل عثماني التبعة، كثير الاطلاع وقد درس علم الحقوق في ألمانيا. فكان هو عميد السفراء؛ إذ مضى عليه في العاصمة البلجيكية اثنتان وعشرون سنة، وله مقام رفيع عند الملك وعند علية القوم.

وفي أحد الأيام تبلغنا أن السلطان عبد الحميد قد أمر باستدعائه وتعيين منير باشا سفيرنا في باريس بديلًا عنه. إلا أن جلالته لم يراعِ، بتعيينه هذا، القاعدةَ المتبعة في حقوق الدول، وهي متى أراد ملكٌ استدعاءَ سفير له في عاصمة إحدى البلدان، فعليه أولًا أن يخبر الحكومة التي فيها ذلك السفير المستدعى، ويسألها إذا كانت ترضى عمن سيخلفه (برسونا كراتا). ولما كان الملك ليوبولد ذا كبر وخُيلاء؛ فقد عظم عنده خرق السلطان العادة المتبعة، وحسبه احتقارًا له ولحكومته وبلاده لكونها صغيرة لا أهمية لها، ولهذا رفض رفضًا باتًّا الاعتراف بالسفير الجديد، وقبوله في عاصمة مملكته.

ويخلق بي قبل أن آتي على تفاصيل ذلك الخلاف أن أذكر شيئًا عن مملكة البلجيك وأخلاق مليكها ليوبولد الثاني؛ تعميمًا للفائدة ونظرًا لما لهذا العاهل من المقام والمنزلة في تاريخ أوروبا.

البلجيك وملكها ليوبولد الثاني

لا مراء أن مملكة البلجيك تُعَدُّ الأولى سكانًا في العالم قاطبة، بعد لبنان، بالنسبة إلى مساحتها، ومعدل عدد السكان في كل كيلومتر من أراضيها. وشعبها مؤلف من عنصرين، العنصر الأول «والون» ولغته الفرنسية، والثاني «الفلمنك» ولغته الفلمنكية، وهي قريبة من الألمانية. وكلا العنصرين مشهور بالنشاط والإقدام والثبات على الأعمال، الأمر الذي نجم عنه تقدم تجارة البلجيكيين وصناعتهم، حتى أصبحوا يزاحمون أعظم الدول تجارةً وصناعةً نظير إنكلترا وألمانيا، وقد اشتهر ملكها ليوبولد الثاني، بفرط ذكائه وعلو همته وبُعد نظره في الأمور، وولعه في التجارة؛ حتى قيل عنه: «لو لم يولد ملكًا لصار من أعظم تجار العالم وأوفرهم غنًى.» وأكبر دليل على ذلك: استيلاؤه على الكونغو الأفريقية مجازفًا بشطر كبير من ثروته الخاصة، ثم تركها بعد وفاته لمملكته، وهي تُحسب من أغنى مستعمرات العالم.

وكان الملك رغَّابًا رغبة شديدة في إشادة الأبنية الضخمة الشاهقة، وجل ما في البلجيك من هذه الأبنية، نظير المتاحف والكليات إلخ، هو من مؤسساته. وقد كان يذهب بنفسه مذهب الكبر والخيلاء، ويكثر من التمسك برسوم التشريفات، فكان لا يصافح أحدًا من الساسة إلا إذا كان برتبة مستشار. ومن غريب أطواره أنه كان يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، فكان يقول لحوذيه مثلًا: «انتظره في مكان كذا.» بديلًا عن «انتظرني» أو «هو مسرور منك» عوضًا عن «أنا مسرور منك» وما حاكى ذلك.

وكان عندما يمشي يميل بمشيته نحو العرج، واشتهر بكرهه لبس الأحذية الجديدة، حتى كان يؤثر عليها القديمة ولو مرقعة، وكان الخدم يكوون له الصحف قبل تقديمها له؛ كي لا يرى طياتها.

وكان كثير الفزع والخوف من الإصابة بالرشح والنزلات، وقد درى أركان حربه ورجال حاشيته بهذا الوهم المستولي عليه، فاستثمروه لمصلحتهم. فكان أحدهم، إذا أراد أخذ رخصة يتظاهر أمامه بالسعال والأح، فيقول له الملك حالًا: أنت يا فلان بحاجة إلى أسبوع راحة.

وكان جميع المحيطين به يخشون قوارص كلامه، ولا يتجاسر أحد أن يبدي أمامه ملاحظة أو يتكلم بحرية. يدلك على ذلك القصة التالية:

لقد عرف القاصي والداني خبر عشيقة الملك الأخيرة الكونتة «دي فوغان» إحدى غاويات باريس. وقد أسعدها الحظ فتمكنت بدهائها وجمالها، من جعل الملك الشيخ، الذي كان في ذلك الوقت قد أخذ بمخنق السبعين، يتعلقها ويتدلَّه بحبها ورُزق منها ابنتين، قيل إن والدهما الحقيقي كان أحد أركان حربه، وقد تزوجها بعد وفاة الملك الذي ترك لها إرثًا يبلغ نحو ثلاثين مليون فرنك.

وعندما كان ليوبولد منفصلًا عن امرأته الملكة، كانت هذه تصرف فصل الصيف في مدينة «أسبا» البلجيكية المشهورة بمياهها المعدنية، أما هو فكان يصيِّف في مصيف «أوستاند» الشهير. وكان يستأجر لعشيقته المذكورة مصيفًا محاذيًا لقصره احتفر فيه نفقًا يوصل إلى صديقته؛ ليذهب إليها خلسة أي وقت شاء بعيدًا عن عيون الرقباء والعذَّال.

واتفق صباح أحد أيام الآحاد، بعد أن سمع الملك القداس، أن ذهب لزيارته الكاهن مرشد البلاط الملوكي، فوجده يتنزه في حديقة القصر، وعلى محيَّاه سيماء البهجة والسرور. فدنا منه الكاهن وحيَّاه بكل تجلة واحترام.

فسأله الملك: ما وراءك من الأخبار يا حضرة المحترم، وما يتقول الناس؟

فظن ذلك الكاهن الجليل أن الفرصة سانحة ليخبر مليكه بتقولات الناس عليه وعلى عشيقته، فشرع يغمغم بكلامه دون أن يتجاسر على الإفصاح.

فألحَّ الملك عليه بالتصريح دون رهبة. عندئذ قال الكاهن الشيخ: أنت تعرف يا ذا الجلالة تقولات الناس وألسنتهم النمامة.

فسأله الملك: وماذا تتقول تلك الألسنة، قل ولا تخشَ؟

فأجابه الكاهن بكل تخشع: تقول تلك الألسنة إن لجلالة الملك عشيقة و…

فقاطعه الملك ضاحكًا: وهل هذا هو الأمر الشاغل أفكارك أيها الأب؟ ألا تعلم أن تلك الألسنة قد قالت إن لك عشيقة أيضًا؛ إلا أن الفرق بيننا هو أنني أنا لم أصدق تلك التقولات. قال هذا وأدار ظهره ومشى.

ليوبولد وشئون مملكته

كان الملك ليوبولد ولوعًا بالأسفار محبًّا للتنقل؛ إلا أنه على الرغم من ذلك كان كثير الاعتناء بمصلحة مملكته ورقيها ورفاهية رعيته، وكان يصغي إلى كل شكوى تعرض عليه.

أظن أن لم يتجاسر أحد من البلجيكيين على مخالفة أوامره ومشيئته طيلة ملكه الطويل سوى اثنين فقط.

  • الأول: رئيس بلدية بروكسل الموسيو بولس، والسبب لهذه المخالفة هو: كانت حديقة البلدية مقابلة قصر الملك، وكانت ساحة ذلك القصر غير مربعة، وتحتاج إلى تربيعها قطع ثلاث أشجار من حديقة البلدية. فبذل الملك جهده ليحمل رئيس البلدية على أن يسمح بقطع تلك الأشجار؛ إلا أن جميع مجهوداته ذهبت سُدًى طيلة سبع عشرة سنة، أي إلى اليوم الذي استقال فيه الرئيس المذكور من رئاسة البلدية.
  • والثاني: العلَّامة أرنست نيس، أعظم متشرعي أوروبا بالمسائل الدولية، وأستاذ في كلية الحقوق وصاحب تآليف قيمة يُعوِّل عليها العلماء بهذا الفن. عندما وقع نزاع بين ملك البلجيك وإنكلترا على «الكونغو» استعان الملك بالعلامة نيس للدفاع عن حقوقه الشرعية، وكان يستدعيه إلى قصره في «لاكن» الواقع خارج بروكسل، حيث كان يدرس وإياه أمر الدفاع، وكان شديد الإعجاب بعلوم الأستاذ وسعة اطلاعه، فاتفق في أحد الأيام أن دخل الحاجب وأعلن للملك أن قد حان وقت الطعام، فنهض الملك وقال للعلامة نيس: هلم نأكل ونسترح قليلًا. فأجابه: أرجو المعذرة يا صاحب الجلالة؛ لأن أحد أصدقائي ينتظرني على الغداء، وكان الذي ينتظره هذا العاجز؛ إذ كنا نتناول طعام الغداء كل يوم في أحد المطاعم على مائدة خاصة.

فقرع الملك الجرس وأمر أن تهيأ عربة لتقل الأستاذ للمدينة، فاعتذر الأستاذ ثانيةً قائلًا: أرجو صاحب الجلالة ألا يعودني ذلك؛ لأنني أفضل ركب الترامواي.

فضحك الملك، وقال: لا أستغرب وقوع هذا الأمر منك. لأن الأستاذ كان مشهورًا بحبه الزائد للاستقلال، وبحرية ضميره، حتى إنه عندما كان رئيسًا لإحدى المحاكم أبى أن تطأ رجلاه عتبة القصر الملوكي لحضور حفلة رسمية، كما أنه لم يحضر أبدًا حفلة إقامة «صلاة الشكر» (التاديوم) في كاتدرائية بلاده.

تجارة البلجيك مع تركيا

لم تكن المعاملات التجارية بين تركيا والبلجيك ذات أهمية كبيرة وكان جُلُّها مقتصرًا على مصر وبلغاريا، ولا يغرب عن الذهن أن تينك المملكتين كانتا في ذلك العهد تحت سلطة تركيا السياسية على الرغم من كونهما مستقلتين. ولهذا كانت الدهشة تلم بالبلجيكيين عندما يذهبون إلى قنصل إنكلترا لإتمام معاملتهم التجارية مع مصر فيحيلهم إليَّ، بمعنى أن السلطة الفعلية كانت بيد المصريين، أما السلطة الاسمية الوهمية فكانت بيدنا.

الطلبة العثمانيون

لقد كان عدد الطلبة العثمانيين الذين يدرسون في البلجيك كثيرًا، ومعظمهم يدرس في مدرسة «سان بلو» الزراعية المشهورة بجودة تعليمها. وقد شجعت الطلاب لطلب علومهم في هذا المعهد الشهير باستقدامي من لبنان «رفيقًا» نجل أخي الأكبر المرحوم سعيد، ووضعته في تلك المدرسة التي أكمل فيها جميع علومه الزراعية.

وكنت كثير العناية بالطلبة المذكورين لاعتقادي بحاجة الوطن الماسة إلى شبان يتلقنون علومهم الصناعية في مدارس أوروبا الراقية؛ ولهذا كنت كلَّ أحد أدعو فئة منهم لتناول الطعام معي في دار القنصلية مقدمًا لها المآكل الشرقية، ثم نتنزه معًا توطيدًا للعلائق الولائية.

ويليق بي أن أذكر من عداد الطلاب الذين نجبوا في مدارس البلجيك المرحوم خير الله خير الله، الذي اشتهر بكتاباته في جريدة الطان الباريسية الكبرى.

ومما يحسن ذكره في هذه المناسبة الحديث الذي جرى بيني وبين رئيس جامعة لوفان وسياقه كما يلي:

كنت قد أشرت على صديقي المرحوم فائق بك غرغور أن يرسل نجله الكريم إلى جامعة لوفان، فعمل الصديق بموجب مشورتي وأرسل نجله، واغتنم صديقه السيد بشارة كرمي، وأرسل ابنه هو أيضًا برفقة ابن فائق بك. ولما وصلا بروكسل صحبتهما في اليوم التالي إلى لوفان وأرسلت بطاقتي إلى رئيس الجامعة، فاستقبلني حضرته بكل إكرام واحتفاء، وكان كاهنًا جليلًا ورعًا. وعندما عرَّفته بالغاية من زيارتي وهي إدخال الطالبين في الجامعة التي هي تحت رئاسته علت وجهه أمائر الحيرة والارتباك، وابتدأ يفرك يديه مرددًا العبارات التالية: أنت تعلم، يا حضرة القنصل جنرال، أن النظامات لا يمكن الشذوذ عنها، ويجب علينا اتباعها، ولا يتسنى لنا مخالفتها. وما حاكى هذه العبارات.

فلم أفهم بدأة ذي بدء ماذا يقصد بقوله، ولما طلبت منه زيادة الإيضاح ازداد ارتباكًا وحيرةً.

فأدركت عندئذ خطأه؛ لأنه ظن أن الطالبين مسلمان، ونظام الجامعة لا يسمح إلا بقبول الطلبة المسيحيين فقط، فتجاهلت ورغبت في الممازحة، وألححت عليه بالتصريح، فتحلب العرق من جبينه من فرط خجله، وأخيرًا قال: إن الجامعة لا تقبل إلا طلبة مسيحيين.

فأجبته ضاحكًا: ومن قال لك يا حضرة المحترم أن هذين الطالبين ليسا بمسيحيين؟ إنهما من أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

فعلت على جبينه أمائر البغتة، وكاد لا يصدق ما قلت.

فزدت على كلامي السابق قائلًا: أنا لست بمسيحي؛ بيد أن هذا الأمر لا يمنعني أن أحسب هذين الولدين نظير أولادي. إن عدد الطلبة العثمانيين في البلجيك يزيد على الأربعين، ولا يوجد منهم سوى أربعة من المسلمين والبقية من المسيحيين، ومع هذا فإني أعتبرهم جميعًا دون فارق.

وقد عظمت دهشته عندما أخبرته أنني تلقَّيت علومي كلها في مدارس مسيحية، أولها في مدرسة الحكمة، وبعدها في كلية اليسوعيين في بيروت.

الجغرافي العلامة «اليزي ركلي»

ذكرت سابقًا أن المعاملات التجارية بين تركيا والبلجيك كانت زهيدة؛ ولهذا فكان لدي متسع من الوقت، وبما أن المولى لحسن الحظ لم يهبني موهبة فهم الألعاب على اختلافها، وكنت أكره كرهًا شديدًا الجلوس في المقاهي لقتل الوقت؛ انعكفت على الدرس والكتابة، وكان في بروكسل يومئذ جامعة حرة يُلقي فيها الجغرافي العلامة «ركلي» دروسًا في علم الجغرافية، فقيدت اسمي بين عداد طلبتها، وكنت مواظبًا على الحضور مواظبة دقيقة، لأن تلك الدروس كانت شائقة لذيذة جمة الفوائد.

واتفق ذات يوم عند وصولي إلى الصف أن شاهدت الطلبة ينظرون إليَّ ويتهامسون، فأدركت أنهم عرفوني وعرفوا أن ذلك الطالب ليس إلا قنصل جنرال دولة تركيا، الأمر الذي استغربوه.

وفي أحد الأيام ذهبت بعد انتهاء الدرس إلى العلامة ركلي وعرَّفته بنفسي، وسألته كيف تسنى له الاطلاع على حقيقة الشرق وتاريخه وعاداته؛ إذ ندر أن كتب مؤرخ أو جغرافي أوروبي عن الشرق وأبنائه، دون أن يهرف بما لا يعرف سواه؛ فإن جغرافيته على غاية متناهية من الضبط والدقة. وهل زار الشرق ودرس أحواله وعاداته عن كثب؟ فأجابني لم يسعدني حسن الطالع بزيارة الشرق أبدًا، أما أسلوبي في الكتابة فكما يلي: عندما أعمد إلى درس حالة بلاد أو شعب أتصفَّح ما كتب عنها أو عنه في اللغات الإنكليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية، فإذا وجدتها متفقة على أمر ما، أؤكد عندئذ أن ذلك الأمر حقيقي، أما إذا وجدتها مختلفة حول إحدى القضايا، فأشرع حالًا بالدرس والتنقيب وتمحيص الحقائق لأعرف أي كاتب هو المصيب.

والغريب أن ذلك العلامة كان فوضويًّا في مبادئه وآرائه، ولهذا غادر فرنسا واستوطن البلجيك. وكان قنوعًا عفيف النفس لا تهمه الفخفخة ولا البهرجة ولا الألقاب، وكان ينفق جميع ما يربحه على رفقائه. ومما يضحك من أطواره ما يأتي: أخبرني صديقي العلامة «نيس» المتشرع الدولي المشهور وصديق العلامة «ركلي» الحميم النادرة الآتية:

كان «ركلي» من الفئة التي لا تقتات إلا بالنبات، وتحظر على نفسها أكل اللحوم؛ ولهذا فقد حظر على قرينته إدخال اللحم إلى منزله.

أما قرينته فكانت مغايرة له في هذا الرأي، وخشيت أن الاقتصار على أكل النباتات يضعف صحة قرينها، فكانت تطبخ الطعام سرًّا بمرق اللحم أو عصيره.

قال «نيس»: جاءني ركلي صباح أحد الأيام، وعلى محياه أمائر اليأس والاستياء، فقال لي: هل تعرف أيها الصديق أنني قد اكتشفت أمرًا يدعو إلى الأسى والأسف؟

فسألته: وما هو هذا الأمر يا صاح؟ فأجابني: اكتشفت أن امرأتي تخادعني.

فبذلت ما بوسعي كي لا أقهقه في الضحك؛ لأن امرأته كانت عجوزًا شمطاء، وقلت له: إن هذا الأمر مستحيل.

فصاح بي: لقد رأيتها رأي العين.

فقلت في نفسي آسفًا: لقد خولط الصديق بعقله، واحترت ماذا أقول له.

فكرر قوله لي: لقد رأيتها رأي العين كما قلت لك؛ إذ فاجأتها ذات يوم في المطبخ، فرأيتها تهيئ لي الطعام بعصير اللحم.

فأغربت في الضحك، وقلت له: الحمد لله بزوال مخاوفي وظنوني؛ إذ ظننت أن أصابك مسٌّ من الجنون.

فقال لي: وهل تريد خيانة أفظع من خيانتها، ومخادعة أعظم من هذه المخادعة؟

تأليفي في حقوق الدول

لما تسعرت نيران الحرب بين البوير والإنكليز، وكثر التقوُّل في اعتداء إنكلترا القوية الكبيرة على البلاد البويرية الصغيرة القليلة عدد السكان، خطر ببالي وضع مؤلف باللغة العربية في «شرائع الدول وحقوق الأمم»؛ لحاجة أبناء يعرب الماسة إلى مؤلف يبحث بهذا الموضوع الجليل، ونظرًا لنشوب الحرب آثرت نشر القسم الذي موضوعه في الحرب فقط، وقد عانيت الأمرَّين لوضع الكلمات الاختصاصية لعدم وجودها تقريبًا في لغتنا العربية. وكنت أبعث فصلًا إثر فصل منه إلى مجلة «الهلال» في مصر، فكانت تنشره تباعًا على صفحاتها، وقد لاقت مواضيعه اهتمام القراء الشديد لمناسبته الأحوال والقرائن.

ثم جمعه «الهلال» عند انتهائه في مجلد خاص، وأشار عليَّ بعض الرفاق أن أرسله إلى نظارة المعارف الجليلة لأخذ رخصة بنشره طبقًا للنظام في ذلك الوقت، فرفضت العمل بمشورته؛ لاعتقادي الوطيد أن النظارة لا تصادق على نشره إلا بعد مسخه وتشويهه، كما كان يطلب مني المكتوبجي في بيروت يوم كنت أنشر تباعًا في جريدة «لسان الحال» الغراء سيرة نابوليون الأول؛ إذ كان يريد تشويه الحقائق التاريخية ومسخ المخابرات السياسية، ولو كانت الدولة العثمانية لا دخل لها بسيرة نابوليون.

وقد جرت العادة عند جل المؤلفين العثمانيين أن ينشر في مقدمة كل كتاب يطبع أسطر صَفْوتُها الدعاء إلى الذات الشاهانية، سلطان البرَّين وخاقان البحرين وما حاكى هذه الألقاب الفارغة والتدليس المكروه، أما أنا فرفضت التمشي بموجب هذه العادة، على الرغم من كوني من مأموري الدولة، وبدأت مقدمة كتابي بما يلي:

رأيت حاجة اللغة العربية إلى كتاب في السياسة يبحث في حقوق الملل ومعاهدات الدول مما أحدثه التمدن الحديث، ولا يليق بأمة متمدنة أن تجهله، فعمدت إلى تأليف كتاب في هذا الموضوع، اعتمدت فيه على ثقات فلاسفة العمران وخيرة علماء السياسة إلخ.

ولما تم طَبْع الكتاب أرسلت منه نسخة إلى رئيسي توفيق باشا وزير الخارجية، وأخرى إلى إسماعيل حقي بك مستشار الباب العالي في الحقوق الدولية، وأستاذ علم الدول في كلية الحقوق في الأستانة، وهو الذي تولى الصدارة العليا في أيام الدستور. ومن المضحك أنه وصلني في بريد واحد رسالتان: الأولى من وزير الخارجية توفيق باشا يشكرني بها على وضع الكتاب وعلى إرسالي منه نسخة له، والثانية تحمل منع دخول كتابي إلى الدولة العثمانية.

وبعد مُضيِّ بضعة أيام وصلتني رسالة من إسماعيل حقي بك سرتني سرورًا عظيمًا؛ لأنها أثبتت لي أنه قرأ الكتاب بإتمام نظر؛ إذ قال لي فيها: إنه طالع كتابي بتدقيق فألفاه يوافق الطريقة التي يستعملها هو نفسه بإلقاء الدروس على تلامذته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤