مقدِّمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمدٍ خاتم النبيين، وعلى إخوانه المرسلين، وآله وصحبه وتابعيهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد: فقد قرأتُ في الجرائد منذ شهورٍ تَقَاريظَ لكتابٍ وضعه الأستاذ الدكتور طه حسين، أسماه «فِي الشِّعْرِ الجَاهِليِّ» فقلت في نفسي: مُدرِّس الآداب العربية في الجامعة المصرية أَرَادَ أن لا يَقْصُر ثمرات جهوده العقلية على تلاميذه؛ فنشرها ليستفيدَ منها الكافة، فحبذا لو احتذى مثالَه جميع المدرسين. ولكني لم ألبث أن قرأتُ فصولًا ضافيةَ الذيول لبعض شيوخ الأدب في المدارس المصرية، يشنون فيها على هذا الكتاب حربًا طاحنة تذهب باليابس والأخضر؛ باعتبار أنه قد استطرد إلى ذِكْرِ مسائلَ اتَّبع فيها غيرَ سبيل المؤمنين، بل جَحَد بعض ما نصَّ عليه الكتاب المبين. ثم لم تمضِ غير أيامٍ حتى قرأتُ في الجرائد أنَّ علماء الجامع الأزهر قد اجتمعوا وقرَّروا أنَّ في كتاب الدكتور طه حسين كفرًا صريحًا، وطالبوا الحكومة بمصادرته، ومَنْع مؤلِّفه عن التدريس كَيْ لا يَفْتِنَ نَابِتَةَ الأمة بما يبثه فيها من الأضاليل. وبينما الناس ينتظرون جواب الحكومة إذا بالدكتور يعلن أنه لم يقصد الطعن في الدِّين، وأنه يُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر … إلخ إلخ.

هذه الحَلَقَات المُتَّصلة من الحوادث التي أثارها هذا الكتابُ حفزتْنِي إلى الاطلاع عليه، فرأيت فيه أخطاءً اجتماعية وبسيكولوجية وفلسفية لا يصح السكوت عليها، وألفيتُ الدكتور — لا ضطراره إلى تصيُّد الأسباب التي حملتْ ذوي النفوس المريضة على اختلاق الشعر ونسبته إلى الجاهليين — قد عوَّل على كتب المحاضرات، وهي قَرارةُ الأكاذيب، ومُستنقعُ المفتريات من كل نوع؛ فجاء كتابه بما حمل من أوزار المفترين، وبما غلا هو فيه من تقصِّي إغراءات المتناظرين، وتسويلات المتنافسين، من القادة الأعلَيْنَ، طامسًا لمعالم أكبر ثورة اجتماعية حدثت في العالم، ألا وهي ظهور الديانة الإسلامية، وما استتبع انتشارها من سقوط دولٍ وقيام دول، وفناء لغاتٍ وشعوبٍ في لغات وشعوب، وتبدل مبادئ وأصول بمبادئ وأصول، وطروءِ عهدٍ جديد على الإنسانية انتقلت به درجاتٍ كثيرة في معارج العلم والفلسفة والأخلاق والعمران.

لا ندَّعي هنا أنَّ الدكتور طه حسين قصد إلى تشويه جمال هذه الثورة الكبرى في كتابه، ولكنه بغلوِّه في تحري أسباب الاختلاق على الجاهليين التقط من كتب المحاضرات جميعَ ما فيها مما يتعلق بالاختلاق وبالعوامل التي حَمَلَتْ عليه، وبالمطامع التي دَفعتْ إليه، ولم يُسَرِّ على كل ذلك ما يقضي به عليه مذهب ديكارت من النقد والتمحيص، بل وَثِقَ به ثقة مطلقة حملته على إصدار الأحكام جُزافًا في تركيب المسلمين الأولين، وتأليف مجتمعهم، ممَّا لا يتفق وأثر هذه الثورة التي قاموا بها في عالم الاجتماع والعلم والمدنية، ولا يتلاءم وما اعترف به عنها خصومها ومناظروها قديمًا وحديثًا.

فبينما علماء الغرب لا يتمالكون أنفسهم من الدَّهَشِ من قُوَّةِ هذه الحركة الاجتماعية التي انبعثت من بلاد العرب فَجْأةً فرجَّتِ العالمَ كُلَّه رجَّاتٍ أذهلته عن كل شيءٍ إلا عنها، ولا يزال دَوِيُّها يَرِنُّ في آفاقه؛ يصعب علينا أن نرى واحدًا منَّا يضع كتابًا لغرضٍ قليل الخطر هو إثبات أنَّ الشعر الجاهلي مختلقٌ، يكون أثره على قارئه أن يحتقر هذه الثورة الكبرى، ويستخفَّ برجالها الذين أخذوا حظًّا من تمثيلها والاضطلاع بأعبائها، وقد آتت العالم ببركاتٍ لا يزال يعترف لها بها إلى اليوم.

فإذا كان الإنجليزي يفخر بأنَّ آباءَه كانوا أول من فكر في وضع حدٍّ لحكم الفرد، وإذا كان الفرنسي يفخر بأنَّ أسلافه أولُ من فكَّر في تعيين حقوق الإنسان الطبيعية؛ فهلَّا يفخر المسلمون بأنَّ أوائلهم كانوا — بإيعازٍ من دينهم — أولَ من أعلن الناس كافَّةً بأنَّ الإنسانية قد بَلَغَت سنَّ الرُّشد، وأنَّها أصبحت لا يصح أن تخضع لطوائف تنتحل لنفسها حق الوصاية عليها، وأنَّ السلطان للجماعة لا للفرد، وأن المعول على العقل لا على الموروثات، وأنَّ الإيمان بالدليل لا بالتقليد، وأنَّ التمايز بالمزايا لا بالجنسية ولا بالقومية، وأنَّ الحكم بالشورى لا بالاستبداد، وأنَّ الدين هو الفطرة التي فطر اللهُ النفوسَ عليها، لا الرسوم ولا الأشكال التي يُزينها الوهم ويُولّدها الخيال، وأنَّ أصلَ كل الأديان واحدٌ، وما فرَّق الناسَ شيعًا وأحزابًا إلا قادتهم بما صوروه لهم من الأباطيل والأضاليل … إلخ إلخ. قلت: فهلَّا يفخر المسلمون بهذه العراقة في الأصول العالية مع الفاخِرِين، ويتحققون أنَّ لهم أكبرَ أثرٍ في ترقية الإنسانية مع العاملين.

إنِّي ما كدت أتم قراءة كتاب الدكتور طه حسين حتى وجدتني مدفوعًا لوضع نقدٍ عليه أستهدف به غرضين:
  • أولهما: مناقشته في المسائل التي تتعلق بتكوين الأمة الإسلامية، ولا يتفق حكمه فيها والمقرَّرات التَّاريخيَّة، ولا الأصول الاجتماعية، وأرى الإغضاء عنها ضارًّا كلَّ الضرر بِنَابِتَةِ هذا الجيل وهم في هذا الدور من الانتقال السريع.
  • وثانيهما: مقابلة أول ثمرات الجامعة المصرية بما تستحقه من العناية، وهذه العناية لا تعني في عالم العلم غير النقد والتمحيص.

فاللهَ أرجو أن يجعل عملي هذا خالصًا من شوائب المراءاة والمماراة، وأن ينفع به الناس، إنَّه الموفق للهداية، المعين على بلوغ الكفاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤