الشُّعوبيةُ وانتحالُ الشِّعر١

قال الدكتور طه حسين تحت هذا العنوان:

«إنَّ هؤلاء الشُّعوبية قد انتحلوا أخبارًا وأشعارًا كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين، وقد اضطروا خصومهم إلى الانتحال والإسراف فيه. وأصل هذه الفرقة إنَّما هو هذا الحِقد الذي أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين، وقد أخذت هذه الخصومة مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب، وأحدثت آثارًا مختلفة بعيدة في حياة المسلمين السياسية والأدبية.٢
لم يكد ينتصف القرن الأول للهجرة حتى كان فريقٌ من سَبْيِ الفرس قد استعرب وأتقن العربية واستوطن الأقطار العربية، وأخذ يكون له فيها نسلٌ وذريةٌ، وأخذ هذا الشباب الفارسيُّ الناشئ يتكلم لغة العرب، ويحاول نظم الشعر العربي، وتجاوز هذا إلى مشاركة العرب في أغراضهم الشعرية السياسية؛ فكان منهم شعراء يتعصبون للأحزاب العربية السياسية، ولا يكاد واحدٌ منهم يظهر تأييده لحزب حتى يفرح به ذلك الحزب ويجزل الصلات له. كذلك كان يفعل بنو أمية وبنو هاشم وآل الزُّبير، فأباحت لهم الخصومة بين الأحزاب العربية أن يتدخلوا في السياسة العربية، وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبي.٣
لم يكن هؤلاء الموالي مخلصين للعرب حقًّا، إنّما كانوا يستغلون هذه الخصومة السياسية ليعيشوا وليحيوا حياة السادة الأحرار ثم ليشفوا ما في صدورهم من غلٍّ ضد العرب.٤
وكانت نتيجة استنصار الأحزاب بهم أن استباح هؤلاء الموالي لأنفسهم هجو العرب أولًا ثم ذكر قديمهم والافتخار به ثانيًا.٥
وقد هجا أبو نواس العرب وقريشًا؛ فيُقال إنَّ الرشيد أطال حبسه لذلك. وأنشد إسماعيل بن يسار بين يدي هشام بن عبد الملك٦ فخره بالفرس؛ فغضب عليه، وأمر بإلقائه في بركة كانت بين يديه، ولم يخرج منها إلا وقد أشرف على الموت.٧
وهؤلاء الموالي قد أنطقوا العرب بكثير من النثر والشعر اللذين فيهما مدحٌ للفرس وتقرُّب منهم. وزعموا أنَّ الأعشى٨ زار كسرى ومدحه وأخذ من جوائزه، وأضافوا إلى عدي بن زيد٩ ولقيط بن يعمر١٠ وغيرهما من إياد والعباد١١ كثيرًا من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم، وأنطقوا شاعرًا من شعراء الطائف بأبيات وهي تضاف لأبي الصلت بن ربيعة يمدح فيها الفرس.١٢ على هذا النحو انتحل الموالي الشعر والأخبار وأضافوها للعرب؛ ذكرًا لمآثر الفرس وما كان لهم من مجدٍ وسلطان في الجاهلية، فكان العرب مضطرِّين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال يشبه هذا اللون، فيه تغليبٌ للعرب على الفرس.١٣
ومن هنا مواقف هذه الوفود التي تتحدث أمام كسرى بمحامد العرب وعزتها، ومن هنا هذه المواقف التي تُضاف إلى ملوك الحيرة والتي تُظهر هؤلاء الملوك أحيانًا عصاة مناهضين للملك الأعظم، ثم من هنا هذه الأيام التي كانت للعرب على الفرس والتي تحدَّث النبي عن بعضها وهو يوم ذي قار.١٤

فالشعوبية في مظهرها السياسي الأول قد حملت الفرس على انتحال الأشعار والأخبار وأكرهت العرب على أن يلقوا هذا الانتحال بمثله.

على أنَّ هذه الشعوبية لم تلبث أن استحالت١٥ بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلافٍ له صورةٌ علميةٌ أدبيةٌ. وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ في حمل العرب والفرس على الانتحال والإسراف فيه.١٦
ولعلك تلاحظ أنَّ الكثرة المطلقة من العلماء كانوا من العَجَم الموالي، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء من الفرس أيضًا، وكانت غايتهم قد استحالت١٧ من إثبات سابقة الفرس في الملك إلى ترويج هذا السلطان الذي اكتسبوه أيام بني العباس وإقامة الأدلة على أنَّ الأمر قد رُدَّ إلى أهله، وأنَّ العرب الذين حِيل بينهم وبين السيادة الفعلية لم يكونوا أهلًا لتلك السيادة.١٨
فأما أبو عبيدة١٩ الذي يرجع العرب إليه فيما يَرْوُون من لغةٍ وأدبٍ فكان من أشدِّ الناس بُغضًا للعرب وكان وضع كتابًا اسمه «مثالب العرب». وأما غيره من علماء الموالي، فقد كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حدٍّ: ينالونهم في حروبهم وشعرهم وخطابتهم ودينهم أيضًا؛ فليست الزندقة إلا مظهرًا من مظاهر الشعوبية، وليس تفضيل النَّار على الطين، وإبليس على آدم إلا مظهرًا من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الإسلام.٢٠
والذي يعنينا من هذا كله أن نلاحظ أنَّ الجاحظ وأمثالَه من الذين كانوا يُعنَوْنَ بالرد على الشعوبية؛ مهما يَكُنْ علمهم لم يستطعيوا أن يعصموا أنفسهم من هذا الانتحال الذي كانوا يضطرون إليه ليُسكتوا خصومهم من الشعوبية. وكانت الشعوبية تنتحل من الشعر ما فيه عيبٌ للعرب وغضٌّ منهم، وكان خصوم الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذودٌ عن العرب ورفعٌ لأقدارهم.٢١
ونوعٌ آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية، ذلك أنَّ الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم أن يزعموا أنَّ الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدَثة، فإن عرضوا لشيء من هذه العلوم الأجنبية فلا بُدَّ من أن يثبتوا أنَّ العرب قد عرفوه أو ألمُّوا به أو كادوا يعرفونه ويُلِمُّون به، وهم مضطرون إلى ذلك ليثبتوا فضلهم على هذه الأمم المغلوبة، واضطرارهم كان يشتدُّ بمقدار ما يفقدون من السلطان السياسي وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها.»٢٢

رأينا في هذا الكلام

يُستخلص ممَّا كتبه الدكتور طه حسين في الشعوبية أنَّ الفُرس والعرب كانوا من التحاقُد والتضاغُن، حتى بعد أن جمع بينهم الإسلام، بحيث بات كل فريق منهم يتربص بالفريق الآخر الدوائرَ، وأنَّ هذه الخصومة أحدثت آثارًا بعيدة المدى في حياة المسلمين السياسية والأدبية فكان شعراؤهم يتعصَّبُون للأحزاب السياسية لا عن إخلاصٍ وحسن نيةٍ، بل لجرِّ المغانم، وكسب الدراهم. وقد تذرَّعوا بذلك إلى ثلب أشراب قريش وقرابة النبي .

وقد قوَّلوا العرب الجاهليين ما لم يقولوه من الشعر في مدحهم والإشادة بذكرهم، واضطروا العرب لأن يَنْحُوا نحوهم في وضع الشعر المناقض لمزاعمهم، واختلق العرب من جَرَّاء ذلك حكايات الوفود التي قيل إنَّها أُوفِدت إلى كسرى تذكر محامد العرب ومناقبهم، ووقائع لم تحدث زعموا أنَّهم انتصروا فيها على العجم، وشفوا صدورهم من الإثخان٢٣ فيهم.
ثم استحالت٢٤ الخصومةُ بين الأمتين — بعد سقوط الدولة الأموية — إلى خلافٍ علمي حمل الفريقين على الإغراق في انتحال الشعر والأخبار الكاذبة. وبما أنَّ أكثر العلماء الإسلاميين كانوا من الفرس، ووزراء الدولة من الفرس، فقد أخذوا يقيمون الأدلة على أنَّ الأمر قد عاد إلى أهله، وأنَّ العرب لا يستحقون تلك السيادة التي كانوا حصَّلوها ثم زالت منهم. وكان هؤلاء العلماء يمضون في ازدراء العرب إلى غير حدٍّ حتى في دينهم؛ فإنَّ الزندقة وتفضيل المجوسية على الإسلام كانت إذ ذاك أثرًا من آثارهم.

ذكر الدكتور طه حسين كل هذا ولم يستثنِ طائفةً ولا جيلًا، فلا يتمالك القارئ نفسه من الازدراء بالفريقين: بالفرس لخبثهم وخيانتهم وإلحادهم، وبالعرب لجبنهم وغباوتهم واستخذائهم. فإنْ سأل سائلٌ كيف يُعقل أنَّ أمة وصل الدَّخيلُ من جُثمانها إلى النُّخاع تستطيع أن تُؤسِّس في عهد الدولة الأموية لنفسها ملكًا لم ينبغِ لأُمَّةٍ من الأمم قبلها، ثم تُوجِدَ لنفسها في عصر العباسيين الذي تلاه مدنيةً لم تُشرق الشمس على أكمل منها إلى عهدها، تنتهي إليها فيها الخلافة العلميةُ والعمليةُ والفنيةُ في الأرض؟

لو سأل سائلٌ عن هذا لم يجِد أحدٌ جوابًا شافيًا ولو كان أعدى أعداء الإسلام، اللهم إلا ساقطًا من القول، وآفِنًا من الرأي، وهراء من المزاعم، ومتى أغنى مثل هذا في طمس الواقع المحسوس؟!

إنَّ الدكتور طه حسين — في بحثه عن مصادر الشعر المختلق المنسوب للجاهليين، وفي تحرِّيه عن علل هذا الاختلاق — اضطر أن يعوِّل على كتب المحاضرات؛ كالأغاني، والعقد الفريد، والبيان والتبيين، وغيرها. ولا ندري كيف فاته أنَّ هذه الكتب أدبيةٌ فكاهية قاصرةٌ على البحث في أطوار فنٍّ واحد يكثر فيه الخلط والخبط، وكان يغلب على أهله — وهم أدباء العصور الخالية — المجانة والإباحة والجري وراء الخيال، وتصيُّد الرزق بالمدح والهجاء، والتقرب إلى الرؤساء بكل وسيلة من الجد والهزل؛ حتى كان منهم من هجا أمه وأباه وامرأته وهجا نفسه أيضًا.٢٥ فلا مذهب ديكارت، ولا أي أسلوب فلسفي في الأرض، يسمح لواحد من شيعته في القرن العشرين أن يصدر على أمة كان لها أكبر الآثار في العالم مثل هذه الأحكام المنافية لطبيعة الأشياء؛ اعتمادًا على مثل هذه المصادر التي لو سُلِّطَ عليها نقدٌ جِدِّيٌّ لنفى تسعة أعشار ما فيها لعدم موافقته للمألوف، وشطرًا من العشر الباقي لنقص سنده التاريخي!
نحن لا ننكر أنَّ نفرًا من الشعراء الذين أصولُهم فارسيةٌ، ونفرًا آخرين من أبناء جِلدتهم الذين لم يتأدبوا بأدب الإسلام في مسألة الجنسية، قد لعبت بعقولهم الميول الوراثية، فلجئوا إلى إحياء العصبية في دائرتهم المحلية. كما لا ننكر أنَّ رجالًا من العرب الذين لا حَظَّ لهم من الإسلام إلا الالتحاق بأهله، لم يقفوا مع نصِّ الدِّين في إماتة الفوارق الاجتماعية؛ قام الفريقان بإحياء سُنِّةِ الجاهلية، من التفاخر بالآباء، والتنابز بالألقاب والأسماء، وارتكبوا في تسكُّعِهم٢٦ في هذا السبيل جريمة الاختلاق على الأقدمين. ولكنَّا نرى أنَّ هذا من الأمور الطبيعية حتى في الأمة الواحدة التي يجري في عروقها دمٌ واحدٌ، وتعيش كلها في بيئة واحدة، وفي القرن العشرين نفسه؛ فهل يجهل أحدٌ ما أوجده العُرف من الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وبين ذوي البيوت والصعاليك، وبين البيض والسود؟ ثم أليس كتابُ الدكتور طه حسين مشحونًا بأخبار عصبية القبائل العربية ذات القرابة القريبة، وما ابتنى على تلك العصبية قبل الإسلام من حروبٍ ساحقةٍ، وحزازاتٍ ماحقةٍ، فهل يستغرب بعد ذلك أن يقوم بين زعانف من أمَّتَيْنِ مختلفتين، ما قام مثله ويقوم إلى اليوم بين أبناء الأمة الواحدة؟!

ولكن أين الدكتور طه حسين من هذا المثل الأعلى الذي أوجده الإسلام من إدماج الأمم بعضها في بعض، وسلَّ ما بينها من السَّخَائم الموروثة منذ أجيالٍ، وتأليفه منها دولةً قامت لأول مرة في تاريخ البشر على المبادئ لا على الجنسيات؟ إن من شاء أن يرى المثل المحسوس من هذا الأمر المُدهش، الذي عجز عنه الأوَّلون والآخرون، فلينظر إلى الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من حياتها ليرى أنَّ العربي القُحَّ كان يأخذ لغته وأدبه ودينه وتصوفه وسياسته وعلمه عن ناسٍ لا يسألهم عن أنسابهم وأجناسهم، ولا يبالي بألوانهم ولا صُوَرهم، حتى اتفق أن كانت جمهرتهم من أجناسٍ أجنبية، وقد أدى إليهم من الاحترام والتبجيل ما كان يؤدِّيه لبني جَلدته الذين كانوا في مثل رتبتهم؛ فكانت حالُ هذه الأمة في هذا الأمر من أغرب الأحوال، تدل على مبلغ ما أفاده الإسلام للأمة العربية، ذات العصبية الحادة، من الأدب الاجتماعي العالي الذي قصرت عن مثله الفلسفة في كل أدوارها إلى يومنا هذا.

كانت الأمصار والأقطار التي تُعتبر مراكز للعلم والدين — يُشِعَّان منها على ما حولها من البلدان في عصر بني أمية — مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر والشام والجزيرة وخراسان. فكان في كل عاصمة من هذه العواصم، ومدينة من هذه الأقطار إمامٌ يقلِّده أهلها في الدين، ويرجعون إليه في الفتوى. أفلا تعجب إن ذكرت لك أنَّ كلَّ هؤلاء الأئمة الذين أخذ المسلمون عنهم الدينَ والعلم كانوا من الموالي الذين يقول عنهم الدكتور طه حسين: إنَّهم كانوا يكرهون العرب، ويُضمرون لهم الخصومة، إلا واحدًا هو إبراهيم النخعي٢٧ الذي كان إمام أهل الكوفة، فإنَّه كان عربيًّا خالص العروبة. أما من عداه فكانوا فرسًا أو ديلمًا أو تُركًا أو من أجناسٍ أخرى؛ فقد كان عطاء بن أبي رباح٢٨ إمامًا في مكة، وطاووسٌ٢٩ في اليمن، ومكحول٣٠ في الشام، ويزيد بن أبي حبيب٣١ في مصر، وميمون٣٢ في الجزيرة، والضحاك بن مزاحم٣٣ في خراسان، والحسن البصري٣٤ في البصرة، وكلهم من الموالي.

ذكر السخاويُّ في شرح ألفية الحديث للعراقي أنَّ هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي قال للزهري: «من يسود أهل مكة؟ قال: عطاء. قال: بِمَ سادهم؟ قال الزهري: سادهم بالديانة والرواية. قال هشام: نعم؛ من كان ذا ديانة حُقَّتْ الرياسة له. ثم سأله الخليفة عن اليمن؟ فقال الزهري: إمامها طاووس. وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان والبصرة والكوفة؟ فأخذ الزهري يعد له أسماء سادات هذه البلاد، وكلما سمَّى له رجلًا كان هشام يسأله: هل هو عربي أم مولى؟ فكان الزهري يقول: مولى. إلى أن أتى على ذكر النخعي! فقال: إنَّه عربيٌّ. فقال هشام: الآن فرَّجت عني، واللهِ ليسودن الموالي العرب ويُخطَب لهم على المنابر.»

وهذا الحسن البصري الذي يعتبر إمام أئمة هذه الأمة، والمرجع الأعلى للدين والعلم والفتيا كان فارسيًّا من الموالي. وقد بلغ من الشرف والسؤدد أن شدد النكير على الحجاج بن يوسف الثقفي وأغلظ له في القول.

وكان رأس التابعين والمقدَّم عليهم سعيد بن جبير وهو أسود اللون، وكان قد ولاه الحجاج إقامة الصلاة في الكوفة، والكوفة إذ ذاك مُعَشَّشُ العرب، وقبة الإسلام.

وكان سليمان الأعمش الإمام المشهور عبدًا أعجميًّا، وقد كان من العزة والمنعة بحيث يزدري بأمر هشام بن عبد الملك، فقد ذكر ابن خَلِّكان في ترجمته٣٥ أنَّ هذا الخليفة الأموي طلب إليه أن يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي؛ فأخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كانت عنده وقال للرسول: قل لأمير المؤمنين: هذا جواب كتابك!

وكان أبو حنيفة صاحب المذهب فارسيًّا، وقد لقبه العرب أنفسهم بالإمام الأعظم، وأخذوا عنه الدِّين غير متحرِّجين، ولا متأثِّمين. وجمهرة العلماء الذين حفظوا القرآن والأحاديث كانوا من الفرس وغيرهم، وهم البخاريُّ ومسلمٌ صاحبا الصحيحين، والترمذي والنسائيُّ وابن ماجه والدارقطني والسِّجِسْتاني وغيرهم أصحاب بقية كتب الستة الصحيحة، لم تَحُلْ جنسيتهم في نظر العرب دون اعتبارهم أئمة علم الحديث، وحسبانهم كتبَهم المراجعَ الوثيقة له.

وقد كان وهب بن مُنَبِّه٣٦ من أقدم رواة الحديث وأصحاب التفسير وهو فارسي الأصل، وكان نافعٌ٣٧ صاحب القراءة المشهورة ديلميًّا.
أما أقدم الفقهاء الذين أخذ عنهم الأئمة مذاهبهم غير من ذكرنا: فالحسن بن أبي الحسن، ومحمد بن سيرين٣٨ بالبصرة، ومجاهد،٣٩ وسليمان بن يسار٤٠ في مكة، وزيد بن أسلم،٤١ ومحمد بن المنكدر،٤٢ ونافع بن أبي نجيح في المدينة، وربيعة الرأي،٤٣ وابن أبي الزناد٤٤ في قُباء، وكل هؤلاء كانوا من الموالي.

ولو أردت سرد أسماء علماء الموالي الذين يُعتبرون السلفَ الصالح لهذه الأمة لكتبت صحفًا كثيرةً، فلأكتفِ بهذا القدر؛ لشهرة هذا الأمر شُهرَةً مستفيضة في جميع مراكز العالم الإسلامي.

فهؤلاء هم أئمة الدين الإسلامي؛ أخذوه عن أصحاب النبي مباشرة ونشروه بين الناس، فشُحِنَتِ الكتب بآرائهم ومذاهبهم، واحترمها المسلمون من أول عهدهم إلى اليوم.

فإن كان صحيحًا ما قاله الدكتور طه حسين عن الموالي، وجب أن يكون المسلمون منذ ألف وثلاثمائة سنة إلى اليوم من الغفلة والغباوة والبلادة في الحضيض الأسفل؛ إذ أخذوا دِينهم عن قوم من الطراز الذي وصفه الدكتور طه حسين بإضماء الخصومة للمسلمين الأوَّلين، وبكراهة الإسلام وتفضيل المجوسية عليه … لا يقول بهذا عاقلٌ!

١  شغل مضمون هذا العنوان في كتاب الدكتور طه حسين الصفحات من ١٠٦ حتى ١١٧.
٢  ينظر: في الشعر الجاهلي ص١٠٦.
٣  السابق ص١٠٦، ١٠٧.
٤  السابق ص١٠٨.
٥  السابق ص١٠٩.
٦  ينظر ترجمة إسماعيل بن يسار، وموقف هشام منه في تجريد الأغاني ص٦٠٧ وما بعدها.
٧  ينظر: في الشعر الجاهلي ص١٠٩، ١١٠.
٨  توفي سنة ٧ﻫ. تنظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج٧ ص٣٤١.
٩  توفي نحو سنة ٣٥ق.ﻫ. تنظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج٤ ص٢٢٠.
١٠  توفي سنة ٢٥٠ق.ﻫ. تنظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج٥ ص٢٤٤.
١١  إياد: حيٌّ من مَعَدٍّ، والعِباد: قبائل شتى اجتمعوا على النصرانية بالحيرة. ينظر: القاموس المحيط [أ ي د، ع ب د].
١٢  ينظر: في الشعر الجاهلي ص١١١.
١٣  السابق ص١١٣.
١٤  «ذو قار: موضع ماءٍ بين واسط والكوفة. ويوم ذو [كذا] قارٍ من أيام العرب؛ تواقع فيه عرب وائل مع الفرس أوائل القرن السابع [الميلادي].» ينظر: المنجد في الأدب والعلوم، ص٢٠٨.
١٥  أي: تحولت.
١٦  ينظر: في الشعر الجاهلي ص١١٣، ١١٤.
١٧  أي: تحولت.
١٨  ينظر: في الشعر الجاهلي ص١١٤.
١٩  يراجع الأعلام للزركلي ج٧ ص٢٧٢.
٢٠  السابق ص١١٤، ١١٥.
٢١  السابق ص١١٦.
٢٢  السابق ص١١٦، ١١٧.
٢٣  أثخن في العدو: بالغ في قتاله. المعجم الوسيط [ث خ ن].
٢٤  أي: تحوَّلت.
٢٥  فعل ذلك الحُطيئة جرول بن أوس، [توفي سنة ٤٥ﻫ]. ينظر: الأعلام للرزكلي ج٢، ص١١٨، والمحاسن والمساوئ للبيهقي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار المعارف، القاهرة ١٩٩١م، ج١، ص٢٤٩–٢٥١.
٢٦  تسكع: تمادى، وتسكَّع في الباطل وفي الظلام وفي الضلال: تخبط. المعجم الوسيط [س ك ع].
٢٧  «إبراهيم بن يزيد [٤٦–٩٦ﻫ].» ينظر: الأعلام للزركلي ج١ ص٨٠.
٢٨  «عطاء بن أسلم بن صفوان [٢٧–١١٤ﻫ].» ينظر: الأعلام ج٤ ص٢٣٥.
٢٩  «طاووس بن كيسان [٣٣–١٠٦ﻫ].» الأعلام ج٣ ص٢٢٤.
٣٠  «مكحول بن أبي مسلم [ت١١٢ﻫ]» الأعلام ج٧ ص٢٨٤.
٣١  «يزيد بن سويد [٥٣–١٢٨ﻫ].» الأعلام ج٨ ص١٨٣.
٣٢  «ميمون بن مهران الرِّقِّي [٣٧–١١٧ﻫ] … استوطن الرقة — من بلاد الجزيرة الفراتية.»
٣٣  «البلخي الخراساني [ت١٠٥ﻫ].» الأعلام ج٣ ص٢١٥.
٣٤  «الحسن بن يسار البصري [٢١–١١٠ﻫ].» الأعلام ج٢ ص٢٢٦.
٣٥  وفيات الأعيان، ج٢ / ٤٠٢ ت الدكتور إحسان عباس، ط دار صادر بيروت، والنص هنا يحمل مضمون كلام ابن خَلِّكان.
٣٦  «[٣٤–١١٤ﻫ]» تنظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج٨ ص١٢٥.
٣٧  «نافع بن عبد الرحمن [ت١٦٩ﻫ]» الأعلام ج٨ ص٥.
٣٨  «البصري الأنصاري بالولاء، أبو بكر [٣٣–١١٠ﻫ]» الأعلام ج٦ ص١٥٤.
٣٩  «مجاهد بن جبر [٢١–١٠٤ﻫ]» الأعلام ج٥ ص٢٧٨.
٤٠  «أبو أيوب، مولى ميمونة أم المؤمنين [٣٤–١٠٧ﻫ]» الأعلام ج٣ ص١٣٨.
٤١  «العدوي العمري [ت ١٣٦ﻫ]» الأعلام ج٣ ص٥٦.
٤٢  «ابن عبد الله بن الهُدير [٥٤–١٣٠ﻫ]» الأعلام ج٧ ص١١٢.
٤٣  «ابن فروخ التيمي [ت ١٣٦ﻫ]» الأعلام ج٣ ص١٧.
٤٤  «عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان [١٠٠–١٧٤ﻫ]» الأعلام ج٣ ص٣١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤