الفصل الثالث

في خلافته وأعماله فيها

لما أحس أبو بكر بدنوِّ أجله رأى أن خير من يعهد إليه بخلافته هو عمر بن الخطاب؛ لِما عرف فيه من الإخلاص والإيمان والشرف والقوة، فاستدعى عثمان بن عفان، وأملى عليه كتابًا يعهد بالأمر بعده فيه لعمر، هذا نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن بها الكافر، ويتقي الفاجر، إني قد استعملتُ عليكم عمر بن الخطاب، فإن بَرَّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدَّل فلا علم لي بالغيب، والخيرَ أردتُ، ولكل امرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.» فلما مات أبو بكر واستُخلِف عمر صعد المنبر، فقال: إني قائل كلمات فأمِّنوا عليهن … وإنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.١

وأما أعمال عمر في الدولة بعد أن تولى أمورها، فنجملها فيما يلي:

(١) فتوح الشام

كان أول عملٍ دولي قام به أن كتب إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد في الشام،٢ وبعث إليه بكتاب قال فيه: «أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى سواه، هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمض بصرك عن الدنيا، وألهِ قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك؛ فقد رأيت مصارعهم.»٣ وأمر خالدًا أن ينضوي تحت لواء أبي عبيدة، فسمع وأطاع.
ثم خرج أبو عبيدة بجموعه حتى أتى مرج الصُّفر — وهو سهل يبعد عشرين كيلومترًا جنوبي دمشق شرقي طبرية — فعلم أن جمع الروم قد استقر في مدينة «فحل» فزحف نحوهم، وبينا هو في الطريق علم أن أهل دمشق استنجدوا بأهل حمص، فزحفوا إليهم وجمعوا للمسلمين جمعًا كبيرًا، فلم يدرِ بأي الجهتَين يبدأ، ولم يرَ بُدًّا من الكتابة إلى عمر فكتب إليه، وأقام بمرج الصفر حتى ورد عليه جواب عمر، وفيه يقول له: أمَّا بعدُ فابدءوا بدمشق فإنها حصن الشام، واشغلوا عنكم أهل «فحل» بخيل تكون بإزائهم، وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها، ودعوها وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تُغِيروا على «فحل»، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيلَ وعمرًا وأخلهما بالأردن وفلسطين وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته.٤

وما إن قرأ أبو عبيدة هذا الكتاب حتى سرَّح إلى «فحل» عشرة قواد، فساروا من «مرج الصفر» حتى نزلوا قريبًا من «فحل»، فلما رأت الروم أن المسلمين يريدونهم فجروا المياه حول «فحل»، فوحلت الأرض وتألم المسلمون لذلك أشد الألم، وضاقوا ذرعًا بما حل بهم من الحصار، وانقطعت أخبارهم عن المسلمين ووقعوا بين المياه والعدو.

وأما أبو عبيدة فإنه سار في اليوم السادس عشر من محرم سنة ١٤ﻫ/١٣ شباط سنة ٦٣٥م نحو دمشق فحاصرها، وكان على مقدمته عمرو بن العاص في تسعة آلاف فارس، ومن ورائه كتائب المسلمين، وعلى الساقة خالد بن الوليد وهو راية المسلمين «العقاب»، ولما وصلوا دمشق أحاطوا بها إحاطة السوار، وضيَّقوا الخناق على أهلها، ونزل عمرو بباب الفراديس، وشرحبيل بباب توما، وقيس بباب الفرج، وأبو عبيدة بباب الجابية (الباب الغربي)، وخالد بالباب الشرقي، ويزيد بن أبي سفيان بين بابي كيسان والصغير.٥

وكتب بطريق دمشق يستنجد بهرقل الروم — وهو من حمص — فأمدهم بفرسان ومشاة، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى دمشق، ولما أيقن أهل دمشق بالهلاك، وأن الأمداد لا تصل إليهم وهنت عزائمهم، وبخاصة حين قدم عليهم الشتاء واشتد البرد.

وقد اختلفت المصادر العربية والأجنبية في اسم بطريق دمشق وقائدها، فإن محمد بن إسحاق يذكر أن اسمه باهان٦ (فاهان)، ويقول سيف بن عمر: إن اسمه «نسطاس»،٧ ويقول الواقدي: إن اسمه «توما»، وهو صهر الملك هرقل، ويسمي رجلًا آخر هو «هربيس»، ولعله كان مساعد البطريق،٨ ويقول ابن خلدون: إنه «منصور بن سرجون»،٩ وكائنًا ما كان اسمه فإن القائد في ذلك الحين قد ضاق ذرعًا بالحصار العربي، ويئس من الأمداد البيزنطية أن تصل؛ لأن ذا الكلاع الحميري الذي بعثه أبو عبيدة ليقطع كل صلة بين أهل حمص من الروم وبين أهل دمشق تمكن من تشتيت الأمداد التي بعثها الحمصيون إغاثة لأهل دمشق، وأتى الصيف وأهل دمشق على حالتهم اليائسة.

وقد اختلفت روايات المؤرخين في الفتح وكيفية وقوعه، وشرائطه، فيقول سيف بن عمرو ومن تبعه من المؤرخين: إن نصف المدينة فُتح صلحًا على يد أبي عبيدة، والنصف الآخر فُتح حربًا، وإن خالدًا هو الذي دخل حربًا. وروى الواقدي: أن سكان دمشق لما رأوا ثبات المسلمين طلبوا من حاكمهم توما صهر هرقل — وكان في حمص — النجدة وإلا سلموا المدينة، فوعدهم بالمساعدة، ولكنه فشل، فطلب نفر منهم الصلح مع أبي عبيدة، فصالحهم ولم يعلم خالد بذلك. ويروي ابن عساكر روايةً ثالثة مؤداها أن أحد الرهبان صالح خالدًا على شروطه التي سماها له، وأن يزيد بن أبي سفيان دخل المدينة قسرًا، ويروي البلاذري أن بعض الرهبان خابر قومه واتفق مع خالد على أن يفتح له باب المدينة الشرقي، ففتحه ودخل المسلمون، وكان ذلك يوم عيد، أما أبو عبيدة فإنه دخل قسرًا من باب الجابية.

وكما اختلف المؤرخون في الفتح وكيفيته وشرائطه اختلفوا في وقته، فذهب بعضهم إلى أن دمشق فُتحت في أواخر سنة ١٣ﻫ، وقال آخرون: بل إنها فتحت في محرم سنة ١٤ﻫ، وذهب بعضهم إلى أن ذلك كان في رجب سنة ١٤ﻫ، وأن الحصار دام ستة أشهر، وقيل: بل أربعة أشهر، وقيل: بل سبعين يومًا.١٠

والذي نراه أن المدينة قد فُتحت صلحًا من جانب، وأن بعض القادة قد عقد الصلح معه بطريقها، ولكننا لا نستطيع أن نسمي القائد الرومي الذي تولى الدفاع عن المدينة، كما لا نستطيع أن نسمي القائد العربي الذي عقد الصلح لتضارب الأقوال في ذلك، وعدم وجود الأدلة الكافية التي تُرجِّح قولًا على قول، كما نرى أن جزءًا من المدينة قد أُخذ حربًا بدليل أمر قسمة الكنيسة الكبرى «الكاتدرائية» بين المسلمين وبين أهل المدينة؛ فقد أجمع مؤرخو المسلمين على ذلك بالرغم من معارضة بعض المستشرقين في هذا، ولكن لا حجة لهم، وإن شرائط التسليم التي كتبها خالد (أو أبو عبيدة) لأهل دمشق تُؤيد ما قلناه، وإليك نص الكتاب الذي كتبه أبو عبيدة على لسان أهل دمشق بمناسبة عقد الصلح نقلًا عن ابن عساكر:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا، وإنا اشترطنا لك على أنفسنا ألا نُحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسةً ولا ديرًا ولا قلايةً ولا صومعة راهب، ولا نُجدِّد ما تهدَّمَ من كنائسنا ولا شيئًا مما كان في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم على من غش المسلمين، وعلى ألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا، ولا نُظهِر الصليب عليها، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا، ولا نخرج باعوثًا ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا بموتانا، ولا نُظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نُظهر شركًا في نادي المسلمين، ولا نُرَغِّب مسلمًا في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا، وألا نتخذ شيئًا من الرقيق الذين جرت عليه سهام المسلمين، ولا نمنع أحدًا من قرابتنا إن أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم ديننا حيثما كنا، ولا نتشبَّه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نتسمَّى بأسمائهم، ونجزُّ مقادم رءوسنا، ونفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا يُنقَش في خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئًا من السلاح، ولا نجعله في بيوتنا، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقِّر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوها، ولا نطَّلع عليهم في منازلهم، ولا نُعلِّم أولادنا القرآن، ولا نُشارك أحدًا من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة، وأن نُضَيِّف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد، ونطعمه فيها ثلاثة أيام، وعلينا ألا نشتم مسلمًا، ومن ضرب مسلمًا فقد خلع عهده.

ضمنا بذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وإن نحن غيَّرنا أو خالفنا عما اشترطنا لك وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حلَّ لك منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق، على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، فأقِرُّونا في بلادكم التي وَرَّثكم الله إياها، شهد الله على ما شرطنا على أنفسنا، وكفى بالله شهيدًا.»١١
وبعد أن تم عقد الصلح وكتابة عهده أخذ المسلمون يرتبون أمورهم لمقابلة الجيش البيزنطي الذي تجمع في جنوبي سورية عند بحيرة الحولة بقيادة تيودوروس أخي هرقل، أما عدد هذا الجيش فقد اختلفت الروايات فيه بين المائتي ألف جندي والمائة ألف، والخمسين ألفًا، والثلاثين ألفًا،١٢ وقد ظل هرقل يجمع قواه هذه طوال الشتاء حتى إذا ما جاء الربيع عام ٦٣٦م/١٤ﻫ التقى الجمعان في جنوب شرقي اليرموك عند سهل الياقوصة، وكان عدد جيش المسلمين يتراوح بين أربعة وعشرين ألف مقاتل، وأربعين ألف مقاتل، وقد اشتد القتال بين الطرفين وطال أمده حتى انضم نصارى العرب الذين كانوا يحاربون في صفوف البيزنطيين إلى جانب إخوانهم العرب المسلمين، وتم النصر للمسلمين في رجب عام ١٥ﻫ/آب سنة ٦٣٦م وتمزق الجيش البيزنطي شذر مذر، وهرب هرقل إلى أنطاكية.
وانشطر الجيش الإسلامي شطرين: واحدًا اتجه نحو الشمال، وآخر اتجه نحو الجنوب إلى قيسارية والرملة وإيلياء (القدس)، أما الجيش الشمالي فإنه أتى دمشق وفتحها الفتح الثاني؛ لأن أهلها عادوا فأعلنوا العصيان، ثم سار الجيش بقيادة أبي عبيدة ومعه خالد بن الوليد نحو حمص، فحاصرها ثم صالحه أهلها على صلح أهل دمشق،١٣ ثم بعث أبو عبيدة خالدًا إلى قنسرين، فلما نزل بحاضرها زحف إليهم الروم تحت زعامة منياس، فقاتلهم خالد قتالًا عظيمًا حتى قتل منياس، وأرسل أهل الحاضر إلى خالد يخبرونه أنهم عرب وأنهم إنما حُشروا حشرًا مع الروم، وأنهم لم يكن الحرب من رأيهم، فقبل منهم وتركهم، وتم لخالد في قنسرين النصر العظيم في سنة ١٥،١٤ وبلغت أخبار هذا النصر مسامع الخليفة عمر فقال: أمَّرَ خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال.

ولما أتم خالد فتح قنسرين وحلب صعد يريد فتح سائر مدن الشمال، كمنبج، وأنطاكية، وكانت حصن المسيحية الأعظم، كما توجهت الجيوش نحو مدن الجزيرة، ففتحت الرها ونصيبين وبلاد أرمينية، وهكذا تم الاتصال بين فتوح الشام وفتوح العراق، وأما الجيش الجنوبي — وكان بقيادة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة — فإنه سار نحو بيسان والأردن، وبعد أن استولى على تلك الديار اتجه نحو الجيش الإسلامي المرابط في فلسطين بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وكان الخليفة قد كتب إلى معاوية يقول له: «أمَّا بعدُ فإني قد ولَّيتك قيسارية، فسِر إليها واستنصِر الله عليهم، وأكثِر من قول لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا نعم المولى ونعم النصير.» وكان معاوية قد سار إلى قيسارية، وهي أعظم الثغور وقتئذٍ، فحاصرها واشتد القتال بينه وبين صاحبها، وأبلى المسلمون بلاءً عظيمًا حتى تم له الفتح، ثم سار نحو عمرو بن العاص بعد أن فتح نابلس وعسقلان وغزة، وتجمعت الجيوش الإسلامية حول القدس فحاصرت بطريقها «سفرونيوس»، وضيَّقَت عليه الخناق، ودام الحصار أربعة أشهر لقي فيها الروم الأذى الشديد والجوع والعطش، ثم تكاتب بطريق القدس وعمرو بن العاص في شرائط الصلح، وخاف الروم على الكنيسة العظمى، وطلب البطريق أن يباشر عقد الصلح مع الخليفة نفسه، فكتب عمرو إلى عمر يستدعيه إلى القدس، وكان عمر وقتئذٍ بالجابية، فقدم إلى القدس ودخلها وصالح أهلها، وكتب لهم كتابًا أورد لنا الطبري نصه حيث يقول:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بِيَعهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة.»١٥
وهذا النص يؤيد أن فتح القدس كان في أواخر سنة خمس عشرة، وقيل: بل كان ذلك في أوائل سنة ست عشرة،١٦ وبفتح القدس (إيلياء) وقيسارية (قيصرية) ودمشق اضمحلَّ السلطان الرومي في سورية، فهرب من هرب من أهلها مع الروم إلى آسية الصغرى، وقُضيَ على الدولة البيزنطية في الشام كله بعد أن فقدت عددًا كبيرًا من أبطالها وقادتها، وبخاصة يوم اليرموك وأجنادين، وقد توج هذه الفتوح حضور عمر وعقده صلح القدس المُشرِّف للإسلام المحافظ على كيان المسيحية وتقاليدها، وقد أشاد بهذا الحدث كثير من شعراء العصر، فمن ذلك قول زياد بن حنظلة:
تذكرت حرب الروم لما تطاولت
وإذ نحن في عام كثير نزائله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا
مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده
يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها
سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صواله
أتوه وقالوا: أنت ممن يواصله
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها
وجيشًا خصيبًا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب
مواريث أعقابٍ بنتها قرامله

وقال أيضًا:

سما عمر لما أتته رسائل
كأصيدَ يحمي حرمة الحي أغيدا
وقد عضِلت بالشام أرض بأهلها
تريد من الأقوام من كان أنجدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم
بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذي
أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسَّط فيما بينهم كل جزية
وكل رفادٍ كان أهنا وأحمدا١٧

(٢) فتوح العراق

خلفنا الفتوح الإسلامية في العراق على عهد الصديق، تنتهي في الجزيرة الفراتية على يد سيف الله خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة، ورأينا أن الصديق قد كتب إلى خالد أن يترك العراق وينجد الجيش الإسلامي في الشام، فخلَّف المثنى بن حارثة في الجزيرة وسار نحو الشام، وكان من أمره ما كان.

أما المثنى فإنه اتخذ الحيرة مقره، وأخذ يُجيِّشُ فيها الجيوش، ويُهيِّئها للمعركة الكبرى التي علم بأن الفُرس قد استعدوا لها أيما استعداد، فكتب إلى الخليفة يستمده، فندب الخليفة الناس للذهاب إلى أهل فارس ومعاضدة جيش المثنى بن حارثة الشيباني في العراق، وخطبهم خطبة أثارت غيرتهم وحماستهم قال فيها: «أيها الناس، إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين الطراء يهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فإنه قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، والله مُظهِر دينه ومُعز ناصره، ومولي أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون …»

فكان أول منتدب أبا عبيد بن مسعود، ثم سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، فبعث عمر أبا عبيد قائدًا على الجيش، وأوصاه أن يسمع لأصحاب رسول الله، ويشركهم في الأمر، ولا يجتهد مسرعًا حتى يتبيَّن، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة، وسار أبو عبيد حتى أتى المثنى، فسارا جميعًا حتى التقوا بالجيش الفارسي الذي يقوده «جابان» عند الخارق، وكان قتالٌ شديد بين الطرفين، وهزم الله الفُرس وأُسِر «جابان»، وقسم أبو عبيد الغنائم، وبعث بالأخماس إلى الخليفة، ثم قصد أبو عبيد «كسكر» وعليها «نرس»، وبينما هو في الطريق عند «السقاطين» لقيه جمع من الفُرس، فقاتلهم وهزمهم، وغنم منهم غنائمَ كثيرة فيها كثير من الأطعمة، وسار نحو «كسكر» فالتقى بالقائد «نرس» وقاتله أشد قتال حتى اضطره إلى الهرب، وخلف خلفه خزائن وأموالًا جسيمة وأطعمةً كثيرة، فاستولى على ذلك، وبعث بالخمس إلى الخليفة وكتب إليه: «إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يجمعونها وأحببنا أن تروها، ولتذكروا إنعام الله وأفضاله.» ثم سرح أبو عبيد المثنى إلى «باروسما» فهزم من تجمع منها، وأخرب وسبى وغنم، ولما عظمت نكبات الفُرس استمدوا «بوران»، وكانت على العرش، فأمدَّتهم بالجالينوس — وهو من صناديد أبطالهم — في جيشٍ كبير، وسار الجالينوس نحو «باقسياتا»، فهلَّ له أبو عبيد في جمع من المسلمين وهزم «الجالينوس»، وتم النصر لأبي عبيد، وفي ذلك يقول عاصم بن عمرو:

صبحنا بالبقايس رهط كسرى
صبوحًا ليس من خمر السواد
صبحناهم بكل فتًى كمي
وأجردَ سابحٍ من خيل عاد

ولما تتابعت الهزائم على الفُرس وضاق «رستم» بهذا الفشل المريع، عزم على أن يضرب المسلمين ضربةً قاسية، فجيَّش جيشًا هائلًا عقد لواءه لبطل من أبطالهم، هو: «بهمن جاذويه» المعروف بذي الحاجب، ومعه الجالينوس وسائر أبطال الفُرس، وعدد كثير من الفيلة، وفي المقدمة راية كسرى العظمى المعروفة «بدرفش كابيان»، وسار الفُرس حتى بلغوا شاطئ الفرات عند «قس الناطق».

وكان أبو عبيد معسكِرًا على شاطئ الفرات عند المروحة قرب «البرج» و«العاقول»، فبعث بهمن يخبر أبا عبيد أن يعبر أحدهما إلى صاحبه، فقال أبو عبيد: نحن نعبر إليكم، ولم يُوافق قُوَّاد المسلمين على العبور، وأشاروا على أبي عبيد أن يدعوهم إلى العبور، فقال لهم: لا يكونوا أجرأ منا على الموت، بل نعبر إليهم. فعبروا إليهم، واشتد القتال بين الجيشين، وأسرعت السيوف في أهل الفرس، وأصيب منهم عددٌ كبير، ولم يبقَ بين المسلمين وبين النصر إلا القليل — على الرغم مما لقوا من الفيلة — ولكن أحد الفيلة تمكن من أبي عبيد فقتله، وأخذ اللواء نفر كان سماهم أبو عبيد قبل دخول المعركة إن أصابه شيء، إلى أن أخذ اللواء المثنى، وكان الناس قد هربوا، فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ذلك بادر إلى الجسر فقطعه وقال: أيها الناس، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، فانتهى إليه الناس وسيوف الفرس تأخذهم من ورائهم، وغرق في الفرات من لم يصبر على الماء، وحمى المثنى من لقي من فرسان المسلمين، وهلك من المسلمين يومئذٍ أربعة آلاف ما بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقي ثلاثة آلاف، وجُرح المثنى، وانهزم بعض المسلمين حتى أتوا المدينة واستخفى بعضهم بين القبائل، وبعث المثنى بالخبر إلى عمر فاشتد حزنه على ذلك، ولكنه لم يتخاذل، بل أخذ يشجع الناس ويُسَكِّن الهاربين ويُلاطفهم ويقول لهم: لا تجزعوا أيها المسلمون، أنا فئتكم إنما انحزتم إليَّ، ولم يتمكن الفرس من استثمار ذلك النصر الذي أحرزوه، فإنهم لم يتعقَّبوا فلول المسلمين؛ لأن بعض الثورات الداخلية كانت قد نشبت في بلادهم وثار الناس في المدائن على رستم، وانقسموا قسمين، فاضطر «بهمن جاذويه» على أن يرجع بجنده إلى المدائن.

أما عمر فإنه أخذ يفكر في طريقة لمحو آثار هذه الهزيمة النكراء التي مُني بها الجيش الإسلامي، فأخذ يحثُّ الناس على السفر إلى العراق للانضمام إلى المثنى بن حارثة، ولكنه لقي في ذلك عنتًا وحرجًا، وحين أراد أن يبعث بني بجيلة سار زعيمها جرير بن عبد الله وهو مُكرَه، فإنه كان يُفضِّل السير إلى الشام، ولكن عمر ترضَّاه وقومه بربع الخُمس استصلاحًا لهم مع نصيبهم من الفيء، ثم بعث بني ضبة بزعامة عصمة بن عبد الله، فساروا جميعًا للعراق إمدادًا للمثنى.

وكتب عمر إلى أهل الردَّة من بني عبد القيس وغيرها ممن لم يكن يُسمح لهم بالجهاد أن يخرجوا إلى العراق، فسارت جموع كثيرة منهم حتى أتت المثنى، فسار بهم حتى أتى «البويب» في المكان الذي بُنيت فيه الكوفة بعدئذٍ، والتقى الجمعان في رمضان سنة ١٣ﻫ، وأظهر المثنى دربةً فائقة، فتغلب المسلمون على الفُرس، وقُتل «مهران» قائدهم وجمع كبير جدًّا من الفرس، واطمأنَّ المسلمون إلى هذا النصر الكبير الذي عوَّضوا فيه انكسارهم «يوم الجسر»، وانتقم المسلمون من الفرس حتى سُمي هذا اليوم: «يوم الأعشار»؛ فقد أُحصي فيهم مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة رجال في المعركة، عدا من قتل تسعة أو ما دونها، وعُدَّ يوم البويب نصرًا عظيمًا، لا لأنه غسل عن المسلمين عار يوم الجسر، ولا لأنه قهر الفرس القهرة الكبرى، بل لأنه مكَّن المسلمين من السيطرة على السواد كله، وصار لهم ما بين دجلة والفرات يتصرفون فيه تصرُّف الفاتح المسيطر، وأخذوا يُهيِّئون أنفسهم لغزو بلاد العراق العجمي وفارس، قال الطبري: «لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدًا، ولا يلقون فيها مانعًا.»

ولما بلغت أخبار هذا النصر آذان الخليفة استبشر بذلك، وأراد أن يُعزِّز الجيش الإسلامي في العراق بقائدٍ آخر وعدد من الدُّهاة، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص — وكان على صدقات هوازن في نجد — أن يقدم إلى المدينة، فأمَّره على حرب العراق، وأوصاه فيما أوصاه بقوله: «يا سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي عليه منذ بُعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنه الأمر، هذه الوصية إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.»

ثم بعثه إلى العراق في أربعة آلاف، فلم يصل سعد وجنده إلى العراق حتى وجد أن المثنى قد مات متأثِّرًا بجراحه التي كان جُرحها يوم الجسر فانتفضت عليه ومرض، فاستخلف بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعد «زرودا» توفي المثنى، فكتب عمر إلى سعد أن يتوجه إلى «القادسية»، وأخذ يوالي إرسال النجدات والبعوث إليه حتى بلغ عدد جيش المسلمين بضعة وثلاثين ألفًا، كثير منهم من ربيعة، وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، فلم يدع رئيسًا ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيبًا ولا شاعرًا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم، وكانت ربيعة تُسمى في الجاهلية: ربيعة الفرس، فسمتها العرب ربيعة الأسد، وكان العرب في جاهليتهم يقولون: «فارس الأسد»، فأطلقوا ذلك على ربيعة، وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي، والترجمان هلال الهجري، والكاتب زياد بن أبي سفيان، وكان فيهم سبعون بدريًّا وستمائة وبضعة عشر صحابيًّا، وسبعمائة من أبناء الصحابة، وكتب عمر إلى سعد كتابًا يقول فيه:

«أمَّا بعدُ فسِر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعِن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلدٍ منيع، وإذا انتهيت إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي جمع تلك الأبواب لمادتهم ولما يريدونه من تلك الآصل، وهو منزلٌ رغيبٌ خصيبٌ حصين، دونه مناظر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر والجراع بينهما، ثم الزم مكانك فلا تبرحه.»

ثم كتب إليه رسالةً أخرى يقول له فيها:

«… اكتب إليَّ أين بلغك جمعهم، ومَن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخَف الله وارجُه.»

فكتب إليه سعد بصفة البلدان الفارسية بين «الخندق» و«العتيق»، وأن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقَين، فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يُدعى الحضوض، يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وأن ما عن يمين «القادسية» إلى «الولجة» فيض من فيوض مياههم، وأن جميع من صالح المسلمون من أهل السواد قبلي إلب لأهل فارس قد خفوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدد لمصادمتنا رستم. فكتب إليه عمر:

«قد جاءني كتابك وفهمته، فأقِم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن، فإنه خرابها إن شاء الله.»

فأقام سعد في القادسية شهرًا لا يأتيه من الفُرس خبر، فبعث سراياه بين «كسكر» و«الأنبار»، فأغارت على من ليس لهم ذمة أو عهد ومن غدر بالمسلمين من أهلها، فأرسل أهل السواد إلى «يزدجرد» ملك الفُرس يخبرونه بما عند المسلمين من القوة والعدد، واستنجدوه، وأنه إن تأخر عن نجدتهم ألقوا بأنفسهم للعرب، فأرسل رستم وأمره أن يستعدَّ للقاء المسلمين، وأمره أن يسير من فوره، فسار رستم وهو مُكرَه؛ لأنه كان من رأيه أن يُطاول الفُرس حتى يهنوا ويضعف أمرهم، وخرج رستم حتى عسكر «بساباط»، وبلغت أخباره سعدًا، فكتب بذلك إلى عمر فأجابه بكتاب يقول له فيه:

«لا يكربنك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث رجالًا من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينًا لهم.»١٨

فأرسل سعد جماعة من الأشراف العقلاء منهم النعمان بن مقرن، وقيس بن زرارة، والأشعث بن قيس، وعاصم بن عمرو، وفرات بن حيان، وعمرو بن معديكرب، والمغيرة بن شعبة يدعون رستم، فلما وصلوا المدائن ودخلوا على «يزدجرد» سألهم عما جاء بهم، ودعاهم إلى غزو الفُرس، فقال النعمان بن مقرن: «إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولًا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلا قاربه منها فرقة وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا، فدخلوا معه على وجهَين: مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسَّن الحسن، وقبَّح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخرَ شرٍّ منه الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.» فقال يزدجرد: «إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم؛ فقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغركم منا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.» فقام قيس بن زرارة، فقال: «أما ما ذكرت من سوء الحال، فكما وصفتَ وأشد، ثم ذكر شيئًا من عيش العرب ورحمة الله لهم بإرسال النبي كما قال النعمان، ثم قال … اختر إما الجزية وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنجِّ نفسك بالإسلام.» فقال يزدجرد: «لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي.»

ثم استدعى بوقر من تراب، وقال لجنده: احملوه على ظهر أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، فقام عاصم بن عمرو فقال: أنا أشرفهم، وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له: أبشر، فوالله قد أعطانا الله إقليد ملكهم، ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل الذي قيل إنه بلغ مائة ألف أو يزيدون من «ساباط»، فلما بلغ «كوثى» لقيه رجل من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله، أرضكم وأبناءكم إن أبيتم أن تُسلموا، قال رستم: فإن قُتلتم قبل ذلك؟ قال: من قُتل منا دخل الجنة، ومن بقي أنجزه الله وعده، فنحن على يقين، فقال رستم: قد وضعنا إذًا في أيديكم، قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل الإنس، إنما تجادل القضاء والقدر، فاستشاط وأمر فضُرِبَتْ عنقه، وخرج رستم من «كوثى» حتى نزل «بُرس»، فأخذ جنده يغصبون أموال الناس، ويقعون على النساء، ويشربون الخمور، حتى ضجَّ الناس واشتكوا إلى رستم، فخطب جنده وقال لهم فيما قال: «والله لقد صدق العرب، والله ما أسلَمَنا إلا أعمالنا والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكِّن لكم في البلاد بحسن السيرة وكفِّ الظلم والوفاء بالعهود والإحسان، فأما إذا تحولتم عن ذلك لهذه الأعمال، فلا أرى الله إلا مغيِّرًا ما بكم، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم.» ثم بعث الرجال فأتوه من اشتكي منه فضرب أعناقهم، ثم سار حتى نزل حيال «النجف» قرب «الخورنق»، ودعا أهل «الحيرة» فأوعدهم وهددهم، فقال ابن بقيلة أميرها: لا تجمع علينا اثنتين أن تعجز نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا، فسكت.

ثم إن سعدًا بعث عمرو بن معد يكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا طويلًا حتى رأوا العدو منتشرًا على الطفوف والبقاع، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل ماشيًا حتى دخل بين العدو وعلم خبره، ورجع إلى سعد، فأخبر خبر القوم وأحوالهم، ثم إن رستم سار بجيوشه من أرض «الحيرة» حتى نزل «القادسية» عند «العتيق»، وهو جسر القادسية، وليس بينهم وبين المسلمين إلا النهر، وكان مع الفُرس ثلاثة وثلاثون فيلًا: ثمانية عشر فيلًا مع رستم، وخمسة عشر فيلًا مع الجالينوس، منها فيل سابور الأبيض.

ثم إن رستم بعث إلى سعد أن أرسل إلينا رجلًا نكلمه، فبعث إليه ربعي بن عامر، فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب، بُسِطَت النمارق والزرابي من حوله، والوسائد المُذَهَّبَة والأبسِطة المزركشة تحيط بمجلسه، فأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة بالية، ورمحه مشدود بعصب، فلما انتهى إلى البساط الكسروي وطئه بفرسه، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل بينهما، ثم أخذ عباءة فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه فأبى، وقال: لو أتيتكم فعلت ذلك بأمركم، ولكنكم أنتم دعوتموني، ثم أقبل يتوكَّأ على رمحه ويقارب من خطوه ويسير بخُيلاء حتى دخل على رستم، فلما دنا منه جلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله جاء بنا لنُخرج من شاء من العباد إلى عبادة الله، من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه، يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضِي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحب إليكم أيومًا أو يومين؟ قال: بل حتى نُكاتب أهل رأينا ورؤساءنا، فقال: إن مما سنَّ لنا رسول الله وعمل به أئمتنا ألا نُمكِّن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونَكُف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيًّا تركناك، وإن كنت محتاجًا إليه منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي وعلى جميع من ترى، قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم.

ثم خلا رستم برؤساء قومه، فقال: ما ترون؟ هل رأيتم كلامًا قط أوضح ولا أعزَّ من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى ثيابه؟ فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الكلام والرأي والسيرة، إن العرب لتستخِفُّ باللباس والمأكل، وينظرون إلى الأعمال ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، فلما كان الغد بعث رستم إلى سعد أن أرسل إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حُذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي حتى وقف أمام رستم وهو على عرشه، فقال له: أين صاحبنا الذي جاء بالأمس؟ فقال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، فهذه نوبتي، ثم كلمه بمثل ما تكلم به ربعي، ثم ذهب، فلما كان اليوم الثالث طلبوا شخصًا يكلمونه، فبعث إليه سعد بالمغيرة بن شعبة، فلما قدم عليه دخل وجلس معه على السرير، فوثبوا عليه وأنزلوه، فقال: ويحكم! كانت تبلُغنا عنكم الأحلام ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا إلا أن يكون محاربًا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمتُ أن أمركم مضمحِلٌّ وأنكم مغلوبون، وأن مُلكًا لا يقوم على هذه السيرة، ثم تكلم بكلامٍ طويل شبيه بما قاله أخواه السابقان وذهب، فخلا رستم بقومه وتذاكروا طويلًا، ثم أجمعوا على الحرب والمنابذة، وأن يعبروا نهر العتيق، فعبروا.

وعبَّأ «رستم» جيشه وجعل بينه وبين «يزدجرد» بريدًا يخبره بالحوادث توًّا، وعبَّأ سعد جنده وأرسل القُصَّاص يحضون الناس على الاستشهاد في سبيل الله، وأمرهم بقراءة «سورة الأنفال»، وخطبهم سعد فقال: الزموا مصافَّكم، فإذا صليت الظهر فإني مُكبِّر، فإذا كبَّرت فكبِّروا واستعدوا، وإذا كبرت الثانية فكبروا والبسوا عدتكم، وإذا كبرت الثالثة فكبروا ونشِّطوا الناس، وإذا كبرت الرابعة فارجعوا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم» وكان ذلك في محرم سنة ١٤ﻫ، فلما كبر سعد تكبيرته الرابعة خرج أهل النجدات ونشب القتال وعظم جهاد المسلمين، فأبلوا أحسن البلاء، ولم يكن أشد عليهم من الفيلة، فدارت رحى الحرب على بني أسد والفيلة تفتك بهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو زعيم بني تميم أن ينظر حيلة للفيلة، فنادى رماة قومه فقال لهم: افقئوا أعين الفيلة عنهم بالنبل، وقال لآخرين: استدبروا الفيلة فاقطعوا وضنها — حازم أقتابها — ففعلوا ذلك، وصاحت الفيلة، فقُتل أصحابها، واستمرت المعركة إلى أن غربت الشمس، فانفضَّ الجيشان، وكان هذا اليوم أول يوم من أيام القادسية، ويُسمى «يوم أرماث»، وتُسمى ليلته «ليلة الهدأة»؛ لأنه لم يحصل فيها قتال، وعُني سعد في الليل بالجرحى، فوكل بهم من يواسيهم ويداويهم، وبالقتلى من يدفنهم، ولما أصبح الصباح عبَّأ جيشه كما كان بالأمس، وبينما كان يهيئ جنده للزحف رأى مددًا أقبل عليه من عند أبي عبيدة عامر بن الجراح بأمر عمر بن الخطاب، وكان على المدد هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الملقب بالمرقال، ومعه القعقاع بن عمرو، فضُربت بذلك حقوب المسلمين، ولم يكد القعقاع يصل حتى برز يطلب النزال، فنزل إليه ذو الحاجب صاحب وقعة الجسر، ونادى يا لثارات أبي عبيد وأصحاب الجسر، ثم تضاربا فقَتَل القعقاعُ ذا الحاجب، واستبشر المسلمون بقتله، ثم حمِيَ الوطيس وألبس المسلمون إبلهم الأقتاب المجلَّلة المرقعة يتشبهون بالفيلة، فلقيت فيها خيل الفرس ما لاقت خيول المسلمين من الفيلة، وأظهر القعقاع في ذلك اليوم جرأةً رائعة، واستمر القتال إلى منتصف الليل، وتُسمى هذه الليلة «الليلة السوداء»، ويُسمى يومها «يوم أغواث»، وهو اليوم الثاني من أيام القادسية.

وفي الصباح زحف المسلمون يتقدمهم المرقال، وانتدب سعد القعقاع لقتل الفيل الأبيض الأكبر، كما انتدب آخرين لقتل الفِيَلة الأخرى وفقء عيونها، وحمي الوطيس واشتدت المعركة وقُتل من الجانبين جمعٌ كبير، ولكن الغلبة كانت للمسلمين، وقد أبلى فيها بنو أسد خير البلاء، واستمر القتال إلى ساعةٍ متأخرة من الليل بل إلى الصباح، وكان القعقاع يُنادي: إن الدائرة تكون لمن صبر ساعة، فاصبروا ساعة فإن النصر لمن صبر، واستمر القتال إلى الظهيرة، فأخذت كفة المسلمين ترجح، وأخذ الفُرس يتقهقرون، وكان أول من زال عن موضعه من قواد الفرس «الهرمزان» و«الفيرزان»، ثم حمل هلال بن علقة بنفسه على القلب حيث رستم، فاستطاع أن يصل إليه ويقتله، فلما رأى قومه ذلك أخذوا يتسلَّلون ويهربون وينهزمون، وأخذ ضرار بن الخطاب الراية الفارسية العُظمى «درفش كابيان»، وانتهى اليوم والنصر معقود لواؤه للمسلمين، ويُسمى هذا اليوم «يوم عُماس»، وليلته «ليلة القادسية»، وبعد تمام الهزيمة وتضعضُع الجند الفارسي أمر سعد بجمع الأسلاب والغنائم، وكانت لا تكاد تُحصَر، فقسمها سعد كما أمر الله، وهنَّأ الجند الإسلامي بهذا الفوز الباهر، وكتب إلى عمر يُبشره ويبعث إليه بالخُمس، وكان عمر يخرج كل يوم إلى ضواحي المدينة يتنسَّم الأخبار حتى يرُدَّه حرُّ الظهيرة، فلما جاءه البشير لاقاه عمر وهو يسير سيرًا حثيثًا، فسأله عمر: من أين؟ فأخبره الرجل أنه آتٍ من قِبل سعد، فقال: يا عبد الله، حدثني، فقال: هزم الله المشركين، وعمر يخبُّ وراءه والرجل لا يعرفه حتى دخل المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، فقال البشير: هلَّا أخبرتني رحمك الله يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لا بأس عليك يا أخي، وكان في كتاب سعد إلى عمر قوله:

«أمَّا بعدُ فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتالٍ طويل، ونزالٍ شديد، وقد لقوا من المسلمين ما لم يرَ الراءون مثله، فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتَّبعهم المسلمون على الأنهار وعلى ضفاف الآجام وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم الله بهم عالم كانوا يدوون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل دويَّ النحل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود، ولم يَفْضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تُكتب لهم.»

وكانت هذه المعركة هي المعركة الفاصلة للفتح الإسلامي في بلاد فارس، وقد قُتل فيها من أبطال فارس ورجالاتهم عدد عظيم، وأقام سعد بعدها بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر حتى جاءه الأمر بالسير إلى المدائن وفتحها، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند يحوطهم، وأمره أن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالهم، ففعل. ثم سار سعد بالجيش يتتبع فلول المنهزمين عند «بروس»، ففتحوها وهزموا مَن فيها، ثم ساروا نحو «بابل» ففتحوها وهزموا مَن فيها أيضًا، وهرب «الهرمزان» إلى الأهواز، و«الفيرزان» إلى نهاوند.

ثم سار سعد فافتتح «كوثى» و«ساباط» وساروا نحو «المدائن»، ولما رأوا إيوان كسرى تذكروا وعد رسول الله لهم بفتح إيوان كسرى، فقويَت قلوبهم، ونادى ضرار بن الخطاب: الله أكبر، هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الله وصدق رسوله، وكبَّر وكبَّر المسلمون، وحاصر سعد المدينة في ذي الحجة من سنة ١٤ﻫ، وكتب إلى عمر يبشره ويخبره ويستشيره في أمر فلاحي السواد، فجمع عمر أهل الشورى من المسلمين في المسجد، وخطبهم فقال: «إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه، ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع وينتهِ إلى الشرائع ويلزم سبيل النهج ابتغاء ما وعد الله لأهل الطاعة أصاب أجره وظفر بحظه، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيما زعم أنه استُكرِه وحُشِر، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئًا ولم يحل، وفيمن استسلم؟» فأجمعوا على الوفاء لمن أقام وكفَّ ولم يزده غلبه إلا خيرًا، وأن من ادَّعى فصدق أو وفَّى فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا دعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم، ولم يعطوا إلا القتال، وأن يُخيِّروا من أقام واستسلم بهذا الجزاء والجلاء.

فكتب عمر إلى سعد بذلك، فخلى سعد عن الفلاحين، وأرسل إلى الدهاقين، ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة، فتراجعوا إلى ديارهم، ولم يبقَ غربي دجلة سوادي إلا دخل ذمة المسلمين، وفرح الأعاجم بذلك، ولما اشتد الحصار على المدائن القريبة نزلها «يزدجرد» ولحق بالمدائن الشرقية، فرأى سعد أن يعبر النهر، فعبره هو وجمع من أبطال المسلمين، فلما رأى الفُرس ذلك اضطرب يزدجرد، ورأى أن لا مفر له من الهرب والنجاة بنفسه، فقصد حلوان، ودخل سعد وإخوانه المدائن، وحلوا في القصر الأبيض، فصلى فيه، وقرأ قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ.

ثم أخذ يجمع الأسلاب والغنائم، وأصاب الفارس اثني عشر ألفًا، وصارت المدائن قاعدة الأعمال الحربية في العراق والمشرق، وأُقيمت فيها أول جمعة في صفر من سنة ١٦ﻫ، وبعث سعد بالأخماس وذخائر كسرى إلى عمر، ومنها بساط كان لكسرى طوله ستون ذراعًا في ستين، ونفائس أخرى كثيرة، وأفاء الله على المسلمين ما كان لكسرى ولآله، وما كان في بيوت النيران، وبعث عمر إلى سعد بولاية الصلاة على كل مسلم من ملل فارس، وولَّى على الخراج النعمان بن مقرن على ما سقتْ دجلة، وولى أخاه سويدًا على ما سقى الفرات، ثم استعفياه، فولَّى على ذلك حذيفة بن أُسَيد، وجابر بن عمرو المزني، ثم عزلهما، وولَّى عملهما حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف.

ثم أخذ سعد يتبع فلول الفرس الذين لجئوا إلى «جلولاء» وقد تحصنوا بخندقها، فهجم عليه القعقاع في صفر من سنة ١٦ﻫ فقاتلهم قتالًا مريرًا وفتك بهم، فهرب قادتهم إلى «خانقين» فتبعهم المسلمون، وعلم سعد أن يزدجرد ترك «حلوان» إلى «الري»، فبعث من احتل «حلوان» وفتح «نينوى» و«الموصل»، وهكذا سيطر سعد على العراقين العربي والعجمي، وانحصر الفُرس في بلادهم، فكتب سعد إلى عمر يسأله في لحاق الفرس إلى داخل بلادهم، فكتب إليه عمر ينهاه عن التوغل، وقال له في كتاب: «وددت أن بين السواد والجبل سدًّا حصينًا من ريف السواد؛ فقد آثرت سلامة المسلمين على الفيء والأخماس.» ثم بلغ سعدًا أن جمعًا عظيمًا من الفُرس تجمعوا للقائه بسهل «ماسبذان»، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب الفهري، فشتت شملهم وأقام بماسبذان مرابطًا، وراح سعد يرتب أمور السواد ويتمم تخطيط الكوفة، كما سنرى تفصيله بعدُ.

(٣) في فتوح إيران

كانت أول هجمةٍ عربية على أراضي القادسية هي محاولة العلاء بن عبد الله الحضرمي أمير البحرين الذي تولاها أيام الرسول وأبي بكر وعمر، فإنه لما رأى فتوح سعد بن أبي وقاص في العراق أراد هو أن يوجِّه إليهم بجند يغزونهم من البحر، فبعث ثلاث فرق لفتح الخليج الفارسي، على إحداها الجارود بن المعلى العبدي، وعلى الثانية السوار بن همام، وعلى الثالثة خليد بن المنذر بن ساوى، ولكن مما يؤسَف له أن هذا العمل كان نوعًا من المغامرة التي لم يستشر فيها الخليفة عمر؛ فقد كان يرهب البحر على العرب، ولا يرى أن يغامر العرب في الدخول إليه والمحاربة فيه، ولما سارت سفن المسلمين نحو «برسوبوليس» لقيهم الفُرس في جمعٍ عظيم، وحالوا دون وصول المراكب الإسلامية إلى الميناء، فقام خُليد في الناس فقال: أمَّا بعدُ فإن الله إذا أراد أمرًا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم والسفن والأرض لمن غلب، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر، ثم ناشدهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ودارت الدائرة على المسلمين، فهلك منهم السوار والجارود، ولما أراد المسلمون الرجوع إلى بلادهم عن طريق البر لم يُمكِّنهم الفُرس، فحصروهم من كل جانب، وبلغ عمر ما فعله العلاء، فغضب عليه أشد الغضب، وكتب إليه يعزله ويتوعده.

ثم كتب إلى سعد يؤمِّره على العلاء ويطلب إلى عتيبة بن غزوان أمير البصرة أن يُنقذ المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألف مقاتل، وجعل عليهم أبا سبرة بن أبي رهم، فسار حتى التقى بالفُرس فقاتلهم حتى هزمهم واستخلص المسلمين المحصورين، وغنم مغانمَ كثيرة، واستأذن عتيبة عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنَّ إلى عمله، فهلك في الطريق. وبعد أن تم لعتيبة استخلاص الجند الإسلامي علم أن الهرمزان الذي كان انهزم من القادسية ولجأ إلى الأهواز قد أخذ يهيئ جيشًا لغزو المسلمين، كتب عتيبة إلى عمر يخبره بخبره، فكتب عمر إلى سعد أمير الكوفة أن يمد عتيبة بجيش، فبعث إليه فرقة من المقاتلين الأبطال، عليهم نعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا إلى «ميسان» حتى يكونا بين البصر، ويدعوا من يقيم هناك من العرب ليكونوا مع المسلمين في قتال الفرس، فتجمع الكل ولاقوا «الهرمزان» فهزموه، ودخل «خوزستان» وكتب فيها يطلب الصلح، فصولح على ما دون «الأهواز» و«مناذر» و«نهر تيري»، وكان ذلك الصلح في السنة السابعة عشرة، وكتب عتيبة بذلك إلى عمر، ووفَّد إليه وفدًا من وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، فلما قدموا على عمر رحب بهم وسألهم حاجاتهم، فطلبوا لأنفسهم ما يريدون إلا الأحنف، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، إنك لقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير ويسمع بآذانهم، وإنا لم ننزل منزلًا بعد منزل حتى أرزنا، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الفاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة زعقة نشاشة طرف لها في الفلاة، وطرف لها في البحر الأجاج.

فلما سمع قوله أقطعهم ما كان لأهل كسرى، ثم قال: إن هذا سيد قومه، وكتب إلى عتيبة أمير البصرة أن يسمع منه، وأرجعهم إلى بلدهم، ولم يكادوا يصلون حتى ثار الهرمزان ونقض عهد الصلح واستعان بالأكراد، فكتب عتيبة بذلك إلى عمر، فأجابه بأن يقصده، وأمدَّ المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، فأتى البصرة وقصد الهرمزان فقاتله وهزمه وفتح «سوق الأهواز»، وكتب بذلك إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس، وأحس الهرمزان بضعفه، فصالح حرقوصًا، وفي هذه الأثناء مات عتيبة بن غزوان أمير البصرة، فولاها عمر المغيرة بن شعبة، ثم أبا موسى الأشعري، وأعانه على إدارتها ببضعة وعشرين من أصحاب رسول الله، فيهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر، فلما قدموا عليه جهز حملةً كبيرة بقيادة أبي سبرة بن أبي رهم، وسار نحوه، فتحصن الهرمزان فحاصروها، ولما اشتد الحصار على الفُرس صالحوا المسلمين، ووقع الهرمزان أسيرًا، فطلب النزول على حكم عمر.

ثم سار الجيش الإسلامي ففتح «السوس»، و«جنديسابور»، وغنم المسلمون مغانمَ كبيرة، وبعث أبو سبرة وفدًا مبشرًا إلى عمر بعث معه بالغنائم والأخماس، وأرسل الهرمزان معهم إلى المدينة، وكان في الوفد الأحنف بن قيس، وأنس بن مالك، فلما قدم الوفد المدينة أُلبس الهرمزان تاجه المُرصَّع ليراه الخليفة والمسلمون على تلك الحال، وساروا نحو المسجد، فإذا عمر نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هذا هو، فقال: أين حرسه وحجابه؟ فقالوا: ليس له حاجب ولا حارس، قال: فينبغي أن يكون نبيًّا! قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء، ثم استيقظ عمر فأُخبِر بأمر الهرمزان، فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه، ثم أمر أن ينزع ما عليه وأن يلبس ثوبًا صفيقًا، وقال له: كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية؛ لأن الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا بالجاهلية باجتماعكم وتفرُّقنا، ثم قال عمر: ما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، فقال عمر: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأُتِيَ به، فقال: إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأ الهرمزان الماء، فقال عمر: أعيدوا عليه الماء، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال الهرمزان: لا حاجة لي في الماء، وإنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: أمَّنتني، فقال: كذبت، فقال أنس بن مالك: صدق، ثم أسلم الهرمزان وسكن المدينة، وفرض له عمر ألفين، وقال للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى، فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: فكيف هذا؟ فقال الأحنف: إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يُخرِج أحدهما صاحبه، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسِح في أرضهم، فقال عمر: صدقني، وأذن في الانسياح ببلاد فارس وفتحها.

(٤) في وقعة نهاوند

رأى الفُرس بعد أسر الهرمزان وانسياح المسلمين في بلادهم أن يقفوا صفًّا واحدًا بزعامة «يزدجرد» أمام الخطر الداهم، فتجمعوا عند «نهاوند»، وتكاتب حكام المقاطعات وملوكها على لقاء المسلمين بجيشٍ موحد، فتجمعوا من «مرو» و«الباب» و«السند» و«خراسان»، وعلم سعد بخبرهم فكتب إلى عمر بذلك، وحدث في ذلك الحين أن اشتكى جماعة من أهل الكوفة على سعد واتهموه بالظلم، فقال عمر: والله لا يمنعني ما نزل بأمر المسلمين عن النظر بشكواهم، واستقدم إليه سعدًا فخلَّف على عمله عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وتوجه إلى المدينة، فلما دخل على عمر حقق معه في التهم المنسوبة إليه، فوجد أن القوم متحاملون عليه، ولكنه رأى أن يعزله، وولَّى الكوفة النعمان بن مقرن، وكان قد اقتحم «جنديسابور» و«السوس» في جمع أهل الكوفة، فأرسل إليه عمر كتاب العهد وكتاب الحض على الجهاد، وهذا نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعدُ فإنه بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم «بمدينة نهاوند»، فإذا أتاك كتابي هذا فسِر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلًا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك.»

ثم أمره أن يسير حتى يبلغ «ماه» وينتظر هناك حتى تجتمع لديه الجيوش، ثم يسير بها إلى «نهاوند»، وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان خليفة سعد على الكوفة يأمره باستنفار الناس للتوجه إلى النعمان، وأرسل إلى جُند الأهواز يأمرهم بالمقام ليكونوا حائلًا بين أهل إقليم فارس وبين المجتمعين بنهاوند، فلما اجتمعت الجيوش عند النعمان سار بهم، وعلى مقدمته أخوه نعيم بن مقرن، وعلى مجنبتَيه أخوه سويد بن مقرن، وحذيفة بن اليمان، وعلى المجردة القعقاع، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، وجاءهم من دق المدينة عليهم المغيرة بن شعبة.

فلما وصلوا «نهاوند» نشب القتال بينهم وبين الفُرس، فتقاتلوا ثلاثة أيام، ثم انحجز الفُرس في خنادقهم، فخاف المسلمون أن يطول ذلك الانحجاز، وأن يكون وراءه خطةٌ مدبرة ضد المسلمين، فتشاور المسلمون في الأمر، ثم اتفقوا على أن يقاتلهم القعقاع ويُظهر الهزيمة، فإذا تبعه الفُرس وصاروا بين المسلمين وبين القعقاع أعمل فيهم القتال، ويقضي الله بعده ما يشاء، فقاتلهم القعقاع، وخرج إليه الفرس من خنادقهم، فأظهر القعقاع الهزيمة أمامهم، فتتبعوه فرحين؛ لأنهم لم يروا مثل ذلك من المسلمين قبل الآن، ولم يزالوا كذلك حتى قاربوا جيش المسلمين، فزحف عليهم، وقُتل النعمان فسجَّاه أخوه نعيم، وكتم موته عن الجند ليلًا، وأخذ الراية حُذيفة، واستمر القتال إلى آخر النهار، فلما أظلم الليل انهزم الفُرس، ونجا الفيرزان بنفسه نحو «همذان»، فلحق به بعض الجُند وقتلوه هناك، وفتحوا همذان صلحًا، ولما علم أهل «ماه» بذلك طلبوا الصلح من حذيفة، فكتب له كتابًا هذا نصه:

«هذا ما عاهد حذيفة بن اليمان أهل «ماه بهراذان» أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يُحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدُّوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يومًا وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشُّوا وبدَّلوا فذمتنا منهم بريئة، وشهد القعقاع بن عمرو ونعيم بن مقرن وسويد بن مقرن، وكُتب في المحرم سنة ١٩ﻫ.»

وكانت مغانم المسلمين يوم «نهاوند» لا تُحصى من الرياش والجواهر والذهب، ومن بين ذلك ذخيرة كسرى من الجوهر الذي كان أعده لذلك الزمان، فأجمع رأي المسلمين على إرسال ذلك إلى عمر، وقسم حذيفة غنائم كل فرد من الناس فبلغت مبلغًا جسيمًا، قيل: إنه ستة آلاف درهم. وسُمي فتح نهاوند: فتح الفتوح، وبعث حذيفة بالبشرى إلى عمر، فلما قارب البشير المدينة وجد عمر خارجًا يتنسم الأخبار؛ لأنه قدر الواقعة، فبات يتململ حتى وصل البشير، فقال له عمر: ما وراءك؟ فقال: خيرًا يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستُشهِد النعمان بن مقرن، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم بكى فنشج، وتسلم الغنائم والخُمس ووضعها في بيت المال، وشكر الله على هذا الفتح المبين.

أما حذيفة فإنه بعد فتح نهاوند علم أن أهل همذان قد نقضوا عهد الصلح، فكتب بذلك إلى عمر، فأمره أن يبعث إليها نعيم بن مقرن، فرجع إليها من الطريق، واستولى عليها وعلى ما حولها، ثم جاء أمر عمر لحذيفة بالتوجه إلى «الري» و«أصفهان»، فسار إليهما وصالحه أهلهما، وبعث سويد بن مقرن إلى «قومس» فذهب إليها، وصالحه أهلها وكتب لهم كتابًا جاء فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى سويد بن مقرن أهل قومس من الأمان على أنفسهم ومِلَلِهم وأموالهم، أن يؤدُّوا الجزية عن كل فرد بقدر طاقته، وعلى أن ينصحوا ولا يغشوا، وعلى أن يدلوا، وعليهم أن يقروا من نزل بهم من المسلمين يومًا وليلة من أوسط طعامهم، وإن نكثوا واستخفوا بعهدهم فالذمة منهم بريئة.»

ثم سار سويد إلى «جرجان» و«خراسان» و«طبرستان» و«جيلان» ففتحها صلحًا، وكتب لأهلها كتابًا جاء فيه:

«هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان صاحب خراسان على طبرستان وجيل وجيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان الله عز وجل، على أن تكفَّ لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤدي لنا بغية، وتتقي من ولي فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك …»

ولما رأى عمر تخاذل الفرس رأى أن يوجِّه الجيوش إلى سائر الأنحاء الباقية من بلاد فارس، فكتب إلى أبي موسى الأشعري أمير البصرة أن يوجه الأمراء الآتية أسماؤهم لفتح ما بقي من البلاد، وهم: الأحنف بن قيس ووجهته «بلاد خراسان»، والمجاشع بن مسعود السلمي ووجهته «أردشير خره» و«سابور»، وعثمان بن أبي العاص ووجهته «اصطخر»، وسارية بن زنيم الكناني ووجهته «فسا»، وسهيل بن عدي ووجهته «كرمان»، وعاصم بن عمرو ووجهته «سجستان»، والحكم بن عمير التغلبي ووجهته «مكران»، فسار الأمراء في أول سنة ١٨ﻫ إلى وجهاتهم، وأتم الله على المؤمنين هذه الفتوح العظمى، وغنم المسلمون أعظم المغانم، وامتد سلطان الإسلام في بلاد فارس جميعها حتى بلغ نهر السند.١٩

(٥) في فتوح مصر

لما أتم المسلمون فتح الشام، وقدم عمر إلى الجابية سنة ١٨ﻫ الموافق سنة ٦٣٩م أتى إليه عمرو بن العاص، وكان أحد القواد الأربعة التي تمت على أيديهم فتوح الشام، واستأذنه في فتح مصر، وذكر له أنها أكثر الأرض مالًا، وأوفرها خيرات، وأقلها مقاتلين، وأن المسلمين إذا فتحوها كانت لهم قوة وعونًا، فتردد عمر أول الأمر؛ لأنه أشفق على المسلمين من الفشل، ولا سيما أن أقدامهم في الشام والعراق لم تثبت بعدُ، فلم يزل عمرو يُهوِّن عليه الأمر؛ لأنه يعرف أحوالهم في الجاهلية معرفة «صادقة»، وأن فتح مصر يغني المسلمين، ويثبت أقدامهم في الشام؛ لأن بقاء مصر في يد الروم يُعرض البلاد الشامية للخطر المحقَّق، فوافق عمر على ذلك، وعقد له لواء على أربعة آلاف رجل وبعثه في سبيل الله، فسار عمرو حتى بلغ العريش ففتحها بدون مقاومة، ثم سلك طريق مصر حتى بلغ «العريش»، وهي أول مدينةٍ مصرية، فلقيته الحامية الرومانية، وهي مفتاح مصر، وكانت منيعة الحصون، فحاصرها عمرو شهرًا ونصف شهر حتى تم له فتحها في أول المحرم سنة ١٩ﻫ/كانون الثاني ٦٤٠م.

وكان «الأرطبون» صاحب فلسطين الذي هرب منها إلى مصر في بلبيس، فهزمه عمرو واستولى على المدينة، ثم سار عمرو نحو — بابليون — حيث يُعسكِر البيزنطيون مُتحصِّنين، فحاصرهم عمرو، وكتب إلى الخليفة يستمده فأمده بأربعة آلاف أخرى فيهم نفر من كبار الصحابة أمثال: الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، والمقداد بن الأسود، وكتب إليه كتابًا يقول فيه: قد أمددتك بأربعة آلاف، فيهم رجال الواحد منهم بألف رجل.

وخرج القائد البيزنطي «تيدور» رئيس الحامية المصرية البيزنطية في عشرين ألف مقاتل لملاقاة العرب، فبعث إليه عمرو كمينًا جعله عند الجبل الأحمر، فانقضَّ الكمين على الجيش البيزنطي وضعضع نظامه، ثم لقيه عمرو، فتفرقت صفوف «تيدور»، وهرب من جنده قسم في النيل، ولجأ قسم إلى حصن بابليون فتحصَّنوا به، ودام الحصار إلى فجر سنة عشرين للهجرة، ولما رأى المقوقس صاحب مصر أن لا قِبَلَ له بالعرب، وأن حصارهم سيطول، وأنهم لا بد سيقتحمون الحصن عليه، خرج هو ونفر من الأشراف، فطلب من عمرو أن يصالحه، فقال عمرو لرسله: ليس لكم إلا واحدة من ثلاث: الدخول في الإسلام، ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، أو إعطاء الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، أو المناجزة حتى يحكم الله بيننا وبينكم.

فلما رجع الرسل إلى المقوقس وأخبروه بخبر المسلمين وثباتهم بعث إلى عمرو يطلب إليه من يفاوضه على الصلح، فبعث إليه عشرة نفر عليهم عبادة بن الصامت، فلما دخلوا على المقوقس أخذ يسلك في حديثه مسلك القوة.

فقال له عبادة: «لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غير هذه الثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب.» فقال المقوقس لقومه: «أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم به من طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم من هذه كرهًا.»٢٠ فلم يقبل القوم، وكتب المقوقس بذلك إلى هرقل، فرد عليه بكتاب يُوبِّخه فيه، ويُحقِّر قوة المسلمين ويأمره بالحرب، فلم يستمع لقوله، وأعلم عمرًا أنه يصافحه ويضمن له الجسور، ويقيم الضيافة والإنزال للمسلمين بين الفسطاط والإسكندرية، وهكذا استولى المسلمون على «منف»، وضرب عمرو فسطاطه ووطَّد أمر المسلمين هناك.
ثم أخذ يستعدُّ لغزو الإسكندرية عاصمة مصر، وثانية حواضر الدولة الرومانية الشرقية، وقد أيقن هرقل أن سقوط الإسكندرية معناه سقوط الدولة نفسها، لمكانتها العالمية من جهة، وشهرتها الاقتصادية التجارية من جهة أخرى، فلذلك بادر بإرسال الجيوش إلى الإسكندرية بحرًا، ونشط للدفاع عنها، وأمر القائد «تيودورس» بتحصين المدينة وحماية طريقها، وسار عمرو إليها عن طريق طرنوط (الطرانة) ففتحها، ثم سار نحو «نقيوس» و«سلطيس» و«الكريون» ففتحها جميعها، حتى وصل إلى الإسكندرية، فحاصرها أشد حصار، وحمي الوطيس بين الجانبَين، ودام الحصار أربعة أشهر، فقلق بال عمر بن الخطاب، وكتب إلى عمرو يلومه على ما ورط المسلمين فيه، فشحذ ذلك من همة عمرو، وبذل المسلمون قصارى جهدهم، وأبلوا أحسن البلاء، فمكَّنهم الله من الفتح عنوة واضطروا البيزنطيين إلى الهرب، ولكن عمرًا جعل أهلها ذمة على أن يخرج من يخرج ويُقيم من يُقيم، ثم إن المقوقس عقد هدنة مع عمرو تتضمن النقاط الآتية:
  • (١)

    أن يدفع كل من فُرضت عليه الجزية دينارًا في السنة.

  • (٢)

    أن مدة المهادنة أحد عشر شهرًا.

  • (٣)

    أن يحتفظ العرب بمراكزهم وألا يباشروا أعمالًا حربية ضد الروم، كما أن الروم يكفون عن منابذة المسلمين.

  • (٤)

    ألا يتعرض المسلمون للكنائس بسوء، وأن يتركوا للمسيحيين أمورهم الدينية.

  • (٥)

    أن ترحل الحامية البيزنطية من المدينة مع ما تملك من المال، مال متعة، على أن يدفعوا الجزية عن شهر عن رجلين.

  • (٦)

    ألا يؤذى يهود المدينة.

  • (٧)

    ألا يعود إلى مصر جيشٌ رومي أو يحاول استرداد ما أخذه المسلمون.

  • (٨)

    أن يكون لدى المسلمين من الروم ١٥٠ جنديًّا، و٥٠ ملكيًّا بمثابة رهينة لتنفيذ هذه المعاهدة وضمان إبرامها.

على أن الروم لم يوفوا بعهدهم؛ فقد بعث قسطنطين بن هرقل جيشًا بقيادة «مانويل»، ودخل الإسكندرية فقتل مَن فيها من المسلمين وحاميتهم، واضطر المسلمون أن يتراجعوا إلى «نقيوس»، فلما علم عمرو بذلك سار إليهم واشتبك مع الروم بقتالٍ حامٍ واستردَّ «الإسكندرية»، وقتل «مانويل»، وهدم عمرو سور الإسكندرية، وأخذ يبعث البعوث إلى أرض مصر وفتحها، وكتب عمرو بذلك إلى عمر، وأمر المقوقس والقبط على الصلح الذي صالحهم عليه عمرو، وبقي المقوقس على رياسة قومه، وكان المسلمون يشاورونه فيما ينزل بهم من المهمات إلى أن تُوفي، وكان يُقيم «بالإسكندرية» تارة و«بمنف» تارةً أخرى.

١  تاريخ الطبري: ٤، ٥٤، وتاريخ ابن الأثير: ٢، ٢٠٨.
٢  يرى أكثر المؤرخين العرب أن عمر عزل خالدًا عن القيادة فور توليه الخلافة، وأسندها إلى أبي عبيدة، ويقولون: إن العزل كان قبل حصار دمشق، ويذهب بعضهم إلى أن العزل كان بعد فتح دمشق، أما المستشرقون فلهم آراء تُناقض القولَين جميعًا، وقد ذهب بيكر Carl Becker في كتابه القيم: Expension of the Saracens, p. 341، إلى أنه لم يكن حتى ذلك الوقت قائدٌ مسمى للجيوش العربية من لدن المراجع العليا، وإن كان خالد قد ظهر بمظهر القيادة فذلك لأن القواد الآخرين انتخبوه لشجاعته، وهناك ما يؤيد هذا القول في بعض روايات البلاذري، وذهب وليم ميور Muir في كتابه: Annals of the Early Caliphats. p, 100، إلى أن خالدًا حمل زملاءه القواد على تسميته قائدًا عامًّا يوم اليرموك؛ كي لا تتقد نيران الحسد فتفسد الخطط، ولم تكن ثمة قيادةٌ عامة إلى ذلك اليوم، ويقول دي خوبه De Jage في مقالته عن «الخلافة» في دائرة المعارف البريطانية: إن القيادة كانت بيد عمرو بن العاص حتى مجيء خالد من العراق، وربما ظلت بيده حتى معركة أجنادين، وإن خالدًا هو الذي تولى القيادة يوم فتح دمشق.
٣  تاريخ الطبري: ٤، ٢١٥١.
٤  تاريخ الطبري: ٤، ٥٦-٥٧.
٥  تختلف روايات المؤرخين في تعيين الأمكنة التي احتلها كل واحد من القادة المذكورين، راجع فتوح البلدان للبلاذري، ص١٢١، وفتوح الشام للواقدي، ص٦٢.
٦  تاريخ الطبري: ٤، ٢١٤٦.
٧  تاريخ الطبري: ٤، ٢١٥١.
٨  فتوح الشام، ص٤٦.
٩  تاريخ ابن خلدون: ٢، ٢٢٦.
١٠  تاريخ الطبري: ٤، ٥٩.
١١  تاريخ دمشق لابن عساكر، تهذيب بدران: ١، ١٤٨–١٥٠.
١٢  انظر: «فتح العرب للشام»، ص٩٨.
١٣  تاريخ الطبري: ٢، ٤–١٥٤.
١٤  ويقال إن فتح قيسارية كان في سنة ١٦ كما يُروى عن سيف بن عمر، راجع الطبري: ٤، ١٥٥.
١٥  تاريخ الطبري: ٤، ١٦٠.
١٦  تاريخ الطبري: ٤، ١٦٠ وأشهر مشاهير الإسلام: ٢، ٢٤٦.
١٧  تاريخ الطبري: ٤، ١٦٢.
١٨  تاريخ الطبري: ٤، ٩٢.
١٩  تاريخ الطبري: ٤، ٢٥٥–٢٦٧.
٢٠  فتح مصر لابن عبد الحكم، ص٥٩–٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤