الفصل الرابع

أعماله في خلافته، وفتوحاته

أول عمل قام به عثمان في خلافته هو أنه أقرَّ عمال عمر على الأمصار، فأقر نافع بن الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منبه على صنعاء، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند، وأبا موسى الأشعري على البصرة، وعمرو بن العاص على مصر، وعمر بن سعد على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعثمان بن أبي العاص على البحرين وما والاها، ولم يعزل منهم سوى المغيرة بن شعبة، فإنه عزله من الكوفة وولَّاها سعد بن أبي وقَّاص، وقد كان أبرز هؤلاء الولاة نشاطًا في عهد عثمان وُلاة الكوفة والبصرة ومصر والشام، وفيما يلي تفصيل أحوال هذه الأمصار:

(١) الكوفة

يظهر أن عثمان ولَّى سعدًا على الكوفة عملًا بوصية عمر، فإنه لم يعزله لخيانة، وإنما اقتضت ذلك المصلحة العامة، ولما سار سعد إليها بعث معه عبد الله بن مسعود على الخراج، فأقام سعد فيها سنة ثم عزله عثمان لخلاف وقع بينه وبين ابن مسعود، سببه أن سعدًا اقترض من ابن مسعود مالًا، فلما تقاضاه إياه لم يجد سعد مالًا يفي دَينه، فطلب منه التأجيل فلم يقبل، وحصل بينهما في ذلك نزاع انقسم بسببه المسلمون، فتعصَّب لهذا نفر ولذاك نفر، وبلغ ذلك عثمان فغضب وعزل سعدًا، وولَّاها الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأمه أم عثمان، وعزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان التي كانت تابعة للكوفة، فانتقض أهلها، فغزاهم الوليد، فاضطروا إلى مصالحته.

ثم ثار أهل أرمينية، وكانت تابعة للكوفة أيضًا، فبعث إليهم سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفًا فأخضعهم ورجع إلى الوليد بغنائمهم، ثم كتب عثمان إلى الوليد بن عقبة أن يمد أهل الشام بجيش يقوده رجل من أهل النجدة، فبعث الوليد ثمانية آلاف بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي، فقدم الشام وحارب الروم مع جيش معاوية، وأبلوا في ذلك أحسن البلاء،١ وبقي الوليد بن عقبة أميرًا على الكوفة حتى شهد عليه جماعة من أهلها بأنه شرب الخمر، فعزله عثمان عن إمارته، وجلده حد الشرب أربعين جلدة كما أفتى بذلك علي بن أبي طالب، وولى مكانه سعيد بن العاص، فلما وصل الكوفة صعد منبرها، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «والله لقد بُعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بُدًّا إذ أُمرت أن أأتمِر، ألا وإن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينها، والله لأضربن وجهها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.» ثم إنه أخذ يرتب أحوال مدينته، فعلم أن طوائف من الأعراب قد نزلوا المدينة وسيطروا على أمورها، وأن أشراف أهلها الأقدمين قد غُلِب على أمرهم، فكتب إلى عثمان يستأمره في ذلك، فكتب إليه: «أمَّا بعدُ ففضِّل أهل السابقة والقِدم ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعًا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوه وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍّ منزلته، وأعطِهِم جميعهم بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس يُصاب بها العدل.»
فأرسل سعيد إلى أهل القادسية وغيرها من أصحاب الأيام والفتوح فقال لهم: «أنتم وجوه الناس، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذوي الحاجة.» وأدخل معهم من يحتاج إليه من اللواحق والروادف، وقرَّب إليه القراء، ولكن ذلك لم يعجب الناس فاضطربوا. قال الطبري: فكأنما كانت الكوفة يبسًا شعلته نار، وفشت القالة والإذاعة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فنادى منادي عثمان: «الصلاة جامعة!» فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كتب به إلى سعيد، وبالذي كتب به إليه، وبالذي جاءه من القالة والإذاعة، فقالوا: أصبت، فلا تسعفهم في ذلك، ولا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها، فقال عثمان: «يا أهل المدينة، استعدوا واستمسكوا؛ فقد دبَّت إليكم الفتن.» ونزل فأوى إلى منزله.٢

أما سعيد فإنه اهتم بأمر الناس، ورأى أن خير وسيلة لتهدئة الاضطرابات هي في إرسالهم للفتح، فبعث جموعًا فيها الحسن والحسين أبناء علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحذيفة بن اليمان، ففتحت طبرستان وصالحهم أهلها، وكان ذلك في سنة ٣٠ﻫ، وسار سعيد نفسه ومعه جمع من كبار الصحابة فيهم حذيفة بن اليمان مددًا لعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الذي كان بالباب، فلما بلغوا أذربيجان سير سعيد حذيفة وقام هو ردءًا له، فسار حذيفة وغزا وفتح، وفي سنة ٣٢ﻫ، بعث سعيد عبد الرحمن بن ربيعة لغزو الترك والخزر، فأوغل في بلادهم، ثم تجمعوا عليه ففرقوا جيشه وقتلوه، فلحقت فلول جيشه بأخيه سليمان بن ربيعة الباهلي الذي كان سعيد قد أرسله مددًا لأخيه، وساروا نحو «جيلان»، و«جرجان» اللتين كان جيش المسلمين يحاصرهما، فأمدوهم وأعانوهم على العدو.

ثم إن سعيد بن العاص رحل إلى المدينة للقاء أمير المؤمنين بعد أن استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فقام جماعة من أهل الكوفة كرهوا ولاية سعيد واتفقوا على التوجه إلى عثمان، فلقيهم سعيد في الطريق وعلم ما يريدون، فسار إلى عثمان وأخبره أن القوم لا يريدونه، وأنهم يحبون أبا موسى الأشعري، فولَّاه عثمان عليهم، وكتب إلى أهل الكوفة يقول: «أمَّا بعدُ فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا أصبتموه لا يُعصى الله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم على الله حجة، ولنصبرنَّ كما أُمرنا حتى تبلغوا ما تريدون.» ثم جاء أبو موسى الكوفة، وخطب أهلها وأمرهم بلزوم الجماعة، ولم يزل أميرًا عليها حتى مقتل عثمان.

(٢) البصرة

تولى أمر البصرة في خلافة عثمان أبو موسى الأشعري الذي كان عمر قد ولَّاه إيَّاها، فظل فيها إلى سنة ٢٩ﻫ، ثم عزله عثمان بعبد الله بن عامر بن كُريز بعد أن ضم إليه عُمان والبحرين، ولم يلبث عبد الله بن عامر أن يصل حتى علم بانتقاض أهل فارس بأميرهم عبيد الله بن معمر، فسار إلى فارس وقاتلهم وهزمهم، وفتح إصطخر عنوة، وقتل من أهلها مقتلةً عظيمة، ووطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وفي سنة ٣١ قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس، وأخبار المؤرخين مضطربة في كيفية قتله وأسبابه، إلا أنهم اتفقوا على أنه قُتل وحيدًا طريدًا لم يُغنِ عنه هذا الملك الواسع شيئًا، واتفقوا على أنه قُتل بيدٍ أعجمية، وكان يتمنى أن لو كان وقع بيد العرب المسلمين، فإنهم كانوا يبقون عليه حيًّا.٣
figure

وفي تلك السنة (٣١ﻫ) سار عبد الله بن عامر في جمع كبير لفتح خراسان التي انتقض أهلها حين علموا بمقتل عمر (رضي الله عنه)، فلما وصل إلى «الطبسَين» وهما: بابا خراسان، تلقاه أهلها بالصلح فصالحهم، ثم سار إلى قهستان فصالحه أهلها، ثم قصد نيسابور فصالحه أهلها كذلك، ثم بقي هناك ووجه الأحنف بن قيس إلى طخارستان ومرو الروذ، فلقيته جموعٌ كثيرة من الفُرس، فمكنه الله منهم، وتمكن الأحنف من فتح الطالقان وبلخ، وسار نحو خوارزم فلم يتمكن من فتحها، فعاد.

ثم رجع ابن عامر إلى البصرة بعد أن فتح الله على يديه ملك فارس كله بعد انتقاضه، وقال: لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج معتمرًا من موقفي هذا، وفي عهد إمارة ابن عامر ظهر عبد الله بن سبأ في البصرة؛ فقد بلغ ابن عامر أن رجلًا من اليهود أسلم وأظهر أقوالًا غريبة، وأنه نزل في بني حكيم بن جبلة العبدي، وأن له آراء غير مقبولة، فاستدعاه ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الكتاب، رغبت في الإسلام وفي جوارك، فقال: ما بلغني عنك، اخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة، فأُخرج منها، ثم أتى الشام فأُخرج منها، ثم أتى الحجاز فأُخرج منه، فأتى مصر فعشَّش فيها وباض وفرَّخ، وكان له أقوالٌ عجيبة، منها قوله: «عجبت ممن يُصدق برجوع المسيح، ولا يُصدق برجوع محمد!» وكان هذا ابتداء القول بالرجعة، وكان يقول: «إن عليًّا وصي محمد وقد غصبه من ولي قبله، فالواجب على المسلمين أن يعيدوا الأمر لأصحابه.» وقد تبعه بمصر وغيرها جمعٌ كثير، وقد لعب دورًا كبيرًا في إثارة الفتن كما سنرى بعدُ إن شاء الله.٤

(٣) الشام

كان الشام في عهد عمر بيد معاوية، فأقره عثمان على عمله، وانصرف معاوية إلى تقوية الثغور والاستعداد لقتال الروم، ففي السنة الثانية من ولاية عثمان غزا معاوية الروم وبلغ عمورية، وأنزل في الحصون التي بين «أنطاكية» و«طرسوس» ثم رجع، فأمره الخليفة أن يُغزي حبيب بن مسلمة الفهري أرمينية وما إليها، فوجَّهه إليها، وفتح «قاليقلا» وصالح أهلها، ثم كتب إلى عثمان ينبئه أن بطريق أرمينية قد جمع جموعًا كثيرة للمسلمين فأمده الخليفة بسلمان بن ربيعة، ومكَّن الله للمسلمين من الأرض، ففتح الله على أيديهم تلك البلاد حتى بلغ «تفليس» و«أرَّان» و«برذعة» ففتحها صلحًا.

وفي سنة ٢٨ﻫ فتح معاوية جزيرة قبرص بعد أن استأذن عثمان فأذن له، وقد كان عمر ينهاه عن ذلك خوفًا على المسلمين، وكان في الأسطول العمري نفرٌ كبير من الصحابة أمثال: أبي الدرداء، وشداد بن أوس، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان التي أخبرها رسول الله أنها ستكون في أول من يغزو البحر، وقد أمدَّه أمير مصر عبد الله بن سعد بنفسه وبأسطولٍ كبير، فاجتمعا على قبرص، واضطر صاحبها أن يصالحهم على سبعة آلاف كل سنة يؤدون إلى الروم مثلها، لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين منعهم ممن أرادوهم من ورائهم، وعليهم أن يُعلِموا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم، وفي هذه الغزوة ماتت أم حرام، ورجع معاوية بعد أن استعمل عبد الله بن قيس على غزو الروم، فغزا نحوًا من خمسين غزوةً بين صائفة وشاتية في البر والبحر.

وفي سنة ٣٠ﻫ. شكا معاوية أبا ذر لعثمان؛ لأنه كان يرى أنه لا ينبغي للمسلم أن يكون في ملكه أكثر من قوت يوم وليلة أو شيء قليل ينفقه في سبيل الله، وكان أبو ذر يقوم في أهل الشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء وأحسنوا إليهم، وقاسموهم أموالكم …» وأخذ يُحرض الفقراء على الأغنياء حتى خاف معاوية الفتن، فاستدعى عثمانُ أبا ذر إليه، ثم نفاه إلى «الربذة» بعد أن أقطعه قطعة من الإبل، وأجرى عليه العطاء، فبقي هناك إلى أن هلك رحمه الله.

(٤) مصر

ظلت مصر تحت إمرة عمرو بن العاص فاتحها في عهد عمر، ولما استُخلف عثمان أقره على عمله، وفي السنة الثانية من خلافته علم عمرو أن روم القسطنطينية قد كتبوا إلى روم مصر يدعونهم إلى نقض العهد والثورة على المسلمين، فأجابوهم إلى ذلك وثاروا، حاشا المقوقس فإنه حافظ على عهده، ولما بلغ ذلك عمرًا سار إلى الإسكندرية فلقيه رومها ومن جاءهم من روم القسطنطينية، وجرت بين الطرفين معاركُ كثيرة هزم فيها الروم وهدم سور المدينة.

وفي تلك السنة سيَّر عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح غازيًا في شمال إفريقية ففتح وغنم، وأنفله عثمان خمس الخمس، ثم رجع بعد أن صالحه ملك إفريقية، ولم يلبث أن أخذ يهيِّئ نفسه لغزو إفريقية ثانية، فخرج إليها في جمعٍ عظيم، والتقى بملك إفريقية الذي ولاه الروم عليها من حدود طرابلس إلى طنجة، وامتدت المعارك بين الجانبين عند «سبيطلة» عاصمة الملك، وأمدَّ عثمان المسلمين بجيش على رأسه عبد الله بن الزبير، فانهزم المشركون وقتل ملك إفريقية، وصالح عبد الله بن أبي سرح أهل إفريقية على ألف ألف وخمسمائة دينار، وأرسل إلى عثمان بالبشارة والأخماس وعاد هو من إفريقية، وكان مقامه فيها سنة وربعًا.

(٥) الفتوحات في عهده

رأينا أن عمال عثمان في العراق ومصر والشام قد نشطوا في الفتوح، وفي إعادة من انتقض من أهل البلاد المفتوحة في عهد عمر، ويمكننا إجمال هذه الأحداث كما يلي:
  • (١)

    المشرق: أعاد المسلمون فتح إيران وخراسان وبلخ، وفتح بلاد طبرستان ومصر وسرخس وبلاد الخزر والديلم، حتى وصلوا «بلنجر» وهي أكبر مدنهم، وتقع خلف دربند — باب الأبواب — ولكن الترك تجمعوا عليهم فهزموهم.

  • (٢)

    آسيا الصغرى: عُني معاوية بفتح بلاد آسيا الصغرى وجزائر بحر الروم، فوصلت جيوشه إلى «عمورية» قرب «بروسة»، وافتتحها واستولى على جزيرتَى: قبرص ورودس، وفتح كثيرًا من الحصون، ودخل أرمينية حتى وصل إلى «قاليقلا» و«تفليس».

  • (٣)

    إفريقية: سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى إفريقية الشمالية، ولما انقطعت أخباره أمدَّه عثمان بعبد الله بن الزبير، فتمكن من إخضاع شمالي إفريقية كله، وغزا بلاد النوبة، فبلغ «دنقلة» وصالح أهلها.

١  تاريخ الطبري، ٥، ٤٦–٤٨.
٢  تاريخ الطبري: ٥، ٦٤.
٣  الطبري: ٥، ١–٤.
٤  تاريخ الطبري: ٥، ٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤