الفصل الثامن

في المختار من أدبه عليه السلام

(١) ومن خطبة له عليه السلام

لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة، وذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة، وفيها ينهى عن الفتنة ويبين خلقه وعلمه:

النهي عن الفتنة

أيها الناس، شقُّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماءٌ آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.

خلقه وعلمه

فإن أقُل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابنُ أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجتُ على مكنون علم لو بحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة.

(٢) ومن خطبة له عليه السلام

(وفيها ينهى عن الغدر ويُحذِّر منه.)

إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسًا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم! قاتلهم الله! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.

(٣) ومن كلام له عليه السلام

(وفيه مباحثُ لطيفة من العلم الإلهي.)

الحمد لله الذي لم يسبق له حالٌ حالًا، فيكون أولًا قبل أن يكون آخرًا، ويكون ظاهرًا قبل أن يكون باطنًا، كل مسمًّى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيزٍ غيره ذليل، وكل قويٍّ غيره ضعيف، وكل مالكٍ غيره مملوك، وكل عالمٍ غيره متعلم، وكل قادرٍ غيره يقدر ويعجز، وكل سميعٍ غيره يصمُّ عن لطيف الأصوات، ويُصمُّه كبيرها، ويذهب عنه ما بَعُدَ منها، وكل بصيرٍ غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهرٍ غيره باطن، وكل باطنٍ غيره غير ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوُّف من عواقب زمان، ولا استعانة على ندٍّ مثاور، ولا شريك مكابر، ولا ضدٍّ منافر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون، لم يحلل في الأشياء فيقال: هو كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن، لم يَؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم، المأمول مع النقم، والمرجو من النعم.

(٤) ومن كلام له عليه السلام

(يُحرِّم تعلم التنجيم.)

قال لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.

قال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة من سار فيها صُرف عنه السوء؟ وتخوِّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدقك بهذا فقد كذَّب القرآن، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه؛ لأنك — بزعمك أنت — هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر!

ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلُّم النجوم إلا ما يُهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله.

(٥) ومن خطبة له عليه السلام

(يقرر فضيلة الرسول الكريم.)

بعثه والناس ضُلَّال في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفَّتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة.

(٦) ومن خطبة له عليه السلام

(وفيها مواعظ للناس.)

الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أُمرَت به، السراع إلى ما نُهيَت عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر، ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود، إيمانًا نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، شهادتَين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان تُوضعان فيه، ولا يثقل ميزان تُرفعان عنه.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد: زاد مبلغ، ومعاد منجح، دعا إليها أسمع داعٍ، ووعاها خير واعٍ، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.

عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصَب، والري بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذَّبوا الأمل، فلاحظوا الأجل، ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وغيرٍ وعبرٍ، فمن الفناء: أن الدهر موتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا توسى جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكِلٌ لا يشبع، وشاربٌ لا ينقع؛ ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالًا حمل، ولا بناءً نقل. ومن غيرها ترى أن المرحوم مغبوط، والمغبوط مرحوم، ليس ذلك إلا نعيمًا ذل، وبؤسًا نزل. ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله، فيقطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمل يترك؛ فسبحان الله ما أغر سرورها! وأظمأ ريَّها! وأضحى فيئها! لا جاءٍ يُرَد، ولا ماضٍ يرتد؛ فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به! وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه!

إنه ليس شيء بشرٍّ من الشر إلا عقابه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر! إن الذي أُمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أُحِلَّ لكم أكثر مما حُرم عليكم، فذروا ما قل لما كثُر، وما ضاق لما اتَّسع، قد تكفل لكم بالرزق، وأُمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين، حتى كان الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكان الذي فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يُرجى من رجعة العمر ما يُرجى من رجعة الرزق، ما فات من الرزق رُجِيَ غدًا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يُرْجَ اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

(٧) ومن خطبة له عليه السلام

(يوبِّخ البخلاء بالمال والنفس.)

فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها، تكرمون بالله على عباده، ولا تكرمون الله في عباده! فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم.

(٨) ومن كلام له عليه السلام

(وقد جمع الناس وحضَّهم على الجهاد فسكتوا مليًّا.)

فقال عليه السلام: ما بالكم! أمخرسون أنتم؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام: ما بالكم! لا سُدِّدتم لرشد، ولا هُديتم لقصد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم، وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تقلقُل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى، تدور عليَّ وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها، هذا لعمر الله الرأي السوء، والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو — لو قد حم لي لقاؤه — لقربت ركابي، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم، ما اختلف جنوب وشمال، إنه لا غناء في كثرة عددكم مع قلة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على الطريق التي لا يهلك عليها إلا هالك، من استقام فإلى الجنة، ومن زل فإلى النار.

(٩) ومن كلامه عليه السلام

(قال لأصحابه في ساحة الحرب «بصفين» وفيه يُعلِّم أصحابه فنون القتال وآدابه):

وأي امرئ منكم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلًا، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه كما يذب عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله. إن الموت طالبٌ حثيث، لا يفوته المقيم، ولا يُعجزه الهارب، إن أكرم الموت: القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش.

(منه): وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون حقًّا ولا تمنعون ضيمًا، قد خليتم والطريق، فالنجاة للمقتحم والهلكة للمتلوِّم.

(ومنه في حثهم على القتال): فقدِّموا الدارع، وأخِّروا الحاسر، وعضُّوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسِنَّة، وغضُّوا الأبصار، فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم؛ فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفون حفافيها: وراءها وأمامها، ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها، أجزأ امرؤ قرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، إن في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار لَغيرُ مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، الرائح إلى الله كالظمآن يرِد الماء، الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، والله لأنا أشوَق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم، اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم، وشتِّت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك، يخرج منه النسيم، وضرب يفلق الهام، ويُطيح العظام، ويندر السواعد والأقدام، وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم، وبأعنان مساربهم ومسارحهم.

(١٠) ومن خطبة له عليه السلام

(في ذكر المكاييل والموازين.)

عباد الله، إنكم — وما تأملون من هذه الدنيا — أثوياء مؤجَّلون، ومدينون مقتضون، أجلٌ منقوص، وعملٌ محفوظ، فرُبَّ دائب مضيع، ورُبَّ كادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارًا، ولا الشر إلا إقبالًا، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعًا، فهذا أوان قويت عدته، وعمت مكيدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدل نعمة الله كفرًا، أو بخيلًا اتخذ البُخل بحق الله وفرًا، أو متمردًا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرًا! أين خياركم وصلحاؤكم! وأين أحراركم وسُمحاؤكم! وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزِّهُون في مذاهبهم! أليس قد ظعنوا جميعًا عن هذه الدنيا الدنيَّة، والعاجلة المنغصة! وهل خُلفتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغارًا لقدرهم، وذهابًا عن ذكرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد فلا منكر مغيَّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه! وتكونوا أعز أوليائه عنده! هيهات! لا يُخدع الله عن جنته، وتُنال مرضاته إلا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به.

(١١) ومن كلام له عليه السلام

(في وضع المعروف في أهله وغير أهله.)

المعروف في غير أهله

وليس لواضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله من الحظ فيما أتى إلا محمدة اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجُهَّال — ما دام منعمًا عليهم — ما أجود يده وهو عن ذات الله بخيل!

مواضع المعروف

فمن آتاه الله مالًا فليصِل به القرابة، وليُحسِن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعطِ منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب، فإن فوزًا بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة إن شاء الله.

(١٢) ومن خطبة له عليه السلام

يذكر فيها بديع خلقة الخفاش (ويبتدئها بحمد الله وتنزيهه.)

حمد الله وتنزيهه

الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغًا إلى بلوغ غاية ملكوته.

هو الله الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مُشَبَّهًا، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلًا، خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع.

خلقة الخفاش

ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته، ما أن أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عَشِيَتْ أعيُنها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورًا تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنَّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجًا تستدلُّ به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلَّغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهارًا ومعاشًا، والنهار سكنًا وقرارًا! وجعل لها أجنحة من لحمها تُعَرِّجُ بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلامًا، لها جناحان لم يرقَّا فينشقَّا، ولم يغلُظَا فيثقلا، تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره.

(١٣) ومن خطبة له عليه السلام

(في عجيب صنعة الكون.)

وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسًا جامدًا، ثم فطر منه أطباقًا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها، فاستمسَكَتْ بأمره وقامت على حده، وأرسى أرضًا يحملها الأخضر المثعنجر، والقمقام المسخر، ذلَّ لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته، وجبل جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عمادًا، وأرزها فيها أوتادًا، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان من أمسكها بعد موَجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مهادًا، وبسطها لهم فراشًا فوق بحر لُجِّيٍّ راكد لا يجري، وقائم لا يسري، تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارق، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.

(١٤) ومن وصية له عليه السلام

(وصَّى بها جيشًا بعثه إلى العدو.)

فإذا نزلتم بعدوٍّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قُبيل الأشراف، أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءًا، ودونكم مردًّا، ولتكن مقاتلتكم من وجهٍ واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلَّا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرُّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعًا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعًا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة، ولا تذوقوا النوم إلا غرارًا أو مضمضة.

(١٥) ومن وصية له عليه السلام

(للحسن والحسين، عليهما السلام، لما ضربه ابن ملجم لعنه الله.)

أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتْكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا للحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصمًا، وللمظلوم عونًا.

أوصيكما، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»، الله الله في الأيتام، فلا تُغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم، ما زال يُوصي بهم حتى ظننَّا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم، لا تخلُّوه ما بقيتم، فإنه إن تُرك لم تُناظروا، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولَّى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يُستجاب لكم.

ثم قال: يا بني عبد المطلب، لا ألفيَنَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا، تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين! ألَا لا تقتلنَّ بي إلا قاتلي.

انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثَّل بالرجل، فإني سمعت رسول الله — صلى الله عليه وآله وسلم — يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.»

(١٦) ومن كتاب له عليه السلام

(إلى عماله على الخراج.)

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج

أمَّا بعدُ فإن من لم يحذر ما هو صائرٌ إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها، واعلموا أن ما كلفتم يسير، وأن ثوابه كبير، ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يُخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه، فأنصِفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزَّان الرعية، ووُكلاء الأمة، وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحدًا عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدًا، ولا تضربن أحدًا سوطًا لمكان درهم، ولا تمسَّن مال أحد من الناس مُصلٍّ ولا مُعاهِد إلا أن تجدوا فرسًا أو سلاحًا يعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه، ولا تدخروا أنفسكم نصيحة، ولا الجند حسن سيرة، ولا الرعية معونة، ولا دين الله قوَّة، وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا، وأن ننصره بما بلغت قوتنا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤