الفصل الثاني عشر

كان الحاج حامد نائمًا هو وزوجته الحاجة توحيدة، وفي سنهما هذه لا يكون النوم عميقًا؛ فلم يكن عجيبًا أن يسمعا طرقًا خافتًا واضح الاستحياء على الباب الخارجي للمنزل.

وقام إلى الباب الحاج حامد وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويدعوه أن يكون الطارق يحمل خيرًا أو لا يحمل سوءًا على الأقل.

وفتح الباب، وما إن رأى شهاب حتى صاح به في وهَن وخوف: شهاب أهلًا يا بني! خيرًا إن شاء الله.

وفي لعثمة قال شهاب: خيرًا إن شاء الله يا جدي.

– تعالَ، ادخل، ماذا بك؟ اجلس.

– لا تخَف يا جدي كلنا بخير.

– انتظر حتى أُطمئن ستك.

– لا تجعلها تقوم من فراشها، أُريدك وحدك.

– حاضر يا ابني.

وعاد الحاج حامد إلى حفيده، وروى شهاب على جده كل شيء في صراحة وشجاعة، وأطرق الحاج حامد قليلًا، ثم رفع رأسه إلى شهاب: غفور رحيم يا بني.

– لا أحب أن أرى أحدًا الآن إلا أنت؛ فعندك أجد الحب الذي لا أجده من أحد إلا عند أمي.

– غفور رحيم يا بني.

– أُريد أن أبقى عندك بضعة أيام.

– أهلًا بك لبضعة أيام وبضعة أشهر وبضع سنوات، هذا بيتك يا ابني.

– أعرف ذلك، لا تقل شيئًا لستي.

– سأقول إنك مختلف مع أبيك، وربنا يُسامحني على الكذب.

– هكذا أحسن.

– هل تعرف أمك أين أنت؟

– لا أحد يعرف.

– هذا غير معقول!

– لا أُريد أن أرى أمي؛ فستكون حزينةً حتى وإن غفرت لي.

– يا ابني أنت لا تعرف قلب الأم، إنها الآن في حالة جنون وهي لا تستحق منك هذا.

– إذن أخبرها.

•••

حين وصل فائق إلى البيت لقفته أمه على الباب: خيرًا يا فائق، أين شهاب؟

– لا شيء، شهاب بخير ولم يفعل شيئًا.

– فلماذا كان في القسم؟

– مسألة بسيطة.

– ماذا؟

وصمت فائق حائرًا، إن قال حادثة سيارة لازداد ذعر أمه. جلس وأطرق.

– انطق.

– مجرد عراك بينه وبين أحد الضبَّاط.

– هكذا من غير مناسبة؟

وجاء هارون من غرفة النوم على صوت ابنه وأمه: قل الحقيقة.

– ماذا أقول يا أبي؟

– الحقيقة.

وقالها بعد أن فكَّر أنه إن لم يقل هو الحقيقة فسيقولها الدكتور أمجد. قالها وهو خزيان وكأنه هو الذي ضُبط.

وكان رد الفعل عند أمه صمتًا متألمًا ودمعات غزيرة، أمَّا هارون فكان شأنه عجبًا؛ لقد قعد بعد أن كان واقفًا وراح يضحك في قهقهة، ثم قال وهو يضحك: وأين هو الآن؟ ألَا تعرف؟

– رفض أن يعود معي إلى البيت، ولا أدري أين ذهب.

وقالت حميدة: هل هذا معقول؟! ألَا يأتي لنطمئن عليه على الأقل؟

وقال فائق: قال لي طمئن أمي، ورفض أن يقول لي أين سيذهب.

وقال هارون ضاحكًا: وأين تظنانه سيذهب؟ هيا لننام.

وصرخت حميدة وهي تدق صدرها: أنام؟! أنام وأنا لا أعرف أين ابني وما حالته؟ شهاب يختشي من ظله، ربنا أعلم بحاله الآن.

وضحك هارون وهو يقول: لقد أثبت أنه لا يختشي ولا يحزنون. قومي نامي فقد اطمأننا عليه.

– أبدًا لا يمكن أنام.

– إذن أنام أنا، وأنت يا فائق ألَا تنام؟

– أنا سأبقى مع ماما.

– أنت حر.

وعاد هارون إلى غرفة نومه.

•••

دقَّ جرس التليفون في بيت هارون، وانتفضت إليه حميدة واختطفت السماعة: أهلًا يا حاج، خيرًا؟

وجاءها صوت الحاج حامد: اطمئني، شهاب عندنا.

– الله يُطيل عمرك يا حاج، الله يُخلِّيك.

ووضعت السماعة وقال فائق: الحمد لله.

– الآن ننام.

– تصبحين على خير.

– لقد أصبحنا فعلًا أو نكاد.

– سأذهب إليه.

– طبعًا.

•••

لم يكن هارون مُرحِّبًا بالذهاب إلى بيت أبيه، ولكن حميدة في هذه المرة قالت له في حزم: إن لم تذهب معي فسأعود من البلد إلى بيت أبي. ولأول مرة يسمع هارون هذا التهديد، فلم يجد مناصًا من الذهاب.

•••

وفي السيارة اتفق ثلاثتهم ألَّا يُفاتحوا شهاب في الموضوع مطلقًا. وحين وصلوا رحَّب الحاج حامد ترحابًا شديدًا بحميدة وبفائق، وسلَّم سلامًا فاترًا على هارون، أمَّا الحاجة توحيدة فقد رحَّبت بالجميع. وقال شهاب: كيف استطعتَ المجيء يا أبي؟

– أمك يا سيدي.

– لقد توقعتُ أن تقول هذا.

وقال هارون: المسألة لا تستحق هذه الهوسى.

وقال الحاج حامد: هل من الهوس أن تزور أباك وأمك؟ يا خسارة!

– مشاغلي يا أبي لا تتصوَّرها.

– أعرف أنكَ والحمد لله قد أصابك السُّعار.

وقالت الآم: أتكتفي بأن تُرسل إلينا مالًا في كل شهر ولا تأتي؟

ورأى الحاج حامد الدهشة على وجه هارون. لم يستطع هارون أن يُخفيها، بل قال في لعثمة: … مالًا!

وقالت الأم في سذاجة: نعم، الراتب الذي تُرسله كل شهر. أتظن أن الأم والأب يكفيهما المال؟

– نعم.

– ألم تسمع؟

– آه إن مكتبي يُرسله كل شهر.

وصمت وقد حسب أنه قد خرج من المأزق، ولكن عقله كان حائرًا حيرةً كبرى. إنه واثق أنه لا يُرسل شيئًا، وواثق أن مكتبه لا يُرسل شيئًا، فما هذا المال الذي تتكلَّم عنه أمه؟

وتغيَّر الموضوع وتناولا الغداء، وحين أزمع هارون العودة إلى القاهرة نظر إلى شهاب: أتأتي معنا؟

وأجاب شهاب في حسم: سأبقى بضعة أيام مع جدي.

– على كيفك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤