حدث فجأة!

بعد أن أرسل «محب» آخر خطابٍ إلى «تختخ» قرَّر أن يُحاول البحث عن سر بقعة الأرض الصغيرة بين الصبار … هذه البقعة التي كان رجل الليل يذهب إليها كل ليلةٍ ويحاول معرفة ما تحتها … وأمضى «محب» ليلتَيْن يراقب الرجل حتى تأكَّد أنه لا يذهب إلى الصبار إلا في الثانية صباحًا … وهكذا قام «محب» في الليلة الثالثة بتجهيز فأسٍ صغيرة … وبطارية، وانتظر حتى الواحدة بعد منتصف الليل وقرر أن يدخل حديقة القصر ويبحث سر أرض الصبار. وقدَّر «محب» أنه سيقضي نحو ثلاثة أرباع الساعة في البحث ثم يغادر الحديقة قبل أن يأتيَ الرجل.

وفي الواحدة إلا عشر دقائق تسلَّل «محب» من الفيلا، دون أن يترك خبرًا «لنوسة» عن وجهته، وحمل أدواته وانطلق إلى فرع الشجرة الكبيرة وتسلقه، ثم زحف على الأغصان حتى وصل إلى جذع الشجرة ونزل عليه إلى الأرض … وأضاء «محب» البطارية … وأمسك بالفأس وأخذ يدق الأرض هنا وهناك حتى عثر على شبه حافة من الحديد مثبت في الأرض فأخذ يحفر حوله بحذرٍ حتى لا تحتك الفأس بالحديد وتحدث صوتًا … ومضى «محب» في مهمته بحماسةٍ وقد امتلأت رأسه بالأفكار … فقد تأكد أنه سوف يعثر على فتحةٍ لسرداب تصل إلى سراديب القصر الممتلئة بالآثار والتحف … وأنه سوف يكشف لغز قصر الصبار وحده … ومضى الوقت دون أن يشعر «محب» … وفجأة أحس بخطواتٍ سريعة تقترب منه، وقبل أن يتمكَّن من الوقوف سمع صوتًا جافًّا يأمره قائلًا: لا تتحرك من مكانك!

كانت مفاجأة كاملة «لمحب» فرفع رأسه إلى فوق ليرى المتحدث، ولكن الظلام كان كثيفًا فلم ير إلا شبح رجل طويل القامة يمد يده إلى الأمام بمسدس وقال الشبح: هذه ليست أول مرة تأتي فيها إلى هنا، لقد رأيت آثار قدميك هنا من قبل.

لم يستطع «محب» أن يرد فمضى الشبح يقول: ألا تعرف أن القانون يمنع دخول أملاك الغير دون استئذان؟

مرة أخرى لم يرد «محب»، كان يدرك أنه وقع، وأنه تصرف بحماقة عندما دخل الحديقة وحده وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل.

ومضى الرجل يقول: إن في إمكاني الآن أن أسلمك للشرطة كلص … ولكني أريد أولًا الاستماع إليك، تقدم أمامي، واترك هذه الفأس مكانها.

لم يكن في إمكان «محب» إلا أن يصدع بالأمر، وهكذا وقف، فقال الرجل: أمامي في اتجاه القصر!

وسار «محب» يتبعه الرجل، وكانت الكلاب تسير خلفهما حتى وصلا إلى الباب الجانبي الذي رأى «محب» الرجل يخرج منه في أول ليلة دخل فيها الحديقة وسمع الرجل يقول: ادخل.

دخل «محب» إلى دهليز الرخام الأخضر، وتبعه الرجل ثم أغلق الباب خلفه، وسمع صوت الرجل يستحثُّه للمشي فمشى حتى انحرف إلى صالةٍ واسعةٍ ضخمة … وسطها مائدة للطعام تسع نحو خمسين شخصًا … وعلى الجدران علقت صور أسرة «سيف» في براويز ضخمة مذهبة … وبرغم الضوء الخافت فإن «محب» أحس أنه في قصرٍ عظيم.

ودعاه الرجل إلى دخول غرفة جانبية كانت مضاءة إضاءة قوية … وفي أحد جوانبها مكتب ضخم عليه شعار أسرة «سيف» … الصبارة ذات الأفرع الثلاثة النحاسية وقد علقت خلف المكتب صورة ضخمة ﻟ «سيف» بنظارتِه السوداء وقوامه الفارع.

وكان الرجل قد دخل وجلس إلى المكتب ووضع المسدس أمامه، وطلب من «محب» الجلوس أمامه قائلًا: والآن لماذا دخلت هذه الحديقة ليلًا؟ وعن أي شيءٍ كنت تبحث؟

كان على «محب» أن يتحدث فقد ظل صامتًا طول الوقت، فرفع بصره إلى الرجل لأول مرة ليراه في الضوء … كان يشبه «سيف» إلى حدٍّ بعيدٍ … بنظارته السوداء وقوامه الفارع فقال «محب»: هل أنت «سيف»؟

رد الرجل في ضيق: إنك لم تأتِ هنا لتسأل … إن عليك أن تجيب عن أسئلتي بمنتهى الصراحة وإلا تعرضت لمتاعب لا تتصورها.

قال «محب»: إنني قليل الاهتمام بما يحدث لي … المهم عندي هو ما يحدث داخل هذا القصر.

مال الرجل إلى الأمام وقال بصوت تشع فيه نبرة التهديد: وماذا تريد أن تعرف عما يدور داخل هذا القصر؟

محب: بمنتهى الصراحة هنا أشياء تحدث تدعو إلى التساؤل.

الرجل: مثل ماذا؟

محب: مثل سيارة نقل الأثاث التي تدخل ليلًا!

الرجل: وما دخلك أنت في هذا؟ وهل هناك قانون يمنع من دخول سيارة ليلًا أو نهارًا؟

لم يكن أمام «محب» ما يجيب به فسكت، فعاد الرجل إلى الحديث: من الذي أرسلك إلى هنا؟

محب: لا أحد!

الرجل: غير معقول أن تكون أنت وحدك الذي يبحث عمَّا يحدث في هذا القصر خاصة ما كنت تبحث عنه بين الصبار.

لم يُجب «محب» فعاد الرجل للحديث: عن أي شيءٍ كنت تبحث بين الصبار؟

لم يُجب «محب» فعاد الرجل للحديث: عن أي شيءٍ كنت تبحث هناك؟

أخذ «محب» يفكِّر فيما يقول … ولكنه قرر ألا يجيب عن أسئلة الرجل مطلقًا، فلو تأكد الرجل من أفكاره وشكوكه عن القصر، لما تردد في القضاء عليه.

عاد الرجل إلى الأسئلة، ولكن «محب» ظل صامتًا يبحلق فيه، وفجأة دق الرجل جرسًا ومضت فترة، ثم ظهر مدرب الكلاب الذي يشبه المصارع، ولم يكد يرى «محب» حتى قال: أهذا أنت!

الرجل: هل تعرفه؟

المدرب: لقد رأيته يتسكع بضع مرات حول القصر.

الرجل: إنه الولد الذي رأينا آثاره بين الصبار … ويبدو أنه يعرف أشياء كثيرة ولا يريد أن يتحدث.

المدرب: يمكن أن نجبره على الكلام!

الرجل: لا داعي مؤقتًا لاستعمال العنف … انزل به إلى السرداب رقم ٣، ولا تعطه طعامًا ولا شرابًا لمدة يومين … وسوف يفكر في الحديث بعد ذلك.

مد المدرب يده في عنف وجذب «محب» وقاده في دهاليز كثيرة ثم أخرج مجموعة من المفاتيح من جيبه، ووقف أمام أحد الأبواب المنخفضة عن مستوى الدهليز وفتحه، وجذب «محب» ثم أدخله وأغلق عليه الباب.

كان السرداب طويلًا ومضاء بنور ضعيف … ووقف «محب» يتأمل السرداب … كان سقفه منخفضًا … والجدران قديمة ترشح بالماء … والأرض من الحجر الكبير وقد نبتت بها أعشاب دقيقة … والجو ثقيل في هذه الحرارة الشديدة … وأخذ «محب» يفكر في هذا السجن العجيب الذي أوصله إليه تهوره … وأخذ يتصور موقف أسرته … والأصدقاء في المصيف من اختفائه … وقدر أنهم لن يبدءوا البحث عنه جديًّا إلا في مساء اليوم التالي … فسوف يتصورون أنه قضى الليل في المنزل ثم خرج صباحًا في رحلة ما … فإذا لم يعد حتى المساء فسوف يبدءون جديًّا في البحث عنه … ولكن أين؟ إنهم بالطبع لن يفكروا في «قصر الصبار» إلا إذا أخبرتهم «نوسة» … وحتى لو فكروا وأبلغوا الشرطة فلن يستطيع أحد الوصول إليه في هذا السرداب مطلقًا … وبالطبع سوف ينكر «سيف» أنه هنا.

وعندما تذكر «سيف» أخذ يقارن تصرفاته الأخيرة … فإذا كان هذا الرجل هو «سيف» فهو بالقطع ليس أعمى … فتصرفاته كلها تدل على أنه مبصر جدًّا … فإذا لم يكن هو «سيف»، فأين «سيف»؟ ومن يكون هذا الرجل الذي يتصرف في القصر تصرف المالك؟

لم تكن هناك إجابة … وفكر «محب» قليلًا، ثم قرر أن يختبر سجنه؛ فقد يجد منفذًا للفرار … ولحسن الحظ لم يكونوا قد جردوه من بطاريته فأخرجها ثم أخذ يتجول في السرداب … كان السرداب طويلًا يبلغ نحو عشرين مترًا … وعرضه لا يزيد على مترَيْن … وأخذ «محب» يسير في السرداب وهو يدقُّ الجدران والأرض بقدمَيْه وبالبطارية … كان متأكدًا أنه لا بد هناك فتحة للتهوية وإلا مات اختناقًا بعد ساعةٍ أو ساعتَيْن بعد أن يستنفد «الأكسجين» الذي بالسرداب … فأين هي هذه الفتحة … إنها لا بد أن تكون في سقف السرداب … وأطلق نور بطاريته إلى سقف السرداب … وأخذ يتقدم ببطء … وأحس بنسمة هواء منعشة تأتي من مكانٍ ما في السقف … واتجه إلى ناحيتها وصدق إحساسه فقد كانت هناك فتحة مشبكة بالقضبان وعليها سلك سميك … ولكنها على كل حال كانت تبعث إليه ببعض هواء الليل الرطب … بدلًا من جو السرداب الخانق … ووقف تحتها فترة، ثم أحس أنه متعب فجلس وأخذ يفحص جدران السرداب حوله … ويدق بكعب البطارية … وخيل إليه أنه يسمع صوتًا كالدق … هل هو صدى الدق؟ وكفَّ عن الدق لحظات، ولكن الدق الآخر استمر … هناك شخص ما يدق في سرداب مجاور … من هو؟!

وانتظر «محب» حتى انتهى الدق … ثم دق بكعب البطارية ثلاث دقاتٍ وانتظر … وسرعان ما سمع ثلاث دقات ترد … وأحس بقلبه يكاد يقفز من مكانه … هل هناك سجين آخر أم هي مجرد خدعة؟

وعاود الدق في شكل إشارة … دقة … ودقتَيْن … وثلاث دقات ثم انتظر … وجاء الرد … دقة … ثم دقتَيْن … ثم ثلاث دقات … من المؤكد أن هناك شخصًا عبر الحائط يُعطيه إشارة بوجوده … وخطر بباله خاطر مفاجئ! هل هو «الطيب»؟! … لقد اختفى «الطيب» … في ظروف عجيبة … ولم يظهر له أثرٌ … فهل اختفى هنا؟ أو هل قبض عليه سكان القصر وسجنوه في السرداب؟ كيف يعرف؟

استمر يدق فترة حتى تأكد من وجود الآخر … وأنه في الجانب الذي يجلس بجوار حائطه … ثم أخذ يفكر … هل هناك وسيلة للوصول إلى هذا الآخر … وأخذ يتحسَّس الجدار بجواره … كان مبنيًّا من الحجر الضخم … ولكن تتابع السنين ومياه الرشح أضعفت الملاط الذي يربط الأحجار ببعضها البعض … ولو كان معه أداة حادة لاستطاع أن يزيل الملاط ويحرك أحد الحجارة …

تذكر «محب» أن معه سلسلة مفاتيح الدراجة وبها مطواة صغيرة فأخرجها من جيبه، وأخذ يعمل بهمة في إزالة الملاط … لم تكن المهمة سهلةً كما كان يتصور … فقد كان طرف المطواة صغيرًا … ولكن هذا لم يُهن من عزمه … فقد كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكنه من الاتصال بالآخر ومعرفة حقيقته … وقد تكون طريقة للنجاة أيضًا!

واستمر يحفر حتى أحس بيده تُؤلمه وبذراعه يكاد يكف عن الحركة من فرط الإجهاد … وفي هذه اللحظة حدث شيءٌ كاد يوقف الدم في عروقه … شيء لم يتصوره أبدًا ولا توقعه … فقد وجد أحد الأحجار ينسحب تدريجيًّا من الجدار إلى الجانب الآخر … وأضاء «محب» بطاريته في اتجاه الحجر الذي سرعان ما اختفى تمامًا … ثم سمع صوتًا من الجانب الآخر يسأله: من أنت؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤