ملكة مشعوذة

آسرة القلوب برقَّتها ولطفها، وموغرة الصدور غيظًا من قساوتها وعنفها، عالمة نحريرة وخرقاء حمقاء، وسياسية ربة حنكة ودربة، ومجَّانة سليطة اللسان وكثيرة الهذر والهذيان. هكذا كانت خرستينا ملكة أسوج، وسيبيل١ القرن السابع عشر وسميراميسه. فكانت حياتها حافلة بالمتناقضات التي راعت أوروبا من جهة وساءتها من جهة أخرى. وهذه الحوادث التي هي أغرب ما يرويه التاريخ عن ملكات العالم تترك في نفس من يطالعها أثرًا عميقًا ممزوجًا من العجب والاشمئزاز.

وكان ظهور خرستينا على مسرح الحياة الذي مثلت منه فصول أعمالها المتضاربة المتناقضة مقرونًا بمرارة الخيبة والحرمان؛ لأن والديها والأسوجيين كافةً كانوا يعللون نفوسهم قبيل ولادتها بولد ذكر يرث عرش أبيه طبقًا لما سبق وبشر به العرافون والمنجمون. فلما عرفوا أن الطفل المولود بنتٌ لا صبيٌّ شملهم الحزن والغم، وكان يوم ميلادها مناحة عامة في بلاط الملك وقصور الأغنياء وأكواخ الفقراء. ويقال إن الملكة نفسها تجرَّعت غصة خيبة لم تنسَ مرارتها في حياتها، ولم تستطِع أن تنظر إلى ابنتها إلا بعين المقت والكراهية.

وكان أبوها الملك غستافس أودلفس أشقر الشعر كبير الجسم قوي البنية، وله في ذراعه متانة الحديد وفي قلبه بسالة الأسود، وكان في الحرب شديد الشكيمة صعب المراس، وفي السلم ألطف من نسيم الصباح. ومع شدة ميله إلى مقارعة الأبطال في ساحة النزال كان شغوفًا بالعلم ومجالسة العلماء؛ جنديًّا باسلًا وعالمًا فاضلًا، وهذه الصفات المتباينة ورثتها عنه ابنته.

وورثت عن أمها كثيرًا من العيوب والنقائص، ولعلها لم تأخذ عنها فضيلة واحدة؛ لأن الملكة ماري كانت غاية في البله والغباوة ومصابة بهوس التباهي بالملابس ومعاشرة السوقة والغوغاء. فكانت تقضي معظم وقتها محاطة بالأقزام والمجَّان، وإذا خلت بنفسها استسلمت إلى الهواجس والوساوس، واستخرطت في العويل والبكاء. فكان نسيج حياتها لُحمته الغرور وذرف الدموع وسُداه الجهل والحماقة.

ولما كانت خرستينا ابنة ست سنوات توفي أبوها سنة ١٦٣٢ وهو يحارب حرب الأبطال في معركة لوتزن، فاتسع للملكة البكَّاءة مجال النوح والانتحاب والحزن والاكتئاب، فغشت غرف القصر كلها بالسواد، وانقطعت لمواصلة البكاء ليلًا ونهارًا، وأكرهت ابنتها على مشاركتها في العويل والنحيب. وحينئذٍ تصدَّى لها الوزير أوكزنستيرن، فأرسلها إلى قلعة بعيدة لتبكي هناك ما تشاء، وجعل الفتاة الصغيرة ولية العهد تحت وصايته ورعايته.

فقضت خرستينا عشر السنين التالية وحولها أساتيذ العلوم والفنون الذين توافروا على تثقيفها وتهذيبها، وإعدادها للجلوس على عرش أبيها. وقد رأوا منها رغبة واجتهادًا منقطعَي النظير. فإنها لشدة كلفها بإحراز العلوم كانت تنصبُّ على الدرس والمطالعة حتى في أوقات أكلها ونومها، ولم تبلغ منتصف العقد الثاني من سنها حتى كانت قد تضلَّعت من معرفة ثماني لغات؛ فبرعت في اللغة اليونانية (القديمة) براعة فائقة، وأعجب العالم بمطالعة ما دبَّجه يراعها في اللغتين اللاتينية والفرنسوية. وشرعت تُباحِث المطارين في المسائل اللاهوتية، والفلاسفة في المواضيع العلمية العويصة، والوزراء في الشئون السياسية. وهي كالجنود في استخدام الأقسام وما خشن وغلط من الكلام، ولها براعة تامة في الرماية والفروسية.

أما الملابس فكانت تحتقر شأنها كل الاحتقار، ولا تعنى بالنظافة، وأما الازدراء الأشد والأعظم فكان لبنات جنسها ولكل ما يتعلق بهن، وودَّت لو كانت رجلًا، وظلَّت إلى آخر يوم من حياتها رجلًا في كل شيء ما عدا الجنس.

ومع أنها كانت قصيرة القامة وغير حسنة الشكل؛ لأن إحدى كتفيها أعلى من الأخرى، لم تخلُ من بعض الجواذب. وكانت أحسن ما تُرى محلولة الشعر يتطاير في الهواء موردة الخدين ساطعة العينين وهي ممتطية صهوة جواد ينهب بها الأرض نهبًا.

وقد شانها منذ حداثتها كثير من العيوب التي هي نفسها أقرَّت بها ولم تنكرها، فاعترفت بأنها سيئة الخلق سريعة الغضب ودعَّابة كثيرة العبث والمجون وشديدة التهكم والازدراء، وقليلة الاهتمام بما يجب على بنات جنسها مراعاته من الحشمة والنزاهة، ولم يكن للأدب عندها معنًى ولا حرمة؛ إذ كانت عطلًا من حلاه.

ولما أكملت خرستينا دروسها تسلَّمت مقاليد الحكم وظهر من صفاتها الحقيقية ما كان محجوبًا وراء ستار الاهتمام بتحصيل العلوم. فحذت حذو كاترين إمبراطورة روسيا في اختيار عشَّاقها ومحبيها من ندمائها وجلسائها، أو من أية طبقة كانت من طبقات الرعية مفضِّلة أجملهم طلعةً وأحسنهم صورةً. وكانت تعمد إلى تبديلهم وتغييرهم كما تفعل في تبديل ملابسها. وكان الكونت مغنوس غاردي في طليعة الذين اصطفتهم أولًا لعشقها وغرامها، فخصَّته بالعناية والالتفات وأسبغت عليه الرتب والوسامات والهدايا، وجعلته قهرمان قصرها ثم أمين خزانة الدولة. وأخيرًا عيَّنته سفيرًا، وكان ذلك حين ملَّته وسئمت معاشرته، فتنقَّصته وجبهته ملقِّبة له بالسكِّير الكذَّاب، وتبدَّلت منه بيمنتلي الإسباني. ثم نحَّت هذا واستبدلت به غيره، وهكذا كان لكلٍّ من أولئك العشاق حظ التمتع بعز كبير القدر قصير العمر. ولكن هذه المسرات الزائفة الشائنة لم تكفَّ شهوات قلبها، بل ظل فيه فراغ كبير وشوق شديد لمجالسة كبراء العلماء والشعراء والفلاسفة في أوروبا. وهذا الشيء الشديد إلى المباحثات العلمية والمطارحات الفلسفية لزب بها يومًا فدفعها إلى التفريط في حياة دسكارتس المنكود الحظ؛ إذ جرَّته من فراشه الساعة الخامسة من صباح يوم شديد الزمهرير ليباحثها في الأمور الفلسفية.

وبعدما صارت ملكة ظلَّت مهمِلة العناية بملابسها ومظاهرها؛ فقد قيل عنها أنها لم تمشط شعرها إلا مرة في الأسبوع، وكثيرًا ما كانت تمهله أسبوعين. وفي أيام الآحاد كانت تفرغ من زينتها ولبس ثيابها في نصف ساعة فقط وفي بقية الأيام ربع ساعة. وكانت ملابسها الداخلية مرقَّعة ممزَّقة. ولما أشار أحد جلسائها إشارة لطيفة رقيقة إلى فضيلة النظافة وطهارة الجسد صاحت به: «هذا حسن للذين ليس عندهم شيء يلهيهم عنه.»

وفي أثناء بحثها في الدين أو الفلسفة كان كلامها في الغالب خاليًا من آداب المحادثة ومفرغًا في قوالب فظَّة سمجة. وعندما يجتنب محدِّثها التفوه أمامها بألفاظ لا يليق النطق بها، ويستبدل بها كلمات مأنوسة مألوفة كانت تعارضه وتستخدم الألفاظ التي يتحاشى حتى الرجال سماعها. هكذا كانت الملكة خرستينا في فجر صباها. قبلما أرخت العنان لهذه النقائص والرذائل التي هبت من ذلك الحين تتمكن فيها، وتستعد للاستئثار بها والتغلب عليها فيما بعد. وكانت بداءة استفحال هذه الشرور يوم وصول بوردلت إلى بلاط أسوج. كان هذا الرجل ابن حلاق فرنسوي، وبعدما ألمَّ إلمامًا بسيطًا بصناعة الصيدلية جالَ في أوروبا منتحلًا حرفة الطب، ومدعيًّا كشف أسرار عجيبة غريبة تمكنه من شفاء جميع الأدواء والأمراض. وكان بوردلت هذا بشوشًا طروبًا سريع الخاطر كثير الدعابة والمزاح، بارعًا في الغناء والموسيقى وله مهارة فائقة في إبهاج الآخرين وإدخال السرور إلى قلوبهم. فتعشَّقته النساء ولقيت بضاعة شعوذته وتدجيله رواجًا حتى عند البابا نفسه، وكان عازمًا على ترقيته إلى رتبة كردينال لو لم يعرض له ما قضى بتعجيل سفره من رومية.

وعمَّا قليل دُعِيَ بوردلت إلى أسوج لمعالجة الملكة خرستينا التي خيِّل إليها أنها مشرفة على الموت. والحق يقال إنها كانت حينئذٍ مريضة مرضًا شديدًا لما قاسته في السنين الماضية من عناء الانكباب على الدرس والمطالعة وإهمال مراعاة القوانين الصحية. فبعدما فحصها أمر بأن تهجر الكتب والدروس وتعكف على اللهو والطرب. وسرعان ما عملت الملكة بموجب مشورته؛ فإنها على الفور طفرت طفرة واحدة من جانب الإفراط إلى جانب التفريط: أعرضت عن الكتب والعلماء والشعراء والفلاسفة، وانغمست في حمأة الخلاعة والدعارة. وأخذت تقضي ليلها ونهارها في الرقص والتهتك جاعلة أهل بلاطها يقتفون خطواتها، وأكرهت كبار الأساتيذ ذوي الرزانة والوقار على الرقص والغناء، وتمثيل فصول الدعابة والمجون، وإتيان ما تقزُّ منه النفوس وتغضي عنه العيون، وهي تتملى مشاهدة أعمالهم السخرية طيبة النفس قريرة العين وممعنة في الضحك إمعانًا يُسِيل دموعها على خديها.

وكان الأسوجيون ينظرون إلى هذه المخازي بعيون الاستفظاع والاستنكار، فأجمعوا على أن الملكة مصابة بدخل في عقلها. فقد خصَّت بوردلت الدجال بأعلى المناصب والرتب في الحكومة والجيش، وغمرت ابن الحلاق زعيم لذاتها ومسرَّاتها بفيض النعم والهبات، فازداد تماديًا في الغطرسة والطغيان وإتيان فضائح تقشعر من ذكرها الأبدان، وباتت بلاد أسوج بحذافيرها رازحة تحت أعباء المكوس والضرائب التي اقتضاها غلو الملكة في التبذير والإسراف. وبلغ من شدة حنق الناس على بوردلت أن حياته أصبحت في خطر؛ ولذلك لم يرَ بدًّا من الإسراع في النجاة بنفسه. فتوارى ذات ليلة عن الأبصار وفرَّ هاربًا بثروة لا تقدر.

وبعد فراره ملَّت خرستينا العرش وسئمت معاشرة الأسوجيين الفقراء المدقعين، وتاقت نفسها إلى السفر والطواف في عواصم أوروبا للتنعم بلذات لا سبيل للحصول عليها في بلادها، فجمعت مجلس الشيوخ ذات يوم سنة ١٦٥٤ وأعلنت تنزُّلها عن العرش لابن عمِّها شارل أغسطس، وعلى رغم إلحاح أعضاء المجلس والوزراء وجميع أعيان الأمة عليها بالبقاء أصرَّت على عزمها واتخذت أُهبتها للسفر. فجمعت أثمن ما عندها من نقود وحِلى وجواهر، وقصَّت شعرها ولبست ثياب رجل، وحملت بندقيتها على كتفها مدعية أنها ذاهبة للكفاح في فلاندرس، وكان هذا آخر عهدهم بها.

وبعد بضعة أسابيع ألقت عصا التسيار في بلاد الدنمرك منتحلة اسم ابن الكونت دولما، وهناك زارتها في الفندق المقيمة فيه ملكة الدنمرك متنكرة في زي جارية، وقد أجادت تنكُّرها كل الإجادة، حتى إن خرستينا لم يخامرها أقل ارتياب فيها. وقد شاقها ظُرفها وأدبها ومالت إلى محادثتها عن أمور مختلفة تناولت فيها ذِكر ملك الدنمرك، فأشارت إليه باسمه مجردًا عن نعوت التجلة وألقاب الاحترام. وعندما غادرت خرستينا الفندق أرسلت الملكة حاجبًا في أثرها يخبرها بأن الخادم التي ذكرت على مسمعها اسم ملك الدنمرك بعدم احترام لم تكن سوى الملكة، فلما سمعت خرستينا كلامه قهقهت ضاحكة وصاحت: «ماذا؟ تلك الخادم التي قضت وقت تناولي الغداء واقفة أمامي كانت ملكة الدنمرك؟ إذن أصابها ما يصيب عادةً أصحاب الأخلاق الشاذة والطباع الغريبة؛ فإنهم في الغالب يطلعون في تنكرهم على أكثر مما يودون. فهي الملومة لا أنا؛ لأني إذا لم أمنح موهبة معرفة الغيب لم أستطع معرفتها وهي ظاهرة في لباس كهذا.»

ومن هناك شخصت إلى همبورغ ومعها بعض الخدم والحشم، وكانت كلما مرت في طريقها بمدينة تدخلها بأبهة وعظمة مرتدية حلة رسمية سنية، وممتطية جوادًا مطهمًا، وسائرة في موكب فخم جليل في الشوارع الكبرى، والجماهير يزحمون بعضهم بعضًا لمشاهدتها والهتاف لها وإلقاء خطب الاحتفاء بها. ولكنها كانت بعض الأحيان لشدة نزقها ورعونتها تشوِّه محاسن هذه الاحتفالات بما تبديه من أمارات الاستخفاف والاستهزاء بالمرحبين والهاتفين، أو تتصدى لمقاطعة الخطيب بقسم غليظ جهير أو بنكتة أو بقهقهة شائنة.

وكانت بعد حفلة استقبالها تختفي عن الأنظار وتطوف متخفية من فندق إلى فندق لمنادمة الغوغاء ومسامرتهم، ثم تستأنف المسير إلى مدينة أخرى وتدخلها — كما سبق الوصف — دخول الغالب الظافر. وفي مدينة بروكسل حيث استُقبِلت كأعظم ملكة أعلنت قبولها للمذهب الكاثوليكي قائلة إنها قد ملَّت سماع مواعظ الإنجيليين الطويلة الركيكة! ولما أقيمت لها حفلة الارتداد في أنسبروك أزعجت الحضور وأسأمتهم بثرثرتها وكثرة هذيانها. وعندما أقاموا لها في المساء حفلة تمثيل قالت لهم: «يخلق بكم أيها السادة أن تمثلوا لي رواية مضحكة؛ لأني مثلت لكم فصلًا سخريًّا!»

ثم أغذَّت السير إلى رومية للتبجُّح والتباهي بإيمانها الجديد، فلقيت من كرم الوفادة والمبالغة في الترحيب ما يفوق الوصف، فهرع لاستقبالها الكرادلة والمطارين والعظماء والسفراء كلٌّ منهم في مركبته الفاخرة يجرُّها ستة من الخيول المطهمة المسرجة بالذهب والفضة، وخرجت معهم أشراف سيدات رومية يحيط بكل منهن أربعون حاجبًا. وأنفق البابا على هذا الاستقبال النادر المثال ما ينيف على ستمائة ألف جنيه.

وجرى لها استقبال أفخم من هذا وأعظم عندما زارت الفاتيكان لتنعم بالتيمن بمشاهدة البابا ونيل بركته. فإن ذلك اليوم كان عيدًا عامًّا لسكان رومية، اصطفَّت فيه الجنود على جانبَي الطريق، وسارت الملكة الكاثوليكية بين قصف المدافع وقرع الأجراس وإيقاع الآلات الموسيقية على صهوة جواد أبيض بين كردينالين في طليعة موكب لا يدرك الطرف آخره.

وقد أحدثت في رومية كما في غيرها تأثيرين متناقضين؛ فمن جهة بهتت الناس وأدهشتهم بشدة ذكائها وسرعة خاطرها، ومن جهة أخرى أذكت نار استيائهم واشمئزازهم بطيشها ورعونتها. وأوغلت ما شاءت في مغازلة الكرادلة ورقَّت بسحرها عقول كبار الأعيان والنبلاء، وجعلت الفاتيكان مسرحًا للهو والمرح، وأغرت طلبة الكلية المقدسة أن يقتدوا بها في الذهاب كل ليلة إلى المسارح والملاهي. ويقول دوران: «إن شرفة لوج خرستينا كانت كل ليلة غاصة بالكرادلة الممتعين أنظارهم برؤية الراقصات والمغنيات اللواتي جئن إلى رومية بدعوةٍ منها.» وكانت إذا حضرت الصلاة في الكنيسة تقصر فيما يجب عليها من إبداء الخضوع والاحترام، وتلهو بمضاحكة الذين حولها وممازحتهم، أو بالمجاهرة بانتقاد طرق العبادة على مرأى المصلين ومسمعهم.

وقد أسرفت في تبذير ما عندها من المال وإنفاقه على مسرَّاتها وشهواتها حتى باتت صفر الكف، فاستعانت بالبابا طالبة أن يقرضها مبلغًا. ولما عرض عليها قداسته راتبًا شهريًّا قدره أربعمائة ريال بشرط أن تصلح سيرتها وتعتدل في نفقاتها، استشاطت غيظًا وحنقًا ورهنت جواهرها وبرحت رومية نافضة غبارها عن قدميها.

وانطلقت إلى فرنسا حيث تعيد تمثيل مجالَي الأبهة والعظمة ومظاهر الطيش والحماقة. وفي كل مدينة عرجت عليها في رحلتها الملكية كانت تُستقبَل بالخطب السمجة المملة والحفاوات السنية. وكان الملك قد أوفد الدوق دي غيز لاستقبالها ومرافقتها، فوصفها بقوله: «طويلة القامة بدينة الجسم جميلة اليدين والذارعين غير مستوية الكتفين عريضة الوركين، تُفرط في استعمال الغمنة (البودرة) لوجهها والدهون لشعرها. ولها أحذية الرجال وصوتهم وطرقهم. ومع شدة عجبها وكبريائها تراها بعض الأحيان دمثة الخلق لينة العريكة. تتكلَّم بثماني لغات، وهي في العلم والأدب كأبرع خريجي المدارس العليا. وحقًّا إنها شخص عجيب غريب.»

وكان الاحتفال باستقبالها في باريس لا يقل في رونقه وعظمته عن استقبالها في رومية، فدخلتها على جوادها الأبيض وجماهير المستقبلين لها يعدون بعشرات الألوف، وهي لابسة صدرة قرمزية اللون وعلى رأسها قبعة مزدانة بالريش الطويل، وقدَّامها على جانبَي السرج طبنجتان وفي يدها خيزرانة. وبعدما نالت مشتهاها من دخول باريس في موكب كبار الملوك والقياصرة ذهبت لزيارة الملك والملكة في كمبيان. وقد وصفها بعض الذين شاهدوها في حضرة الملك فقال: «كان شعرها مشعثًا ونقبتها (تنورتها) القصيرة منحسرة عن حذاء ضخم طويل كأحذية الرجال، وعليها سمات الجلافة والخشونة فهي بنورية (غجرية) أشبه منها بنروجية. ويداها قذرتان وسختان لقلة تعمدهما بالغسل والتنظيف.» وعلى رغم هذه المظاهر المستقبَحة وقعت في نفس الملك وقعًا حسنًا جدًّا، وقال عنها: «إنها جميلة وإن لم تكن حسنة التناول.»

وكان ما ينقص خرستينا من سلامة الذوق وحسن التناول ظاهرًا في جميع تصرفاتها. وقد اشمأز الملك لويس إذ رآها جالسة أمام أهل بلاطه على كرسيٍّ عالٍ ورافعة رجليها على كرسي آخر مثله في العلو. وازداد تكرهًا واشمئزازًا لما استعارته بعض خدمه المخصوصين لقضاء حاجات هي من شأن الإماء والجواري. وعلى رغم هذه المعايب وما أشبهها كشدة النزق وسرعة الغضب والانبعاث في الشتائم والأقسام، وعدم مراعاة آداب المائدة في أثناء تناول الطعام، على رغم هذه النقائض كلها كان في استطاعة خرستينا أن تظل مدة طويلة ناعمة بضيافة الملك لويس لو لم تتعرض لشئونه الخاصة وتقدم على المداخلة في شئون عشقه وغرامه. فقد ألحَّت عليه أن يتزوج ماري مانشيني ابنة أخت الكردينال مازارين ضد إرادة والدته التي أوعزت إليها بلطف أن تغادر فرنسا.

فاستأنفت أسفارها عودًا على بدء. وفي طريقها إلى إيطاليا باتت ليلة في مونتارج حيث زارها ابن الملك ووصفها بما خلاصته: «دعيت للصعود وحدي إلى عليتها، فوجدتها في سريرها وعلى المنضدة شمعة بيضاء تستمد منها الغرفة نورًا ضئيلًا. وعلى رأس الملكة الحليق منشفة مكورة كالعمامة. ولم يكن للنظافة ولا للأناقة أثر على فُضُلها (ثوب النوم) ولا على شيء آخر حولها. فلم تكن جميلة ولا نظيفة.»

ولما وصلت إلى رومية كان استقبالها جافًّا فاترًا، فقفلت راجعة إلى فونتنبلو. فلقيت فيها ما لقيته في رومية من التجهم والتقطيب وعدم الاحتفاء والترحيب. وإذ لم يكن الملك وحاشيته هناك أذنوا لها أن تقيم فيها وقتًا قصيرًا. وفي أثناء إقامتها وقع ذلك الحادث الفاجع الذي سود صحيفة خرستينا وقرن ذكراها بالعار والشنار إلى الأبد.

وخلاصة ذلك أنه كان بين أتباعها شابَّان من نبلاء إيطاليا وشرفائها؛ أحدهما المركيز سونالدتشي والآخر الكونت سنتينلي. وكانا كلاهما يتنازعان حبها والتقرب إليها، وكانت كفة سنتينلي الراجحة، فدبَّت عقارب الغيرة والحسد في قلب خصمه المركيز، وزوَّر رسائل بتوقيع الكونت تتضمَّن طعنًا جارحًا في جلالتها. فلما بلغها ذلك وتحقَّقت صحة التزوير الذي أقدم المركيز عليه، حمي وطيس سخطها وحنقها ودعتهما كليهما إليها. فحضر سنتينلي ومعه جنديان إيطاليان، وعرض رسائل القذف والطعن، وسأل مونالدتشي هل هو كاتب هذه الرسالة، فأنكر بادئ ذي بدء ثم اعترف، وجثا على ركبتيه عند قدمَي الملكة طالبًا صفحها وغفرانها، فأعارته أذنًا صماء والتفتت إلى راهب كانت قد دعته إلى الاجتماع وقالت له: «خذ يا أبي هذا الرجل وأعده للموت وافعل ما يجب نحو نفسه.» ثم أشاحت عن المركيز المنكود الحظ الجاثي على ركبتيه قدامها ودخلت إلى غرفتها تلهو بمجاذبة وصيفاتها أطراف الدعابة والمجون.

ثم تلا ذلك وقوع كارثة هي من أفظع الفواجع في تاريخ البشر. فإن الراهب هاله الحكم بالموت على المركيز كما لو كان عليه هو. وذهب إلى خرستينا ليشفع فيه، فأعرضت عنه واستتلت هذرها وهذيانها. وجاءها المركيز نفسه ووقع عند قدميها وصاح: «رحماكِ! اصفحي عني إكرامًا لجراح المخلِّص.» فأجابته: «لا يمكنني ذلك.» ثم أصدرت أمرها إلى سنتينلي تقول له: «أكرِهه على الاعتراف ثم اقتله.»

وما كاد المركيز يفرغ من لفظ آخر اعتراف على الأرض بما لا مزيد عليه من اللجلجة والغمغمة، حتى رفعه الكونت إلى جدار الرواق وفاجأه بأول ضربة من سيفه. وإذ كان المركيز أعزل تلقَّى السيف بيده فبرى ثلاث أصابع منها بري القلم ونثرها على الأرض. واشترك الجنديان في الحمل عليه حتى جندلوه والدم يتدفق من عدة جراح بالغة في رأسه وسائر أعضاء جسده، ثم عاجله الكونت بضربة من حسامه اخترقت حشاه، وختمت أفظع جريمة في تاريخ الإنسانية. وبينما كان محبها السابق ملقًى مدرجًا بدمائه يصرخ صرخات الموت، كانت هي جالسة في غرفة مجاورة وقهقهة فرحها تمتزج بأصوات نزعه ولفظه النفس الأخير.

ولما ذاعت أنباء هذه الجناية الوحشية أجفلت أوروبا بأسرها من شدة هولها وفظاعتها، وعدَّها الناس قاطبة أشنع ما اقترفته يد هذه الشيطانة الرجيم من الجرائم والموبقات. وحينما بعث إليها مازارين رسولًا ينذرها بما يتهددها من الخطر في فرنسا أن حدثتها نفسها بالمجيء إليها، أجابته بكل سلاطة ووقاحة قائلة: «لو كان مونالدتشي باقيًا حيًّا لما أحجمت دقيقة عن فعل ما فعلته به. إذن لا أرى أقل سبب يحملني على الندامة.» وبعد خمس وعشرين سنة ظلت على ما عهدها به الناس من الصلابة والوقاحة. ومما كتبته عن هذه الجريمة قولها: «لست أرى موجبًا لتنصلي من تبعة مقتل مونالدتشي. فما أسخف هذه الضجة التي يثيرها الناس على حادث تافه كهذا! فإن أصروا على عد القتيل بريئًا لم يهمني ذلك قيد شعرة ولا مثقال ذرة!»

وعلى هذا الأسلوب ظلَّت تنظر إلى تنقُّص العالم لها بعين الاحتقار وعدم الاهتمام إلى آخر ساعة من حياتها. ولما منعتها حكومة أسوج من دخول بلادها ثنت عنان جوادها عنها ضاحكة هازئة ووجهته شطر بلاد أخرى. ودبرت مكيدة لفصل بومارنيا عن أسوج بالقوة المسلحة، والاستيلاء على عرش بولونيا. ولما قطع البابا عنها الراتب تهددته بغزو الفاتيكان وخلعه عن عرش البابوبة. وقضت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتها منبوذة من العالم كله وفي فقر واحتياج لا مزيد عليهما، ومع ذلك بقيت مثلًا مضروبًا في الوقاحة والعناد والزيغ عن سبيل الهداية والرشاد.

وحين شعرت بدنو الأجل عزمت ألَّا تغادر المسرح الذي مثَّلت فيه فصول حياتها إلا على وجه يملأ العالم دهشةً واستغرابًا. فأعدَّت من تكفينها حلة من الحرير الأبيض الناصع مطرزة بالفضة والذهب، ومصنوعة على أبدع مثال من الإجادة، واستعدت للمنظر الأخير من مناظر حياتها التمثيلية، متوقعة نزول الستار بثبات قلب ورباطة جأش.

وقد حضرتها الوفاة في يوم من شهر أبريل سنة ١٦٥٩. وإن كانت قد شعرت بشيء من الأسف على مغادرة هذه العالم؛ فذلك لأنها لم تستطع أن تشاهد الاحتفال بدفنها. فإن رومية عزمت أن تشيعها إلى رمسها باحتفال فائق في عظمته وجلاله؛ إذ أُلبست حلتها الحريرية الموشاة بالفضة والذهب، ووضع تاج على رأسها وصولجان في يدها، وسير بها في موكب ملكي باهر تحفُّه المهابة والجلال إلى كنيسة القديسة دروثيا التي وشحت بالسواد وأنيرت بالشموع.

وفي المساء نُقل النعش إلى كنيسة القديس بولس يتقدمه خمسمائة راهب بأيديهم الشموع الموقدة يتبعهم رجال العلوم والفنون، ووراء النعش الكرادلة ورؤساء الأساقفة وكبار رجال السياسة وأرباب الجاه والثروة. وهكذا شُيِّعت خرستينا إلى مقرها الأخير، ودفنت تحت قبة كنيسة القديس بولس أعظم كنيسة في العالم.

وقد مضى الآن نحو ثلاثة قرون على استراحة جسدها في قبره ووقوف نفسها أمام خالقها العظيم. ولا يزال ذكر سيرتها موضوع حدث المؤرخين والناقدين. وقلما اجتمع في إنسان غيرها ما اجتمع فيها من المتناقضات والمتغايرات: مواهب سامية جليلة مقرونة بنقائص شائنة ومعايب فاضحة وخيبة مرة. ومهما يكن من ذكائها النادر وبراعتها الفائقة، فإنهما لا يذكران بجانب رذائلها التي شبَّت عن طَوْق الوصف وجاوزت حدَّ الإحصاء، ومثَّلتها لعيون معاصريها وقرَّاء تاريخها شيطانةً في صورة امرأة.

قالت مرة: «ذرية الملوك أشبه بالنُّمُر والأُسُد التي يدرِّبها مروِّضوها على ألوف من الألعاب والحركات، فتنظر إليها وتظنها بالغة حد الطاعة والانقياد، ولكن ضربة من مخلب واحد منها على غير توقع وانتظار تريك أن ترويض حيوان كهذا محال.» وهي نفسها كانت حيوانًا لا يروَّض؛ لأنها كانت من حثالة الذرية التي أشارت إليها.

١  سيبيل اسم أطلقه قدماء اليونان والرومان على فتيات ادَّعين العرافة والقدرة على دفع الرزايا وكظم غيظ الآلهة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤