سرُّ جزيرة سنت مرغريت

من كان ذلك الرجل العجيب الغريب الذي ظلَّ أكثر من أربعين سنة ملقًى في غيابات السجون، فزُجَّ أولًا في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، ثم في جزيرة سنت مرغريت، وأخيرًا في سجن الباستيل؟ وكانت الأوامر المشدَّدة الصادرة إليه في هذه السجون الثلاثة أن يلزم التنكر والاحتجاب حتى عن حرَّاس السجن، ولا يفوه بكلمة تميط اللثام عن حقيقة شخصه؟ وقد أُنذِر بأن أقل مخالفة منه لهذه الأوامر تقضي بموته؟ وبعد وفاته وتخلُّصه من الشقاء والعذاب لم يبقَ لعينه أصغر أثر ولا لمبتدأ قصته أقل خبر؟ ذهب بعضهم أنه كان دوق دي فندوم أحد عشَّاق آن أوف أستريا زوجة لويس الثالث عشر، وكان الكردينال مازارين يغار منه غيرة شديدة، فكاد له هذه المكيدة تشفِّيًا وانتقامًا. وزعم غيرهم أنه دوق مونموث ابن الملك شارل الثاني، وقال آخرون إنه أقرب نسيب للويس الرابع عشر.

والذين عرفوه حقيقةً لم يجهلوا خطر الموت الذي يتعرَّض له كلُّ من يبوح بهذا السر، فإن مدام دي بومبادور وغيرها من سيدات الشرف في بلاط فرنسا بذلن كل عزيز وغالٍ في سبيل الوقوف على هذا السر، وعُدْنَ بلا طائل. ورفض لويس السادس عشر رفضًا مطلقًا أن يفضي به إلى ماري أنطوانيت، وكثيرون من المطلعين على هذه الحقيقة ماتوا وسرُّها مدفون في أعماق صدورهم.

وأخيرًا تمكَّنت امرأة من هتك الستر؛ فإن لويس الخامس عشر كان قبيل الاحتفال ببلوغه سن الرشاد وإلقاء مقاليد الملك إليه، قد سأل نائب الملك أن يطلعه على هذا السر فأبى، ولكنه باح به لابنته الدوقة دي باري؛ إذ ألقت نفسها بين ذراعَيْه وهي تبكي وتنتحب متوسِّلة إليه بلسان عَبَراتها الغزيرة وزفراتها الحارة أن يفضي إليها بهذا السر المصون. وبعد ساعات كانت الأوراق المتعلِّقة به في يدي دوق دي ريشليو عاشق الدوقة. والقصة التي كشفت الأوراق عنها حجاب الخفاء كانت أغرب القصص.

وأهم هذه الأوراق صكٌّ هذا عنوانه: «بيان ميلاد وتربية الأمير المنكود الحظ المسجون بأمر لويس الرابع عشر. وقد كتبه مربي الأمير قُبيل موته». وإليك خلاصة ما جاء في البيان:

«في ظهيرة اليوم الخامس من شهر سبتمبر سنة ١٦٣٨ وضعت الملكةُ آن قرينةُ لويس الثالث عشر ولدًا وارثًا للعرش بعدما قضت عشرين سنة عاقرًا، فسُرَّ زوجها بهذه البشرى سرورًا عظيمًا، ولكن سروره هذا كان قصير الأجل سريع الزوال؛ لأن القابلة جاءت إليه وقالت له إن جلالة الملكة مزمعة أن تلد ولدًا آخر، فراعه هذا الخبر، وكان قد أنذره بعض الكهان والعرَّافين بأن الملكة ستلد ابنين معًا. وكانوا في باريس يتطيَّرون من ولادة وليَّي عهدٍ معًا ويعدُّونها شؤمًا على الدولة. فسقط الملك في يده خوفًا وحيرة، ولم يدرِ ماذا يفعل. وعلى الفور استدعى الكردينال ريشليو. ولما جاء وعلم بما كان قال: «إذا صح ما تنتظره القابلة وتمَّت ولادة الابن الثاني فمن الضروري كتمانها، وعدم إطلاع أحد على سرِّها؛ لأن الابن الثاني قد تطمح نفسه في المستقبل إلى الملك فينازع أخاه التاج والصولجان ويشقَّان المملكة.»

وقد تمَّ ما توقَّعته القابلة، وولدت الملكة ابنًا ثانيًا أجمل طلعةً وأنبل شأنًا من المولود الأول. ولم يسَعِ الملك أن يخالف مشورة الكردينال، فاستحلف جميع الذين حضروا ولادة الابن الثاني أن يكتموا هذا الخبر. وأُعطي الطفل للقابلة بعدما أنذروها بعقاب الموت إن أذاعت قصة ولادته. وبهذا الغموض والتكتم ابتدأت حياة أشقى أمير عاش على وجه الأرض. وهذا الأمير الطفل المنبوذ من والدَيْه والمطرود من قصرهما الملكي لقي بعض الرعاية والعناية في بيت القابلة الحقير، وظلَّت تتوفَّر على تربيته حتى جاوز طور الطفولة، فتسلَّمه منها أحد الأعيان، وكان قد أقسم للملك يمين الاحتفاظ بهذا السر. وعند هذا الرجل الشريف شبَّ الأمير وترعرع وبلغ أشدَّه، فكان فريدة في عقد الشبان المشرقة وجوههم بأنوار الحسن والبهاء، والمتدفقة عقولهم بفيض النباهة والذكاء، وعلى محيَّاه فوق هذا كله ملامح رفعة الشأن وسمو المنزلة وبيِّنة الانتساب إلى الأسرة المالكة. وكان قُبيل ذلك قد استكدَّ ذهنه وشحذ غرار أفكاره، وغاص في لجَّة التأمل لعله يقف على حقيقة نفسه ويعلم من هو. فقد اتضح له أنه لم يكن من عامة الناس؛ وذلك من وفرة المال الذي كان يتدفَّق عليه بملء السخاء والاحترام الذي كان يعامل به حتى من الوصي القائم على تنشئته وتربيته. فابن من هو؟ من أبوه؟ ومن أمه؟ ولماذا لا يقيم معهما؟ هذه وما أشبهها من الأسئلة كانت تخطر بباله وتتردد على لسانه. ولكنه لم يتمكَّن من الإجابة عنها ولا استطاع أن يجد لأصله منبت أسلة ولا مضرب عسلة. على أنه بعد طول البحث والتنقيب توصَّل ذات يوم فجأةً إلى حل اللغز ومعرفة السر.

فقد اتفق له في أثناء غياب وصيِّه أن عثر على صندوق مفتوح مملوء رسائل، فدفعه حب الاستطلاع إلى تلاوتها، فوجدها من الملكة والكردينال مازارين (خلف ريشيليه)، ومن مطالعتها وقف على سرٍّ أدهشه وكاد يذهب برشاده، وهو أنه ابن ملك فرنسا المتوفَّى وتوأم لويس الرابع عشر أعظم ملك في أوروبا، والجالس على عرش كان في إمكان هذا الأمير المنبوذ أن يجلس عليه.

وبعد وقوفه على هذه الحقيقة الرائعة سأل نفسه وهو في أشد حالات الهياج والاضطراب: هل هذا صحيح؟ وإذا كان هو ولويس الرابع عشر شقيقين توأمين، فلا بد من وجود مشابهة بينهما تنفي كل شك وارتياب، فسأل وصيَّه هل عنده صورة للملك، فأجابه سلبًا. وكان في المنزل مربِّية صبية وقد أحبَّت الأمير حبًّا جمًّا، وبواسطتها تمكَّن من الحصول على صورة الملك. ولمَّا نظر إليها وجد كل لمحة فيها تشير إلى ملامحه، وتدل عليه أصدق دلالة كأنها صورته هو لا صورة الملك!

وقد تنازعه إذ ذاك عاملان؛ عامل سرور وابتهاج لاطِّلاعه على سرٍّ طالما ودَّ هتك ستره واستجلاء غوامضه، وعامل غيظ وحنق من إخفاء سر ميلاده عنه وعدم إفشائه له. فاندفع وهو يضطرب بهزة فرح وهزة غضب، وخفَّ إلى الوصي والصورة بيده وصاح: «انظر! هذا أخي! فقد عرفته وعرفت من أنا!» وحقًّا أنه لم يكن بين فضح السرائر وكشف المخبَّآت ما هو أوخم عاقبةً وأسوأ مغبَّةً من هذا الأمر. فإن وصي الأمير أصيب بصاعقة ذعر وخوف كادت تذهب برشده وصوابه. وعلى الفور بعث رسولًا إلى الملك يخبره بما حدث، وبعد ساعات قليلة أصدر الملك الحانق الغضبان أمره بأن يشدَّ وثاق الأمير ووصيه ويزجَّا كلاهما في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، حيث ضرب الزمهرير والرطوبة أطنابهما، وبلغ من شدة فتكهما بالمسجونين المنكودي الحظ أنهما كانا ينتفان رءوسهم من منابتها ويقتلعان أسنانهم من أسناخها. وفي هذا السجن الرهيب المخيف تجرَّع وصي الأمير كأس المنية، وكان ذنبه الوحيد شدة ولائه لمليكه وترك رفيقه الأمير يعاني من ضروب الشقاء والعذاب ما كان يفضل فيه الموت على الحياة.»

هذه خلاصة القصة الغريبة المخيفة التي كان نائب الملك حافظًا سرَّها في صندوق فؤاده، وظل ساهرًا عليه حتى تغلَّب حنوُّه الوالدي على قوة إرادته فباح به لابنته، ولم يدُرْ في خلده أن هذا السر المصون سيذيع ويشيع ويفعم قلوب أهل العالم رهبةً وذعرًا واستفظاعًا واستنكارًا، ويطلعهم على حقيقةٍ طالما بذلوا الجهد في معرفتها ولم يستطيعوا، وهي أن هذا الأمير السيئ الطالع والمنكود الحظ إنما هو ابن لويس الثالث عشر وقد قضى عليه أبوه وتوأمه (شقيقه لويس الرابع عشر) بحياة هي من جميع وجوهها شرٌّ من الممات، ليظل عرشهما وطيد الأركان ويتمتعا هما بالجلوس عليه براحة وأمان.

أما سوء حالة هذا الأمير التعس الجد بعد وفاة وصيِّه وصديقه الوحيد، فمن الأمور التي يتعذَّر وصفها، وقد لا يسهل تصورها. فإنه بعدما قضى أيامًا يواصل الليل بالنهار في البكاء والانتحاب والحزن والاكتئاب والهياج والاضطراب، عاد فاستسلم بملء الإذعان إلى مشيئة القضاء، وهو ملقًى في حجرة دميمة ضيقة محجوبًا فيها حتى عن الهواء والضياء، وغير مأذون له أن ينبس ولو بكلمة واحدة مع سجَّانه الباسر العابس الذي كان يأتيه بالطعام والماء مرتين في اليوم. وليس عجيبًا أن يصير بعد هذا كله فريسةً في أيدي الهواجس والوساوس، أو أن يستغيث بالموت طالبًا أن يُسرع في قبضه وإراحته من عذابه.

وكان أخوه في باريس ينعم في مسرَّات الملك ولذَّاته ناسيًا أخاه السجين المسكين إلى ذات يوم؛ إذ كان يفتِّش في جواهر والدته عن حلية يروم إهداءها إلى إحدى عشيقاته، فعثر على رزمة أوراق مكتوبة بخط والدته فيها إشارة إلى ابنها المنكود الطالع، فتذكَّر حينئذٍ أخاه وهاجت به هذه الذكرى ساكن الخوف والقلق. فقد كان في هذا الوقت مشتبكًا في حرب ضروس مع كثير من ملوك أوروبا تألَّبوا عليه وجرَّدوا جيوشهم لقتاله. فإذا استولى أحدهم على القلعة المسجون فيها أخوه في الألب الإيطالية وأطلقه من سجنه، تعرَّض تاجه لخطر الضياع وحياته للموت. وبناءً عليه رأى أن الضرورة تقضي بالإسراع في نقل أخيه إلى سجن آخر يأمن فيه التعرُّض لهذا الخطر، وسرعان ما أمر بإجراء هذا الاحتياط.

وفي ذات يوم بعدما كان الأمير قد قضى نحو تسع سنوات في سجن ببنرولو جاءه السجان وقال له إن أحد أعيان فرنسا قد أتى، وهو يروم أن يخلو به بضع دقائق، فاضطرب الأمير لهذه المفاجأة وظل برهةً يسيرة حائرًا مدهوشًا لا يستطيع النطق ولا يقوى على الافتكار. فهل حان وقت نجاته وإطلاق أسره بعد أن أعياه الانتظار ونضب معين الاصطبار؟ هذا الفكر خطر بباله فثمل براح المسرَّة والابتهاج. ولما علم أن الشريف القادم هو المركيز سنكمار، وتذكر أنه من صفوة أعيان فرنسا وشرفائها المشهورين بالذود عن الحرية، وكان في مقدِّمة الساعين بقتل ريشليو أكبر أعدائه، ازداد إيقانًا بأنه آتٍ إليه بشيرًا بأن أخاه الملك ندم على ما فعل وأمر بإطلاقه.

وعلى الفور أمر السجَّان بإحضاره إليه. ولما وقف أمامه وأدَّى إليه واجب الاحترام قال له: «جئت بأمر جلالة الملك لأسلمك هذه الرزمة الصغيرة. وسأخرج عنك ريثما تكون قد فتحتها واطَّلعت على أمر جلالته فيها.» ثم خرج المركيز وأغلق باب السجن وراءه، وما عتَّم الأمير أن فتح الرزمة، فسقط منها قناع حديدي كان لسقوطه على الأرض رنَّة عقبها صراخ الأمير بصوت اليأس والقنوط ووقوعه مغشيًّا عليه.

قال فولتير في كتابه «عصر لويس الرابع عشر»: «وبعد أيام جيء بسجين تحت ستار التكتم والخفاء إلى جزيرة سنت مرغريت مقابل ساحل فرنسا. وكان شابًّا متوسط القامة أو هو فوق المتوسط قليلًا، وعليه أظهر ملامح الجمال والشرف. وفي أثناء مجيئه إليها كان مقنَّعًا بقناع من حديد يشدُّ من طرفه الأسفل المحاذي لذقنه بلوالب صغيرة من فولاذ كي يسهل عليه تناول الطعام وهو لابسٌ القناع. وكانت الأوامر بقتله إن حاول نزع القناع صريحةً لا مردَّ فيها.»

وفي هذا السجن الجهنمي قضى الأمير تسعًا وعشرين سنة والقناع الحديدي على وجهه نهارًا وليلًا؛ لأن في نزعه ولو دقيقة واحدة خطرَ اطِّلاع الناس على المشابهة التامة التي بينه وبين لويس الرابع عشر الملك العظيم المجيد. ولم يجسر قط أحدٌ من عارفي هذا السر أن يفوه بكلمة عنه مخافةَ أن يصيبه ما أصاب صاحبه.

وليس في استطاعة كاتب على وجه الأرض أن يصف ما تحمله هذه السنين الطويلة من صنوف الآلام والذل والعذاب. هذه الرزايا كلها أناخت عليه فعبثت بعزة نفسه وصَوَّحت زهرة آماله، وجعلته يتوقَّع بذاهب الصبر دنوَّ أجله ليستريح من مكابدة شقاء لا يستطيع إنسان أن يتحمله. وأعجب من هذا كله أنه كابد هذه الشدائد جميعها ولم يفُه قط بكلمة تذمُّر أو شكوى. وهذا الصبر العجيب النادر المثال أثَّر حتى في أقسى السجانين قلبًا وحملهم على التوجع له والعطف عليه.

وفي السنين الأولى التي قضاها سجينًا في الجزيرة حاول غير مرة أن يتصل بالعالم، واستخدم لذلك عدة طرق فلم ينجح، ومنها ما رواه فولتير قال: «كتب اسمه بسكين على إناء فضي ورماه من النافذة إلى زورق كان بجانب سور السجن، فالتقطه صاحب الزورق وكان صيادًا، وأخذه إلى حاكم الجزيرة، فلما رآه أخذته رعدة الخوف وصاح بالصياد: هل قرأت المكتوب عليه؟ وهل رآك أحد تحمله إليَّ؟

– إني أجهل القراءة. وقد وجدته الآن ولم يَرَني أحد.

ولم يؤذَن للصياد في الذهاب إلا بعدما تحقَّق الحاكم أنه أُميٌّ لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه لم يشاهده أحد. وحينئذٍ قال له: «اذهب. فمن حسن حظك أنك جاهل لا تعرف القراءة».»

ويقال إن راهبًا لقي مرةً في الماء بجانب السجن قميصًا مطويًّا من كتَّان نقي، وقد كتب عليه الأمير خلاصة قصة ولادته والمعاملة الجائرة التي عومل بها. فذهب به الراهب المنكود الحظ إلى الحاكم، ولمَّا سأله حلف له أنه لم يقرأ المكتوب عليه، ومع ذلك وجدوه بعد يومين قتيلًا في فراشه، وكان من ضحايا هذه المكيدة الشيطانية التي كادوها لهذا الأمير المسكين.

ويظهر أنه حتى الموت نفسه كان من الكائدين له والمؤتمرين عليه؛ لأنه على رغم تمنِّيه لنفسه كل يوم في صلواته، أبى أن يصغي إليه ويبادر إلى إنقاذه مما يعانيه. وبعد تسع وعشرين سنة قضاها في جزيرة سنت مرغريت بما هو أمرُّ من الموت، نقلوه إلى الباستيل الذي مع شدة صعوبة الإقامة فيه عدَّه جنَّةً بالنسبة إلى ما قاساه من الأهوال في سجن الجزيرة.

ويقال إنه في مدة إقامته في هذا السجن لم يمنعوا عنه شيئًا مما كان يطلبه، سواء كان من مواد الأطعمة أو من أدوات التسلية. ولكن هذا كله لم يخفِّف شيئًا من شدة وطأة ذلِّه وشقائه. وكانوا في هذا الوقت قد استبدلوا بقناعه الحديدي قناعًا من مخمل (قطيفة)، ولكنه كان كالقناع السابق لا يفارق وجهه دقيقة واحدة ليلًا ونهارًا. وإذا عاده الطبيب في أثناء مرضه كان مأذونًا له أن يكلِّمه، ولكن من وراء القناع. وكان يقدر أن يريه لسانه بشرط ألَّا يبدو معه أقل شيء من ملامح وجهه. وظل على هذه الحالة إلى آخر يوم من حياته، وهذا اليوم صار لحسن حظه قريبًا؛ لأن القناع الكريه المخيف — حديديًّا كان أم مخمليًّا — ظل ثلاثًا وأربعين سنة حاجبًا الملامح التي لو سفرت لدلَّت على حقيقة نسب صاحبها. فلفظ نفسه الأخير والقناع مشدود على وجهه.

وهاك ترجمة ما جاء في تقرير السجن عن وفاته: «يوم الاثنين في ١٩ نوفمبر سنة ١٧٠٢ توفي السجين المقنَّع الذي جيء به من سجن جزيرة سنت مرغريت، وقد توفي فجأةً فلم يتمكَّن من تناول السر المقدس، على أن علامات الضعف والهزال ظهرت عليه منذ أمس. وفي الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم التالي في ٢٠ نوفمبر دُفن في مقبرة كنيسة القديس بولس. وأُنفق على دفنه ٨٠٠ فرنك.»

هكذا كانت نهاية هذا الأمير وهو في الخامسة والستين من عمره، ولو قدر له أن يدخل الحياة بضع ساعات قبل ميلاده لكان من أعظم ملوك العالم مجدًا وعظمةً واقتدارًا. وكان حتى اسمه مجهولًا عند الذين دفنوه، ويقال إنهم قطعوا رأسه مبالغة في الحرص على إخفاء معالمه، ووضعوا مع الجسد بعض المواد الكيماوية للتعجيل في محو رسمه وطمس ملامحه. وقد أتلفوا جميع الآنية والأمتعة التي استعملها. فأذابوا المعدنية منها وأحرقوا الملابس والمفروشات بالنار، ونزعوا ما على جدران سجنه من الورق مخافة أن يكون تحته شيء ينم على أعظم جريمةٍ سوَّد اقترافها صفحات تاريخ الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤