الفصل الثامن

بعد ثلاثة أيام من مقامنا بالإسكندرية جاء صديقنا يسلم علينا ويرحب بنا، وإنما علمت بمقدمه حين سمعت طفليَّ يستقبلانه أول وصوله بالبشر والتهليل كأنه أعز عزيز عليهما، وصعدا معه إليَّ، وجلسا من حوله ينظران إليه بعيونهما البريئة نظرات كلها الحب الخالص، واهتز قلبي لهذا المنظر غبطة وطربًا، وبقي هو يداعبهما تارة ويحدثني تارة أخرى وأنا سعيدة بلقائه أعظم سعادة، واستأذن يريد الانصراف قبيل موعد الغداء، فدعوته ليتناوله معنا، فاعتذر بأنه على موعد مع أصدقائه من أهل الإسكندرية سبقوني إلى دعوته إذ كانوا معه في القطار الذي قدم فيه، ثم قال وهو يودعني: «سأعود إليك بعد الظهر لحديث طويل بيني وبينك.»

وحاولت بعد انصرافه أن أتوهم ما عسى يكون هذا الحديث، فذهبت محاولتي سدى، وأوحيت إلى المربية بعد أن تناولنا طعام الغداء أن تأخذ الطفلين إلى حديقة النزهة، وأن تعود بهما ساعة المغيب ليخلو الجو لصديقنا في أثناء حديثه، وبعد قليل من خروجهم جاء صديقنا فألفاني وحدي فقال: «حسنًا فعلت حتى يكون لي مطلق الحرية فيما جئت إليك بشأنه.»

قلت: «كلي آذان صاغية بعد أن حاولت عبثًا أن أعرف ما تريد مني.»

قال: «إذن فاسمعي، أنت تعلمين أني لم أرَ زوجك ولم يرني منذ انتقالك إلى الإسكندرية، فقد اتهمني يومئذ أنني حرضتك ضده، وأعنتك عليه، ولذلك قاطعني وشهَّر عند أصدقائي بي، وإنني لفي منزلي أول من أمس إذ رأيته يدخل عليَّ محمر العينين، ممتقع الوجه، متهالكًا على نفسه، وكأنه لم يذق طعم النوم منذ عدة أيام، وقمت إليه مشفقًا عليه راثيًا لحاله، فعانقته كما لم أعانقه منذ سنين، ورجوته أن يجلس وأن يطامن من نفسه، وأن يذكر لي سبب همه وكربته، فمكث صامتًا زمنًا ثم قال: «معذرة يا صديقي أن لجأت إليك بعد أن قاطعتك، لقد فكرت طويلًا فيمن ألجأ إليه لتفريج بلواي فلم أجد سواك، فأعني يرحمك الله، ولا أذاقك ما أذوق أنا الآن من مرارة قاتلة، لقد ذهبت أستقبل زوجي وطفليَّ بالإسكندرية ساعة عودهم من أوروبا، فلما لقيتهم رجوت زوجي أن نعود جميعًا إلى القاهرة، فكان جوابها أنه لم يبق إلى حياتنا المشتركة سبيل، وأنها تريد مني أن أطلقها، فإن أبيت فلن أحمد من بعد إبائي، ولست أدري ما ذنبي عندها، لقد أحببتها ولا أزال أحبها حب تقديس، بل حب عبادة، أحبها لنفسها، وأحبها لطفلينا، أحبها وأزداد إعجابًا بها كلما رأيت غيري يطري ذكاءها ورقتها وسحر حديثها، لم تأخذني الغيرة يومًا عليها لأني أؤمن بشرفها وكبريائها، كإيماني بالله وبشرفي وشرف مهنتي، وقد غاضبتني بعد أن استخلصت بمعونتك ميراث صديقتها، غاضبتني وهي التي كانت تحرضني على ذلك وتدفعني إليه، وأنت تعلم أنه لم يكن بيني وبين صديقتها يومًا ما يشينني، وأقسم بالله وبشرفي وبشرفها وبرأسَيْ طفلينا أنه لم يكن بيني وبين هذه السيدة قط ريبة توجب أن تغاضبني زوجتي، فلما غاضبتني صبرت وصابرت مؤمنًا بأن الزمن سيفعل فعله؛ لأن حبي إياها لا يزال اليوم كما كان يوم تزوجنا، مع ذلك أصرت على مغاضبتي — كما تعلم — وبعثت إليَّ ذلك الخطاب الذي أطلعتك عليه، ثم هجرت بيتها، وذهبت إلى الإسكندرية، وعدت فصبرت وصابرت، ولم أقصِّر قط في حقها أو حق ولدينا، ودفعتها إلى السفر في هذا الصيف الأخير إلى أوروبا لعلها تعاود التفكير في أمرنا وأمر ولدينا، فكانت نتيجة هذا التفكير ما ذكرت لك من إصرارها على الطلاق.»

وسكت زوجك برهة بعد ذلك استرد فيها هدوءه، ثم تابع حديثه قائلًا: «أنا لا أريد قط أن ألومها على شيء من ذلك كله، لا أريد أن ألومها على مغاضبتي، ولا على ذهابها إلى الإسكندرية، ولا على طلبها الطلاق، لكني أريد أن أستغفرها ولا أزال أطمع في عفوها، أريد أن أعترف لها في غير موجب للاعتراف، بأني مذنب وبأني هفوت، بل أخطأت، بل أثمت في عنايتي بصديقتها، وفيما تقول من أني أعطف عليها، أو أميل إليها، أريد يا صديقي أن أفرض هذا كله صحيحًا! ألسنا جميعًا معرضين لأن نخطئ؟

وهل يستطيع الناس أن يعيشوا وأن يتفاهموا إذا لم يغسل العفو بينهم حوبة الخطيئة؟ إن المرأة لتخون زوجها حتى ليرتاب في ولده منها، ثم تطمع مع ذلك في عفوه ومغفرته، ولو أن زوجتي تتهمني بأن الأمر بلغ بيني وبين صديقتها هذا المدى — ولا أحسبها تبلغ من الريبة هذا المبلغ — أفلا أستطيع مع ذلك أن أستغفرها؟ تستطيع أنت يا صديقي أن تذكر لها أنني أقسم بأنني لن أرى صديقتها من بعد قط إذا أعدنا حياتنا سيرتها الأولى، أمن المعقول أن تجزي هذا الحب الخالص لها بكل هذا المقت الذي تواجهني به؟! وهل يبلغ من أمرها وهي الرزينة الحكيمة، أن تنسى ما يجر انفصالنا على ولدينا من ضياع يفسد كل حياتهما؟ إذا لم ترد أن تسمع في أمري إلى صوت الزوجة، فلتسمع في أمر ولدينا إلى صوت الأم، إنني أدع بين يديك يا صديقي بقية رجاء في أن تعيد إلى أسرة بائسة قبسًا من نور الأمل في وجه الله، أفتقبل هذا الرجاء؟»

وما كاد زوجك يتم كلامه حتى انخرط في البكاء كأنه الطفل، وانقبض قلبي لبكائه، وكادت الدمعة تنحدر من عيني رثاء له وشفقة عليه، أنت تعلمين كم تعنيني سعادتك وسعادة طفليك، وأستطيع أن أؤكد لك صادقًا أنه لم يكن بين زوجك وصديقتك ما يريب، فإن لم تصدقيه ولم تصدقيني، فهو بعد الذي كان منه، وبعد حديثه هذا معي، أهل لعفوك وغفرانك، أفأنت مع ذلك لا تغفرين، إن لم يكن من أجله فمن أجل ولديك؟»

أنصت إلى هذا الكلام، وتأثرت به، فأطرقت وأطلت الإطراق، وفي إطراقي ذكرت يوم قلت لزوجي إنه ممثل بارع، وإنه عطيل وروميو معًا، فلما طال بصديقنا انتظار كلمتي نبَّهني بقوله: «سمعت الآن ما جئتك فيه، فماذا تقولين؟ أم تريدين أن أُنظِرَك إلى غد حتى تفكري في الأمر وتقلبيه على شتى وجوهه؟»

قلت: «لا حاجة بي إلى الانتظار يا صديقي، لقد قلبت هذا الأمر وفكرت فيه شهورًا إن لم أقل منذ سنين، وقد عدت إلى تقليبه في أثناء سفري الأخير إلى أوروبا؛ فازداد تصميمي على رأيي ثباتًا وقوة، وأنت تعرف هذا الرأي، لست أخفيك أن ما ذكرته لي الآن قد ترك أثره في نفسي، برغم اقتناعي بأن زوجي ممثل بارع، وقد يكون صحيحًا ما رواه لك من أنه يحبني، وأنه لم يكن بينه وبين صديقتي ما يريب، ولكن الأمر في هذا الموضوع لا يتعلق بروايته وصحتها أو بطلانها، إنما يتعلق بما أحسه أنا، وأنا أرى هذه المرأة بيني وبينه كلما مرت بخاطري صورته، أراها بيني وبينه في يقظتي وفي منامي، أراها بيني وبينه لابسة ثيابها وعارية كيوم ولدتها أمها، أراها بيني وبينه تنظر إليه بعينيها الساحرتين، وتطوق عنقه بذراعيها العاريتين، أراها بيني وبينه حتى في سرير نومي، أُدعُ هذا الذي أقوله لك ما شئت؛ سمِّه تخريفًا، سمِّه طائفًا من الجنون تحكم في بصري وبصيرتي وفي أعصابي، لكنه الواقع من أمري؛ لقد أصبحت هذه الصورة لا تبارحني، وكأنما سرت مسرى الدم في عروقي، فتأثرت بها أعصابي وتأثر بها عقلي الباطن، فلم يبق لي فكاك منها، أما والأمر ما ترى فإنني أقول لك في شيء كثير من الأسف إن ما تطلب إليَّ لم يبق إليه سبيل.»

وحاول صديقنا أن يعاود الكلام في الأمر معي فقلت له: «لا تحاول المستحيل، وأبلغ زوجي أنه إن أراد بنفسه وبي وبطفلينا الخير فليسرِّحني سراحًا جميلًا، وأنه إن فعل ذكرت له هذه المنة ما حييت، ولن يكون لي عنده مطلب من المطالب.»

وغادرني صديقنا عائدًا إلى القاهرة كاسف البال أَسِفًا، فلما استدار الأسبوع عاد إليَّ ولا يزال الأسف باديًا عليه، فلما جلسنا نتحدث قال: أشهد أن زوجك أكرم منك ألف مرة، وأنه رجل مروءة لا حد لمروءته، لقد قصصت عليه ما دار بيننا، وذكرت له أنني رويت لك حديثه كلمة كلمة، وصورت له إجابتك أدق تصوير، فاغرورقت عيناه، وقال: «أما وذلك شأنها فلا أرى الصبر ناجعًا في علاجها، وليس لي إلا أن أنزل على إرادتها، وأن أدع لها بعد ذلك حرية الاختيار كاملة»، ثم إنه رجاني أن أحضر صبح الغد لأجد المأذون عنده فيطلقك أمامي طلقة واحدة بائنة لا يمكن معها ردك إليه بغير رضاك، وعدت إليه في الموعد الذي ضربه فألفيت المأذون عنده فأتم الطلاق كما قال، ولما انصرف المأذون أعطاني قسيمة الطلاق لأوصلها إليك، وقال: «أبلغها أنني عند رأيها ما حييت، إن شاءت يومًا أن تعود إلى عصمتي فهذا البيت بيتها، وإن أرادت أن تتزوج بغيري فذلك شأنها، ولن أقصر في نفقة ولدينا، كما تقدرها هي، إلا أن يقعدني العجز عن أدائها»، ثم إن صديقنا سلمني قسيمة الطلاق، وقال: والآن فما رأيك يا سيدتي؟ فلم أملك نفسي بعد الذي سمعت منه، وبعد أن أمسكت بقسيمة الطلاق في يدي أن بكيت حتى علا بالبكاء صوتي، فلما عاودني بعض هدوئي قلت: أشكرك، والآن عد أنت إلى القاهرة، فإذا حدَّثتك نفسك يومًا أن تزورنا كنت قد روَّيت في أمري، فأخبرك بما يستقر عليه رأيي.

وانصرف الرجل وهو يقول: «أرجو لك من الله التوفيق والسداد.»

خلوت بعد انصرافه إلى نفسي فقرأت قسيمة الطلاق، وأعدت قراءتها، وأخذت أفكر فيما يكون بعد أن بلغت غايتي، على أنني سرعان ما سألت نفسي: أيُّنَا انتصر بهذا الطلاق، أنا أم صديقتي؟ لقد كنت أراها بيني وبين زوجي، وهأنذي الآن نحيت نفسي فأصبحت وحدها معه، في ثيابها أو عارية كيوم ولدتها أمها، ألا تعسًا لها فاتنة الرجال! نعم هي التي انتصرت، أما أنا فأصبحت وحيدة لا سند لي، أعيش من نفقة هذين الولدين ومما اقتصدت، وهانت عليَّ عبرتي من جديد فأسلمت لعيني العنان، وخشيت أن يحضر طفلاي، وأن يرياني على هذه الحال فدخلت غرفة نومي، وأوصدت بابها، ودقت المربية الباب فناديتها من مضجعي: إنني متعبة، وطلبت إليها أن تدعني أستريح.

ولقد شعرت بنفسي متعبة مهدودة بالفعل، ورأيت بعد قليل أنني عاجزة عن التفكير، وكأن ذهني خلا من كل ما يشغله، وإن لم تطاوعني أعصابي إلى الهدوء الذي أبتغيه، فتناولت مسكنًا أسرع بي إلى عالم النوم.

استيقظت صبح الغد وأنا أحسن حالًا مما كنت، واستعدت حين صحوت ما دار بيني وبين صديقنا من حديث منذ أسبوع، وذكرت ما رواه على لسان مُطلِّقي من أنه لم يحب صديقتي ولا يحب غيري، فخف عليَّ العبء الذي أثقلني أمس، حين تصورت أن هذه المرأة انتصرت عليَّ بطلاقي من زوجي، وشعرت بأن هذا الرجل المسكين قد أصبح بعد تطليقه إياي في عزلة تامة، لا يؤنسه أحد، ولا يؤنسه ولداه وهما بالإسكندرية معي.

وخرجت من غرفتي ألقى الطفلين، فلما قبلتهما ورأيتهما في صحتهما ونضارتهما ازددت هدوءًا وطمأنينة، وذكرت صديقات لي مات أزواجهن وهن في ريعان شبابهن، وتركوا لهن صبية ضعافًا، فكرَّسن حياتهن لأبنائهن، ثم سعدن بهم إذ رأينهم يكبرون بعنايتهن ورعايتهن، أما وقد رزقني الله هذين الصبيين الجميلين، فأي سعادة غيرهما أبغى؟ إن واجبي أن أكرس لهما حياتي، ولا أفكر في شيء سواهما لأراهما يكبران أمام ناظري فيصبحان فتى وفتاة ملء العين، ثم رجلًا وامرأة يحملان عبء الحياة بأحسن وأسعد مما حملته.

وسكنت نفسي إلى هذا الخاطر، فضاعفت عنايتي بالصبيين، وشُغِلت بإدخالهما المدرسة، وعاهدت نفسي على أن أنقطع لهما ولمعاونتهما في دروسهما، وأن أنسى كل شيء فيهما، ففي ذلك هناءتي وحسن أداء واجبي في الحياة، وانقضت أيام وأنا على هذه الحال، لا أكاد أفكر في أبيهما، بل لا أكاد أفكر في نفسي، مؤمنة بأنهما أصبحا كل شيء في حياتي، وبأن ما سواهما لم تبق له أية صلة بي.

وكان لذلك أثره الحسن في صحتي وطمأنينتي؛ أذكر إذ ذاك يومًا جلست فيه إلى شاطئ البحر أرقب أمواجه، فمرت بخيالي صورة مطلقي وقد التقى بصديقتي ووقفا يتحدثان، لم تزعجني الصورة قط، بل هززت كتفي وقلت في نفسي: «ليس ذلك شأني، فهذا الرجل لم يبق زوجي، ولم يبق لي أن أحاسبه، لقد أصبح بطلاقي حرًّا كما أصبحت أنا بهذا الطلاق حرة، وكما أستطيع إن شئت أن أتزوج وأن أختار السيرة التي أرضاها فهو كذلك حر في أن يختار لون الحياة الذي يرضيه، وهذه المرأة حرة هي الأخرى، إن صح أن التقيا يومًا فليفعلا ما يشاءان، حسبي سعادة بالطفلين، ولغيري أن يبحث عن سعادته كما يحب ويهوى.»

وبعد أسبوعين رأيت صديقنا يدخل عندي ويسألني بعد أن بادلني التحية: «أما فكرت من جديد في استئناف حياتك مع زوجك؟ لقد لقيته في المعادي منذ يومين فدعاني إليه وسألني: ألك في هذا الأمر رأي؟ ولما قلت له إنني لم أَرَكِ منذ أعطيتكِ قسيمة الطلاق، رجاني في زيارتك والتحدث إليك في الموضوع.» وأدهشني هذا الكلام، فقلت في حدة: «وهل تراني كنت أعبث يوم طلبت الطلاق، ذلك أمر لا رجعة فيه، ولا محل للحديث عنه.» قال: «الأمر في ذلك لك، وقد توقَّع هو أنك ستجيبين كما أجبتِ الآن، أما وقد صَحَّ تقديره فإنه يستأذنك في أن يرى ولديه، ولا يشك لحظة في أنك تأذنين.» وأجبت على الفور: «هذا حقُّه ولن أحرمه منه، لكنَّ لي شرطًا واحدًا، ذلك ألا يراني ولا أراه، فإذا فكر في المجيء ليراهما فليُخْطِرْنِي بموعد حضوره، وعند ذلك أَدَعُ له البيت ليلقى طفليه فيه.» قال صديقنا: «أنا أشكرك بلسانه، وسيحضر في الأسبوع المقبل بأول قطار يغادر القاهرة يوم الجمعة، ثم يعود إليها بآخر قطار في اليوم نفسه.»

وانتقل صديقنا بعد ذلك بالحديث يسألني — وقد ذكرت له أنني لن أستأنف حياتي الزوجية مع مطلِّقي — عمَّا اعتزمت أن أفعل بعد انقضاء عدتي، قلت: «لا شيء، كرَّست حياتي لهذين الطفلين اللذين رزقني الله بهما، وأكبر ما أرجو أن يساعدني على القيام بواجبهما على نحو يرضيني، ويطمئن له قلبي.» قال صديقنا: «فليعاونك الله وليوفقك فيما تقصدين إليه.»

وفي يوم الجمعة الذي تلا هذا الحديث غادرت المنزل قبل موعد وصول قطار القاهرة إلى الإسكندرية، وقلت للمربية ساعة خروجي إنني سأتناول غدائي في الخارج، وذكرت لها أن والد الطفلين سيحضر ليراهما فلتبقَ معهما في البيت حين حضوره؛ حتى تنقل إليَّ عند عودتي ما يدور بينه وبينهما من حديث، فلما عدت ساعة المغيب ذكرت لي أن الدكتور حضر بعد قليل من مغادرتي المنزل، وأنه ما لبث حين رأى ولديه أن قبَّلهما وعانقهما طويلًا وعيناه مغرورقتان، وأنه دعاهما ودعاها للتنزه ولتناول الغداء في مطعم على شاطئ البحر، وأن الصبيين كانا سعيدين بأبيهما كل السعادة، وأنهم قضوا جميعًا يومًا من أسعد الأيام وأمتعها، وأنه عاد معهم إلى المنزل، فلما حان موعد سفره ودع الصبيين في تقبيل وعناق تأثرت المربية لهما غاية التأثر، ثم أعطاها ساعة خروجه هدية قيِّمة هي ثلاث ساعات ذهبية، فلما سألته المربية عن الساعة الثالثة لمن تكون، قال إنها لأمهما، ثم وعد أن يزورنا في مثل موعده بعد أسبوعين، وقالت له بنتنا: ولم لا تزورنا كل أسبوع يا والدي؟ فأجابها بأنه يكون أسعد الناس بذلك إذا أذنت والدتك به.

وأخذت الساعات الثلاث وقلبتها في يدي فإذا هي هدية قيمة بالفعل، وإذا الساعة التي خصني بها أجملها وأقيمها، ولقد دهشت لهذا التصرف من جانبه، فما له وما لي بعد أن طلقني نزولًا على إرادتي؟! أولو كان يميل إلى صديقتي، أفما كانت أولى هي بهذه الهدية مني؟ إنها لم تنتصر إذن عليَّ، والموقف لا يزال في يدي.

وابتسمت لهذا الخاطر، وجاء ولداي قبل نومهما يقبلانني ويهديانني مساء الخير، فلما قبَّلتهما وأذنت لهما بالانصراف إلى حجرة نومهما قالت ابنتي: «لمَ لا تأذنين يا أماه لأبينا أن يزورنا كل أسبوع؟ إنه ظريف ويحبنا، لقد قضينا معه سحابة هذا النهار أسعد ما نكون، ولعل هدية الساعات الثلاث أعجبتك.» فقبَّلتها من جديد وقلت لها: «اذهبي إلى مخدعك، وسيكون لي في الأمر رأي.»

وشعرت لساعتي بأنا لن نستطيع أن ننفصل حقًّا وهذان الطفلان بيننا، وإذا أردت أن أنفصل عنه انفصالًا حاسمًا فيجب أن ينسياه، لكنهما لا يزالان في حاجة إليه، على الأقل لنفقتهما، وليس بمعقول أن أكلفه هذه النفقة وأن أحرمه رؤيتهما، ولست أشك في أنه سينفق عليهما كل ما أطلب منه، ولو أرهقه ذلك من أمره عسرًا.

وانقضى الأسبوعان وجاء الرجل من القاهرة يرى ولديه، وقد تركت له البيت كما فعلت المرة الأولى، فلما عدت إلى المنزل بعد انصرافه علمت أنه حمل إلى الولدين من الهدايا ما جعلهما يتصايحان ساعة دخولي، يعرضان عليَّ ما جاء به والدهما، ويذكران كيف قضيا معه نهارًا سعيدًا، وأعطتني المربية خطابًا منه فتحته فإذا فيه تحويل على البنك، ورسالة يذكر فيها أنه آثر أن يحول هذا المبلغ الكبير دفعة واحدة حتى لا يبعث إليَّ بتحويلات شهرية، وأنه يرغب إلى أن أحيطه علمًا متى نفد هذا المبلغ ليبعث إليَّ بتحويل جديد.

وأثار تصرفه هذا حيرتي، فأنا أعلم من حاله المالية ما لا أشك معه في أنه يستدين الكثير من هذه المبالغ التي يبعث بها إلينا، سواء تحويله اليوم، أو تحويله حين سفرنا إلى أوروبا، أو تحويله الأول، هذا إلى جانب ما ينفق لحياته الخاصة، أفلا يحملني ذلك على التفكير من جديد في الأمر حتى لا أشق عليه إلى هذا الحد، ولا أحمِّله ما لا يطيق؟

وجاء صديقنا بعد أسبوع، فذكرت له ما صنع مطلقي، ورجوته أن يبلغه أنني لا أريد إرهاقه، وأني أفضِّل أن نتفق على مبلغ شهري لنفقة الطفلين؛ لأنني لا أقبل منه شيئًا لنفسي، وأنا مصممة على ألا أعود إلى الحياة معه أبدًا.

قال صديقنا: «أولا تزالين تظنين أن له بصديقتك علاقة، أو أن له إليها ميلًا، أو أن شيئًا من ذلك كان؟»

قلت: «كلا، إني مطمئنة الآن كل الاطمئنان من هذه الناحية وإن لم تعد تعنيني، فلو أنه تزوج صديقتي غدًا لما اهتز لذلك مني عصب، ولا طرفت لي بسببه عين.»

قال: «أما وقد زال ما كان قائمًا بنفسك من هذه الناحية، فما هذا التشبث السخيف بألَّا تعودي أنت ووالد ابنيك سيرتكما الأولى، فتجمعي بذلك أسرة تشتتين أنت اليوم شملها، وتبددين سعادتها وهناءها؟!»

لم أملك نفسي حين سمعت ذلك منه أن ثارت كبريائي، فقد أصاب كلامه عزتي بطعنة أهاجت كرامتي، وبجرح أدمى نفسي فصحت به: «أوتحسبني طفلة غريرة لا تعرف ما تريد؟ وهل تظنني حفلت يومًا بصديقتي إلى حد أثار غيرتي منها لعناية هذا الرجل بها؟ لقد كان الأمر بيني وبين زوجي أعمق من هذا، وإذا كنت قد حدثتك عنها وذكرت لك أنني أراها بيني وبينه فلأنني لم أرد ولن أريد أن أكشف عن مستور نفسي وحقيقة سري، فأرجوك يا صديقي وألح عليك ألا تعود إلى الكلام معي فيما ذكرت اليوم، فلا طاقة لي بسماعه من أحد، ولا طاقة لي بسماعه منك أنت خاصة.»

لست أدري كيف أفلتت هذه الجملة الأخيرة من بين شفتيَّ، فلقد خشيت بعد أن تلفظت بها أن يحمِّلها صديقنا معنى بذاته، فعدت إلى هدوئي وقلت له: «إنني لواثقة بأنك أشد الناس حرصًا على شعوري، وأكثر معرفة بما تنطوي عليه نفسي إزاء هذا الرجل، فلو أن غيرك قال ما قلت أنت هان عليَّ سماعه، أما وأنت تعرفني حق المعرفة، وتعلم أنني لا أصدر في تصرفاتي عن طيش ولا عن نزق؛ فقد أثارني كلامك وجعلني أظنك تناسيت ما لا يجب أن تنساه.»

ورحنا بعد ذلك إلى الحسنى، وتناول كلامنا من الشئون ما لا شأن له بي، فلما انصرف صديقنا حمدت ثورتي أن جعلت العود إلى هذا الموضوع محالًا.

وتوالت الأسابيع والشهور بعد ذلك، وزادني تواليها اقتناعًا بأن المربية أقدر مني على العناية بالطفلين ومعاونتهما على استذكار دروسهما؛ لذلك بدأت أشعر بخلو حياتي، وبدأ الملال يعاودني، كيف أملأ إذن أوقات فراغي؟ لا شيء يستنفد الوقت ما تستنفده القراءة! لذا أكببت أقرأ ما لم أكن قرأت من أمهات كتب الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وما تُرجِم إلى هذه اللغات من أمهات الأدب في غيرها من الأمم، وأعيد ما كان موضع إعجابي مما قرأت من قبل، وكثيرًا ما كنت آخذ كتابي وأجلس إلى شاطئ البحر أستمع مقفلة العينين إلى صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ كما يستمع المغني إلى ألحان الموسيقى قبل أن يبدأ أدواره، فإذا امتلأت أجنحة الخيال فتحت كتابي وأخذت أقرأ فأستغرق في القراءة، فتأخذني روائعها عن كل ما حولي من ضجة الحياة، وأحس أنني اندمجت مع المؤلف ومع أفكاره ومع أبطاله، وأصبحت في جوه هو، وأصبح الجو من حولي مسرحًا لهذه الأفكار ولهؤلاء الأبطال لا يعرف غيرها وغيرهم، ولا يتحرك فيه شيء سواها وسواهم.

وطال بي ذلك زمنًا استغرق أسابيع بل شهورًا، على أني شعرت بعد هذا الزمن أنني في حاجة إلى أن أستجم وأستريح، وما كدت أقضي أيامًا في راحتي واستجمامي حتى بدأ الشعور بالملال يعاودني، فكرت أنه لا بد من شيء آخر غير القراءة أطرد به هذا الملال وما يجرُّه من سآمة، ودار بخاطري أن أستغني عن المربية وأن أقوم أنا بدورها، لكني أشفقت من هذه الأمانة وأبيت حملها بعد أن سبقت لي تجربتها، واقتنعت بأن المربية أقدر مني على إجادتها، ماذا أصنع إذن لأملأ أوقات فراغي؟

شغلت نفسي بما تشغل به كثيرات من الأمهات وقتهن فبدأت أطرز لطفلي بعض ملابسهما، لكني سرعان ما بَرِمت بهذا العمل وألقيته جانبًا، فهو يشغل اليدين ويترك الذهن في حيرة فراغه، وهو بعد ليس الإنتاج الذي يليق بمثلي، وقد تعودت أن أبتاع للطفلين هذا النوع من الملبس الجميل الذي لا يكلف باهظ النفقة، فأي شيء أصنع يليق بي ويملأ أوقات فراغي؟

بدأت أغبط هاتيك النسوة الفقيرات بائعات اللبن أو الخضر، أو العاملات في المزارع والمصانع، أو في المنزل ممن يستيقظن مع الفجر ليؤدين واجب الحياة ولا يشعرن بما أشعر به من ملال وسأم، وبدأت أغبط مربية أولادي إذ تنهض بعبء حياتهما وبتربيتهما وتعليمهما، وتولاني الأسف أن لم أتم دراستي ليكون إتمامها في الموقف الدقيق الذي أقفه اليوم وسيلتي لعمل مثمر يملأ فراغ وقتي؛ فلست أنا من طراز هاتيك النسوة أمثال صديقتي ممن يستطعن أن يقضين نهارهن وجانبًا غير قليل من ليلهن في التزين، وفي فتنة الرجال استجداء لعطفهم واستظلالًا بحمايتهم، أما وذلك شأني فما عساي أصنع لأملا أوقات فراغي؟

شغلت بهذا الأمر أيما شغل، وزادني اشتغالًا به ما أعلمه عن الناس وألسنتهم الحداد يسلقون بها امرأة مثلي تعيش منفردة مع طفلين في حي ناءٍ من أحياء الإسكندرية، ولئن كانت أحاديث الناس لا تعنيني فإنني مع ذلك لجد حريصة على مكانتي، وعلى سمعتي، وعلى ألا يشمت الشامتون بي.

وجاء صديقنا يومًا فألفاني في هذه الحال القاتلة كاسفة البال، فسألني ما بي؟

قلت: لا شيء. قال: إن وجهك ينُمُّ عن شدة حيرتك وقلقك، فهل يوجد ما يزعجك؟

قلت: كلا، ولكنه الفراغ يقتلني، لقد كنت قبل طلاقي أناصب زوجي الخصومة، وأناضل أوهامًا تقوم برأسي، فكان لي من هذا النضال ما يشغل وقتي كله، أما اليوم فلم يبقَ لي في الحياة شاغل، ولست أطيق هذا الفراغ فهو يأخذ بخناقي، دعك ما يتيحه للناس من فرصة الثرثرة عليَّ والتندر بي فذلك لا يعنيني.

قال صديقنا: أما فكرت في العود إلى القاهرة تستأنفين فيها حياتك الماضية؛ إن لك بها لأصدقاء يسرهم أن يروِّحوا عنك ويُذهِبوا ملالك وسآمتك، ولو أنك عدت إليها لسرني أن أكون في مقدمة هؤلاء.

قلت: لم تعد هذه الحياة تروقني، لقد اتخذتها يومًا وسيلة لغاية هي أن أثير غيرة زوجي ليعود إلى حظيرتي، أمَّا أن أجعلها حياتي اليومية، وأن أطلق بذلك ألسنة الناس في غير موجب، فذلك حمق لا أرضاه.

قال صديقنا: لا أريد أن أحدثك من جديد في استئناف حياتك الزوجية الأولى بعد الذي سمعته منك في شأنها، فلمَ لا تتزوجين رجلًا آخر تبنين معه بيتًا جديدًا وحياة جديدة؟

فأطرقت طويلًا ثم قلت: ذلك أمر لم أفكر بعد فيه، أنا بطبيعة الحال حرة في أن أفعل إن شئت، لكنني … لم أفكر في الأمر.

والواقع أن هذه الفكرة كانت قد بدأت بالفعل تداعبني، وأنني كنت أفكر بالفعل في صديقنا، لكن اعتراضات قوية ردتني عن هذا التفكير: أولها ما دأبت صديقتي على إذاعته في جميع أوساطي قبل زمن طويل من طلاقي، من أني أريد أن يطلقني زوجي لأتزوج من صديقنا، فلو أن هذا الزواج تم اليوم لصدَّق الناس ما كانت تذيعه، ولقال الناس فيَّ ما شاءت لهم أهواؤهم فصدقهم الأمر الواقع.

وثاني هذه الاعتبارات وأهمها في نظري أني أريد أن أُنسِي ولديَّ أباهما حتى يكون انفصالنا حاسمًا، ولن يكون ذلك إلا إذا تبنَّاهما من أتزوجه فتسمَّيا باسمه، وليس يسيرًا أن يقبل رجل هذه التبعة أمام نفسه وأمام الناس.

ولما ذكرت لصديقنا أنني لم أفكر في أمر الزواج بعدُ قال: لعلك تفكرين فيه ثم نعود إلى تقليبه معًا، وسأعود من القاهرة في الأسبوع المقبل.

ماذا تراني أقول له يوم يعود؟ قضيت طيلة الأسبوع ألتمس جوابًا لهذا السؤال، ولم أكن قد اهتديت إلى جواب حين عاد، فلما فاتحني في الموضوع قلت له: لقد فكرت في الأمر فلم يهدني تفكيري إلى رأي، فهل لي أن ألتمس هذا الرأي عندك؟

فمكث طويلًا صامتًا، ثم قال: لم أكن أحسب الأمر دقيقًا بهذا المقدار، فلم يعهد الناس أن تقول سيدة إنها تريد أن تتزوج، وإنما عهدهم أن يخطب الرجل السيدة فتقبل أو تأبى.

قلت: أرأيت؟! هأنتذا وضعت يدك على جوهر الأمر ولُبِّه، أمَا ولم يخطبني حتى اليوم أحد إلى نفسه فلا يجوز لي أن فكر فيما أريد وما لا أريد.

وأطرق الرجل طويلًا ثم رفع رأسه وقال: أصارحك بأنني لست راضيًا عن هذه الحياة التي تحيينها، سواء رضيت بها أنت أم برمت بها، فأجيبيني بصراحة: أترضينني زوجًا إذا أنا خطبتك إلى نفسي؟

قلت: وما عسى أن تقول صديقتي يومئذ؟ إنني منعتك من زواجها، وبذلت جهدي ليطلقني زوجي حتى تتزوجني؟!

قال: دعك من صديقتك وما يمكن أن تقول، وإذا كان هذا كل اعتراضك فما أهونه! أنت اليوم امرأة حرة من عدة أشهر، فإذا تزوجت دل ذلك على أنك سيدة عاقلة، وأنك تؤثرين الحياة الكريمة على هذه الحياة الماجنة التي تحياها صديقتك منذ سنين.

قلت: إذن فاسمع، إنني أرحب بخطبتك وأشكرك عليها إذا قبلت لي شرطًا لا أفكر في أن أتزوج من لا يقبله؛ إنني أريد أن أحسم كل صلة بيني وبين مطلقي، ولا يكون ذلك ما بقي هذان الطفلان منسوبَيْن له، فلا بد أن يتبنَّاهما من أتزوجه، وأن يتسمَّيا باسمه، فإن قبلتَ أنت ذلك قبلتُ الزواج منك.

وَجَمَ الرجل وتولته الدهشة لهذا الذي طلبت إليه، وبعد أن فكر في الأمر مليًّا قال: لك ما تطلبين، فالأمر في ذلك أمرك أنت، وإذا وجَّه الناس فيه لومًا فسيوجهونه إليك، على أنني أُوثر ألا نعجل في ذلك، وألا نعجل في إعلان زواجنا حتى لا يعرفه مطلقك، فإذا انقضت على زواجنا بضعة أشهر انتقلت إلى بيتي بالقاهرة، ودبرنا أمر الطفلين في هذه الأثناء، عند ذلك أجبته: إذن فأنت وما تريد.

ولم ينقضِ هذا المساء حتى كان قد أحضر المأذون فأطلعه على وثيقة الطلاق فعقد زواجنا، وانتهت بذلك حيرتي وقلقي؛ إذ أصبحت في عصمة رجل أثق به وأطمئن إليه، وله إلى ذلك الفضل في أنه هو الذي عرض نفسه لينقذني من هذه الحيرة وهذا القلق، برغم ما يمكن أن يتهمه الناس به من أنه خان عهد الوفاء لصديقه، وخفر ذمته وسلبه زوجه.

وعاد الرجل الغداة إلى القاهرة وكأنَّ شيئًا لم يحدث، وأخذ يتردد علينا كل أسبوع متحاشيًا يوم يجيء مطلقي يرى فيه ولديه، وانقضت الأيام والأسابيع والأشهر بعد ذلك، وقد سكنت نفسي وهدأ بالي واطمأننت إلى الحياة، ولم يعد يشغل بالي من أمرها إلا أن ندبر كيف ننسب الطفلين إلى زوجي، ولم يكن تدبير هذا الأمر مستطاعًا قبل أن يعلم مطلقي بزواجنا، وقبل أن نقطع صلته على وجه حاسم بنا.

وبقيت أتناول من مطلقي ما قرره لنا من نفقة حتى عدت إلى القاهرة، وحتى علم بأنني تزوجت صديقنا، هنالك جُنَّ جنونه وأيقن أنني لم أفسد زواج صديقتي بصديقنا إلا لأتزوجه أنا، فأنا إذن كنت أحب الرجل الذي تزوجته اليوم إذ كنت في عصمته هو، وأنا لم أغاضبه ولم أناصبه العداوة إلا لهذا السبب، وأن صديقنا حرضني على ذلك وأعانني عليه، كما حرضني على هجر بيت الزوجية والفرار إلى الإسكندرية، ولم يترك مطلقي وسطًا من الأوساط التي يغشاها إلا طعن فيها على صديقنا أشد الطعن، ورماه بالخيانة والغدر، وبكل منقصة تنكرها الرجولة وتأباها الكرامة.

ولم يقف أمره عند هذا الحد، إنه يعلم تعلقي بولدينا وحبي لهما حب العبادة لا حب الأم؛ لذا بعث إليَّ من يخبرني أنني لم أعد أصلح للقيام عليهما بعد أن تزوجت، وأنه يطلب أن أُسلِّمه إياهما بالحسنى، وإلا قاضاني لضمهما إليه، وطلبت إلى رسوله أن يبلغه أنني لا أزال أطمع منه فيما عودنيه من عطف ونبل، وألا يحرم الولدين من حنان أمهما وقد تعوداه، وأنني سأبعث بهما إليه يومًا من كل أسبوع يقضيان سحابة نهارهما عنده، وتوسلت إلى الرسول كي يقف مدافعًا عني عند مطلقي وقلت له: «بالله عليك، أكان يرضيك أن أبقى بلا زوج فتكثر قالة الناس فيَّ وتجرحني بالباطل؟! لقد نذرت نفسي غداة طلاقي لهذين الطفلين أربيهما ثم لا أتزوج ما عاشا، لكنني رأيت نفسي بعد شهر عاجزة عن الوفاء بنذري، معرضة لما تتعرض له امرأة في مثل موقفي من سوء القالة وإثم الظن، ولولا أن عرض صديقنا نفسه ليفتديني مما كنت معرضة له لبقيت ينهشني الناهشون، ويدسون إلى قلبي سمومهم حتى أموت كمدًا، لكن هذا الرجل كان صديقًا لمطلقي قبل أن أعرفه، ثم كان مطلقي سبب التعارف بيننا وتوثيق صلتنا؛ إذ قدَّمه لي على أنه أكثر أصدقائه وفاء ومروءة، هذا الرجل أدرك حرج مركزي فقدم نفسه منقذًا لي؛ فتشبثت باليد التي مدَّها إليَّ إبقاءً على سمعة طاهرة ما تعرَّضَتْ يومًا لكلمة سوء، أليس حقًّا على مطلقي أن يحمد هذا الصنيع؟ أم يكون جزاء ولدي أن يُحرَما من حنان أمهما، وأن يعيشا مع مربيتهما يتيمين؟

«ناشدتك المروءة يا سيدي إلا ما رجعت إلى صاحبك وأقنعته بأن ولدينا عندي أعز من عيني، بل أعز من حياتي، وأنني سأبقى مدينة له بهذه الحياة لقاء تركهما في أحضان عنايتي، أنا أم يا سيدي فلا تكن عليَّ في حرماني من حبة قلبي، بل كن لي ولك شكري وثنائي، وادع الله معي أن يوفقك فيما أرفع إليك أكُفَّ الضراعة فيه.»

كانت نبرات صوتي في أثناء هذا الحديث تصور ما ينبض به قلبي، وكنت في ختامه قد رفعت كفيَّ المرتعشتين ضارعة إلى رسول مطلقي ليكون عوني، فلما أتممت كلامي ألقيت رأسي بين ذراعيَّ أخفي دموعي التي انهملت وفضحها بكائي، ثم رفعت رأسي فإذا الرجل كله التأثر يكاد يبكي لبكائي، فلما استرجعنا بعض سكينتنا قال: «ليتني أستطيع في الأمر شيئًا يا سيدتي، ولو أنك رأيت ثورة مطلقك لعذرتني، ولو أنني عرفت قوة حجتك لما قبلت رسالته، صحيح أنه حذرني من سحر حديثك، وحديثك ساحر لا ريب، ولست أدري والأمر ما أسمع وأرى كيف طابت نفسه بتطليقك، على أنه ذكر لي أنك لو كنت تزوجت شخصًا غير هذا الذي خان عهده وأبعدك عنه، لما ثار بك هذه الثورة، مع هذا سأكون رسولك إليه، كما كنت رسوله إليك، وأرجو أن أُوفَّق معه إلى ما يرضيك برغم ما في ثورته من عناد وعنف.»

انصرف هذا الرسول ولم يعد إليَّ، وحسبت أنه وُفِّق في إقناع مطلقي بما أردت؛ لأنني لم أسمع عن هذا الموضوع حديثًا أسابيع متعاقبة، بل لقد بعث إليَّ مطلقي بنفقة الطفلين بعد ذلك مما ثبَّت عندي الظن بأنه أجاب رغبتي، على أني علمت أنه سافر بعد ذلك إلى الإسكندرية لغير سبب أفهمه، ولم أُعنِّ نفسي بالتماس العلة لهذا السفر، ولم أتتبع خطواته فيه، ولم يَدُر بخاطري أن له بحياتي هناك أيه صلة. وكان من أثر سكوته الظاهر عني أن استراح ضميري إذ قدَّرت أن أمر الطفلين انتهى إلى ما أريد، وإن اضطرني ما حدث للتنازل عن مطالبة زوجي بأن يتبناهما حتى لا يثور الأب من جديد لإهدار أبوَّته فيعود إلى المطالبة بضمهما إليه.

وإنني في مخدعي ذات صباح بعد هذه الأسابيع إذ حمل إليَّ الخادم إعلانًا قال إن أحد المحضرين جاء به واستمضاه على أصله، وقرأت الإعلان فإذا هو من مطلقي يطلبني به أمام المحكمة الشرعية لسماع الحكم بضم ولديه إليه لأنني تزوجت وأصبحت لا أؤتمن عليهما. عند ذلك طاش صوتي، وخُيِّل إليَّ أن انتزاع الصبيين مني معناه انتزاع حياتي من بين جنبي، ولعنت الساعة التي قبلت فيها أن أتزوج من صديقنا، وحسبت أني إذا انفصلت عنه بالطلاق حُلَّت هذه العقدة واستبقيت ولديَّ في أحضاني، لكن ماذا يقول الناس يومئذ عني؟ ويا لشماتة صديقتي إن حدث مثل هذا الأمر! إنها يومئذٍ لتدق الطبول وتقييم الأفراح، وتنادي بأن القدر انتقم لها من مؤامرتي عليها، رباه ماذا أفعل وأي سبيل أسلك؟!

وإني لفي حيرتي إذ أقبل صديقنا — زوجي — فناولته الإعلان فقرأه ثم ردَّه إليَّ، وبعد هنيهة قال: «يا له من دنيء! أيحسب قاضيًا يحكم بما يطلب ليقيم الطفلان في بيت لا يرعاهما فيه أحد؟! سأوكل عنك أبرع المحامين الشرعيين يسلقونه في المحكمة بألسنتهم الحداد، ولا يدعون له أديمًا صحيحًا حتى يمزقوه إربًا إربًا، وسيعلم يوم يحكم القضاء برفض دعواه ومضاعفة نفقة الطفلين أنه اختار أسوأ ميدان يمكن أن ينازلك فيه.»

وبعد الظهر أخذ الإعلان وذهب به إلى محامٍ شرعي من أصدقائه وكَّله عني، ويومئذٍ أيقنت أني عدت مع مطلقي إلى خصومة لا تنفع فيها مغاضبة ولا ملاينة؛ لأنها انتقلت إلى عناد عنيف بين زوجي القديم وزوجي الجديد، ولم يخطئ ظني، فقد شُغِل زوجي بهذه المسألة إلى غير حد، حتى لقد كان يذهب إلى المحامي بعد الظهر من كل يوم، ثم يجيء إليَّ يقص ما دار بينهما، ويذكر أن المحامي واثق من كسب الدعوى لا محالة.

مع هذا كانت المخاوف تساورني، أَوَلو قُضِي لمطلقي بضم ولديه فماذا عساي أفعل؟ أؤسلمهما له في يسر وإذعان لأنني إن لم أفعل تسلمهما بقوة القانون؟ لكن حياتي تصبح بعد ذلك جحيمًا لا يطاق، ويعلم الله بعد ذلك ما يكون بيني وبين زوجي في حياتنا الحاضرة!

وبدأت أعصابي تضطرب لكثرة تفكيري في هذا الأمر، وأدى ذلك بي إلى صنع ما كنت أسخر منه حين يصنعه غيري؛ بدأت أزور الذين يقرءون الكف وينظرون في فنجان القهوة لعلهم يطمئنونني على مصير الولدين، وقيل لي إن شيخًا من أولي البركة يستطيع بتعاويذه أن يكفل لي كسب قضيتي، فذهبت إليه من غير أن يعلم زوجي، وكنت كلما رأيت الطفلين أمامي بكيت كأنما أصبحا يتيمين، وكنت أختلف مع زوجي وأغاضبه لسبب ولغير سبب، وكان هو يدرك علة اضطرابي وما أنا فيه فلا يغضبه غضبي، بل يبذل كل جهده ليهوِّن عليَّ الأمر ويردَّ إليَّ الطمأنينة.

وتأجلت القضية غير مرة بطلب محاميَّ، ثم جاءت جلسة المرافعة فيها فأردت حضورها، فألح عليَّ زوجي ألا أفعل مخافة أن تصدر مني كلمة من غير قصد تكون سببًا في ضياع حقنا، وترافع المحاميان في الدعوى، وقالا فيَّ وفي زوجي وفي مطلقي ما قال مالك في الخمر، وحُجزت القضية بعد ذلك أسبوعًا للحكم فازددت اضطرابًا، لقد أفهمني زوجي أن دعوى مطلقي سترفض في الجلسة وفي وجهه، فما هذا التأجيل؟!

وقضيت الأسبوع كاسفة البال كثيرة التفكير، فلن يتغير شيء في حياتي إذا رفضت المحكمة طلب مطلقي، أما إذا حكمت له فالويل لي!

وجاء موعد النطق بالحكم، فإذا هو يقضي بضم الولدين إلى أبيهما، وقعت الواقعة إذن وأقرَّ القضاء ما وجَّه إليَّ زوجي من مطاعن، قال زوجي حين رأى جزعي وبكائي: «لا تجزعي فسنستأنف الحكم، وأمل المحامي في الاستئناف كبير.» قلت: «وقد كان أمله كبيرًا عندما تسلم الإعلان الأول، وها نحن أولاء خسرنا القضية في الجولة الأولى، ولا أريد بحال أن نغامر أمام الاستئناف فنخسرها مرة أخرى، إنني أريد أن أرى مطلقي بنفسي، وأنا واثقة من مروءته وطيبة قلبه.» قال: «الأمر لك، فاصنعي ما تشائين! لكن الاستئناف يجب أن يُرفَع بعد أن أصبحت أنا هدفًا لمطاعن لا يمكن أن أقبلها.»

وأعلنني مطلقي بالحكم، وكان مشمولًا بالنفاذ المعجَّل، وقال في الإعلان إنني إن لم أسلمه الطفلين لضمهما إليه فسيتخذ إجراءات التنفيذ. قلت في نفسي: أصبح الأمر يقتضي الحكمة وحسن الحيلة، وهَبْني ذهبت إليه بنفسي فأبى أن يقابلني، أو قابلني في جفاء وأصر على تنفيذ الحكم! أليس خيرًا أن أبعث إليه رسوله الذي خاطبني في أمر الولدين، والذي تأثر بحديثي وكاد يبكي لبكائي؟

وبعثت إلى هذا الرسول أرجوه مقابلتي، فلما حضر عندي قلت له: «لقد حسبت سفارتك عني أقنعت مطلقي بالعدول عن ضم ولديه، وها هو ذا قاضاني في أمرهما، وحكم له القضاء بضمهما ورضيت بذلك كرامته، أفأطمع منك مرة أخرى في المرافعة عنده نيابة عني؟ أرجوك أن تؤكد له أنني لم أكن أريد السير في مخاصمته، وأن زوجي هو الذي اندفع فوكل محاميًا عني؛ لأن عريضة الدعوى مسته في كرامته وإبائه، وأن تذكر له أنني طوع إرادته في كل ما يريد إذا هو ترك الطفلين يكبران بعيني في رعايتي وحناني، إنه يعلم أنه قاتلي لا محالة إذا انتزعهما مني، فإذا قُدِّر لي أن أعيش قضيت ما بقي من أيامي شقية بائسة، فإن رضيت بذلك مروءته ورحمته وما عودني طول حياتي معه من بر وعطف فذلك شأنه، وذنبي في رقبته، وإن غلبه ما أعرف من بره فترك لي الطفلين، فأنا رهن إشارته، وإن شاء أن يطلقني زوجي فله ما يشاء، وإن أراد أن أهجر القاهرة إلى أي مكان يختاره فأنا طوع إرادته، إنني أقبل كل شيء ما بقي الولدان في أحضان عنايتي وحناني، إنني أم يا سيدي فارحموا أمومتي، ارحموا هذه العاطفة التي أودع الله تكويننا معشر الأمهات، وجعل منها نور أعيننا وسبب حياتنا، ارحموني فإنني اليوم على حافة اليأس، فإن تفعلوا شكرتكم، أو يكون قضاء الله بيني وبينكم.»

figure
ورأيت أن يكون ولدانا رسولي إليه عني وعن نفسيهما.

وإني لأحدثه وعيناي تسحَّان بالدمع إذا الصبيان يدخلان علينا ولا يكادان يريان ما أنا فيه حتى يرتميا عليَّ يبكيان وهما يقولان: «نحن فداؤك يا أماه»، وبكى الرسول لبكائنا، فلما هدأت ثورتنا قال: «لك عليَّ أن أكون عند مطلقك رسول هذين الصبيين قبل أن أكون رسول أمهما، فإذا أحوج الأمر فسأطلب إليه أن يدعوهما ليسألهما أيبقيان معك أو يعيشان معه، والله يوفقني لما يرضاه وترضينه يا سيدتي.»

وانصرف الرجل بعد أن شكرته في توسل تنطق به دموعي أبلغ مما ينطق به لساني، ولم يبطئ الرجل عليَّ غير ثلاثة أيام ثم عاد إليَّ متهلل الوجه يقول: «بشراك يا سيدتي! لقد نجحت سفارتي عنك كل النجاح»، ثم أخرج الرجل من جيبه ورقة دفعها إليَّ وقال: «وهذا هو الحكم الذي صدر لمطلقك بضم ولديه إليه، وقد كتب عليه بخطه وتوقيعه بالتنازل عنه لمصلحتك، وبقبوله إبقاء الصبيين في رعايتك.»

ولقد كدت أطير فرحًا حين تناولت منه صورة الحكم وقرأت تنازل مطلقي عليها، وكدت — لولا الحياء — أن أقبِّل الرسول، ثم إنني شكرته من أعماق قلبي وسألته: «وفيمَ كان انقطاعك عني كل هذه الأيام الثلاثة؟ أترى مطلقي لم يقتنع لأول ما حدثته؟» وتردد الرجل وطلب مني إعفاءه من الجواب عن سؤالي، فزادني ذلك شوقًا لمعرفة ما كان وإلحاحًا في السؤال عنه، فكان جوابه: «لم يكن انقطاعي هذه الأيام الثلاثة لأن الدكتور أبى أو تردد منذ اليوم الأول، فقد ذكرت له رسالتك بكلماتها فذرفت عيناه الدمع، وقال: «مسكينة هذه المرأة! لولا غرورها وغيرتها لما جرَّت على نفسها وعليَّ وعلى ولدينا كل هذا البلاء، هي تعلم أنني أحببتها ولا أزال أحبها، لكنها لم تطق إلى جانب محبتي إياها أي عاطفة من جانبي لغيرها، ولا عاطفة الصداقة، ولا عاطفة المروءة، وإنني ليعز عليَّ أن تتألم وأن أكون أنا سبب ألمها، ولست أريد منها شيئًا قط، لتبق مع زوجها الخائن ليمتعها الله بحياتها وحياته، وتحتفظ بالولدين فلن أحرمها منهما وأنا أعلم أنها من دونهما لن تطيق الحياة.» ومد مطلقك يده إلى مكتبه يريد أن يخرج الحكم منه ليكتب عليه بالتنازل، وإنه ليجر درج المكتب إذ دخلت علينا صديقتك ورأتني، وإذ كانت قد سمعت حديثي إليه دفاعًا عنك قبل أن يرفع الدعوى، فقد أدركت أنني جئت إليه بسفارة منك، لذلك صاحت به وبي: «ماذا تفعلان؟!» وقصَّ عليها مطلقك ما رويت له من حديثك فقالت: «يا للفاجرة! أفنسيتَ ما صنعته معك كل هذه السنين؟ لقد غاضبتك برغم إكرامك إياها لغير شيء إلا لغيرتها مني غيرة حمقاء، وقد فرت منك إلى الإسكندرية، فلما أردتها على أن ترجع إليك أبت منك هذه الكرامة، مع ذلك بالغت أنت في إكرامها، وبعثت بها وبولديها إلى أوروبا، وأرادت المصادفة أن أكون وإياها على باخرة واحدة، ولو أنك رأيتها إذ ذاك وكيف أدت بها الغيرة إلى حديث السوء عني مع مسافرة فرنسية كانت معنا ونقلتْ إليَّ أقوالها لأيقنتَ أنها أصيبت في عقلها! فقد أنكرت أنها صديقتي، وذكرت لهذه الفرنسية أن أصدقائي يسمونني «الأرملة الطروب»، فلما عادت لم تعترف لك بالفضل، بل ألحَّت عليك في أن تطلقها، فلما طلقتها تزوجت هذا الوغد الذي خانك وخفر ذمة صداقتك، أهي هذه المرأة التي لا زال حبها يسيل دموعك، وينيلها كل برك وعطفك؟»»

واستطرد الرسول بعد ذلك يقول: «هنالك رد مطلقك درج مكتبه وأقفله، وقال: «بالله عليك يا أخي إلا ما تركتني أفكر في الأمر سحابة هذه الليلة»، فلما عدت إليه الغداة ألفيت صديقتك عنده، وقد أُخِذت لدخولي عليهما، وظهر عليها بعض الارتباك دليلًا على أنها كانت تتكلم في موضوعنا، عند ذلك قلت موجهًا الكلام إليها، وكأنها معي في الحجرة وحدها: «حنانيك يا سيدتي ورفقًا بهذين الصغيرين، إنك أم وتقدرين حاجة الصغير إلى حنان أمه، وإنني لا أخاطب الدكتور باسم مطلقته، وإنما أخاطبه باسم ولديه، باسم هذين العصفورين اللذين لا يزالان في حاجة إلى دفء هذا الصدر وعطفه، صدر الأم الحنون التي ترى فيهما روحها وحياتها، فكِّري في الأمر يا سيدتي من هذه الناحية، وانسي المرأة التي تكون قد أساءتك، انسي غريمتك التي أثرت غيرتها وأثارت غيرتك واذكري أبناءك أنت! أفتطيقين أن يُحرَموا من حنانك ثم تطمئنين عليهم؟ واسمحي لي بعبارة قد ترينها قاسية: أولو خُيِّرتِ — لا قدر الله — بين أن تفقدي جمالك هذا الفاتن أو تفقدي أبناءك فأي النكبتين تختارين؟ أرجوك يا سيدتي أن تكوني مع الصغيرين لا عليهما؛ فهما لم يسيئا إليك إن كانت قد بدرت من أمهما إليك مساءة.» ثم إنني توجهت بالكلام إلى مطلقك وقلت له: «وأنت يا صديقي، أتسيغ رحمتك أم يسيغ عدلك أن يتحمل هذان الصغيران وزر صديقك وخيانته عهدك؟! إنك لن تستطيع أن تنقطع لهما، وعملك يشغل نهارك وبعض ليلك، وليس لك أم تحنو عليهما حنوَّ أمهما، وقد أنصفك القضاء وحكم لك، وهذه مطلقتك لا تطمع إلا في مروءتك وكرمك ونبلك، أفتردني إلى الصغيرين وإليها خائبًا؟ حاشاك أن تفعل!»

فنظرت إليَّ صديقتك ملء عينيها الفاتنتين وقالت: «ما أرى إلا أن حديث هذه المرأة سحرك كما سحر غيرك، وقد أدليت بحجتي وأدليت أنت بحجتك، فلننصرف بسلام، ولنترك الأمر لصاحبه.»

قال مطلقك: «فعد إليَّ يا أخي غدًا نتناول الغداء معًا، وعندها أقول لك كلمتي الحاسمة.» وانصرفتُ وانصرفتْ صديقتك، فلما دخلت عليه في موعد الطعام سلمني صورة الحكم وعليها تنازله كما سلمتك إياها، فلما قرأتها وشكرته قال: «لا حيلة لي في ذلك يا صديقي، فأنا لا أملك إغضابها وأنا لا أزال أحبها، وبذلك انتهى الكلام بيننا في هذا الأمر».»

فلما أتم الرسول حديثه قلت له: «إنني أكرر شكري لك يا سيدي من أعماق قلبي، ولست أدري كيف أستطيع أن أجزيك بما صنعت، فالله يتولى جزاءك»، وودعت الرجل إلى الباب حين انصرافه أكرر له عبارات الشكر، فوقف قبل أن يتخطى إلى الخارج وقال: «لا تشكريني يا سيدتي بل اشكري مطلقك، اشكري هذا الرجل ذا القلب الكبير الذي لا يعرف الحقد ولا القسوة، ولو اعتقدت أنك تستطيعين لأشرت بأن تذهبي إليه بنفسك وتبذلي له خالص الشكر على سمو نفسه وعظيم مروءته.»

وفاض بي السرور حين رأيت نفسي وحيدة في غرفتي فارتفع صوتي بالغناء، وإنني لكذلك إذ دخل عليَّ زوجي فجأة وسألني ما لي؟ فأعطيته صورة الحكم فقرأ التنازل الذي عليها ثم قال: «لم يبق إذن للاستئناف موضع، ولم يعد في مقدوري أن أنتقم من هذا الرجل الذي أساء إليَّ بلسان محاميه شر إساءة.» قلت: «لا عليك يا عزيزي، لقد كسبنا الدعوى من غير أن نستأنفها، والخاسر اليوم هما المحاميان، فلم يبق لمحامينا أن يمزق أديم مطلقي، ولم يبق لمحاميه أن يمزق أديمنا، فكفانا ما كان من ذلك أمام المحكمة الابتدائية، ولنحتفل اليوم بأن الولدين ظلا في أحضاننا، فاليوم عندنا هو خير عيد مر بي في حياتي.»

وأسلمت نفسي بعد هذا اليوم إلى فيض من الغبطة أعتاض به عن قسوة الأيام التي مرت بي منذ بدأ الحديث في فصل ولدي عني، وكذلك خلا بالي وغمرني من الحياة نعمة أنستني كل ما مر بي من متاعبها، وما أيسر ما ينسى الإنسان البأساء والضراء إذا مسته نعمة لم يكن يتوقعها!

وأقبل الصبيان فأخذت أقبِّلهما كأنهما كانا في سفر طويل ثم عادا اليوم منه، أو كأنما كنت فقدتهما ثم لقيتهما، وشعر الصبيان — برغم عبرات جادت بها عيناي — أنني فَرِحة مستبشرة، فغمراني بقبلاتهما، وأمسكا بيدي يعبثان في نشوة وطرب، ويدعوانني بأعذب الأسماء التي تمر بخاطرهما، وكذلك عمَّت البيتَ كله نشوةٌ لم تكن المربية أقلنا غبطة بها واشتراكًا فيها.

ومرت الأيام وهذه الغبطة تملأ البيت بشرًا وحبورًا، وأنا لا أفكر في شيء إلا فيما غمرنا من نعمة الرضا، وأحسب أن أيام الهموم قد ابتلعها اليم في جوفه، وأن المستقبل كله سيكون معطرًا بشذا السعادة، بعد أن بدأت أزاهيره تتفتح عن الأمل الباسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤