الكتاب الثاني: المدينة السعيدة

خُلاصته

يشغل غلوكون وأديمنتس في أول الكتاب ميدان البحث الذي أخلاه ثراسيماخس، وهما يُسرَّان باليقين أن حياة العدالة تؤثر على حياة المتعدي، على أنهما لا يمكنهما التعامي عن مغالاة المدافعين عن العدالة في صفاتها العارضة، مُعرِضين عن صفاتها الذاتية، أفليس الإنسان ميَّالًا للتعدِّي متى أمِنَ العواقب؟ أَوَليست العدالة تسوية قضَتْ بها الضرورة الاجتماعية؟ وهل مدحها الشعراء لذاتها؟ وبناءً على اعتقاد وجود الآلهة فكيف تعامِل هذه الآلهةُ العادلين والمتعدين من بني الإنسان؟ أَلَا تصفح عن آثام الأشرار بواسطة ذبائح التكفير؟ فيكون المتعدُّون كالعادلين من حيث السعادة الأخروية، وهم أوفر سعادةً منهم في العالَم الحاضر؟

فاعترف سقراط بصعوبة المسألة، واقترح أن يفحص طبيعة العدالة والبطل في ميدان أوسع ووسط أكبر. أَلَا تتصف الدول بالعدالة كالأفراد؟ وعليه: أَفَليس تجلِّيها في الدول أتمَّ وأوضح؟ فَلْنقتفِ أثرَ الدولة منذ نشأتها، فنتمكَّن من تبيُّن نشأة العدالة والتعدي.

إن المرء لا يستغني عن إخوانه، هذا هو منشأ الهيئة الاجتماعية والدولة، ولا بد فيها من أربعة أو خمسة رجال على الأقل يمثلون العناصر الأولى في توزيع الأعمال، ويتسع مجال ذلك كلما نمت الجماعة، فتحتوي الحياة في بدء نشأتها على الزرَّاع والبنَّائين والحاكة والأساكفة، يُضاف إلى هؤلاء لأول وهلة النجَّارون والحدَّادون والرُّعاة، ومع الزمان تنشأ التجارة الخارجية التي تستلزم زيادة المنتوجات في الوطن لدفع بدل الواردات من الخارج، وازدياد المنتوجات يستلزم وجود طبقات من الباعة وأصحاب المخازن والصرافين، وتحتاج الأمة إلى تُجار وبحَّارة ومستخدمين وعُمال، وإذا نشأت الأمة على هذا النسق حصلت على حاجاتها، إذا لم يزد عددها على ثروتها نسبيًّا. على أنها إذا جُهِّزت بالكماليَّات مع الحاجيات لزمها طُهاة وحلوانيُّون وحلَّاقون وممثِّلون وراقصون وشعراء وأطبَّاء، وذلك يستلزم طبعًا مجالًا شاسعًا.

وقد يُفضي إلى اشتباكها في الحرب مع جيرانها، فتحتاج الدولة إلى جيش دائم وطبقة حُكام، فكيف يُختار هؤلاء الحُكَّام؟ وما هي الأوضاع التي يمتلكونها؟ يجب أن يكونوا أقوياء، سِراعًا، شجعانًا، حماسيِّين، ولكن وُدعاء وفيهم ميل إلى الفلسفة. فكيف يُهذَّبون؟ أولًا يجب أن نكون غاية في التأنُّق في انتقاء القصص التي تُملى على أسماعهم في حداثتهم، فلا يُباح في هذه القصص ما يمس كرامة الآلهة، فلا يُقال فيها أنها تشهر حربًا بعضها على بعض، أو أنها تنقض العهد والميثاق، أو أنها تُنزل الكوارث بالناس، أو أنها تتلوَّن في مظاهرها في الأرض، أو أنها تخدعنا بكذبها.

متن الكتاب

قال سقراط: لمَّا قلت ما قلت خلت أننا انتهينا من المباحثة، والظاهر أنه لم يكن سوى مقدمة؛ لأن غلوكون الشجاع في كل معمعان لم يستحسن انسحاب ثراسيماخس من الميدان، فبدأ الكلام قائلًا:

غلوكون : يا سقراط، أمجرَّد الظهور تروم أنك أقنعتنا؟ أم الإقناع الحقيقي، أن العدالة خير من التعدي؟
سقراط : إذا كان في إمكاني فإني أوثر إقناعكم إقناعًا حقيقيًّا.
غ : فلستَ عاملًا ما تهوى إذًا، فقُلْ ما رأيك فيما يأتي: أتوجد خيرات يسرُّنا امتلاكها لِذَاتِها لا للمنافع الناجمة عنها؟ كعاطفة السرور واللذات البريئة، فمع أنه لا ينشأ عن هذه اللذات نفع، فمجرد امتلاكها يسرُّنا.
س : نعم، توجد خيرات من هذا النوع.
غ : أَوَترى أنه توجد طائفة أخرى من الخيرات؟ وهي ما يُراد لذاته ولنتائجه، كالحكمة والصحة والبصر، فإننا نرغب في هذه الخيرات طلبًا للغرضين.
س : نعم، توجد خيرات من هذا النوع.
غ : أَوَتظن أنه توجد طائفة من الخيرات كالرياضة البدنية، واحتمال المعالجة الطبية في حال المرض، والطبابة، وكل الأعمال المنتجة؛ فهذه الأشياء مزعجة ولكنها تفيدنا، فمع أنها لا تُراد لذاتها فإننا نقبلها لأجل الفوائد والمكافآت الناجمة عنها؟
س : لا شك في أنه يوجد خيرات أيضًا من هذا النوع، فماذا تقصدان بعد ذلك؟
غ : ففي أي هذه الأنواع الثلاثة تُدرَج العدالة؟
س : أظن أنها تُدرَج في أفضلها؛ أيْ إنها من الخيرات التي يقدرها مَن ينشد السعادة الحقيقية، فتُراد لذاتها ولنتائجها.
غ : ولكن الكثيرين من غير رأيك، فهم يرون أن العدالة من الأشياء المزعجة، فهي في ذاتها مكروهة ومنبوذة، ولكنها تُرام لِما فيها من الثقة بالمكافآت والصيت الحسن.
س : أعلم أنها تظهر هكذا؛ ولذلك فنَّدها ثراسيماخس وزكَّى التعدِّي، فالظاهر أني تلميذ خامل.
غ : فاسمعني إذًا وقُلْ لي هل توافقني في رأيي، فإني أرى أنك قد رقيت ثراسيماخس، كما يرقي الحاوي الحية، بأسرع مما يلزم، أما أنا فلا أرى ما قيل في شرح العدالة والتعدي كافيًا، فأحب الوقوف على ماهية كلٍّ منهما، وما لهما من النفوذ في النفس، مع صرف النظر عن الجزاء والنتائج الناشئة عنهما، فإذا كنتَ تريد فإني أبدأ البحث على المنوال الآتي بيانه: أستأنف حديث ثراسيماخس، فأخبرك أولًا رأي الناس العام في طبيعة العدالة وأصلها. وثانيًا أُبيِّن أن جميع الذين أرادوها لم يرغبوا فيها لذاتها، بل قبلوها مُرغمين كحاجةٍ لا غنى عنها، لا لأنها خير بالذات. وثالثًا أنَّ تصرُّفَهم هذا نشأ عن تعقُّلٍ ورويَّة؛ لأن حياة الإنسان المتعدي — على قولهم — أفضل كثيرًا من حياة العادل. إني لا أذهب مذهبهم يا سقراط، ولكن كلمات ثراسيماخس وألوف من أضرابه ما زالت تطنُّ بها أذناي، فأراني في حيرةٍ من أمري، فإني لم أسمع حديثًا مفعمًا في أفضيلة العدالة. فأروم أن أسمع امتداحها منك وحدك على ما هي في ذاتها، وسأُطنب في امتداح حياة المعتدين وأفضليَّتها على حياة العدالة، فأهب لك نموذجًا به أحب أن أسمعك تفنِّد البطل وتوجب العدالة، أفتستحسن رأيي؟
س : كل الاستحسان، فماذا يسرُّ العاقل أكثر من المداولة في موضوعٍ كهذا المرة بعد المرة؟
غ : أحسنتَ، فاسمع إذًا كلامي في القضية الأولى، وهو «طبيعة العدالة وأصلها». يقولون إن التعدي مأثور لذاته، ولكن عاقبته رديَّة؛ لأن الشر الناشئ عن وقعه يربي كثيرًا على الخير الناجم عن اقترافه؛ ولذا بعدما ظلم الناس بعضهم بعضًا زمنًا طويلًا، وتحملوا ثقل وطأته على النفوس، واختبروا العدالة والتعدي كليهما، رأوا أن الأفضل للذين لا يقدرون أن ينبذوا أحدهما ويختاروا الآخر، أن يتفقوا ألَّا يَظلموا ولا يُظلَموا، هذا منبت الشرائع والمعاهدات بين الإنسان وأخيه، فحسبوا ما أوجبته الشرائع عادلًا مشروعًا. قالوا: هكذا نشأت العدالة، وهي حلقة متوسطة بين الأفضل وهو التعدي دون عقوبة، وبين الأردأ وهو الانظلام مع العجز عن الانتقام، فالعدالة المتوسطة بين هذين الطرفين مرغوب فيها، لا لأنها خير بالذات، بل لأنها التحفت بشرف دفع التعدي. ويقولون إنه متى امتلك المرء المقدرةَ على التعدي مع اكتسابه أوضاعَ الرجال، فإنه لا يرضى قطعيًّا أن يُستضعَف، فيتقيَّد بنبذ التعدي. هذا ما قيل في طبيعة العدالة وفي أصلها. الحقيقة الثانية في بياني: يتبع الناس سنن العدالة غير مختارين، ويتنكبون عن الضرر لعجزهم عن إضرام ناره، ويمكن إيضاح ذلك إيضاحًا تامًّا بالشاهد التالي:
لو أطلقنا أيدي العادلين والمتعدين سواء، وأبحنا لكلٍّ منهم أن يعمل ما تهوى النفس، وتتبَّعنا آثارهما لنرى إلى ماذا قادت كلًّا منهما ميوله؛ لَوجدنا العادل منحدرًا بكليته في تيار التعدي، كعديم العدالة تمامًا، راغبًا في إحراز ما تجوع إليه نفسه من الملاذ وتنشده كل خليقة، كالخير المراد بالذات، ولكن الشرائع هي التي ردعته عن مطاوعة الشهوات وأرغمته على احترام المساواة.

ويمكن تحقُّق ذلك إذا تمتَّع الناس بالحرية التامة في العمل، من الأسطورة التي يَرْوُونها عن جيجيس الليدي. تقول الأسطورة:

«كان راعٍ يرعى مواشي ملك ليديا، ففي ذات يوم هطلت الأمطار وثارت العواصف؛ فتصدَّعت الأرض بفعل زلزال شديد، وحدثت في أرض المرعى هوَّة عميقة، فتعجَّب الراعي مما حدث، وانحدر إلى أسفل الهوَّة، فرأى غرائب جمَّة جاء وصفها في الأسطورة، منها حصان نحاسي مُجوَّف، في جانبَيْه كوى، أطلَّ منها الراعي فرأى في جوف الحصان جثة ميت أكبر من جسم الإنسان العادي، فلم يأخذ منها سوى خاتم ذهب كانفي إحدى الأصابع، ثم صعد من الهوة. فلما اجتمع الرعاة على جاري عادتهم الشهرية لينظموا قرارًا يرفعونه إلى الملك في تبيان ما حدث لقطعانه، كان صاحبنا بينهم والخاتم في يده، وفيما هو جالس في الجماعة وهو يلعب بالخاتم، عرض أنه أداره في أصبعه، فلما صار الختم إلى باطن اليد اختفى لابس الخاتم عن النظر، فصار الرعاة يذكرونه بصيغة الغائب، فأدهشه منهم ذلك، وجعل يعالج الخاتم ليرده إلى موضعه، وحينذاك عاد فظهر للناظرين، وكرَّر التجربة ليرى هل للخاتم هذه المزيَّة؟ فتكررت النتيجة، فثبت له أنه كلما دار الخاتم إلى باطن الكف غاب لابسه عن النظر، وإذا عاد إلى موضعه عاد لابسه إلى الظهور، فتطوَّع الراعي لمرافقة الوفد الذي يحمل التقرير إلى الملك، ولمَّا وصل القصر راوَدَ الملكة، وكاد معها للملك فاغتاله وانتزع عرشه.»

فلو أن في الدنيا خاتمين من هذا النوع، أحدهما في يد العادل والآخَر في يد المتعدي، لما تشبَّث أحدهما بالحرص على الإنصاف، فنكب عى سلب أموال جيرانه، وفي طاقة يده الحصول عليها وعلى ما يريد في الأسواق وفي البيوت دون رهبة؛ فيدخل البيوت ويواقِعُ مَن أراد منهن، ويقتل مَن يشاء أو يفك أغلال مَن يشاء، ويفعل في الناس فعل الله في خلقه، فلا يختلف بذلك عن المتعدي، بل يسير كلاهما في سنن واحد، وذلك دليل قاطع على أن لا أحد يعدل مختارًا، بل مُرغمًا؛ لأن العدل ليس خيرًا للأفراد، وكلٌّ يتعدَّى حيث يكون التعدي مُستطاعًا؛ لأنهم يرون أن التعدي أنفع كثيرًا من العدالة، وهم مُصيبون حسب هذا القسم من بحثنا، فلو أن لكلٍّ هذه الحرية ولم يمس ما للغير، لَحُسِبَ في نظر العقلاء ذا مَسٍّ من الجنون، مع أنهم يمدحونه في الوجه مخافةَ أن تصيبهم أضرارُ تعدِّياته.

أما ما يتعلق باختلاف حياة الرجلين المار ذكرهما، فيمكننا بلوغ نتيجة صحيحة فيه إذا قابلنا أعظم الناس عدالةً بأوفرهم تعدِّيًا، وبذلك فقط يمكننا حل المسألة، فكيف نقابل بينهما؟ دَعْنا لا ننزع شيئًا من تعديات المتعدي، ولا من عدالة العادل، بل يكون كلٌّ منهما كاملًا في سجيته؛ أولًا ليتصرف المتعدي تصرُّف رب الفن الحاذق، كرُبَّان من الطراز الأول، أو كنطاسي خبير، فيما يمكن أن يعمل وما لا يمكن أن يعمل في فنه، فيفعل هذا ويُعرض عن ذاك، وإذا زلَّ في خطوة كانت له قدرة على إصلاح الزلل. على هذا النحو يُجرِي المتعدي تعدِّياته بمهارةٍ خارقة، ويتمكن من إخفاء عمله عن الأنظار إذا أراد أن يكون ظلَّامًا، وإذا ظهرت حقيقته حسبناه أخرق. وأقصى حدود الارتكاب أن يتلبَّس صاحبه بالعدالة، وهو خلوٌّ من حقيقتها. فنسلِّم للكليِّ التعدي أوسعَ الميادين في دوس العدالة، وأنه مع ارتكابه الكبائر يربح اسم العادل وشهرته، ويتمكن من ترقيع ما تمزَّق من سياسته بواسطة البلاغة في الخطابة، فيقنع الناس بعدالته إذا فشا أمر ارتكاباته، أو يقنعهم بالقوة والشجاعة والأصحاب والمال حيث يلزم ذلك.

وبعدما صوَّرنا رجلًا بكل هذه الأوصاف، فَلْنضع بإزائه لاستيفاء البحث رجلًا طيب القلب، وَلْيكن هذا الرجل عادلًا حقيقيًّا طاهر الوجدان، ويرغب في العدالة كما قال أسخيلس، لا ظاهرًا بل حقيقةً، وَلْنُجَرِّد هذا العادل من ظاهرات بره وصلاحه؛ لأنه إذا اشتهر بالعدل فنال من الناس مكافأة وشرفًا، لا يمكن التيقُّن إذ ذاك، هل رغب في العدالة لذاتها؟ أو لنتائجها؟ فَلْنجرِّدْه من كل شيء إلا العدالة، وَلْيكن في عكس حال الرجل الآخر إلى جانبه، ومع سلامته من كل مُغايرة يُشاع عنه أنه مرتكب من الطبقة الأولى، فتُمتحَن عدالته امتحانًا شديدًا، فيشهَّر بُرهانًا على سوء السمعة وما ينتج عنها، فيُعاقَب بالتعذيب عملًا بأحكام العدالة، ولكنه لا يثنيه عن كماله خزيٌ ولا عار، بل يظل ثابتًا حتى الموت، وقد ظهر لنظر الناس غير مستقيم في حياته مع فرط استقامته وبِرِّه، وبهذا الاعتبار يبلغ كلا الرجلين أقصى مداه، الواحد عدالة، والآخر تعدِّيًا؛ وعندئذٍ يمكننا أن نعرف أيهما أسعد حالًا.
س : ما أعجب تجريدك كلًّا منهما لحكمنا كمثالين عريانين!
غ : على قدر الإمكان، وبعدما وصفناهما كما سبق لا تبقى صعوبة في معرفة الحياة التي تترصَّد كُلًّا منهما، فدَعْني أصفها، وإذا بدا الوصف سمجًا فلا تنسبنَّه إليَّ كأنه مني يا سقراط، إنما هو مِمَّن يؤثرون التعدي على العدالة، فإنهم يقولون إنه في موقفٍ كهذا يجلد العادل المتهم ويُعذَّب ويُوثَّق بالأغلال، وتُسمل عيناه بأسياخٍ حديدية محمية بالنار، وبعد أن يذوق كل صنوف العذاب يُصلَب، فحينذاك يعلم أن الأفضل له ليس فقط أن يكون عادلًا، بل أن يعرف أنه عادل، وأن كلمات أسخيلس هي أكثر انطباقًا على المتعدي منها على العادل؛ لأنه تأيَّد وتزكى كعادل لاذ بالحقيقة، ولم يعش حسب أهواء الناس الشريرة، وأنه لم يظهر ظهورًا، بل كان بالحقيقة متعدِّيًا، وهذا هو قوله:
مستغلًّا دوحة النفس وقد
أينعت باللب خير المشورات
فتمكن أولًا من تبوُّء المناصب لاشتهاره بالعدالة، وثانيًا يختار مَن شاءها زوجًا له، ويصاهر أولاده الأُسَر التي يريدها، ويعقد الاتفاقات المالية، والشركات التجارية مع مَن اختار، وفوق الكل يُنمِّي ثروته بالدخل الوافر، ولا يعثر بما في نفسه من كوامن الخداع، ويكون فوَّازًا في كل مضمار سرًّا وجهرًا، ويتفوَّق على مُزاحميه ويكيد أعداءه، ويتوشَّح بجلباب الفضيلة والتقى، فيقدِّم القرابين الثمينة إكرامًا للآلهة، وله حظ الرجل العادل بواسطة تقدماته للآلهة، ولمَن اختار من الرجال، فهو أدنى من العادل الحقيقي لربح رضا السماء؛ ولذلك قالوا أيها العزيز سقراط: إن حياة المتعدي خير من حياة العادل، عند الله والناس.

(ولمَّا قال غلوكون ذلك هممتُ بالجواب، ولكن قبلما أفتح فمي قال أخوه أديمنتس):

أد : لا تتصور يا سقراط أنه قد قيل ما يكفي لشرح التعليم.
س : ولماذا لا؟
أد : لأنه ينقصه القسم الأعظم مما يجب إيراده في هذا المقام.
س : فقد أحسن مَن قال: الأخ عضُد قريب، فأنت عضُد أخيك، تَقِيه شر الاندحار، وسنده المتين، فتصونه من غوائل العثار، مع أن ما أبداه غلوكون كافٍ لسقوطي في الميدان، وغل يديَّ عن نصرة العدالة في ساحة الرهان.
أد : إنك تتهكَّم، فاسمع ما يلي: فإن علينا أن نورد من الشواهد ما يُعاكس منهج غلوكون، فنمدح العدالة ونذم البطل لتجلية ما أظن أنه المعنى الحقيقي الذي أراد الإعراب عنه، فأقول: يحث الوالدان أولادهم، والمعلمون تلاميذهم، وكل من تعاطى تهذيب الأحداث أحداثه؛ على اتباع سنن العدالة، ولكنهم لا يوجبونها لذاتها، بل لِما تهب لهم من كرامة واحترام، فمرادهم أن يربح المرء لاشتهاره بالعدالة، فيضمن له هذا الاشتهارُ الفوزَ بالمناصب وبالزواج، وبكل ما ذكره غلوكون أنه مضمون للعادل بسامي صفاته. على أن الاشتهار بالعدالة يؤدي بأربابها إلى أبعد من ذلك، فإن فوزهم برضا الآلهة يُنيلهم — على ما قالوا — سعادات لا تُوصَف تسبغها على الناس، كما قال هسيودس وهوميرس الحكيمان. قال أولهما:١ أن الآلهة تجعل أشجار العادلين السنديانية.
أفنانها بالجنى تزداد زينتها
وتحتها ما جناه النحل من عسلِ
وشاؤهم بجزاز الصوف زاهية
كأنها الثلج يكسو ذروة الجبل
وقال ثانيهما:٢
فيجلس سيِّدًا مثل الإلهِ
مُحاطًا بالمفاخر والمباهي
كثيرًا خيره زرعًا وضرعًا
وصيدًا لا يُدانيه تناهِي
وقد وصل الإلهين موزيوس وابنه أومولبوس أنهما يسبغان على الأبرار بركات أسمى ممَّا ذكر، فقد حملاهم إلى هادز، فاتَّكئوا مع جماعة الأبرار في الولائم المُعدَّة لهم، مُكلَّلين بأكاليل المجد، وقضوا الزمان برشف كئوس الصفا، حاسبًا رشف الكئوس إلى الأبد أسمى مُجازاة الفضيلة. على أن بعضهم لم يقف عند هذا الحد في وصف البركات التي تسبغها الآلهة، فقالوا إن التقيَّ حافِظَ العهود يترك وراءه أحفادًا وذراري خالدة. هذه بعض الخيرات التي ينالها المرء جزاء اتِّصافه بالعدالة.
أما الفُجَّار والظالمون فيغوصون في أوحال المستنقعات في هادز، ويُقضى عليهم أن ينقلوا الماء بالغربال جزاءَ ما صنعت أيديهم، وأن يلتحفوا في حياتهم بالفضيحة والعار، فيحل بهم كل ما ذكره غلوكون من العقوبات التي حَلَّتْ بالعادل الذي حُسِب مُتعدِّيًا، فيُحلُّون بالمعتدين هذه العقوبات، ولا يستطيعون حمل أكثر منها. هذا هو نمطهم في إطراء الصفة الواحدة وذم الأخرى.

واعتبر أيها العزيز سقراط في أمر العدالة والتعدي نوعًا آخر من البحث، وهو ما ورد في كتابات الشعراء وفي الحياة العادية، فقد أجمع الناس على أن الاتِّصاف بالعدالة والعفاف فضيلة عسرة المرتقى، وأن الانغماس في التعدي والفجور لذة سهلة المنال، ولكن الشرائع والرأي العام تنكرها، ويقولون إن الأمانة عمومًا أقل نفعًا من الخيانة، ويُغالون في تغبيط الأشرار وفي إكرامهم سرًّا وجهرًا، من أغنياء ومتسوِّدين، وفي نفس الوقت يزدرون الفقراء والضعفاء ويحتقرونهم، وهم يعلمون أنهم أفضل من أولئك.

وأغرب من كل ما ذُكِر ما قالوه في الآلهة وفي الفضيلة من هذا القبيل، ومنه: أن الآلهة تبلو كثيرين من الأبرار بالكوارث والمِحَن، وتُسبِغ على الأشرار سوابغ النِّعَم، فيقرع المملقون والدجَّالون أبوابَ المثرين، ويؤكدون لهم نيلهم السلطان الإلهي ليغفروا لهم ما اجترحوه هم وآباؤهم من المظالم والفجور، لقاء القرابين والتسابيح والولائم وحفلات السرور. وإذا أراد أحدهم الإيقاع بعدوه أمكنه ذلك بنفقةٍ زهيدة، بارًّا كان خصمه أو مجرمًا، فيقول لهم أولئك المداهنون إنهم يسترضون الآلهة بالتوسُّلات والطلاسم، فيحملونها على إجابة سُؤْلهم، ويستشهدون بالشعراء لإثبات ادِّعائهم في تسهيل الارتكاب، ومنها قول أحدهم:٣
«كن كيف شئتَ فإن الله ذو كرمٍ
وما عليك وإنْ أخطأتَ من باسِ»
إن الخطيئة سهلًا بات مرتعها
تُزيِّنه فائحات الورد والآسِ
أما الفضيلة فالخلَّاق يقرنها
بما يُذيب الحشا في أفضل الناسِ
ويقولون إن سبل الفضيلة عسرة المرتقى كالشم الرواسي، ويستشهدون بهوميرس لإثبات تأثير الناس في نفوس الآلهة وتحويلها عن مقاصدها. قال:٤
حتى الإلاهات تُرشَى في محاكمها
فتعلن الصفح عمَّا قد جنى الرجلُ
تجود بالعفو عنه بعد نقمتها
حتى غدا برضاها يُضرَب المثلُ
وقد أصدروا عددًا عديدًا من الكتب من تآليف موزيوس وأورفيوس ابني القمر والزهرة — اثنتين من إلاهات الفنون على ما يزعمون — فيها طقوس لإقناع الأمم والأفراد فقط أنه بواسطة الذبائح والولائم للأحياء والأموات، وبواسطة الرياضات الروحية التي يدعونها أسرارًا، تُغسَل ذنوبهم وتُستَر عيوبهم وتُطهَّر قلوبهم، وأن هذا هو سر نجاتهم من العذاب الأبدي الذي يحل بمَن لم يستعدوا للفوز بالبر، بواسطة الذبائح والقرابين. فماذا عسانا أن نتصوَّر يا سقراط أن يكون تأثير هذه الأقاويل وأمثالها في الفضيلة والرذيلة وجزائهما، في عقول شبابنا، وهي تُملَى على مسامعهم كلَّ يوم بصور عديدة متنوعة؟ وبعضهم حُصفاء أرباب فِطَن، قادرون على بلوغ قنن الأفكار كما تبلغ الجوارح قنن الجبال، فيتذوقون هذه الأقوال، ويُفكرون بأية طريقة وأية أوصاف يمكنهم أن يجتازوا معارج الحياة؟ فمِن أرجحِ الممكنات أن يناجي الشاب نفسه بقول بندار:٥
سيَّان إنْ كنتَ طودًا للعُلَى شمخت
فيه العدالة والآداب والحُلُمُ
أو كنتَ ذا نقمة يغتال صاحبَه
فالله يرضى بذا والشرع والأممُ
فالرأي العام يقول: لا فائدةَ في كوني بارًّا إذا لم يذع فضلي ويشتهر بِرِّي وصلاحي في الملأ، فلا يصيبني من جرَّاء ذلك سوى الاضطراب والخسران، مع أني لو كنت متعبدًا وانتحلت شهرة عادل، فلي حياة سعادة لا تُوصَف، فما دامت المظاهر الخارجية راجحة على الحقيقة الداخلية كما أوحي إلى الحكماء، وهي أول معارج السعادة، فيجب أن أستسلم بكليتي إليها، مُستترًا برداء الفضيلة، وأجرُّ ورائي ذيلًا ثعلبيًّا٦ من المكر والدهاء، على قول أرخيلوخس.
ورُبَّ قائلٍ: إنه ليس من السهل استتار المنافقين طويلًا. فنردُّ عليه أن ليس شيء من العظائم سهلًا، وإذا رُمنا السعادة فهذا هو سبيل الفوز بها، كما أثبت بحثنا ذلك؛ فلكي نخفي حقيقة خداعنا يجب أن نؤلف جمعيات سرية، ونُنشِئ أنديةً أدبية، وهنالك أساتذة بارعون تجري البلاغة على ألسنتهم، قادرون على الإفحام في ميادين الشرع والبيان، وبهذه الوسائل الإقناعية، حَسُنَتْ أو ساءَتْ، نفوز بأغراضنا ونواصل أعمالنا الخداعية دون عقوبة. على أنه يقال إن مخادعة الآلهة والتغلُّب عليها مستحيلان. فنجيب: إذا كانت الآلهة غير موجودة، أو إذا كانت موجودة لكنها عديمة الاكتراث لشئون الخلائق، فلماذا نزعج أنفسنا مخافة مراقبتها أعمالنا ومعرفتها سرنا وجهرنا؟ وإذا كانت الآلهة موجودة وساهرة على مراقبة أمورنا، فلسنا نعرف عنها شيئًا غير أساطير الشعراء الذين أوردوا أنسابها، فقد أخبرنا هؤلاء الثقات أن الآلهة تُسترضَى فتُؤمن غوائلها وتُحوَّل عن مقاصدها بالذبائح والنوافل والتضرُّعات، فإما أن نُؤمِن بالقولين كليهما أو نرفضهما كليهما. فإذا قبلناهما سلكنا سبل التعدِّي وترضَّينا الآلهة بالذبائح المقتناة بالأموال التي ربحناها بجناياتنا؛ لأنه إذا كنا عادلين نجونا حقًّا من العقاب بين أيدي الآلهة، ولكنَّا بذلك ننفض أيدينا من الفوائد الناجمة عن التعدي. أما إذا كنا متعدين فلا نحرز هذه الفوائد فقط، بل نتمكن من التأثير في الآلهة بصلواتنا المرفوعة إليها بعد ارتكابنا المعاصي والآثام، فتعفو عنَّا. على أنه يُعترَض بأننا سنُعاقَب في هادز عن خطايا هذه الدار، التي نرتكبها نحن أو أحفادنا، بل بالحري يا صديقي (يستمر بطل الجدل في كلامه) أن الطقوس السرية والآلهة الغفورة لها فاعليَّتها العظمى، كما اتصل بنا من أعظم الدول ومن أبناء الآلهة الذين تجسدوا شعراء وأنبياء ملهمين، فأثبتوا لنا صحة ذلك.

فماذا بقي إذًا من الاعتبارات التي تحملنا على إيثار العدالة على شر صور التعدي، ما دام الحال معنا أننا إذا قرنَّا تعدِّينا بخشوعٍ زائف، فُزنا برضاء الآلهة والناس في هذه الحياة وفي الأخرى؟ استنادًا إلى شهادة أكثر الثقاة عددًا وأعلاهم كعبًا. باعتبار كل ما تقدَّمَ يا سقراط، علامَ يحترم العدالة رجلٌ هو على شيءٍ من المزايا، كالمواهب السامية أو الثروة أو الشخصية البارزة أو شرف المَحْتِد، عوض أن يستخفَّ بها حين تُتلى محامدها على سمعه؟ فلو أن إنسانًا تمكَّن من كشف زيف ما قلناه، مقتنعًا اقتناعًا تامًّا بأفضليَّة العدالة، لَاغتفر الكثير من الخطيئات ولم ينقم على الجناة، لعلمه أن لا أحد بارٌّ باختياره إلا الذين فيهم روح إلهية تحملهم على نبذ الفجور، أو الذين في نفوسهم من تأثير العلوم والفنون ما يصرفها عنه، إلا أنهم يطَّرحون التعدي لجبنهم، أو لهرمهم، أو لعلة أخرى تجعلهم عاجزين عن اقترافه. والدليل على صحة ذلك أنه متى امتلك أحد هؤلاء العاجزين قوةً تُمكِّنه من التعدي، كان أول مَن تهافت عليه بكليته، والعامل في كل ذلك هو ما أوردناه أنا وأخي في مُستهل هذا الخطاب يا سقراط، قائلين مع الاحترام اللازم إنكم، أنتم المُدَّعين نصرة العدالة، ابتداءً من أبطال القديم الذين انتهت أخبارهم، إلى أبناء هذه العصور؛ قد جعلتم — بلا استثناءِ أحدٍ منكم — امتداحَ العدالة وذمَّ التعدي وسيلةً توسَّلْتُم بها لنيل الشهرة والمجد والنِّعَم الناشئة عنهما، ولكن ماهيَّة كل منهما بما فيه من قوة خاصة كامنة في نفس صاحبها، خافيةً عن أعيُن الآلهة والناس، هذه الماهية لم تُوَفَّ حقها من البحث نظمًا أو نثرًا، فترينا أن التعدي أقتل سمٍّ يتسرَّب إلى الجسم، وأن العدالة أعظم بركة، فلو كانت هذه لهجتكم بادئ ذي بدء، وحاولتم أن تقنعونا بها منذ حداثتنا، لما كانت ثمَّة حاجةٌ لمراقبة أحدنا الآخر خشيةَ تعدِّيه، بل كان كلٌّ رقيبًا لنفسه، لئلَّا يصمها بالعار بارتكابه التعدي.

فهذا يا سقراط، وربما أكثر من هذا، يمكن أن يقوله ثراسيماخس وغيره، وأجرؤ على القول، في العدالة والتعدي، فيقلبون على ما أرى — جهلًا منهم — التأثيرَ الطبيعي لكل منهما، أما أنا فأعترف لك — لأني لست أريد أن أخفي عنك شيئًا — أني شديد الرغبة في أن أَسمعك تدافع عن الوجهة المناقضة؛ ولذلك تكلمت بأقصى ما فيَّ من قوة.

فلا تحصر دفاعك في أن العدالة أسمى من التعدي، بل أَرِنا تأثيرَ كلٍّ منهما في نفس صاحبه، بحيث يكون أحدهما خيرًا والآخر شرًّا، واحذف شهرة كلٍّ منهما على النحو الذي رغب فيه إليك غلوكون؛ لأنك إذا تمنَّعْتَ عن حذف شهرة كلٍّ منهما وإحلال ضدها محلها، قلنا إنك تمدح ظاهرَ العدالة لا حقيقتها، وإنك تقدح في ظاهر التعدي لا في حقيقته، وإنك إنما تنصح المرء بارتكاب التعدي مستترًا، وإنك توافق ثراسيماخس في أن العدالة هي لخير الغير؛ لأنها مصلحة الأقوى، وأن التعدي هو منفعة المرء الذاتية، لكنه ضد مصلحة الضعيف؛ لأنك سلمت أن العدالة في مرتبة أسمى الخيرات، وأن امتلاكها بركة ثمينة لذاتها ولنتائجها، كالبصر والسمع والعقل والصحة، وغير هذه البركات التي هي خير بالذات لا بالاسم فقط، فخصَّ بمدحك هذه الوجهة من العدالة، أريد بها فائدتها التي تسبغها على صاحبها، بإزاء الضرر الذي يحله التعدي في نفس صاحبه، ودَعْ مدحَ الشهرة والمكافأة لغيرك؛ لأني أتسامح مع الغير في مدحهم العدالة وذم التعدي، وهو منهم عبارة عن إطراء الظاهرات والنتائج المقارنة لها أو ذمها. أما معك فلا أتسامح هذا التسامُح، إلا إذا كنت تطلبه؛ لأنك أفنيت الحياة في فحص هذه المسائل، فلا تكتفِ بأنك تُبرهن لنا على أن العدالة أفضل من التعدي، بل أرِنا تأثيرهما الخاص في نفس صاحبهما، الذي به يكون أحدهما بركة والآخر شرًّا، سواء عُرِف أمره عند الله والناس أو لم يُعرَف.

قال سقراط: فاحترمت مواهب غلوكون وأديمنتس كليهما، وعندها صارحتهما أن بيانهما سحرني، وقلت لهما: بحقٍّ قال فيكما مَن أعجب بغلوكون، يا ابنَي الرجل الوارد ذكره في أول بيت من إلياذته، على إثر فوزكما في معركة ميغارا:
إن أبناء أريسطو
أقدس الأبناء أصلًا
ولدَيْ شهمٍ كريمٍ
بلغ النجم وأعلى
فأراه أصاب كبد الحقيقة بهذا النعت يا صديقيَّ؛ لأن في عقليكما أثرًا إلهيًّا واضحًا، إذ لم تُسَلِّما بأن التعدي خير من العدالة، وأنتما قادران أن توردا فيه ما ذكرتماه الآن، وإني لَواثق بأنكما لن تُسلِّما ذلك التسليم؛ لاستدلالي بما تبيَّنتُهُ من مجموع سجاياكما، ولو اقتصر الأمر على خطابيكما لَكانت لي فيكما غير هذه الثقة. على أني كلما زدتُ ثقةً بكما زدت حيرةً في كيف أتصرف بهذا الموضوع؛ لأني مع كوني لا أدري كيف أساعدكما بناءً على عدم جدارتي الظاهر في رفضكما ما قلتُه لثراسيماخس، وأنا أزعم أني أثبتُّ أفضليَّة العدالة على التعدي، أقول مع حيرتي هذه: لا أجرؤ على التنكُّب عن النجدة؛ لأني أخشى أن أرتكب إثمًا عظيمًا إذا أنا سمعت العدالة تُمْتَهَنُ، فانحلَّتْ عزيمتي وتخلَّيتُ عنها وفيَّ نسمة، فأرى من الحزم أن أنصرها بما لي من حول.

(فألحف عليَّ غلوكون وكل مَن حضر أن أنصر العدالة بكل ما في وسعي، ولا أسمح بانصرام الحديث، بل أبحث بالتدقيق في طبيعة كلٍّ من العدالة والتعدي، وما هو التعليم الحق النافع في كلٍّ منهما، فأبديتُ حينذاك شعوري، وهو أني لا أرى البحث الذي نخوض عبابه أمرًا زهيدًا، بل أراه يحتاج إلى ثاقب النظر. ولمَّا كنت غير حصيف استحسنتُ صيغةً خاصة للبحث تُمكِّننا من إيضاحه، وهذا بيانها):

س : افرض أننا سُئِلنا قراءة كتابة بحروفٍ من قطعٍ صغير عن بُعد، ولم نتمكن من تبيُّنها، ولكن أحدنا اكتشف أن تلك الكلمات نفسها مكتوبة في موضعٍ آخر بحروف كبيرة وعلى رقعة أوسع، فمن المعقول أننا نقرأ الكلمات كبيرة الحروف أولًا، ثم نحوِّل نظرنا إلى الكتابة ذات الحرف الصغير، ونفحصها لنرى هل الكتابة واحدة في الرقعتين.
أديمنتس : لا شك في أن ذلك واجب. ولكن أية علاقة بينه وبين بحثنا الحالي في العدالة؟
س : سأُريك العلاقة بينهما: العدالة عدالتان؛ عدالة في الفرد، وعدالة في الدولة. أليس كذلك؟
أد : أكيد.
س : والدولة وسط أكبر من الفرد.
أد : أكبر.
س : فالأرجح أن العدالة أظهر في الوسط الأكبر وأسهل تبيُّنًا، فإذا شئتم فإنَّا نبحث أولًا في العدالة في الدولة، وبعدئذٍ نطبق البحث على العدالة في الفرد بالأسلوب نفسه، ملاحظين وجه الشبه في الاثنين.
أد : أراك على هدًى في رأيك.
س : فإذا تتبَّعنا في أفكارنا نشأةَ الدولة التدريجية، أفلا نرى فيها نشأة العدالة ونشأة التعدي؟
أد : الأرجح أننا نرى.
س : أَوَلَا يكون لنا أساسٌ للثقة بأننا سنجد ما ننشده بأوفر سهولة؟
أد : أسهل جدًّا.
س : فهل من رأيكم أن نجدَّ في إنفاذ خطتنا؛ لأن الأمر ليس قليل الشأن؟ فتأملوه جيدًا.
أد : إنَّا لمتأمِّلون، فجدَّ كل الجدِّ.
س : أرى أن الدولة تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه، وافتقاره إلى معونة الآخرين. أتتصوَّر سببًا آخر لنشأة الدول؟
أد : كلا، فأنا أوافقك.
س : ولما كان كل إنسان محتاجًا إلى معونة الغير في سد حاجاته، وكان لكل منَّا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد عديد منا من صحب ومساعدين، في مستقرٍّ واحد، فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدنية أو دولة،٧ ألا نطلقه؟
أد : بلى، من كل بُدٍّ.
س : فيتبادل أولئك الأشخاص الحاجات، وكلٌّ منهم عالم أنه سواء كان آخذًا أو معطيًا في ذلك التبادل، فالأمر عائد إلى فائدته الشخصية.
أد : مؤكد.
س : فلنختطَّ في بحثنا مدينةً خيالية، مبتدئين بها من أول أركانها، فيظهر إذًا أنها أُنشِئت سدَّا لحاجاتنا الطبيعية.
أد : بلا شك.
س : وأول تلك الحاجات وأهمها القوتُ، قوام حياتنا كمخلوقات حية.
أد : من كل بد.
س : وثاني تلك الحاجات المسكنُ، وثالثها الكسوةُ، وهكذا.
أد : حقًّا.
س : فَلْننظر كيف يمكننا أن نجعل مدينتنا تقوم بسد حاجات عديدة. أفلا نبدأ بالزارع، ثم البنَّاء فالحائك؟ أفيكفي هؤلاء أم نضيف إليهم الإسكاف واثنين أو ثلاثة من العمال القائمين بسد حاجاتنا الجسدية الضرورية؟
أد : من كل بد.
س : فأصغرُ ما يمكن تصوره من المدن يتألف من أربعة رجال أو خمسة.
أد : هكذا نرى.
س : فَلْنتقدم في البحث. أفيعمل كلٌّ من هؤلاء الأربعة ما يلزم للجميع من منتوجه، فيُعِدُّ الفلاح مثلًا، وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي في إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يُقاسم إخوانه الثلاثة منتوجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسدُّ حاجته، فيقضي ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضي الثلاثة الأرباع الباقية في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات، بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟
أد : الأرجح يا سقراط أن التعاون أسهل من الاستقلال بالعمل.
س : رأيك غير بعيد عن الصواب، فقد خطر على بالي على إثر كلامك أن كل اثنين غيران، وكل واحد يختلف عن غيره موهبةً، ففي الواحد من الناس استعداد خاص لنوع من الأعمال، وفي غيره استعداد لعملٍ آخر، ألا تظن هكذا؟
أد : أظن.
س : فأيٌّ أنجح؟ أتوزيع قوى الفرد العقلية على أعمال عديدة؟ أم حصرها في موضوعٍ واحد؟
أد : الأنجح حصرها في موضوعٍ واحد.
س : وأراه أمرًا بيِّنًا أن الإنسان إذا أهمل الفرصة السانحة للعمل فإنها لن تعود.
أد : واضح.
س : لأن العمل في رأيي لا ينتظر وقت فراغ العامل، بل يجب أن يلوذ بعمله بحكم الضرورة، ولا يستهتر أو يحسبه أمرًا ثانويًّا.
أد : ذلك واجب.
س : فينتج مما تقدم أن كل الأشياء تكون أوفر مقدارًا وأجود نوعًا وأسهل إنتاجًا إذا التزم العامل ما يميل إليه طبعه من الأعمال، وأتمَّه في وقته الخاص غير متشاغل عنه فيما سواه.
أد : بكل تأكيد.
س : ولكنا يا أديمنتس نحتاج إلى أكثر من أربعة رجال أو خمسة لإعداد ما ذكرنا من الحاجات؛ لأن الفلَّاح لا يصنع محراثه بنفسه إذا أريد به أن يكون محراثًا مُتقنًا، ولا يصنع معوله ولا غيره من آلات الحراثة، وكذلك البنَّاء لا يمكنه أن يصنع الآلات العديدة اللازمة له، وهكذا الحائك والإسكاف.
أد : حقيق.
س : فيلزمنا نجَّارون وحدَّادون، وغيرهم من الصُّنَّاع على أنواعهم، فيصير هؤلاء أعضاء دولتنا الصغيرة، ويؤلفون وإخوانهم شعبًا.
أد : مؤكد.
س : على أن المدينة لا تكبر كثيرًا، إذا أضفنا إلى هؤلاء رعاة المواشي ومَن هم من هذا القبيل، لإمداد الفلاحين بالثيران وغيرها من الحيوانات لجر المحراث، ومواد البناء للبنَّائين، ونقل الجلود والأصواف للأساكفة والحاكَّة.
أد : فليست إذًا مدينة صغيرة وفيها كل هؤلاء.
س : على أنه يندُر اختطاط مدينةٍ، في أي واقعٍ كان، دون افتقارها إلى واردات.
أد : يندُر.
س : فيلزمنا أشخاص آخرون يجلبون ما نحتاج إليه من المدن الأخرى.
أد : يلزم.
س : إذا ذهب المندوب فارغ اليد مما يحتاج إليه الأقوام الذين نستمدُّ منهم ما نفتقر إليه من المواد، عاد بخُفَّيْ حُنَيْن، أليس كذلك؟
أد : هكذا أظن.
س : فلا تقتصر المدينة على ما تستهلكه، بل يلزم أن يزيد منتوجها على استهلاكها؛ ليكون لها ما تدفعه بدل ما تستورده من الخارج.
أد : يجب ذلك.
س : فتحتاج مدينتنا إلى زُرَّاع وصُنَّاع أكثر مما سبق ذكره.
أد : تحتاج.
س : وإلى وُكلاء كثيرين لتصدير البضائع وتوريدها، وهؤلاء هم التجار، أليسوا كذلك؟
أد : بلى.
س : فإذًا نحتاج إلى تجار أيضًا.
أد : مؤكد.
س : وإذا كانت التجارة بحرية لزمنا كثيرون غيرهم من حُذَّاق الملَّاحين.
أد : كثيرون حقًّا.
س : فأخبِرني: كيف يتبادل أهالي المدينة أنفسهم المنتوجات؟ فإنك عالمٌ أنه لأجل تبادلها ألَّفنا الجماعة وأسَّسنا الدولة.
أد : واضح أن ذلك يتم بالبيع والشراء.
س : وهذا يؤدي إلى فتح الأسواق وتداول النقود لتسهيل المعاملات.
أد : بالتأكيد.
س : فإذا فرضنا أن الفلَّاح أو غيره من الصنَّاع جلب بضاعته إلى السوق ولم يحضر مَن يبادله إيَّاها، أفلا يلبث في السوق كلَّ الوقت ويعطل شغله؟
أد : من كل بد.
س : فهنالك أُناس يرقبون هذه السانحة، وقد وقفوا أنفسهم لاغتنامها، ورجال هذه الفئة في المدن الكاملة التنظيم هم على العموم هزال الأبدان، لا يصلحون لعملٍ آخر، وشغلهم الخاص هو الإقامة في الأسواق، يمدُّون مَن يروم بيع بضاعته بالدراهم لقاء تسلُّمهم إيَّاها، وقبض الدراهم ممَّن يروم شراء بضاعة وتسلُّمها، ويستدعي ذلك وجود تجار المفرَّق في المدينة. أفلا ندعو المقيمين في السوق للبيع والشراء «الباعة بالمرفق»، والذين يجولون من مدينة إلى مدينة تُجارًا؟
أد : بالتمام هكذا.
س : وهناك طبقة أخرى ممَّن ليست لهم قوًى عقلية تؤهلهم لمصاف مَن ذكَرْنا، ولكن لهم قوة بدنية تمكِّنهم من العمل الشاق، فيبيع هؤلاء قدرتهم البدنية ويدعون ثمنها «أجورًا»، وهم يُدعَون «عُمَّالًا». أليسوا كذلك؟
أد : حتمًا.
س : فالعمال المأجورون هم تتمَّة المدينة.
أد : هكذا أظن.
س : أفنقول يا أديمنتوس أن مدينتنا بلغت معظم نموها؟
أد : على الأرجح.
س : فأين نجد العدالة والتعدي فيها؟ إلى أي العناصر الذي ذكرناها يتسرَّبان؟
أد : لا أدري يا سقراط، إلا إذا كان في العلاقات المتبادلة بين الأشخاص المذكورين أنفسهم.
س : من الممكن أنك مصيب، ولكن علينا فحص المسألة دون إحجام.
فَلْننظر أولًا في نوع الحياة التي يحياها الناس المجهزون بما ذكرناه، وأظن أنهم يجنون ذرة وخمرًا ويصنعون ثيابًا وأحذيةً، ويُشيِّدون لأنفسهم بيوتًا، ويمكنهم العمل صيفًا أكثر الوقت بدون أحذية ولا أردية. أما في الشتاء فيجهزون بما يلزمهم منها، ويقتاتون بالقمح والشعير، ويصنعون خبزًا وكعكًا، وينشرون الخبز الجيد والكعك اللذيذ على حُصُرٍ محبوكة من القش، أو على أوراق الأشجار النظيفة، ويجلسون على أسِرَّة مصنوعة من أغصان السرو والآس، ويتمتَّعون بصفاء العيش مع أولادهم، راشفين الخمور، مُكلَّلين بالغار، مُسبِّحين للآلهة، مُعاشرين بعضهم بعضًا بسلام، ولا يلدون أكثر مما يستطيعون أن يعولوا، احتسابًا من الفاقة والحرب.

(فقاطعني غلوكون الكلام قائلًا):

غ : يظهر أنك حصرت ولائم صحبك بالخبز، دون إدام وتوابل.
س : بالصواب تكلَّمتَ، فإني نسيتُ أنه سيكون لهم من كل بد إدام وتوابل، كالملح والزيتون والجبن والبصل والملفوف، وسنضع أمامهم الفواكه والحلويَّات من تينٍ وحمصٍ وفول، ويشوون حب الآس والجوز، ويأكلون ويشربون باعتدال، ويقضون حياتهم بصحة وهناء، ويموتون ميتة صالحة، تاركين للذراري بعدهم أساسًا لحياة سعيدة كحياتهم.
غ : ولو أنك اختططت مدينة للخنازير فماذا كنت تطعمها غير ذلك؟
س : فكيف تريد أن يعيشوا يا غلوكون؟
غ : عيشة مدنيَّة، فيتَّكِئون على الأسِرَّة إذا لم يرضوا شظف العيش، ويأكلون عن الموائد ألوانًا من الأطعمة والحلويات من الطراز الحديث.
س : حسنًا جدًّا، لقد فهمتك، فإننا لسنا نبحث في مجرد إنشاء مدينة، بل في كونها سعيدة رخيَّة، ولا أرى ذلك فكرة سيئة؛ لأننا باعتبار هذا البحث قد نتبيَّن منبت العدالة والتعدي في المدن؛ فمدينة كالتي وصفناها هي حقيقية وصحية، وإذا رُمت النظر في جعلها ضخمة رفيهة فليس ثمَّة مانع، فإن بعض الناس لا يكتفون بالضروريَّات على ما مرَّ بك وصفه، بل يرومون أيضًا أن يقتنوا أَسِرَّة وموائد، وكل أنواع الرياش، مع اللحوم والطيوب والعطور والحظايا، مع الإكثار من هذه الطيبات، فلا نحصر أنفسنا في الضروري من المواد التي ذكرناها ابتداءً — القوت والمسكن والكسوة والحذاء — بل يلزمنا النقش والرسم والذهب والعاج وكل متاعٍ ثمين. ألا يلزم إحراز كل هذه الأشياء؟
غ : يلزم.
س : فنضطر حين ذاك إلى توسيع المدينة؛ لأن المدينة الأولى الصحيَّة ضاقت عن وسع كل ما ذُكر، واستدعى الأمر مدَّ أطرافها، وأن تُملأ بالمهن المُنوَّعة التي لا توجد في المدن لمجرَّد سد الحاجات الطبيعية، مثال ذلك الصيادون وأرباب الفنون النقلية — بما فيهم من مصورين ودهَّانين وموسيقيِّين — والشعراء والمنشدون والممثِّلون والراقصون والقصَّاصون والمقاولون، وصُنَّاع الأدوات على أنواعها، وصانعو البهارج وحُلي النساء، فيلزمنا عُمال كثيرون، أَوَلَا نحتاج أيضًا إلى المُرَبِّين والمراضع والممرضات والوصائف والحلَّاقين والطُّهاة والحلوانيِّين؟ ونحتاج أيضًا إلى رعاة الخنازير — طبقة من الناس لم نكن نحتاج إليها في مدينتنا الأولى، ولكنا نحتاج إليها في هذه — ويلزمنا أيضًا كثير من المواشي لأجل مَن يرغبون في أكل لحومها. أَلَا نحتاج؟
غ : من كل بد.
س : أَوَلَا نحتاج في هذه الحال إلى الأطباء أكثر من ذي قبلُ؟
غ : بالتأكيد.
س : أفلا تضيق أرباض المدينة ومسارحها الآن، بعدما كانت كافية للقيام بأود سكانها الأولين؟ أنقول هذا القول؟
غ : بالتأكيد.
س : أفلا نضطر إلى التسَطِّي على أصقاع جيراننا الواسعة لمد نطاق مراعينا وحقولنا، اضطرار أولئك إلى عمل المثل، إذا كنا في سعة وهم في ضنك، فيتجاوزون حدود الضروريَّات، ويوغلون في طلاب الثروة بغير حد؟
غ : لا مندوحة عن ذلك يا سقراط.
س : أفنحارب يا غلوكون؟ أو ماذا نفعل؟
غ : كما تقول.
س : ولنعرض في هذا الموقف من بحثنا عن الحكم بمضرَّة الحرب أو نفعها، مقتصرين على القول إننا قد تتبَّعنا أصلها ومنبتها إلى أسبابها، وهي مصدر شر الويلات التي تحل بالدولة جماعةً وأفرادًا.
غ : تمامًا هكذا.
س : فيلزم دولتنا إضافة أراضٍ واسعة لكي تسع جيشًا لجبًا يجول ويصول لصد غارات الغُزاة، والذود عن الأرزاق والنفوس التي أتينا على ذكرها.
غ : أَلَا يكفي الأهالي وحدهم لذلك؟
س : كلَّا؛ لأننا اتفقنا جميعًا، أنت والآخرون، في تصديق الخطة التي قرَّرناها لإنشاء الدولة، فقد سلَّمنا إذا كنتَ تذكر أنه يستحيل على الفرد أن يُتم أعمالًا عديدة معًا.
غ : حق.
س : وما قولك في الحرب؟ أَلَا ترى أنها فن قائم بذاته؟
غ : دون شك.
س : أَوَليس لنا داعٍ كافٍ للاهتمام بفن الحرب كما بفن السكافة مثلًا؟
غ : بالتمام.
س : ولكنَّا شرطنا على الإسكاف أن لا يكون مزارعًا ولا صانعًا ولا بنَّاءً، إذا رُمنا أن يُتقن صنع أحذيتنا، وعلى القياس نفسه أنَطْنَا بكل صنف من الصناع نوعًا واحدًا من الأعمال حسب جدارته، وأطلقنا يد كلٍّ منهم في الحرفة التي اختارها دون غيرها ليُجيد صنعها واقفًا حياته لها، وغير مُضيع الفرص. والآن نتساءَل بخصوص الحرب، أليس إتقانها من أهم المصالح؟ أَوَسهلة هي فيستطيع أي واحد أن ينجح فيها، ويكون في الوقت نفسه فلَّاحًا وإسكافًا وعاملًا بحرفةٍ أخرى مع الجندية؟ مع أنه لا يمكن أحدًا في الدنيا أن يبرع في ألعاب النرد والداما، إذا اقتصر على مزاولتهما ساعات الفراغ بدل اتخاذهما موضوع درس خاص منذ حداثته. أفيستطيع المرء بمجرد تقلُّد السيف والترس وغيرهما من أدوات الحرب أن يصير بارعًا في فن الضرب والكفاح، قادرًا على تمثيل دور كبير في الملاحم الكبرى، أو في غيرها من الأعمال العسكرية؟ مع أن مجرد استعمال أدوات أخرى لا يؤهله إلى إتقان الصناعة أو الرياضة دون مرانة، ولن تكون هذه الآلات مفيدة لمن لم يدرس أغراضها ويتمرَّس باستعمالها.
غ : إذا كان الأمر هكذا فآلات حربية كهذه ثمينة جدًّا.
س : وقياسًا على كون إدارة المدينة أهم الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الحكام، يلزم أن يتفرَّغوا لها وأن يُعيروها انتباهًا وحكمةً فائقَيْن.
غ : هكذا أرى تمامًا.
س : أَوَلا تستلزم أيضًا صفاتٍ فطريةً تتناسب مع هذا العمل الخاص؟
غ : بلى، دون شك.
س : فواضح أنه علينا، إن أمكن، اختيار الأوصاف الخاصة التي تؤهل أربابها لإدارة الدولة.
غ : علينا أن نفعل ذلك.
س : وأؤكد لك أننا أخذنا على عاتقنا عملًا ليس طفيفًا، على أننا لن ننكص ما دام فينا رمق من الحياة.
غ : لن ننكص.
س : أَوَتظن أنه يوجد فَرْق بين كلب أصيل وبين شاب شجاع، باعتبار الصفات اللازمة للحراسة؟
غ : لم أفهم.
س : أقول إنه يلزم كليهما أن يكون نبيهًا في اكتشاف العدو، وثَّابًا في ميدانه، بطَّاشًا في نضاله إذا التحما.
غ : حقًّا إن كل هذه الأوصاف لازمة.
س : فيجب أن يكونا شجاعَيْن يُحْسِنان النضال.
غ : دون شك.
س : أَوَيخفى عليك شأن الحماسة التي لا تُقهَر، وبما تبثُّه في نفس صاحبها يكون كل مخلوق غير هيَّاب في اقتحام الأخطار؟
غ : قد أدركتُ ذلك.
س : فقد عرفنا المزايا الجسدية اللازمة في حاكمنا.
غ : عرفنا ذلك.
س : وعرفنا أيضًا المزايا العقلية التي تضرم فيه روح الهمة.
غ : نعم.
س : وإذا كانت هذه أوصافهم يا غلوكون، أفيُحظَر عليهم أن يكونوا شرسين بعضهم مع بعض ومع بقية الأهالي؟
غ : يُحظَر.
س : فمن الضروري أن يكونوا وُدعاء مع أصحابهم، شِداد الشكائم مع الأعداء فقط، ولا ينتظروا هلاك العدو بيد غيرهم، بل يكونوا السابقين إلى القضاء عليه بأيديهم.
غ : حقيق.
س : فماذا نعمل؟ أين نجد خلقًا حماسيًّا ووديعًا معًا؟ لأن الوداعة تنافي الحماسة على ما أرى.
غ : واضح أنها كذلك.
س : وإذا تجرَّد المرء من إحدى هاتين الصفتين، الوداعة والحماسة، لم يصلح للحكم. ولمَّا كان اجتماع الضدين مُحالًا، فالحاكم الكامل غير موجود.
غ : هكذا يظهر.

(وبعد الذهول هُنيهة، وترديد الفكر فيما تقدَّمَ من البحث قلتُ):

س : حقًّا يا صديقي إننا ذُهِلنا؛ إذ شطَّ بنا المزار عن المثال الذي وضعناه أمامنا.
غ : وكيف ذلك؟
س : أَلَمْ يطرق سمعنا أنه توجد طباع تجمع بين هاتَين المزيَّتين المتضادتين، وقد تَوَهَّمنا عدم وجودها؟
غ : وأين يجتمع الضدَّان؟
س : ترى ذلك في كثيرٍ من الحيوانات، ولا سيما في الحيوان الذي اتخذناه مثالًا لحُكَّامنا، فإني أثق أنك تعرف أن صفة الكلب الطبيعية إذا تربَّى تربية حسنة أن يكون غايةً في الوداعة والرقة مع أصحابه ومعارفه، وعلى الضد من ذلك مع الغرباء.
غ : أعرف ذلك بالتحقيق.
س : فذلك من الممكنات، ولسنا بمعاكسين الطبيعة، إذا أوجبنا هذا الخُلُق في حاكمنا.
غ : هكذا يظهر.
س : أَوَأنت من الرأي القائل إنه يجب أن يكون حاكمنا فلسفي النزعة مع حماسته، ليكون أهلًا لمنصب الحكم؟
غ : وكيف ذلك؟ فإني لم أفهم.
س : صفة أخرى تلاحظها في الكلب، وهي أمر عجيب في الحيوان.
غ : وما هي؟
س : حين يرى إنسانًا غريبًا يثور غضبه عليه ولو لم يَلْقَ منه إساءة، ولكنه إذا لقي مَن يعرفه أبدى الدعة والتحبُّب ولو لم يَلْقَ منه معاملةً حسنةً. أَلَا تتعجَّب من ذلك؟
غ : لا ريب في ذلك، على أني لم أنتبه له قبلًا.
س : وهذه الفطرة حكيمة جدًّا في الكلب، وهي ظاهرة فلسفية حقيقية.
غ : وكيف ذلك؟
س : تعليقه الصداقة والعداء على مجرد معرفته هذا وجهله ذاك، أفليس ذلك كناية عن محبَّة المعرفة في الكلب؟ فجعلها أساس الألفة، وجعل عدمها أساس الجفاء؟
غ : إنه محب المعرفة.
س : أَوَليست محبة المعرفة ميلًا فلسفيًّا؟
غ : بلى.
س : أَلَا نقول واثقين أيضًا في أمر الإنسان إنه إذا أبدى الوداعة لذويه ومعارفهم كان ولا بد ذا ميل للمعرفة والفلسفة؟
غ : فليكن ذلك.
س : فالحاكم الكفؤ في عُرفنا، الذي تَعِدُ مواهبُه بمسيره نحو الكمال، فلسفيُّ النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المرأس.
غ : دون شك.
س : هذه هي أوصاف الحكام الفطرية، فكيف نربيهم ونهذبهم؟ وهل في تتبُّعنا هذا البحث شيء من المساعدة لنا في فهم غرضنا الخاص في كل هذه الأبحاث؟ أعني معرفة نشوء العدالة والتعدي في الدولة، لكي لا يفوتنا قسم من البحث، ولا نشغل أنفسنا بما لا طائل تحته؟

(هنا قال أديمتنس أخو غلوكون):

أد : حسنًا، أنا أرى ذلك جزيل المساعدة لنا في استجلاء موضوعنا.
س : حقًّا يا عزيزي أديمنتس، إنه إذا كان الأمر هكذا وجب ألَّا نغفل البحث ولو كان مُطَوَّلًا.
أد : حقًّا لا نغفله.
س : فَلْنصف كيفية تهذيب هؤلاء الرجال، كما يفعل القصَّاصون الكسالى في محادثاتهم.
أد : فَلْنصفها.
س : فماذا يجب أن يكون تهذيبهم؟ ربما يشقُّ علينا أن نجد تهذيبًا أفضل مما جلاه الاختبار، وهو مؤلَّف — على ما أتيقَّن — من الجمناستك للجسد، والموسيقى للعقل.
أد : يشق.
س : أفلا تُؤْثِر الابتداء بتهذيبهم بالموسيقى على الابتداء بالجمناستك؟
أد : دون شك نُؤثِر ذلك.
س : أَوَتُدرِج في الموسيقى القصص أو لا؟
أد : أُدرِجه.
س : وهنالك نوعان من القصص؛ حقيقي ووهمي.
أد : نعم.
س : فنُهذب تلاميذنا بالنوعين، ولكنَّا نبدأ بالوهمي.
أد : لم أفهم ماذا تعني.
س : أَلَا تفهم أننا نبدأ بالقصص الوهمية في تعليم الأطفال؟ ويُقال إجمالًا في هذا النوع من القصص أنه وهمي، لكن مغزاه حقيقي، فنلقِّن الأحداثَ الأساطيرَ قبلما نُمرِّنهم بالجمناستك.
أد : حقيق.
س : ذلك ما عنيته بقولي: «تقديم الموسيقى على الجمناستك.»
أد : إنك مُصيبٌ.
س : أَوَلا تعلم أن البداءة في كل شيء هي على أعظم جانب من الخطورة، ولا سيما فيما هو متصف بالحداثة واللين؛ لكونه في أوفق الأوقات لسهولة طبع ما يُراد طبعه عليه؟
أد : حتمًا هكذا.
س : أفنأذن لأولادنا أن يسمعوا كل أنواع الأساطير من أي شاعرٍ كان بلا استثناء، وأن يقبلوا في قلوبهم آراءً تتنافى مع ما يجب أن يرعوه متى بلغوا رشدهم؟
أد : لا نأذن بذلك بوجهٍ من الوجوه.
س : فأول واجب علينا هو السيطرة على ملفقي الخرافات، واختيار أجملها ونبذ ما سواه، ثم نوعز إلى الأمهات والمرضعات أن يقصصن ما اخترناه من تلك الخرافات على الأطفال، وأن يكيفن بها عقولهم أكثر مما يكيفن أجسادهم بأيديهن. ويجب أن نرفض القسم الأكبر مما يُملى عليهم من الخرافات في هذه الأيام.
أد : وأيها تعني؟
س : يجب أن نتبيَّن أصغر الأساطير من أكبرها؛ لأن شكلها واحد، وكلها كبيرة وصغيرة واحدة الصيغة والأثر. أَلَا تظن هكذا؟
أد : بلى، على أني لم أفهم ما تعني «بالأكبر»؟
س : أعني ما رواه هسيودس وهوميرس وغيرهما من الشعراء، فقد نظموا روايات خيالية للبشر ونشروها في الملأ، وما زالت تُملى على الأسماع.
أد : وأيها تعني؟ وماذا تجد فيها من الخطأ؟
س : الخطأ المستوجب أكبر وأثقل دينونةً، ولا سيما في الأسطورة عديمة الجمال.
أد : وما هو ذلك الخطأ؟
س : هو تمثيل المؤلف صفات الآلهة والأبطال تمثيلًا مشوَّهًا، فهو كالمصور الذي لا يشبه رسمه ما صوَّره من الأشياء.
أد : يحقُّ لك أن تلومهم على ذلك، فزدني إيضاحًا واضرب مثلًا.
س : أولًا اختلاق الشاعر قصة قبيحة فيها أشنع كذب في أهم المواضيع، كما أخبرنا هسيودس٨ ما صنع أورانوس، وأن كرونس انتقم منه. وكذلك ما روى عن كرونس،٩ فإن كانت فِعال كرونس ومعاملة ابنه له حقائق بَيِّنة، لا أرى من الحكمة أن تُتلى على السُّذَّج والأطفال دون أي تحفُّظ، بل بالعكس أرى أنه يجب حذفها بتاتًا، وإذا مسَّتِ الحاجة إلى تلاوتها فَلْتُتْلَ سِرًّا، وعلى أقل عدد ممكن من الناس، وليس بعد تضحية خنزير،١٠ بل بعد ذبح عظيم مقدس، فلا يسمعها إلا القليلون.
أد : حقًّا، إنها أساطير رديَّة.
س : نعم رديَّة؛ ولذلك يا أديمنتس لا يجوز أن تُتلَى في مدينتنا، ولا نقولَنَّ لسامعنا الفتى أنه لم يُجْنِ نكرًا إذا ارتكب شر الموبقات، أو إذا عاقب والده على جرائمه بأبلغ صنوف الهوان؛ لأنه لم يفعل إلا ما فعله كبار الآلهة قبله.
أد : أؤكد لك أني أوافقك كل الموافقة في أن قصصًا كهذه غير لائقة.
س : وكذلك القول إن الآلهة تُشهر حربًا بعضها على بعض، وتكيد، وتتقاتل؛ فلا يناسب أن تُقال مثل هذه الترهات في حالٍ من الأحوال؛ لأنها غير صحيحة، وإذا كان حُكَّام دولتنا يحسبون التباغُض والنزاع فيما بينهم، لأسبابٍ تافهة، أمرًا خسيسًا، فإنه أمر أكثر خساسةً وعيبًا أخبارُ منازعات الأبطال، والضغائن المنسوبة إليهم، والتحام القتال بين الأبطال والآلهة، وبين أقاربهم وذويهم، واتخاذها موضوع نسج الأساطير وتزويق القصص. وإذا كان في الإمكان إقناعهم أنه عيب وحرام أن يبغض المتمدين أخاه أو يحاربه؛ لأن ذلك عمل غير مقدس ولا يرتكبه أحدُ أبناء الآلهة، فتلك هي الصيغة التي بها يجب أن تُتلى على أسماع أولادنا في زمن الحداثة، بألسنة الشيوخ والشيخات، وهذا هو القيد الذي يجب أن يتقيَّد به الشعراء في صوغ منظوماتهم. أما أخبار الإلاهة هيرا التي قيَّدَها ابنها بالقيود وكبَّلها بالأغلال، وقصة طرد هيفاستس من السماء لأنه حاوَلَ إنجاد والدته لمَّا كان والده يجلدها، وكل حروب الآلهة التي رواها هوميرس؛ يجب حظرها في دولتنا، سواء صيغَتْ في قالب الحقيقة أو في قالب المجاز؛ لأن الطفل لا يميز بين الحقيقة والمجاز، فيُطبع في عقله ما سمعه في هذا السن، ويرسُخُ في نفسه حتى يتعسَّر نزعه، وغالبًا يتعذَّر؛ ولهذه الأسباب أرى أنه يجب كل الاحتراس فيما يسمعه الأحداثُ؛ لئلَّا يكون في صيغة لا تُلائم ترقية الفضيلة.
أد : ولذلك سبب كافٍ، فإذا سئلنا ما هي الأساطير والقصص التي يوافق أن يلقنوها، فبماذا نجيب؟
س : يا عزيزي أديمنتس، لا أنت ولا أنا في موقف شعراء، بل في موقف مؤسسي دولة، ويجب أن يعرف مؤسسو الدولة الصيغة التي يجب على الشعراء أن يصوغوا بها أساطيرهم، ويحظروا عليهم تجاوز حدودها. على أن المؤسسين غير ملزمين أن ينظموا لهم الأساطير.
أد : أنت مُصيبٌ، ولكني أستعمل كلماتك نفسها، فأقول: ماذا يجب أن تكون تلك الصيغ في اللاهوت؟
س : أرى أن تكون كما يلي: يوصف الله في كل حال على ما هو في ذاته، سواء كان ذلك في الشعر القصصي أو الغنائي أو الروائي. هذا هو الحق.
أد : نعم، إنه حق.
س : فمن المؤكد أن الله صالح، ويجب وصفه بالصلاح والحق الذي فيه.
أد : لا شك في ذلك.
س : جيدًا، ولا شيء من الصالح ضارٌّ. أيكون ضارًّا؟
أد : لا أظن.
س : وما ليس بضار هل يصنع ضررًا؟
أد : كلَّا البتَّة.
س : ومن لا يضر هل يصنع شرًّا؟
أد : أجيب كما سبق، لا.
س : ومن لا يصنع شرًّا لا يسبب شيئًا من الشرور؟
أد : وكيف يمكن أن يسبب شرًّا؟
س : حسنًا، وهل الصالح نافع؟
أد : نعم.
س : فهو إذًا علة الخير.
أد : نعم.
س : فليس الصالح علة كل شيء إنما هو كما هو الواجب بريءٌ من ابتداع الشر.
أد : بالتمام.
س : وإذا كان الأمر كذلك، فالله على قدر ما هو صالح لا يمكن أن يكون علة كل الأشياء كما هو الشائع، بل على الضد، هو علة القليل من أحوال الناس، وليس هو علة القسم الأكبر منها؛ لأن شرورنا تفوق خيراتنا عددًا، فلا نسند الخيرات إلى غيره، بل نُفتِّش عن علة الشرور في غيره لا فيه.
أد : يظهر لي أن هذا هو الحق الصراح.
س : فيجب أن نبدي إنكارنا تعدي هوميرس أو غيره من الشعراء على حقوق الله بقوله:١١
على باب رب العرش حوضان فيهما
نرى البر والآثام كلًّا بتربةِ
وقد مزج الآنام من كل عنصرٍ
لذلك كان الله أصل الخطيةِ
فطورًا يُنيل المرء خيرًا ونعمةً
وطورًا يوافيه بأثقل لعنةِ
أما الإنسان الذي ليس في جبلته هذا المزج، بل جُبل من عنصر واحد فقال فيه:
يتيه بأرباض السعادات في الدُّنى
بجوعٍ وعُريٍ وابتئاسٍ ومحنةِ
ولسنا نقبل ما يأتي:
وقد وزَّع الآلاء والشر في الملا
إله تسامى فوق هذي البريَّة
وإذا زعم أحد أن زفس وأثينا نكثا العهود والمواثيق١٢ التي وضعها بَنداروس فلا نوليه استحسانًا، ولا نأذن أن يُقال إن طاميس وزفس أثارا النزاع واستعمال القوة بين الآلهة.١٣ ولا نأذن للشبيبة أن تصغي إلى القول المنسوب لأخلس:١٤
وإذا أراد الله قلب أمةٍ
أنبت شرًّا وشقاقًا بينها
وإذا نظم أحد الشعراء آلام نيوب كما فعل أخلس في الرواية التي اقتبستُ منها هذا البيت، أو كارثات بيت نيوب، ونكبات طروادة، أو ما هو من هذا النوع، فعليه إما أن يبحث عن الباعث له تعالى على ذلك، أو أن الذين تألموا فلخيرهم ومنفعتهم كان ألمهم. ولكنا لا نسمح لشاعرٍ أن يقول إن الله سبَّب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده، كلَّا، ولكن إذا كان يقول: لأن الأشرار تاعسون لزم أن يتألموا، وأن الله أحسن إليهم بأنه آلمهم لأجل خيرهم، فلا نعارض في ذلك. أما الادِّعاء أن الإله الصالح عِلَّة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة؛ لأن المبدأ الذي تتضمَّنه أسطورة كهذه شعرًا أو نثرًا لا يُقال ولا يُسمع في المدينة، ولا يبيحه من يروم خير الدولة وارتقاءها، شيخًا كان أو فتًى؛ لأنها أقوال تُنافي طهارة الحياة، وهي ضارَّة ومتناقضة.١٥
أد : أثني على اقتراحك سن هذا القانون، فإنه يسرُّني.
س : فأولى الشرائع الإلهية التي نوجب على خُطبائنا ومؤلفينا أن يُطبِّقوا خطبهم وتآليفهم عليها، هي أن الله تعالى صانع الخير ليس إلَّا.
أد : ولقد أقمت الدليل القاطع على صحَّتها.
س : وثاني تلك الشرائع الجديرة بالاعتبار:
أتظن أن الله تعالى «مُشعوِذ» فيظهر بمختلف المظاهر في مختلف الأغراض؟ فتارة يظهر في شكلٍ ما، ثم يغير شكله ويتخذ صورة جديدة، وآونة يخدعنا ويقودنا إلى الاعتقاد بأن تلك الصور حقيقيَّة، أفتُسلِّم بذلك؟ أوَترى أن الله جوهر بسيط، فلا يتكيف ولا يخرج عن المظهر اللائق بذاته؟
أد : لا أقدر أن أُجيب فورًا.
س : فأجبني عمَّا يأتي: إذا تغيَّر كائن عن شكله العادي، أفليس بالضرورة أن ذلك التغيُّر قد حصل حتمًا بفعله هو أو بتأثير كائنٍ آخر؟
أد : حتمًا.
س : أوَليس أفضل الأشياء في الوجود أقلُّها قبولًا للتغيُّر بتأثيرٍ خارجي، كتغيُّر الجسم بالطعام والشراب والإجهاد، وكتغيُّر النبات بحرارة الشمس والرياح والعواصف ونحوها من العوامل؟ أوَليست التأثيرات على أضعفها في أقوى الأجسام وأصحها؟
أد : بلى دون شك.
س : ومن جهة العقل: أليست الاضطرابات الخارجية أقل تأثيرًا في العقل الأوفر شجاعةً وحكمة؟
أد : بلى.
س : ويصح هذا القول في كل مصنوع، من أثاث وبيوت وثياب، فأمتنها صُنعًا أقلُّها تغيُّرًا بتأثيرات الزمان وغيره من العوامل.
أد : هذا هو الواقع.
س : فكل ما هو في حالٍ حسنة باعتبار الطبيعة أو باعتبار الفن أو باعتبار كليهما هو أقل تعرُّضًا للتغيُّر بتأثير غيره فيه.
أد : هكذا يظهر.
س : فالله والأشياء المختصة بالألوهية هي في أفضل الحالات وأكملها.
أد : دون شك.
س : فهو تعالى أقل الأشياء تغيُّرًا وتبدُّلًا بفعل المؤثرات الخارجية.
أد : نعم أقلها.
س : أفيُغيِّر تعالى ذاته بذاته؟
أد : الأمر واضح أنه إذا كان تغيُّره تعالى مُمكنًا فهو الفاعل في ذلك التغيُّر.
س : أفإلى مثل أفضل وأجمل يُغيِّر الله ذاته؟ أم إلى مثل أقل جمالًا وصلاحًا ممَّا هو؟
أد : لو كان تغيُّره تعالى ممكنًا فلا يمكن أن يكون ذلك التغيُّر إلَّا إلى مثل أدنى؛ لأننا لا نقدر أن نقول بوجهٍ من الوجوه أن فيه تعالى شيئًا من النقص جمالًا وسُموًّا.
س : أصبت، وإذا تقرَّر ذلك أفتظن يا أديمنتس أن عاقلًا، إلهًا كان أو إنسانًا، يختار تغيير نفسه إلى ما هو أدنى؟
أد : مستحيل.
س : فمستحيل إذًا أن يرضى الله بأن يُغيِّر نفسه، بل إن كل إله على قدر ما هو فائق جمالًا وسموًّا يرغب في استمرار جماله وسموه، بدون تغيير مظاهره.
أد : وأظن أن هذا الاستدلال ضروري.
س : فلا ندعنَّ شاعرًا — أيها الوقور أديمنتس — يقول فيه تعالى ما ورد في هذا البيت:
يُغيِّر شكله في كل حينٍ
كسفَّارٍ يجول بكل أرضِ١٦
ولا نسمح لأحد أن يُكذِّب بروتيوس وثاطيس، ولا أن يصف الإلاهة هيرا في المآسي أو في غيرها من الأشعار أنها تنكَّرَتْ في شكل كاهنة:
تجول جامعة إحسان ذي سعةٍ
لكي تعول بني أرجيف عن سغبِ١٧
ولا ندعنَّ أحدًا يُملي على المسامع أكاذيب كهذه، ولا يجوز أن تُقوِّي الأمهات ضلالات الشعراء، فيُرَوِّعْنَ أولادهن بقصص وهمية، منها أن الآلهة تتجوَّل ليلًا في شكل غرباء في كل بلد:
بزيِّ السائحين بكل قُطرٍ
بمختلف المظاهر والمجالي
لئلَّا تكون قصصهنَّ قذفًا بالآلهة، فيغرسن في قلوب صغارهنَّ الخوف والجبانة.
أد : فلنحظر ذلك.
س : ولكن الآلهة مع كونها عديمة التغيُّر في ذاتها قد تُغرينا بالسحر والخديعة، لتحملنا على الاعتقاد بأنها تتلوَّن في مظاهرها؟
أد : قد تفعل الآلهة ذلك.
س : أفتظن أن إلهًا يكذب قولًا أو فعلًا، فيضع مثلًا شبحًا نصب عيوننا؟
أد : لا أؤكد ذلك.
س : ألا تؤكد أن الكذب الصريح إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح مكروه من الله والناس؟
أد : لا أدري ما تعنيه.
س : لا أحد يُقدم باختياره على استخدام أسمى ما فيه للخديعة، في أسمى مطالب الحياة، بل بالضد، كل واحد يحذر تسرُّب الخديعة إلى ذلك القسم كل الحذر.
أد : لم أفهم مُرادك.
س : لأنك تتصوَّر أني أتكلم في الغوامض والأسرار، بينما أنا أقول بكل بساطة أن الكذب أو كون المرء فريسة الكذب وخلو عقله من المعرفة في ما هو من أثبت اليقينيَّات، أن يسكت عن تسرُّب الكذب إلى نفسه، هو أبعد ما يرضاه عاقل؛ لأن كل الناس يكرهون الباطل في النفس كل الكره.
أد : كرهًا شديدًا.
س : حسنًا، ولكن كما كنت أتكلم الساعة، أن هذا ما يدعى بأكثر تدقيق كذبًا صريحًا، أي جهلًا مستقرًّا في عقل الرجل المخدوع؛ لأن الكذب باللسان هو من نوع التقليد، وتجسيم ما كان مُصوَّرًا في عقله وليس كذبًا صراحًا، أفمُخطئٌ أنا؟
أد : لا، بل أنت غاية في الإصابة.
س : فالكذب الصريح ممقوتٌ من الآلهة ومن الناس أيضًا.
أد : هكذا أظن.
س : فلنعد إلى المسألة ثانيةً، متى تظن أن الكذب مفيد؟ ولمن يكون كذلك؟ أي متى لا يكون مكروهًا؟ أيكون كذلك حين استعماله ضد الأعداء؟ أو حين يكون الأصحاب في خطر الإضرار بأنفسهم وهم في حال جنون أو نزق من أي نوعٍ كان؟ أفلا يحسب الكذب حين ذاك مفيدًا كعلاج لتحويلهم عن عزمهم؟ وفي الأساطير التي نحن في صددها، ولا ندري حقيقتها القديمة، أليس الكذب مفيدًا لأنه يُقرِّبنا إلى الحقيقة؟
أد : إنه كذلك تمامًا.
س : ففي أي هذه الأحوال يكون الكذب مفيدًا لله؟ أفيكذب في حكم تقريبي لأنه لا يعلم ما في القدم؟
أد : ذلك سخيف.
س : فليس في الله مجال لكذب الشعراء.
أد : لا أظن.
س : أفيكذب تعالى خوفًا من أعدائه؟
أد : تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
س : أو تنازُلًا لجنون أصفيائه وحماقتهم؟
أد : لا مجنون ولا أحمق صفي للآلهة.
س : فلا باعث في الآلهة للكذب.
أد : لا باعث.
س : فطبيعة الآلهة وما مثلها من الطبائع على كل حال خالية من آثار الكذب.
أد : كل الخُلُو.
س : فالله تعالى كُلِّي النقاوة والحق في القول والفعل، فلا يُغيِّر ذاته ولا يخدع الآخرين، لا بالرؤى ولا بالكلام، ولا بالظواهر الخادعة، في يقظة ولا في منام.
أد : حقًّا إنه يبدو لي هكذا، بعد أن قلت ما قلت.
س : أفتوافقني إذًا في أن المبدأ الثاني الواجب اتباعه في ما نقوله أو ننظمه في الآلهة هو أنها لا تتلوَّن تلوُّن المشعوذين، ولا تضلُّنا بالكذب لا قولًا ولا فعلًا.
أد : أوافقك.
س : فَوَإِنْ أجزنا أشياء كثيرة في أشعار هوميرس فلا نُجيز الحلم الذي ألقاه زفس على أغممنون،١٨ ولا قول أسخيلس١٩ الذي عزاه إلى ثاطيس تصف به إنشاد أبولون في زفافها:
بعد الولادة قامت
ذات البها بالصفاء
غنَّى أبولو ولاحت
فيه مجالي الهناء
أنت ملاذي وفخري
ومُنيَتي ورجائي
وبالشفاء حياة
قدسية اللأواءِ
قد كان قبلًا عدوًّا
واليوم رب ولائي
أراش سهمًا فأصمى
بنبلهِ كبريائي
فاغتال مُهجة قلبي
توغُلًا بالعداءِ
واليوم صار قريني
وفيه طاب ثنائي
فحين يستعمل لغة كهذه في وصف الآلهة نغضب منه ولا نأذن له باعتلاء المسرح،٢٠ ولا نأذن لمُعلِّمينا أن يستعملوا كتاباته في تهذيب الأحداث، إذا كنا نروم أن يكون حُكَّامنا أنقياء روحيِّين خائفي الآلهة، على قدر ما يُتاح للإنسان.
أد : إني أوافقك في تأييد هذه المبادئ، وسأُدرجها في الدستور.
١  هسيودس: الأعمال والأيام، ٢٣١.
٢  هوميرس: أوديسا ١٩: ١٠٩.
٣  هسيودس: الأيام والأعمال، ٢٨٧.
٤  هوميرس: الإلياذة ٩: ٤٠٧.
٥  لا وجودَ لهذا الاقتباس في كتابات بندار التي بين أيدينا.
٦  تزداد الصعوبة في فهم هذا التعبير لجهلنا أسطورة الثعلب التي ذكرها أرخيلوخس، ونقلها عنه أفلاطون. والأرجح أن مغزاها أن الثعلب مثلٌ في الخداع والحِيَل.
٧  يستعمل أفلاطون الكلمتين في «الجمهورية» مترادفتين؛ لأن المدينة كانت في عهده مملكة كما لا يخفى على متصفح التاريخ.
٨  هسيودس: أنساب الآلهة، ١٥٤.
٩  أيبيد: ٤٥٩.
١٠  تضحية الخنزير عندهم ذبيحة عادية يحضرها العموم.
١١  إلياذة ٢٤: ٧٥.
١٢  إلياذة ٢: ٦٩.
١٣  إلياذة ٢٠.
١٤  من مأساة مفقودة.
١٥  ليذكر القارئ أن هذه أقوال رجل نحسبه وثنيًّا، وقد عاش في القرن الرابع قبل المسيح.
١٦  هوميرس ١٧: ٤٨٥.
١٧  من رواية ضائعة لأسخيلس.
١٨  إلياذة ٢: ١.
١٩  من رواية مفقودة.
٢٠  كانت الحكومة اليونانية تُنفق كثيرًا على المسرح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤