الكتاب الثالث: دستور المدينة

خلاصته (تتمَّة ما ورد في خلاصة الكتاب الثاني في تهذيب الفتيان المُعَدِّين للحكم)

ولا يجوز تشجيع مخاوف الموت في قلوبهم بإخبارهم أن الحياة في العالم الآتي مُظلمة، ولا تمثيل صفات أكابر الرجال لبصرهم وسمعهم بصورة مُحَقَّرة أو مُضحكة أو دنيَّة، بل يجب أن تكون الشجاعة والحق وضبط النفس لحمة كل القصص المستعملة في تهذيبهم وسداها، وفي المقام الثاني: أن الصورة التي بها تُزَفُّ القصص إلى عقولهم تؤثر في طبيعة نفوذها أعظم تأثير، فيجب أن يكون قرض الشعر إمَّا تمثيليًّا صرفًا كما في الرواية، أو قصصيًّا صرفًا كما في خمرية باخس، أو مُركَّبًا من النوعين كما في الشعر القصصي. ولا يمكن الشخص الواحد أن يعمل أو يُجيد تمثيل أشياء كثيرة، فمن ثمَّ إن أُتيح لهم درس التمثيل فليقتصروا على تمثيل رجال الصفات السامية المحترمة. والنسق الذي يستعمله أُناس هذه الطبقة في الإلقاء وفي التأليف بسيط فعَّال، يندُر أن يتلبَّس بالتمثيل، فهذا هو النسق الذي يجب أن يؤذَن للحكام بأن يستعملوه في إلقائهم والذي يتبعه الشعراء القائمون على تهذيبهم، ويجب أن يُسنُّ لهم نظام شديد التدقيق في الأغاني والألحان والآلات الموسيقية، فلا يُسلم لأمة كاملة آلات موسيقية تنشئ فيها الرخاوة وثبط العزائم، فيحظر عليهم كل الآلات الموسيقية إلَّا العود والقيثارة والزمر، ويحظر عليهم أيضًا كل الألحان المركَّبة، والبسيط من هذه هو المباح لهم، وغرض كل هذه القوانين هو أن يتربَّى ويرتقي في عقول التلاميذ الشعور بالجمال والاتِّساق والاتِّزان، وهي صفات تؤثر في سجيَّتهم وفي علاقاتهم المتبادلة.

وبعد ما بحث سقراط بحثه السابق في الموسيقى الإغريقية، تقدَّم للنظر في الجمناستيك فقال: يجب أن يكون طعام الحُكَّام بسيطًا ومعتدلًا وصحيًّا، وذلك يُغنيهم عن الاستشارة الطبيَّة إلَّا في أحوالٍ استثنائيَّة، وقد نُخطئ في هذا الموقف إذا اعتبرنا أن نسبة الجمناستك للجسد هي نفس نسبة الموسيقى للعقل، ويجب القول إن الجمناستك يُراد لترقية العنصر الحماسي في طبيعتنا، كما تُراد الموسيقى لترقية العنصر الفلسفي، وأقصى أغراض التهذيب إعداد هذين العنصرَين ومزجهما معًا على نسبة عادلة مُتَّزِنة.

هذا ما يُقال في شأن تهذيب الحُكَّام وتدريبهم، فمن هذه الطبقة العالية يجب انتقاء القُضاة، ويلزم أن يكونوا من أكبر أعضاء الجسم الاجتماعي سِنًّا، وأوفرهم فِطنةً، وأعظمهم جدارةً، وأعرقهم وطنيَّةً، وأقلهم أنانية، هؤلاء هم الحُكَّام الحقيقيُّون، والذين دونهم يُسمَّون: مساعدين. ولكي نقنع الأمة بعدالة هذه الأنظمة وحكمتها ينبغي لنا أن نقُصَّ عليهم القصة التالية، وهي: أنهم كلهم قد نُسجوا أولًا في أحشاء الأرض، أمهم الكبرى، وقد سُرَّت الآلهة أن تمزج بجبلة بعضهم ذهبًا، وفي جبلة بعضهم الآخر فضة، وفي غيرهم نحاسًا وحديدًا، فالفئة الأولى: هم الحُكَّام، والثانية: المساعدون، والثالثة: الفلَّاحون والصُّنَّاع، ويجب رعاية هذا القانون وتخليده، وإلَّا حلَّ بالدولة الدمار.

وأخيرًا، يجب وقف محلة في المدينة لهؤلاء الحكام ومساعديهم، يعيشون فيها عيشة شظف وتقتير، ساكنين الخيام لا البيوت، مُعتمدين على تبرُّعات الأهالي. وأخيرًا يجب أن لا يمتلكوا ملكًا خاصًّا، وإلَّا انقلبوا ذئابًا بدل كونهم كلابًا حارسة.

متن الكتاب

قال سقراط: فهذه الأشياء وأمثالها هي ما يُقال وما لا يُقال في الآلهة على مسامع الجميع، منذ الحداثة فصاعدًا، ممَّن يتوقع أن يكرموا الآلهة والوالدين، ولا يزدرون حقوق الصداقة والوداد.

أديمنتس : نعم، وأظن أن آراءنا صائبة.
س : فإذا كُنا نروم أن ينشأ شبابنا على الشجاعة والبطولة، أفلا يجب أن نُضيف إلى ذلك دروسًا تُحررهم من مخاوف الموت؟ أوَتظن أنه يمكن أن يكون أحد شجاعًا ما دامت المخاوف مستولية عليه؟
أد : حقًّا إني لا أتصور إمكان ذلك.
س : أوَتظن أن من يؤمن بوجود «هادز» وأهوالها يمكنه أن يعيش حُرًّا من مخاوف الموت؟ فيؤثره في ساحة القتال على هَون الانكسار وذل الأسر؟
أد : كلَّا البتَّة.
س : فيتحتَّم علينا أن نُسيطر على الذين أخذوا على عاتقهم تلفيق هذه الأساطير وأمثالها، فنلحف عليهم أن لا يشنعوا بوصف العالم الآخر تشنيعًا فظيعًا، بل يُحسنوا فيه المقال؛ لأن ذلك غير مفيد ولا صحيح، ولا يوافق الذين سيكونون جنودًا.
أد : ذلك واجب علينا بالطبع.
ص : فلنُلغِ هذه الأبيات وكل ما ماثلها، ومنها:
فأرى استعباد نفسي
لفقيرٍ في الأنامِ١
هو خيرٌ من عروشٍ
في أعاميق الظلامِ
وهذا:
ويكره الله دارًا خصَّ بالميت
حيث المخاوف زادت وحشة البيتِ٢
وهذا:
يا لهول الموت في داجي اللحودِ
حيث أُمسي دون بشرٍ أو سعودِ٣
وهذا:
يستمرُّ المرء فردًا
في قتامٍ وقيودِ٤
ما له خِلٌّ صفيٌّ
في مخيفات اللحودِ
وهذا:
فتترك النفس مغنى الجسم في كربٍ
وتسكن الرمس أدهارًا بلا أملِ٥
تبكي مُصيبتها في دارٍ مِحنتها
إذ بَتَّ شرخ صباها أقتل العللِ
وهذا:
ونفسي كالدخان بلا سكون
تُرَوِّعها مُخيفات المنون٦
وهذا:
تصيح أرواحهم في دار محشرهم
كأنها سِربٌ في موضعٍ عالٍ٧
يودُّ كلٌّ جناحًا يستعين بها
على النجاة ولكن ساء من فالِ
ونرجو أن لا يسوء هوميرس ولا غيره من الشعراء حذفنا هذه الأبيات وأمثالها؛ لأننا نحذفها لا إنكارًا لشاعريَّتها ورغبة الكثيرين في سمع تلاوتها، بل قياسًا على ما فيها من الشاعرية، نحظر سمعها على الكبار وعلى الصغار، الذين يجب أن يظلوا أحرارًا، وعندهم الموت ولا ذل الاستعباد.
أد : فلنحظرنَّها.
س : ويجب أن نحذف كل الأسماء المخيفة المرجفة المتعلقة بهذه الموضوعات، مثل كوكيتوس، وستيكس، والزبانية، وتمزيق الأوصال، وكل الألفاظ المصوغَة في هذا القالب؛ لأنها تُرَوِّع سامعيها وتهزُّ أعصابهم. قد تصلح ألفاظ كهذه لمقصدٍ آخر، أما حُكَّامنا فنخشى أن يصيروا فاتري العزم مُخنثين فوق الحد.
أد : وليس خوفنا هذا بدون أساس.
س : أفنحذف هذه الاصطلاحات؟
أد : نعم نحذفها.
س : أوَيجب أن يكون الكلام والكتابة على عكس هذه الصيغة؟
أد : ذلك واضح.
س : ونحذف أيضًا عويل مشاهير الأبطال وندبهم.
أد : ذلك ضروري أيضًا إذا حذفنا ما قبله.
س : وتأمَّل في هل نُصيب أو نُخطئ في حذفه، والذي نتوخَّاه هو أن الرجل الصالح لا يحسب موت صديقه الصالح فاجعةً.
أد : نتوخَّى ذلك.
س : فهو لا يندب شخصًا كهذا كأن الخطب به جلل.
أد : لا يندب.
س : ونقول إن رجلًا كهذا له في نفسه أوفر نصيبٍ من كل ما هو ضروري لسعادة الحياة، ويختلف عن باقي الناس باستقلاله الخاص عن المصادر الخارجية.
أد : حقًّا.
س : فهو أقل الناس ذعرًا لفقد ابنٍ، أو أخٍ، أو ثروة، وما شاكل.
أد : حقًّا.
س : فهو أقلهم ندبًا وعويلًا، ويهون عليه تحمُّل الخطوب بوداعةٍ وصبر.
أد : بالتمام هكذا.
س : فيحسُن بنا أن نلغي ما عزى من الندب إلى مشاهير الرجال وفُضلائهم ونعزوه للنساء، ولأدنى طبقات الرجال، فيربأ المرشحون للحكم بأنفسهم أن يكونوا نادبين على هذه الصورة الشائنة.
أد : يحسُن بنا أن نصنع هكذا.
س : وثانيًّا: نطلب إلى هوميرس وغيره من الشعراء أن لا يصفوا أخلس ابن الإلاهة أنه:
قد غدا يبكي وحيدًا
خوف أهوال اللحود٨
باضطجاعٍ وانكبابٍ
وقيامٍ وقعود
ولا أنه:
فيذرِّي بيديه حزنًا
من رماد النار فوق رأسه٩
ولا أنه أوغل في العويل كغيره من الضعفاء كما نسب إليه هوميرس، ولا ننسب إلى بريامس سليل الآلهة أنه كان ينغمس بالأرجاس:
داعيًا كل شجاعٍ
باسمه كي ينجدوه١٠
ونُلحف على الشعراء بالأكثر أنهم مهما يكن من أمرٍ فلا يصفوا الآلهة أنهم:
ويلنا ممَّا ولدنا
فاق بالشر الجميع١١
ونرجوهم أنهم إذا لم يوقروا الآلهة كافةً إلى هذا الحد، فعلى الأقل لا يُصوِّروا أسماها صورةً لا تليق بجلالة قدرها، كالقول:
دار محبوبي بأسوار البلادِ
وأراني شرَّ ما راعَ العبادِ١٢
والقول:
ويح قلبي قد ردى بتروكلو
سر بدونًا خير من حلَّ الفؤاد١٣
لأنه يا عزيزي أديمنتس إذا أصغى شبابنا إصغاءً جدِّيًّا إلى أقوالٍ كهذه ولم يهزءوا بها كأوصاف سخيفة، ندر أن يحترم أحد منهم نفسه كرجل، مُترفِّعًا عن إتيان نظيرها قولًا أو فعلًا، متى توافر الداعي إليها، فيتمادى إذا لم يردعه الحزم أو الحياء في النواح والعويل لأصغر مصيبة.
أد : كلامك غاية في الصواب.
س : وذلك يُنكَر عليه كما تعلمنا من بحثنا الحالي، وسنحرص عليه إلى أن يقنعنا أحد بما هو أفضل منه.
أد : حقًّا إنه يُنكر عليه.
س : ولا يجوز لحُكَّامنا أن يغربوا في الضحك؛ لأن استسلام الإنسان للضحك المفرط يعقبه رد فعل عنيف.
أد : هكذا أظن.
س : فإذا مثَّل شاعر كبار الرجال مغربين في الضحك، أبدينا الأنفة من ذلك، وبالأحرى جدًّا إذا وُصف الآلهة به.
أد : بالأحرى، نعم.
س : فلا نأذن لهوميروس أن يقول في الآلهة:
علت ضجَّاتهم بالضحك لمَّا
رأوا هيفست يخمع كالظليع١٤
لأنه جريًا على مبادئك لا يجوز استعمال لهجة كهذه.
أد : إذا شئت أن تحسبها مبادئ فلا شك في أنه لا يجوز.
س : ويجب الاحتفاظ بقدر الصدق؛ لأنه إذا كنا قد أصبنا في ما قرَّرناه وكان الكذب عديم النفع للآلهة وانحصرت فائدته في الناس كعلاج، فواضح أنه ينبغي حصر وسيلة كهذه في أيدي الأطبَّاء، ولا يتدخل بها غيرهم من العامة.
أد : واضح.
س : فإن جاز الكذب لأحد فللحُكَّام فقط في مخادعة الأعداء، أو في إقناع الأهالي بما هو لخير الدولة، ولا يُباح لأحد الاشتراك معهم في هذا الامتياز، بل نحسب كذب الناس في ما يُضير الدولة مُساويًا على أقل تقدير كذب العليل على طبيبه، والتلميذ على مدربه في أمر صحته، وكذب الملَّاح على رُبَّانه في ما يتعلَّق بحال السفينة وبحَارتها، ووصف حاله أو وصف حال رفقائه.
أد : غاية في الإصابة.
س : فإذا وجدت الحكومة كاذبًا في المدينة:
من جماعات الأطبا
أو أساطين الفنون١٥
أنبياءٍ أو رغامٍ
ساء ما يبتدعون
وجب أن تُعاقبه؛ لأنه أحلَّ بالأمة من عوامل الدمار ما يُضارع تعطيل سفينة.
أد : نعم، إذا كان الفعل يتلو القول.
س : أوَلا يفتقر شبابنا إلى العفاف؟
أد : دون ريب.
س : أوَلا يُدرج تحت الرصانة بمنطوقها العام المبادئ الآتية؛ أولًا: إطاعة الحُكَّام، ثانيًا: قمع اللذات التي تستلزم استرسالهم في الطعام والشراب والهوى؟
أد : هكذا أرى.
س : نخصُّ بالاستحسان من كل أقوال هوميرس ما رواه ديوميدس:
اسمعوا قولي صحبي
بهدوءٍ ووقار١٦
وقال في البيت التالي:
أظهر اليونان بأسًا
طوع قوَّاد كبار
وما ماثل ذلك من الأقوال.
أد : نستحسنها.
س : ولكن أيمكننا استحسان لهجة كهذه؟
يا شاربًا مثل كلب والغ قلقٍ
وقلبه كغزالٍ في الورى شردًا١٧
وكل ما يتلو هذا البيت من التقريع شعرًا ونثرًا، إذ وجهه العامة نحو حُكَّامهم.
أد : كلَّا، لا يمكننا استحسانها.
س : فإني أظن أن سمعها لا يُرَقِّي صفة الرزانة في الشباب، وإذا أنشأت فيهم مسرات جمة فلا عجب. أهذا رأيك؟
أد : هذا هو.
س : فإذا صُوِّرَ أحكم الرجال، يتلو ما يحسبه أبهى منظر في الدنيا بقوله:
كثرة الخبز مع اللحم
ووفرة الشراب١٨
حولها الولدان تملا
من دنانها القِعاب
أفتظن أن هذه الأقوال تؤدي بالشاب إلى ضبط النفس؟ وكذلك القول التالي:
ساء حظ المرء حظًّا
حينما يهلك جوعا١٩
وما قولك في وصف زفس وقد ثارت فيه الشهوة الجنسية فذهل عمَّا سواها، وظلَّ ساهرًا وجميع الآلهة والناس نيام، فخلبت لُبَّه رؤية الإلاهة هيرا، حتى خانه الصبر فلم ينتظر دخولها البيت، قائلًا إنه قد تملَّكه الهيام تملُّكًا أشد منه حين اجتمعا لأول مرة:
في خفيةٍ عن عيون الوالدين كما
يخفى اللصوص بأكنافِ الفراديسِ
وما قولك في مباغتة هيفاستس٢٠ الحبيبَين أريس وأفروديت في مثل هذا الحال، فكبلهما بالأصفاد؟
أد : وذمتي أن قصصًا كهذه لهي أدنى من أن تُقال.
س : أما أفعال الشجاعة التي تتحمل كل أنواع المحن المنسوبة إلى آحاد الرجال بالأفعال والأقوال، فإليها نصغي وبها نفكر، كالبيت التالي مثلًا:
قرع الصدر بعنفٍ قائلًا
احتمِل يا قلب ما جنيته٢١
أد : من كل بد.
س : ولا نسمح لأحد رجالنا أن يقبض رشوة أو يكون مُحبًّا للمال.
أد : كلَّا بالتأكيد.
س : ولا ننشدهم بيتًا كهذا:
تربح الرشوة قلب الآلهة
وملوك الأرض أرباب الجلال٢٢
ولا نمدح فينكس مهذب أخلس، أو نجيز القول إنه كان حكيمًا بمشورته٢٣ عليه أن يساعد الإخائيِّين إذا قدموا له هدايا، وأن لا يخمد غضبه حتى يتسلم المال، ولا نصدق ولا نسمح أن يُقال إن أخلس جشع، حتى إنه قبل هدايا أغممنون، وأنه لم يسلم الجثث دون فدية.
أد : ليس من الصواب إباحة قصص كهذه.
س : ولا يؤخرني إلَّا احترامي هوميرس عن القول: أن إسناد مثل هذه الأشياء إلى أخلس خطيَّة عظيمة، كذلك تصديقها إذا رُوِيَتْ، أو تصديق القول إن أخلس قال لأبلو:
قد دهاني طعنكم يا ذا الإله
فقت أجناد الأعالي ضررًا٢٤
ليتني أملك أقصى قوة
لانتقامٍ فيه أقضي الوطرا
أو أنه أبدى شكاسة نحو نهر أرجيف٢٥ الذي هو إله، حتى إنه هبَّ لنضاله وأنه أبدى سماجة أخرى لنهر سبرخس قائلًا:
إنني أهدم هاتيك السدود
فتلاقي بتركولو في اللحود٢٦
وذلك حين كان الجبَّار بتركولو صريعًا، وأنه فعل ما قال (هدم السدود).
وكذلك الروايات المتعلقة بجرِّه جثة هكتور حول ضريح بتركولو،٢٧ ولا نصدق ذبح الأسرى في مأتم الجنازة.

ولا ندع شبابنا يعتقدون أن أخلس سليل إلاهة وبيليوس — الأمير الحصيف المحسوب ثالث زفس — وقد هذَّبه شيرون الكلي الحكمة، ينشأ فيه تشويش معيب، فتتفشَّى في نفسه عِلَّتان مُتضادتان، هما: الطمع تدنِّيًا، واحتقار الناس والآلهة غطرسةً.
أد : إنك مُصيبٌ.
س : فلا نقبلَنَّها فيما بعد، ولا نسمح أن يُقال إن ثيوس بن بوسيدون وبيريثوس بن زفس يرتكبان اغتصابًا كهذا، ولا أن أحد أبناء الآلهة الأبطال يُقدم على فِعالٍ خسيسة، كالتي أشاعوها عنهم كذبًا في هذا الزمان. فلنوجب على شعرائنا إما أن ينفوا عن أولئك السامين ما نسبوه إليهم من الأعمال، أو أن يقولوا إنهم ليسوا أبناء الآلهة، والأفضل أن يُعرضوا عن هذه وتلك، فلا يؤلِّهوهم ولا يذموهم، وأن يُعرضوا عن تعليم أولادنا أن الآلهة ولدت الشرور، وأن الأبطال ليسوا أفضل من الناس، وقد أسلفنا أنه يستحيل أن يصدُر مثل ذلك من الآلهة، وأن هذه الأمور سفيهة وكاذبة.
أد : لا شك في أننا أسلفنا ذلك.
س : زِد على ذلك أن هذا الكلام يخدش آذان سامعيه، ويحمل الناس على الاستباحة حين يرون أن هذه الأشياء كان يمارسها حتى المقرَّبون من الله، الذين:
من ذراري زفس قد تسلسلوا
وبهم روح الأعالي تلمحُ
والأُلي في رأي إيدا قد بني
لأبيهم زفس نعم المذبحُ٢٨
فنستأصل أساطير كهذه لئلَّا تُنشئ في ناشئتنا ميلًا عظيمًا إلى الشر.
أد : أوافقك في ذلك كل الموافقة.
س : فأيُّ نوع من البحث بقي علينا، في ما يُباح وما يُحظر من الأساطير؟ فقد ذكرنا القوانين الواجبة مراعاتها في الكلام في الآلهة، والجبابرة، والأبطال، وأرواح الموتى؟
أد : ذكرنا ذلك.
س : فالباقي يختصُّ بصيغة الكلام في الناس. أليس كذلك؟
أد : واضح.
س : لكنه يتعذَّر علينا أيها العزيز إنجاز ذلك في الدور الحالي من بحثنا.
أد : وكيف ذلك؟
س : لأني أرى أن الشعراء والناثرين سِيَّان، خطلًا في الكلام في أهم المصالح البشر، كقولهم إن أكثر الناس سعداء حال كونهم غير عادلين، وإن العادلين تاعسون، وإن فعل الشر يفيد فاعله كثيرًا إذا خفيَ أمره، وإن العدالة تفيد الغير وتضرُّ فاعلها. فنحظر هذه الأقوال، وما لا يُحصى من أمثالها، ونأمر جميع الكُتَّاب أن يُعربوا عن نقيض هذه المعاني في أغانيهم وفي أساطيرهم. ألا تظن كذلك؟
أد : لا بل أؤكده.
س : فإذا كنت تُسلِّم أني مُصيب فيه أفلا يجوز لي أن أؤكد أنك سلمت معي في الفرض الذي هو موضوع بحثنا؟
أد : فرضك صحيح.
س : أفلا يجب أن نؤجل أمر الاتفاق اللازم اعتباره في الكلام في الناس، لكي نكتشف أولًا طبيعة العدالة الحقيقية، ونُبرهِن على أنها مفيدة لصاحبها، عُرِف عادلًا أو لا؟
أد : إنك مُصيبٌ كل الإصابة.
س : فلنُحَتِّم إذًا البحث في الأقاصيص.
وخطوتنا الثانية على ظني: هي فحص الصيغة اللازمة لها، وإذا تسنَّى لنا ذلك وجَّهنا كل التفاتنا إلى ما يُقال والصيغة التي بها يُقال.
أد : لم أفهم ماذا تعني بذلك.
س : ومن المهم أن تفهم، قد تفهم أكثر إذا أنا أفرغته في هذا القالب: أليس كل ما أملاه الشعراء أو كُتَّاب الأساطير أقاصيص عن الماضي والحاضر والمستقبل؟
أد : وماذا يكون غير ذلك؟
س : أوَلم يوردها مؤلفوها بصورة القصص أو بصورة التمثيل أو بالصورتين معًا؟
أد : وهذا أيضًا يجب أن أفهمه أتم فهم.
س : يظهر أني معلم عي؛ ولذا أتقدم لشرح كلامي كمن يعوزه البيان، ولا أتناول موضوع البحث إجمالًا، بل أقتصر على وجهة خاصة منه، وأجهد في جعل كلامي واضحًا لك، فقل: أتعرف مطلع الإلياذة؛ حيث يقول الشاعر: «فرجا كريسس أغممنون أن يطلق سراح ابنته، فغضب أغممنون عليه، فلما رأى كريسس أن طلبه قد رُفض سأل إلهه أن ينتقم له من الإخائيِّين»؟
أد : أعرفه.
س : فتعرف إذًا ما تقدم هذا البيت: فدعا على كل الإخائيِّين، لكن خصَّصَ ابنَي أثريوس القائدَين.
مع أن الشاعر نفسه هو المتكلم، ولم يورد أقل إشارة لإفهامنا أن المتكلم شخص آخر غيره، لكنه في ما تلا يتكلم بلسان كريسس، وقد بذل الجهد ليحملنا على الاعتقاد أن ليس هوميرس المتكلم، بل الكاهن العجوز.

وعلى هذه الصورة نظم تقريبًا كل وقائع طروادة وأثكا، وكل كارثات الأودسي.
أد : هذا أكيد.
س : فهي قصص. أليس كذلك؟ سواء كان الشاعر يروي خطبًا تاريخية أو يصف الحوادث المتوالية. أد: لا شك في أنها قصص.
س : ولكن إذا تكلم بلسان رجل آخر ألا نقول إنه في كل موقف كهذا يقصد أن يمثل الشخص الذي كان يتكلم بلسانه أقرب تمثيل؟
أد : نقول دون شك.
س : ولكن حين يتكلم أحد بلسان غيره، ويبدي أعظم مماثلة له في نغمته وإشاراته، ألا نقول إن ذلك تمثيل؟
أد : لا شك في أنه تمثيل.
س : فإذا لم يُخْفِ الشاعر نفسه كل الإخفاء لم يكن شعره أو قصته تمثيلًا، ولئلَّا تقول إنك لم تفهم أيضًا أفيدك: لو أن هوميرس تكلم بلسانه لا بلسان كريسس، بعد ما قال كيف التمس كريسس من اليونانيين — وخاصة من ملوكهم — أن يُطلقوا سراح ابنَيه، وهو يحمل إليهم فديتها، لكان كلامه قصصًا لا تمثيلًا، ولكانت الحكاية هكذا (إني أوردها نثرًا لأني لست بشاعر):

فجاء الكاهن وتضرَّع إلى الآلهة، أن يفتح اليونان طروادة ويعودوا سالمين إذا أطلقوا ابنته وقبضوا الفدية خائفين الله، فعندها شملت الرهبة جميعهم، ومالوا إلى إعطائه سؤله، على أن أغممنون امتعضَ، وأمره أن ينصرف حالًا ولا يعود لئلَّا ينثلم صولجانه ويذوي إكليل الغار المقدس، فإنه لن يردَّ له ابنته حتى يُدركها الهرم عنده في أرغس، فليبرح وليكفَّ عن إزعاجه إذا أراد أن يغنم سلامته. فخاف الشيخ لمَّا سمع ذلك وانصرف صامتًا، ولمَّا خرج من المحلة رفع تضرُّعات حارة لأبلو مُتوسِّلًا بأسماء الله الحسني ومواعيده الكريمة أن يستجيب له دعاءه بأن ينتقم منهم لدموعه بقوته الإلهية، قال ذلك وأطلق سهمه في الهواء نحوهم، رمزًا لحلول النقمة عليهم.

فذلك قصص بسيط أيها الصديق، لا تمثيل.
أد : فهمت.
س : أريدك أن تفهم أيضًا أنه قد يُعكس الحال وتُحذَف كلمات الراوي — الشاعر — الواردة بين أقسام الكلام، بحيث لا تبقى إلا واقعات الحادثة.
أد : فهمت، والمأساة هي من هذا النوع.
س : أصبتَ ظنًّا، وأظن أني أقدر أن أوضح لك الآن ما لم أقدر أن أوضحه قبلًا، وهو أنه في الشعر كما في الأساطير ثلاثة أقسام: أحدهما تمثيلي كالمأساة والكوميديا، والآخر رواية الشاعر نفسه رواية بسيطة، وتجد هذا النوع بالأكثر في خمريَّات باخس، والثالث يجمع بين هذين النوعين: القصصي والتمثيلي، وهو يلاحظ في الشعر القصصي وكثير من أمثاله إذا كنت قد فهمتني.
أد : الآن فهمت تمامًا ما عنيته بإشارتك السالفة.
س : فاذكر ما قلناه سابقًا، وفيه المسألة المتعلقة بمادة الإنشاء. بقي علينا النظر في أسلوبه.
أد : إني أذكر.
س : وهذا ما عنيته بالضبط: أنه حتمٌ علينا أن نتفق في هل نأذن لشعرائنا أن يُوردوا قصصهم تمثيلًا كليًّا أو جُزئيًّا (وما هو المقياس الذي يتبعونه إذا جاز لهم التمثيل)؟ أو أنه لا يجوز لهم التمثيل مُطلقًا؟
أد : أظن أنك تفكر في: هل نبيح المأساة والكوميديا في مدينتنا؟
س : ذلك ممكن، وقد يُنظر في قضايا أخرى عدا المأساة والكوميديا. حقًّا إني ما زلت مترددًا، ولكن علينا أن نستسلم للبحث استسلام السفينة للرياح الهابَّة.
أد : إنك مُصيبٌ تمامًا.
س : فإليك مسألة تنظر فيها يا أديمنتس: أيحسُن بحُكَّامنا أن يمثلوا أم لا؟ أوَترى أنه يلزم عن أبحاثنا السالفة أن يختص الإنسان بنوعٍ واحد من الأعمال لا أكثر، وأنه إذا حاول ذلك فاشتغل بأمورٍ عديدة معًا فشل فيها كلها، ولم يبلغ أربًا ولا بواحدٍ منها؟
أد : لا شك في أن هذا هو الواقع.
س : ألا يتمشَّى هذا الحكم نفسه على فن التمثيل؟ أي هل يمكن الفرد الواحد أن يُجيد أنواعًا عديدة من التمثيل، كما يُجيد النوع الواحد منه؟
أد : مؤكد أنه لا يمكنه.
س : فمن أندر الأمور أن من يشغل منصبًا مهمًّا يتمكن معه من التمثيل على أنواعه، فيكون ممثِّلًا بارعًا مع عمل منصبه؛ لأنه حتى في نوعَي التمثيل: المأساة والكوميديا، وهما لصيقان، لا يمكن الفرد الواحد أن يبرع، كما في تأليف المأساة والكوميديا، وقد صرَّحت الآن أن النوعين تمثيل، ألم تُصَرِّح؟
أد : بلى.
س : وبحق نقول إن الإنسان لا يمكنه أن يجمع بين النوعين معًا، ولا يمكن الإنسان أن يكون راويًا في الشعر القصصي وممثلًا معًا.
أد : حقيق.
س : بل إنه لا يمكن الممثل الواحد أن يمثل المأساة والمهزلة معًا، مع أن كليهما تمثيل. أليسا تمثيلًا؟
أد : إنهما تمثيل.
س : وأرى يا صديقي أديمنتس، أن الطبع الإنساني يذهب في تقسيم الأعمال إلى أبعد من ذلك، فلا يمكن أن يُحسن المرء تمثيل أشياء عديدةً معًا، أو يقوم بما يرمز إليه التمثيل من الأعمال المُنَوَّعة.
أد : بكل تأكيد.
س : فإذا أصررنا على رأينا الأول، وهو أنه يجب إعفاء حُكَّامنا من كل مهنة أخرى غير الحكم ليمكنهم أن يبلغوا أعلى مراتب الحذق في إحراز حرية الدولة، غير مُتعاطين إلا ما يؤدي إلى هذه النتيجة، فلا يُرغب في أن يمثلوا أو يمارسوا أي عمل آخر، وإن عرض لهم أن يمثلوا فليمثلوا منذ حداثتهم ما ينطبق على مهنتهم، كتمثيل الرجل الشجاع الرزين المتديِّن الشريف وأمثاله. ولا يمارسوا أو يمثلوا الدناءة وكل أنواع السفالات؛ لئلَّا يلصق بنفوسهم ما مثَّلوه فيصير لهم سجيَّة، أوَلا تدري أن التمثيل يتمكن في النفس بتأثير الإشارات، ونغمة الصوت، وطرائق الفكر، إذا مارسوه منذ الحداثة، فيصير عادة فيهم كطبيعة ثانية؟
أد : أدري بالتأكيد.
س : فلا نأذن لمن صرَّحنا أننا نهتم بهم ونرغب في صيرورتهم صالحين، أن يمثلوا وهم رجال واحدة من النساء، صبيةً كانت أو عجوزًا، في حال مُهاترتها الرجل أو تبجُّحها لدى الآلهة اعتدادًا ببرِّها، ولا في نوائبها وأحزانها وشكواها، ولا نأذن لهم أن يمثلوا مريضًا أو عاشقًا أو عاملًا.
أد : هكذا بالتمام.
س : ولا يؤذن لهم أن يمثلوا عبيدًا، ذكورًا أو إناثًا في حال ممارستهم ما تقضي به العبودية.
أد : كلَّا، لا يجوز لهم.
س : ولا يمثلوا أسافل الناس كالجبناء، والذين سلوكهم على العموم ضد ما ذكرناه الساعة، كشتمهم بعضهم بعضًا، وتحقيرهم أحدهم الآخر ببذيء الكلام، صاحين كانوا أو سُكارى، في حال اقترافهم إحدى هذه الإساءات ضد الآخرين، أو بعضهم ضد بعضهم، مما يجعل الرجال مجرمين قولًا أو فعلًا، وأرى أنه لا يجوز أن تبيح لهم أن يمثلوا المجانين في عملهم وكلامهم؛ لأنه وإن جاز لهم أن يعرفوا المجانين فلا يجوز لهم أن يعملوا أعمالهم ولا أن يمثلوها.
أد : بكل تأكيد.
ص : وهل يمثلون الحدَّادين وغيرهم من الصُّنَّاع كالمجذفين بالسفن، أو رؤسائهم أو ما هو من هذا النوع؟
أد : غير ممكن، ولا نسمح لهم بالالتفات إلى هذه المهن.
س : وهل يمثلون صهيل الخيل، أو جئير الثيران، أو خرير الأنهار، أو قصف الرعود، أو هدير البحار، ونحو ذلك من الظاهرات؟
أد : كلَّا، فقد حظرنا عليهم الجنون وتقليد المجانين.
س : فإذا كنت قد فهمت كلامك فهنالك أسلوب خاص من القصص، يختاره الرجل الشريف الحُلو الشمائل إذا لزم أن يقص أي قصص، وهناك أسلوب ضده يلوذ به من كان على خلاف هذه السجايا في طبعه وتهذيبه.
أد : وما ذانك النوعان؟
س : أولهما: إذا بلغ الرجل الحسن الخُلُق في قصصه كلام الصالحين أو فِعالهم تلاها عن رغبة دون خجل؛ لأنه يؤثر أن يمثل الرجل الصالح إذا اقترن ذلك التمثيل بالرصانة والتعقُّل، ولكنه حين يمثل رجلًا اختلَّ اتِّزانه لمرض أو عشق أو سُكر مثَّله بأقل رغبة. ومتى بلغ في تمثيله ما لا يليق بكرامته فإنه يخجل من تمثيله، عوض الظهور بمظهر من هم دونه، إلَا إذا كان التمثيل قصير المدى؛ لأنه مُتَّصِف بالصلاح، ولأنه لم يألف مثل هذا النوع من التمثيل، أو لأنه لدى إمعان الفكرة ينفر من التبذُّل والتداني، على منوال السفلة، إلا إذا كان على سبيل التسلية.
أد : وذلك ما يُنتظر منه.
س : أفلا يستعمل الأسلوب القصصي الذي ذكرناه في كلامنا السابق لمَّا أشرنا إلى أشعار هوميرس؟ فيشتمل أسلوبه على الشعر الذي يجمع بين التمثيلي والقصصي العادي، وقلما يرد النوع الأول في سياق كلامه المطوَّل. أفمُخطئٌ أنا في كلامي؟
أد : كلَّا، بل قد أبَنْتَ بمزيد التدقيق الصيغة الواجب اتِّباعها في قصص كهذا.
س : ومن الجهة الأخرى، إن الإنسان الذي يختلف سجيةً عمَّن ذكرنا لا يجنح إلى حذف شيء من قصصه كلما زاد خساسة، ولا يترفَّع عن شيء مهما يسفل، فيمثل كل شيء بمزيد الجد، حتى على مرأى الكثيرين من الناس، بلا استثناء شيء مما ذُكر آنفًا، كقصف الرعود، ودمدمة العواصف، وتساقط البَرَد، وقعقعة العجلات، وأصوات الزمور، وكل آلات العزف، وعواء الكلاب، ومعاء الأغنام، وتغريد الطيور. فإما أن يكون كل همه تقليد الأصوات والملامح المقترنة بها، أو يقتصر على مزجها بالقليل من القصص.
أد : بالضرورة القصوى.
س : فهذان هما الأسلوبان اللذان عنيتهما.
أد : حقًّا إنه يوجد هذان الأسلوبان.
س : وهل ترى التنوُّعات الحاصلة في أحدهما طفيفة؟ وإذا طبَّقتَ اللحن والإيقاع على الأسلوب فقد يمكن في الإلقاء الصحيح أن تبتدئ بدون تعديل في الأسلوب، وفي نغم واحد — لأن التنوُّعات غير مهمة — وإيقاع واحد أيضًا.
أد : هذا هو الواقع حتمًا.
س : أوَلا يستلزم الأسلوب الآخر كل أنواع الألحان والإيقاع إذا أُريد إلقاؤه إلقاءً لائقًا، لكثرة ما فيه من التنوُّعات؟
أد : يستلزم.
س : وهل يستعمل جميع الشعراء والقصَّاصين أحد هذين الأسلوبَيْن أو واحدًا مؤلَّفًا من كليهما؟
أد : يلزم أن يستعملوا أحد هذين.
س : فماذا نعمل؟ أنقبل في مدينتنا كل هذه الصور؟ أم نقتصر على إحداها؟ أعني: البسيطة أو المركبة؟
أد : إذا كان رأيي مقبولًا فأرى أن نختار الصور البسيطة التي تمثل الرجل الصالح.
س : ولكن الصورة المركبة جذَّابة يا أديمنتس، ولا سيما للأطفال، ومن هم في حكم الأطفال، والسوقة، وذلك غير ما آثرتُه.
أد : حقيق.
س : ولكن قد تقول إنه لا يلائم طبيعة دولتنا؛ لأنه ليس فينا رجل متعدد المنازع، لاقتصار كل واحد على نوعٍ خاص من العمل.
أد : أنت مُصيبٌ أنه لا يُلائم.
س : أفلا نرى في دولتنا لهذا السبب دون غيرها من الدول، أن الإسكاف إسكاف فقط، وليس هو رُبَّانًا مع السكافة؟ والزارع زارع فقط، وليس قاضيًا مع زراعته؟ والجندي جنديٌّ فقط وليس تاجرًا مع جنديَّته؟ وهكذا بقيَّة الصُّنَّاع.
أد : هذا حقيق.
س : فإذا عرض أن مرَّ بدولتنا إنسان بارع، قادر أن يتلبَّس بكل مظهر، وأراد إعلان مواهبه ونتائج أدبه بيننا، فإننا نُبدي نحوه كل احترام كإنسان مُقدَّس معتبر فتَّان، فنخبره أن لا يقطن مدينتنا شخص نظيره، وأن قانوننا المدني قاضٍ بإقصاء من كان على شاكلته، فنرسله إلى بلدٍ آخر بعد أن نسكب على رأسه الأدهان والطيوب، ونُزيِّن رأسه بعمامة صوفية بيضاء دليل الإكرام، ونستخدم بدلًا منه شاعرًا بسيطًا ميثولوجيًّا أقل فتنة وأكثر ترصُّنًا، فيفرغ قصصه في القالب الذي وصفناه في مُستهلِّ حديثنا حين تكلَّمنا في ما يتعلَّق بتهذيب جنودنا.
أد : هكذا نفعل إذا كان الأمر راجعًا إلينا.
س : يظهر يا صديقي العزيز أننا قد أنجزنا البحث في القسم الموسيقي المختص بالوهميَّات وغيرها من القصص، فقرَّرنا ما يجوز أن يُقال وكيف يجب أن يُقال.
أد : هكذا أظن.
س : فموضوعنا التالي في الأغاني والألحان. أليس كذلك؟
أد : الأمر واضح.
س : أفيَعسُر على أحد اكتشاف ما يجب أن نقول فيها وفي صفتها إذا رُمنا الاعتصام بما سبق فقرَّرناه؟
غلوكون (ضاحكًا) : أخاف يا سقراط أني لا أدخل تحت كلمة «أحد»، أي إنني لا أقدر الساعة أن أبلغ نتيجة مُرضية في ما هي الأنواع التي نعتمدها؛ لأني على شيء من الريبة.
س : أظنك على كل حال قادرًا أن تعلم أن النشيد مؤلَّف من ثلاثة أركان: هي الألفاظ، واللحن، والإيقاع.٢٩
غ : نعم، إني أقدر أن أؤكد ذلك.
س : لا تختلف الألفاظ الغنائية عن غيرها من الألفاظ في شيء، باعتبار أنها منظومة في نفس الأساليب التي رسمناها.
غ : دون شك.
س : وتُسلِّم أن اللحن والإيقاع يجب أن يُلائما الألفاظ.
غ : دون شك.
س : وقد أسلفنا أن لا محل للندب والتذمُّر في المنظومات.
غ : لا محل.
س : فما هي الألحان الشجية؟ قُل فإنك موسيقي.
غ : هي الليدي المركب، والهيبر ليدي، وما ضارعهما.
س : تلك ألحان يجب نبذها لأنها باطلة، لا تليق بالنساء فضلًا عن الرجال.
غ : أكيد.
س : وأنت مُسَلِّمٌ أن السكر والتخنُّث والكسل أقل الأشياء لياقةً بحُكَّامنا.
غ : لا شك في ذلك.
س : فما هي الألحان الأنثويَّة المطربة؟
غ : هي الأيوني والليدي اللذان ندعوهما: اللحنين «الرخوين».
س : أفتستعمل هذين اللحنين يا صديقي في تهذيب رجال الحرب؟
غ : كلَّا، فإذا لم أكن مُخطئًا فلم يبقَ لك إلا اللحن الدوري، والفريحي.
س : أنا لا أعرف الألحان، ولكن اترك لي اللحن الخاص الذي يُمثِّل رنَّة صوت الجندي الشجاع وهديره في حملة حربية وفي اقتحام شديد الخطر، حيث يضع الجندي روحه في كفِّه إذا يئِسَ من الفوز أو إذا أُصيب بالجراح وقارب الموت أو نزلت به أية كارثة، تراه في كل هذه المُلِمَّات يدفع نوازل القدر بعزيمة لا تخور. واترك لي أيضًا لحنًا آخر، يُعلن شعور رجل منهمك في شغلٍ غير عنيف، بل هادئ لا إكراه فيه، فقد يكون إقناعًا وتوسُّلًا أو ابتهالًا لله، أو تعليمًا وإرشادًا، وقد يكون تقبُّل الابتهال أو الإرشاد أو الاقتناع من آخر، ويلي ذلك فوزه بالمرام، فلا يتصرف بغطرسة، بل يعمل في كل هذه الأحوال بترصُّنٍ واعتدال، راضيًا ما يأتي عليه، فاترك لي هذين اللحنين، المثير والهادئ، اللذين يُمثِّلان بأبدع أسلوب حالَي الرجل في الشدة وفي الرخاء، في الشجاعة وفي الهدوء.
غ : إنك تُحتِّم عليَّ أن أترك لك ما ذكرته الساعة من الألحان.
س : لسنا نحتاج في أناشيدنا وألحاننا إلى أوتار كثيرة.
غ : كلَّا كما أثق.
س : فلا نعبأ بصانعي العود والسنطير، وغيرهما من الآلات الكثيرة الأوتار، التي تُعطي ألحانًا متنوعة.
غ : كلَّا.
س : وهل تقبل في دولتك صانعي الناي والعازفين بها؟ وهل تراني مُصيبًا في قولي إنها أكثر أصواتًا من كل آلة موسيقية، وأن «البنهرمونيوم» ليس إلَّا تقليد الناي؟
غ : واضح أنك مُصيب.
س : بقي العود والقيثارة، وهما ذات فائدة في المدينة، أما في الأرياف فيستعمل الرُّعاة نوعًا من القصب.
غ : هذا هو مؤدَّى البحث في أقل تقدير.
س : فلا بدع يا صديقي إذا آثرنا أبلو وآلاته على مارسياس وآلاته.
غ : لا بدع في ذلك.
س : أقسم أننا على غفلةٍ منا نظَّفنا المدينة التي قُلنا الساعة إنها في حال أعظم رفاهية.
غ : وبحكمة فعلنا.
س : فدعنا إذًا نُكمل التنظيف؛ فالأمر الثاني بعد الألحان هو قانون الإيقاع، مما يوجب علينا ألَّا نتَّبع كثرة الأنواع منها، أو أن ندرس كل الحركات دون تمييز، بل يجب أن نُلاحظ الإيقاع الطبيعي الملائم حياة الرجولة المتزنة، ومتى اكتشفنا هذا وجب تطبيق التفعيل والنغم على شعور حياة كهذه، لا ذلك الشعور على التفعيل والنغم. ولكن ما هو هذا الإيقاع؟ هذا هو شغلك؛ لأنك مُلَحِّن.
غ : كلَّا وذمَّتي لا أقدر أن أقول. أجل إني أستطيع أن أقول بناءً على سابق ملاحظاتي واختباري: إنه توجد أربعة أصوات إليها ترجع كل الألحان، ولكن أي نوع من الإيقاع يعبر عن أي حال من أحوال الحياة؟ ذلك ما لا أعلمه.
س : حسنًا، فنستدعي دمون للمشورة في هذه المسألة، فيهدينا إلى أنواع الإيقاع التي تنفق مع الدناءة والسفاهة والجنون، ونحوها من الرذائل، والتي تتفق مع أضداد هذه الأوصاف. وأظن أني سمعته يذكر ثلاثة أنواع منها: هي إيقاع حربي مُركَّب، وإيقاع عروضي، وآخر بطولي، ولا أدري كيف رتَّبها ليُبَيِّن أن التفاعيل يوازن بعضها البعض الآخر في ارتفاعها وفي انخفاضها بحلِّها إلى مقاطع طويلة أو قصيرة، وسمَّى بعضها «رجزًا» وبعضها «خفيفًا»، واضعًا لبعضها علامات طويلة أو قصيرة، ويستهجن في بعضها سير التفعيل أو يستحسنه، وكذلك يفعل بالإيقاع، وربما يدمج الاثنين في حكمٍ واحد، وحكمي في ذلك ليس قاطعًا، فلنترك هذه المسائل كما أسلفت لحكم دمون؛ لأن تسويتها تستلزم بحثًا مُستفيضًا. أتُخالفني في ذلك؟
غ : كلَّا، لا أخالفك.
س : على أنك في أقل الدرجات تقدر أن تُقرر هذه المسألة، وهي أن الإجادة والركاكة تُرافقان صحة الإيقاع أو فساده.
غ : ذلك أكيد.
س : وأما صحة الإيقاع وفساده فينتجان عن حُسن الأسلوب أو قُبحه، ويتمشَّى الحكم نفسه على اللحن الصحيح أو الفاسد، أي إن الإيقاع واللحن يُطاوعان الألفاظ، إلَّا أن الألفاظ لا تُطاوعهما.
غ : يُطاوعان الألفاظ.
س : وما قولك في الأسلوب والألفاظ؟ ألا تُعيِّنهما نزعة النفس الأدبية؟
غ : طبعًا تُعينهما.
س : وهل يُعين الأسلوب بقية الأشياء؟
غ : نعم.
س : فحسن البيان وصحة الوزن والجزالة والإيقاع كافةً تتوقف على الطبيعة الصالحة، ولا أقصد بها السذاجة التي مجاملةً ندعوها طبيعةً صالحة، بل أقصد بها العقل السليم سلامةً حقيقيةً، تجلَّتْ سلامته في السجية الأدبية الشريفة.
غ : حتمًا هكذا.
س : أفلا يجب أن يتصف شُبَّاننا بهذه الخِلال في كل حال إذا كُنَّا نروم أن يُتمُّوا عملهم الخاص؟
غ : بلى، يجب أن يتصفوا بها.
س : وأظن أن هذه المزايا تدخل إلى حدٍّ بعيد في فن النقش، وفي كل الفنون التي تُحاكيه كالحياكة والتطريز والبناء، والصنائع المُنَوَّعة بمُختلف الآلات، بل في بناء الأجسام الحية وكل أنواع النبات؛ لأن للرشاقة والمعاظلة دخلًا في كل هذه الأوساط. وفقدان الجزالة والإيقاع واللحن حليف الأسلوب الفاسد والخُلُق الرديء. أما وجودها فحليف الخُلُق الحميد، أي الشجاعة والرزانة وإعلان له.
غ : مُصيبٌ كل الإصابة.
س : وإذا الحال هكذا، أفنحصر أنفسنا في مراقبة شُعرائنا، فنوجب عليهم أن يطبعوا منظوماتهم بطابع الخُلُق الحميد وإلَّا فلا ينظموا؟ أو نوسع نطاق مراقبتنا فتشمل أساتذة كل فن، فنحظر عليهم أن يطبعوا أعمالهم بطابع الوهن والفساد والسفالة والسماجة، سواء في ذلك رسوم المخلوقات الحية، أو الأبنية، أو أي نوع آخر من المصنوعات، ومن لا يستطيع غير ذلك فننهاه عن العمل في مدينتنا؟ لكي لا ينشأ حُكامنا في وسط صور الرذيلة نشوء الماشية في مراعٍ رديَّة، فتتسرَّب الأضرار إلى نفوسهم فتفسدها بما تلتهم يومًا فيومًا من الأقوات من مختلف المواقع، فيتجمَّع في نفوسهم مقدار وافر من الشر وهم لا يشعرون. وعلى الضد من ذلك، أوَلا يجب علينا أن نستدعي فنيِّين من طرازٍ آخر، فيتمكَّنون بقوة عبقريَّتهم من اكتشاف أثر الجودة والجمال، فينشأ شبابنا بينهم كما في موقع صحي، يتشرَّبون الصلاح من كل مربع تنبعث منه آي الفنون، فتؤثر في بصرهم وسمعهم كنسماتٍ هابَّة من مناطق صحيَّة، فتحملهم منذ حداثتهم دون أن يشعروا على محبة جمال العقل الحقيقي والتمثُّل له ومطاوعة أحكامه.
غ : إن ثقافة كهذه هي أفضل الثقافات.
س : أفلهذا يا غلوكون نعزو إلى تهذيب الموسيقى شأنًا خارقًا؟ فإن الإيقاع واللحن يستقرَّان في أعماق النفس ويتأصَّلان فيها، فيبُثَّان فيها ما صحباه من الجمال، فيجعلان الإنسان حلو الشمائل إذا حسنت ثقافته، وإلَّا كان الحال بالعكس، ومن حسنت ثقافته الموسيقية فله نظر ثاقب في تبيُّن هفوات الفن وفساد الطبيعة، فيُفَنِّدها ويمقتها مقتًا شديدًا، ويهوى الموضوعات الجميلة ويفتح لها أبواب قلبه فيتغذَّى بها، فينشأ شريفًا صالحًا، وإذا كان منه ذلك وهو بعد فتًى دون سن الرشاد قبلما يبرز في تلك الأمور حكمًا عقليًّا، فإنه متى بلغ رُشده يزداد ولعًا بها عن معرفة؛ إذ تربَّى عليها وألفها.
غ : لا أرتاب في أن هذه هي أغراض التهذيب الموسيقي.
س : ولست تجهل أننا في تعلُّمنا القراءة لا نحسب أننا قد أتقنَّاها حتى نُحيط علمًا بالحروف التي منها تتألَّف الكلمات، فلا نحتقر تلك الحروف ولا نُهملها في كلمة كبيرة أو صغيرة، كأنها شيء لا يستحق الالتفات إليه، بل نبذل الجهد في تمييزها حيث ثقفناها، موقنين أنه يستحيل علينا أن نُحسن التعلُّم ما لم يكن هذا دَيدَننا.
غ : حق.
س : أوَليس حقًّا أيضًا أننا لا نتمكن من تبيُّن صور الحروف معكوسة عن مرآة صقيلة، أو عن سطح ماءٍ ساكن، ما لم نعرف أولًا الأصل الذي عنه انعكسَتْ؛ لأن معرفة الأصل ومعرفة ما انعكس عنه ترجعان إلى فنٍّ واحد ودرسٍ واحد؟
غ : حقٌّ بكل تأكيد.
س : فقُل لي: لكي أنتقل من المثل إلى ما أروم تبيانه به، أليس على القياس نفسه نعجز عن أن نكون موسيقيِّين حقيقيِّين، نحن والذين نعني بتنشئتهم حُكَّامًا، ما لم نعرف الصور الجوهرية للعفاف والشجاعة، والحرية والأريحية، وكل نسيبات هذه الفضائل؟ وما لم نُميِّزها عن أضدادها أين عثرنا عليها؟ إما هي بنفسها أو صورها، فلا نستهين بكبيرها ولا بصغيرها، عالمين أن معرفة الصيغ الأصلية ومعرفة صورها المنعكسة عنها ترجعان إلى فنٍّ واحد ودرسٍ واحد؟
غ : يجب أن يكون الأمر هكذا بلا نزاع.
س : فليس أجمل في عين كل ذي لُبٍّ وإدراك من الرجل الذي جمع بين جمال الظاهر وجمال النفس الباطن، وقرن هذا بذاك؛ لأن كليهما منسوج على منوالٍ واحد.
غ : لا أجمل من ذلك.
س : وأنت تُسَلِّم أن أجمل الأشياء أحبها إلى القلب؟
غ : دون شك إنها كذلك.
س : فالموسيقي الحقيقي يهوى الذين جمعوا جمعًا تامًّا الجمال الأدبي والجمال الطبيعي، ومن ساده التنافر فلا يُحَب.
غ : كلَّا لا يُحب؛ لأن في نفسه عيبًا، أما إذا كان العيب محصورًا في جسده فإنه يُحَبُّ تلطُّفًا.
س : فهمتُ أن لك حبيبًا، أو أنه كان لك حبيب من هذا النوع؛ ولذا أُسَلِّم بذلك. ولكن قُل لي: هل للتطرُّف في الملذَّات من صلة بالعفاف؟
غ : وكيف يمكن أن يكون ذلك، والعقل وقد برحه العفاف حليف التألُّم؟
س : أوَلها صلة بالفضيلة عامَّةً؟
غ : مؤكد لا.
س : حسنًا، أفلها صلة بالسفالة والفجور؟
غ : بكل تأكيد.
س : أفيمكنك أن تذكر لذة أعظم وأقوى مما يصحب التمتُّع بلذة الحب؟
غ : لا يمكنني ذلك. ولا يوجد من تجاوز حدود العقل فيحاول ذلك.
س : أوَليس من طبع الحب المشروع الرغبة في الجميل المُتَّزن بطبعٍ رصين مُتَّزن؟
غ : مؤكد أنه كذلك.
س : فلا يجب أن يُلامس الحب الشرعي شيءٌ من الجنون والدعارة.
غ : يجب أن لا يُلامسه جنون ولا دعارة.
س : فاللذة التي نحن في صددها لا تُداني الحب، ولا يأتي المحب وحبيبه الذي يُبادله الود المستقيم شيئًا من هذا النوع.
غ : حقًّا إنه لا يجوز أن يأتياه يا سقراط.
س : فمن الواضح إذًا أنك تسن في شريعة الدولة التي تنظمها الآن ما يتعلق بهذا الشأن: إنه مع أن المحب يُلاصق محبوبه ويرافقه، ويُقَبِّله قبلة الأب ابنه لسبب جماله إذا ارتضى المحبوب منه ذلك، يجب أن ينظم علاقاته به على وجهٍ لا يأذن بتجاوُز هذا الحد إلى ما وراءه، وإلا عذل لفظاظته وعدم ذوقه.
غ : سنسن ذلك.
س : أفتشاركني في ظني أن نظريتنا الموسيقية انتهت؟ وعلى كلٍ قد انتهت حيث يجب؛ لأن الموسيقى في مذهبي يجب أن تنتهي في محبة الجميل.
غ : أوافقك في ذلك.
س : وللجمناستك المقام الثاني في تهذيب شبابنا.
غ : حقيق.
س : لا شك في أن التمرين الجمناسكي كالتمرين الموسيقي، يجب أن يبدأ منذ نعومة الأظفار وأن يستمر مدى الحياة، ولكن ما يأتي هو الرأي القويم فيه حسب ظني، فبيِّن رأيك. أما رأيي فهو أن الجسد مهما يكن من أمره لا يجعل النفس صالحة، وبالعكس إن النفس الصالحة هي التي بفضيلتها تجعل الجسد كاملًا على قدر الإمكان. فما رأيك؟
غ : رأيي فيه كرأيك.
س : فإذا بدأنا أولًا بالمعالجة اللازمة للعقل، ثم فوضنا إليه وصف المعالجة المختصة بالجسد، أفلا نكون مُصيبين إذا اقتصرنا على ملاحظة المبادئ العمومية حذرًا من التلبُّك؟
غ : تمامًا هكذا.
س : فقد قُلنا إن على الرجال المذكورين أن يتجنبوا المُسكر؛ لأن الحاكم على ما أرى هو آخر شخص في الدنيا يُباح له أن يشرب فيفقد صوابه.
غ : حقًّا، إن من السخافة أن يحتاج الراعي إلى من يرعاه.
س : ومن جهة الطعام، إن رجالنا مُجاهدون في أهم الميادين. أليسوا مجاهدين؟
غ : بلى مُجاهدين.
س : أفيُناسب أشخاصًا كهؤلاء عادةً الجري على النظام المُتَّبَع في تمرين الأجسام في مدرسة الرياضة؟
غ : ربما ناسب.
س : ولكنه طعام يجلب النعاس ويهدد الصحة، ألا تلاحظ أن الرجال في أثناء التدريب يقضون الحياة نيامًا، وإذا حادوا عن أطعمتهم قيد أنملة انتابهم شر الأمراض في أشد حالاتها خطرًا؟
غ : إني ألاحظ.
س : فيلزم أفضل طعام لرجالنا الحربيين الذين يجب أن يكونوا يقظين كالكلاب الحارسة، وأن يكون لهم أسرع سمع وأحدُّ بصر؛ لأنهم مُعَرَّضون في أثناء تأدية الخدمة لتغيُّر طعامهم وشرابهم، وتقلُّبات الحر والقر، لئلَّا تفقد أجسادهم مناعتها، فلا يوافق أن تكون لهم صحة مهددة.
غ : أثق أنك مُصيبٌ.
س : فهل أفضل جمناستك هو صنو الموسيقى التي وصفناها آنفًا؟
غ : ماذا تعني؟
س : أعني به النظام البسط المعتدل، ولا سيما المعين لجنودنا.
غ : وكيف يكون؟
س : يمكننا أن نأخذ درسًا في هذه الأمور حتى من هوميروس، فإنك تعلم أنه لم يقدم لأبطاله في الولائم في الميدان شيئًا من السمك، مع أنهم كانوا على ضفاف الدردنيل، ولا سلقوا لحمًا، بل شووه شيًّا، وهو عند الجنود أسهل إعدادًا؛ لأن المرء يرى إضرام النار أين حلَّ أقرب تناوُلًا من حمل الحلل والمقالي.
غ : بالتأكيد.
س : وإذا لم تخُنِّي الذاكرة فهوميرس لم يذكر المرق قطعيًّا؛ لأنه معلوم عند جميع المدربين، حسب وصف هوميرس أن من يروم أن يبقى في حال الصحة فليتجنب كل استرسالٍ من هذا القبيل. أليس كذلك؟
غ : معلوم؛ ولذلك أصابوا في إمساكهم.
س : فإذا استحسنت الإمساك أيها الصديق الصالح فلا أراك تستحسن موائد السيراقوسيِّين، ولا كثرة أنواع الطعام عند الصقلِّيِّين.
غ : لا أظن أني أستحسنها.
س : وتُنكر على الرجال الذين يُحبون أن يحرصوا على سلامة أجسادهم تسرِّي الفتيات الكورنثيات.
غ : بكل تأكيد.
س : وهل تُنكر على الاثنين تأنُّقهم في صنوف الحلوى؟
غ : تأكيدًا أُنكره.
س : فليس من الخطأ مقارنة نظام المعيشة والطعام بنظام الموسيقى والغناء المنطبق على البنهرمونيوم المستعمل في مُختلف الأوزان.
غ : لا شك في أنها مقارنة صحيحة.
س : أوَليس صحيحًا أيضًا أنه كما يولَّد التنوُّع الموسيقي فجورًا في النفس تُولِّد الأطعمة عِللًا في الجسد؟ أما البساطة في الجمناستك فتولِّد صحة، كما أنها في الموسيقى تُولِّد العفاف؟
غ : بكل تأكيد.
س : وإذا انتشرت في المدينة الأمراض وصور الفجور، أفلا نضطر لإنشاء المستشفيات والمحاكم؟ أوَلا يتيه الطب والحقوق عجبًا متى وقف كثيرون من الشرفاء حياتهم على هذه المهن بوافر الرغبة؟
غ : وماذا عسانا أن نتوقَّع غير ذلك؟
س : فأيَّة حجة على سوء تهذيب المدينة وانحطاط سُكَّانها أقطع من افتقار أهاليها إلى نطس الأطبَّاء وأساطين القُضاة؟ ليس فقط بين طبقات العُمَّال الدنيا، بل أيضًا بين من يدَّعون شرف النبعة. أوَلا تراه انحطاطًا أدبيًّا ودليل نقصٍ وتهذيب، اضطرارنا إلى شريعة يسنُّها الأجانب كسادةٍ وقُضاة لنا بسبب فقر الوطن؟
غ : لا إهانة أعظم من ذلك.
س : أوَتظن أنها إهانة أخف على الإنسان أن يقضي الجانب الأكبر من حياته في المحاكم، بين مُدَّعٍ ومُدَّعًى عليه؟ بل إنه زاد على ذلك أنه جهلًا منه يفتخر بأنه حريف في ارتكاب الكبائر، وأستاذ في الحيل والمواربة والدهاء والمكر، بتملُّصه من قبضة العدالة والنجاة من براثن العقاب، وكل ذلك لقاء أشياء طفيفة تافهة، جاهلًا أفضليَّة الحياة المنظَّمة المستقيمة وجمالها على مثوله أمام قاضٍ خامل؟
غ : تلك إهانة أعظم مما سبق ذكرها.
س : أوَلا تحسب الاحتياج إلى المعالجة الطبية عيبًا، اللهم إلا ما كان لجرح أو لمرض موسمي وافد؟ أعني به احتياجنا إلى المعالجة بسبب كسلنا ونوع معيشتنا، فتملأنا الرياح والإخلاص كما تملأ المياه القذرة الحمأة، فيلزم أبناء أسكولابيوس أن يستنبطوا أسماء جديدة للأمراض كتطبُّل البطن والزكام؟
غ : حقًّا إن هذه أسماء جديدة غاية في الغرابة.
س : مما لم يُعرف في عهد أسكولابيوس على ما أظن. أستنتج ذلك من أنه لمَّا جُرح يوربيلس في طروادة، لم يَلُم أبناؤه المرأة التي قدمت له جرعة مصنوعة من خمر براميني ممزوجًا بدقيق الشعير والجبن، ولا أنَّبوا بتروكلس الذي ضمَّد الجراح. وغنيٌّ عن البيان أن جرعة كهذه يظن أنها تُسبب الالتهاب.
غ : حقًّا إنها جرعة غريبة لمن كان في مثل حاله.
س : كلَّا، إذا اعتبرت أن تلاميذ أسكولابيوس وأولاده لم يستعملوا طريقة المعالجة الحالية إلى عهد هيروديكس، وهي الطريقة القائمة بخدمة الأمراض خدمة العبيد أولاد أسيادهم، ولكن هيروديكس — وهو أستاذ ماهر — حلَّ به السقام، فجمع بين الطب والجمناستك، فكان أول من أزعج نفسه بها، وقفَّى الآخرون على مثاله.
غ : وكيف ذلك؟
س : بتأجيله مصرعه، إذ تتبَّع مرضه الخطِر حذو القذة بالقذة، ولمَّا كان عاجزًا عن نَيْل الشفاء على ما أظن وقف كل وقته لمعالجته، فعاش مُعذَّبًا كل يوم بالإمساك عن الطعام ومصارعة الموت زمنًا طويلًا، فتمكَّن ببراعته من بلوغ دور الهرم.
غ : يا لها من مكافأة أحرزها بفنِّه.
س : ذلك ما يُنتظر ممَّن جهل ان أسكولابيوس لم يكتشف هذه المعالجة ولم يورثها لذريَّته جهلًا منه أو نقص خبرة؛ بل لأنه عرف أنه في الهيئة المنظمة لكل عمل خاص يجب أن يُتمه، وليس لأحد وقت فراغ يُضاع بين يدَي الطبيب. هي حقيقة نفهمها من حياة العُمَّال، ومن التناقُض المضحك أننا لا نُدركها في حياة المُترفين المحسوبين أغنياء وسعداء.
غ : وكيف ذلك؟
س : إذا مرض النجار مثلًا، تناول من طبيبه علاجًا لإفراز مرضه بالقيء، أو بالإسهال، أو بالكي، أو بعملية جراحية، أما إذا أشار عليه طبيب بالمعالجة الدائمة، كالإمساك عن الطعام، والأربطة على الرأس، ونحو ذلك من أساليب العلاج نفر حالًا، وأجاب مشيره الطبي أن لا وقت عنده لملازمة الفراش، وأن الحياة على هذا النظام لا تستأهل عناء الآلام الدائمة والمخاوف الشديدة، مُهتمًّا بمرضه مهملًا عمله، فيودِّع طبيبه ويعود إلى حياته العادية، فإما أن يستعيد صحته ويستمر في عمله، أو — إذا لم تحتمل بنيته ذلك — أراحه الموت الزؤام من شقائه.
غ : نعم، ذلك ما يظن أنه نفع المعالجة الطبية لرجل في مثل هذه الحال.
س : أوَليس ذلك لأن الرجل ذو عمل لا يجدر به أن يحيا ما لم يُتمه؟
غ : واضح.
س : على أن الفني لا شغل له من هذا النوع، بحيث إنه إذا أهمله كانت الحياة عنده لا قيمة لها.
غ : يظن أن ليس له.
س : فلم ننتبه لقول فوسيليدس، وهو: متى حصل المرء على الكفاف فعليه أن يمارس الفضيلة.
غ : نعم، بل وقبل حصوله على الكفاف أيضًا.
س : فلا نُشاجرَنَّه في ذلك، بل دعنا ننظر في هل يمارس الأغنياء الفضيلة كغرض الحياة؟ أو أن السقام وإن عرقل عقل النجار وإخوانه الصُّنَّاع، فلا يُعرقل المرء عن إطاعة وصية فوسيليدس؟
غ : لا وذمتي، إني لم أجد عائقًا في سبيلها أعظم من العناية بالجسد، عنايةً زائدة عمَّا يفرضه الجمناستك؛ لأنه سِيَّان عند المرء عائقًا له اشتغاله بمصالح البيت، أو بالعمل في الحقل، أو بمنصب القضاء المدني.
س : وشر ما في الأمر هو أن توقُّع الصداع والدوار عائق خطير لكل أنواع الطلب والتبحُّر والإمعان، فينحي المرء باللائمة على الفلسفة كأنها السبب في ذلك. ولمَّا كانت الفضيلة تمارس وتؤيد بالدرس العقلي كان المرض قيدًا لها؛ لأنه يحمل المرء على التوهُّم الدائم أنه مريض، فيقُضُّ مضجعَه قلقُه على صحته.
غ : نعم، هذا هو فعله الطبيعي.
س : أفلا نُصرُّ على أن أسكولابيوس لمَّا فهم ذلك وضع فن الطب لفائدة الذين بُنيتهم سليمة بطبيعتها، ولم يتلفوها بالعادات الضارة، إنما طرأ عليهم توعُّك خفيف، فيحاول استئصاله بالعلاجات والفصد دون تعرُّض لأشغالهم اليومية لئلَّا تتعطَّل مصالح الدولة؟ على أنه لم يُعنَ بشفاء البنية التي تغلغلت فيها الأدواء والعلل، فلم يبلغ إطالة حياة شقية بتعيين نوع خاص من الطعام يُنقصه حينًا ويزيده حينًا آخر بالتدريج، آذنًّا لمرضاه أن يلدوا أولادًا يغلب أن يكونوا مصابين بأمراضهم؛ لأنه ظن أن المعالجة الطبية هي في غير محلها إذا تناولت عليلًا لا أمل في استئنافه أعماله العادية؛ لأن مريضًا كهذا عديم المنفعة لنفسه وللدولة.
غ : إنك تجعل أسكولابيوس سياسيًّا كبيرًا.
س : كونه كذلك أمر واضح، ولا يفوتنَّك أنه لهذا السبب برهن أولاده على أنهم صناديد في معارك طروادة، ومارسوا الطب على ما سبق بيانه. أنسيت أنه لمَّا جُرح بنداروس منلاوس «غسلوا الجراح وضمَّدوها جيدًا»؟٣٠ ولم يصفوا له ما يتعلق بطعامه وشرابه إلَّا ما وصفه يوربيلس، عالمين أن العقاقير والحشائش كافية لشفاء صحيحي البنية مُنتظمي المعيشة، ولو أنهم شربوا على إثر جراحهم مزيج خمر وجبن ودقيق، أما ضِعاف البنية والمُتهتِّكون فإن أولاد أسكولابيوس لا يرون أن بقاءهم غنمٌ لهم وللدولة؛ لأنهم عالمون أن فنهم لا يُراد به معالجة أُناس كهؤلاء؛ ولذا رأوا من الخطأ محاولة شفائهم، ولو كانوا أغنى من ميداس.
غ : فأبناء أسكولابيوس دهاة بناءً على إفادتك.
س : كونهم كذلك أمرٌ مُسَلَّم به، ولكن مؤلفي المآسي و«بندار» يُخالفوننا، فإنهم يقولون إن أسكولابيوس هو ابن أبُلو، ومع ذلك يدعون أن الذهب أغراه فعني بشفاء غني كان في فم الموت؛ ولهذا السبب أُصيب بالصاعقة. ونحن لا نُسَلِّم بالأمرين احتفاظًا بمبدئنا، بل نُصرُّ على القول إنه إذا كان ابن إله فلم يكن طمَّاعًا، وإن كان طمَّاعًا فليس ابن إله.
غ : فنحن في جانب الصواب في ذلك. وما رأيك يا سقراط في ما يأتي: ألا يجب أن يكون في مدينتنا نطس الأطباء؟ وإني أرى جريًا على القياس نفسه، أنَّ أبرع القضاة هم الذين امتزجوا بكل طبقات الناس.
س : حتمًا أُسلِّم بأن يكون لنا أطباء، ولكن أتعلم من هم الذين أحسبهم نطسًا؟
غ : أعلم إذا كنت تقول لي.
س : سأحاول ذلك. على أني مقدمة له أقول إنك ترمي إلى أمرين مختلفَين بنصٍّ واحد.
غ : وكيف ذلك؟
س : صحيح أن الأطبَّاء يُحرزون مهارة عظيمة إذا قرنوا منذ الحداثة درس الطب بمعالجة عدد وافر من شر الحوادث المرضية، واختبروا في أشخاصهم كل أنواع المرض؛ ولذلك لا تكون لهم صحة جيدة، لأني لا أظن أن جسد الطبيب هو الذي يشفي أجساد الآخرين — وإلَّا لما جاز له أن يكون ذا علة أو أن يمرض — ولكن عقله هو الذي يُشفي، فإذا أُصيب في عقله تعذَّر عليه أن يكون طبيبًا ماهرًا.
غ : إنك مُصيبٌ.
س : ولكن القاضي يا صديقي يحكم العقل٣١ بالعقل، فلا يجوز أن ينشأ عقله منذ نعومة أظفاره في بيئةٍ فاسدة العقول، ويأتلف معشرها ويقترف كل أنواع الشرور اقتداءً بها لكي يختبر في نفسه ماهية الإجرام، فيتمكن بهذا الاختبار من اكتشاف زلَّات الآخرين بقياسهم على نفسه على نحو تصرُّف الطبيب في الأمراض الجسدية، بل بالعكس يجب أن يكون الحاكم منذ الحداثة حُرًّا من هذا الاختبار، وبمعزلٍ عن عوامل الشر والفساد إذا أُريد أن يتصف بالكمال الفائق ويُحسن رعاية العدالة، وهذا هو السبب في سهولة انخداع الصالحين في شبيبتهم، إذ ليس في نفوسهم مثل يقيسون شرور الأردياء به.
غ : نعم. وهم مُعرضون كثيرًا لهذا الانخداع.
س : ولذا لا يكون أفضل القُضاة شابًّا، بل شيخًا عرك الدهر وخبر الباطل لا كشيءٍ استقرَّ في نفسه، بل كأمرٍ خارجي أدركه ودرسه درسًا طويلًا مُدقِّقًا في حياة الآخرين، وبعبارةٍ أخرى: إنه يُقاد بالمعرفة لا بالاختبار الشخصي.
غ : حقًّا إن ذلك أشرف نوع في الحكام.
س : وهو صالح أيضًا، هذه هي نقطة البحث؛ لأن ذا النفس النقية صالح، أما القاضي المريب الذي اقترف كثيرًا من موبقات الآثام، وهو يزعم أنه بارع لكونه عاشر أمثاله من الشُّبَّان، فيبدو شديد الحذر قياسًا على ما في داخله من نماذج الشر، وهي نصب عينيه كل يوم. على أنه متى اجتمع بالشيوخ والأبرار ظهر بإزائهم غرًّا أحمق، بريبته الشاذة وجهله السجية الكاملة لفقدانه مثلًا لها في نفسه، وإنما لأن علاقاته بالأشرار أكثر منها بالأبرار لاح له ولأمثاله أنه حاذق لا أحمق.
غ : غاية في الصواب.
س : فلا ننشدنَّ حاكمنا الصالح في هذا الصف، بل في سابقه؛ لأن الرذيلة لا يمكنها أن تعرف نفسها والفضيلة معًا. أما الفضيلة في الكامل التهذيب فإنها بمرور الزمن تتمكن من معرفة الأمرين، نفسها والرذيلة، فالقاضي الحكيم في مذهبي هو هذا الفاضل، لا ذاك الرذيل.
غ : أوافقك في ذلك.
س : أفلا تُنشئ في مدينتك إدارتين: طبية وقضائية، تتصف كل منهما بما ذكرناه من الأوصاف، فتُسبغان بركات خدمتهما على أصِحَّاء الأبدان والعقول، مع إهمال سُقماء الأبدان فيموتون، وإعدام الأشرار الفاسدين غير القابلين للإصلاح؟
غ : نعم، وقد تبرهن أن ذلك خير للدولة ولأولئك السُّقماء.
س : وواضح أن الشُّبَّان يحترسون من افتقارهم إلى هذه الشريعة ما داموا يُمارسون الموسيقى البسيطة التي قُلنا إنها تُنشئ رزانة النفس.
غ : دون شك.
س : فإذا اتَّبع الرجل المكمل في التهذيب الموسيقي هذا النوع من الجمناستك، أفلا يمكنه أن يستغني عن الطب إذا شاء ذلك، إلا في الأحوال الخارقة؟
غ : أظن أنه يمكنه ذلك.
س : وغرضه في التدريب (الرياضي) وفي الأعمال الشاقة التي فرضها على نفسه تربية حماسته لا ازدياد قوته البدنية، فلا ينحو نحو الرياضيِّين في أمر الأطعمة، بل يقصر جهوده على تقوية عضلاته.
غ : إنك مُصيبٌ تمامًا.
س : أوَمصيبٌ أنا يا غلوكون في قولي إن الذين وضعوا نظام التهذيب «الموسيقي الرياضي» لم يكونوا مدفوعين إلى وضعه بالمقصد الذي يعزوه إليهم الآخرون، وهو ترقية النفس بأحد الفنَّين والجسد بالآخر؟
غ : فماذا قصدوا، إذا لم يكن هذا مقصدهم؟
س : الأرجح أنهم وضعوا الفنَّين معًا لأجل النفس.
غ : وكيف ذلك؟
س : ألا تلاحظ الصفات التي تميز عقول الذين ألفوا الجمناستك كل الحياة دون اتصال بالموسيقى، وأيضًا عقول الذين جروا على نقيض هذه الخطة؟
غ : إلى ماذا تشير؟
س : إلى الخشونة والقسوة في الفريق الواحد، واللين والرقة في الفريق الآخر.
غ : أجل، فالذين لاذوا بالجمناستك دون سواه صاروا خشني الطباع فوق حد الاحتمال، والذين اقتصروا على الموسيقى هم أكثر لينًا مما يليق.
س : وعلى كلٍّ فإننا نعلم أن الخشونة ثمرة طبيعية للعنصر الحماسي الذي إذا حسن تهذيبه كان صاحبه شجاعًا، أما إذا تجاوز حده اللازم كان شرسًا مُشاغبًا.
غ : هكذا أظن.
س : أوَليس لين العريكة من أوضاع الخلق الفلسفي؟ فإذا تجاوزت هذه الصفة حدها غالت في الرقة واللين، فزادت نعومة عمَّا يليق، ولكنها إذا هُذبت تهذيبًا صحيحًا أفرغت في قالب اللياقة؟
غ : حقًّا.
س : ولكنا نرى أن حُكَّامنا يلزم أن يجمعوا بين هاتين الصفتين.
غ : ذلك واجب.
س : ألا يجب التلاؤم المتبادَل بينهما؟
غ : بلا شك.
س : وحيث كان ذلك التلاؤم فالنفس شجاعة وعفيفة.
غ : مؤكد.
س : وحيث لا يكون فالنفس جبانة سمجة.
غ : تمامًا هكذا.
س : وعليه: فحين يسلم الإنسان نفسه للموسيقى ويقبل عن طريق الأذن أن تفيض على نفسه سيول الأنغام الشجيَّة البديعة التي مرَّ بك وصفها، ويقضي الحياة مُرنَّمًا هائمًا بالألحان، فمهما يكن في إنسان كهذا من النزق الشديد القسوة كالفولاذ فإنه يلين ويصير حرًّا بدل كونه قصمًا غير نافع. وإذا ثابر على ذلك منذ طفولته دون فتور وسرَّ به نفسه، أذاب فعل الموسيقى ما فيه من نزقٍ وغضب وحلَّلها تحليلًا، ولطَّف أخلاقه تلطيفًا تامًّا، فيستأصل من أعماق نفسه جذور طبعٍ غضوب، ويجعله محاربًا دمثًا.
غ : بالتمام هكذا.
س : فإذا كانت نفسه بطبيعتها عديمة النزق حصلت فيها هذه النتيجة سريعًا، وإذا كانت نقيض ذلك فإنه بهذه الوسيلة يخفف حدَّتها ويُلَطِّف حماستها، فتصير سهلة القياد، تُثار وتهدأ لأقل سبب. رجال كهؤلاء يصيرون شكسين غضوبين، فريسة نكد الطبع عوض كونهم ذوي حماسة.
غ : حتمًا هكذا.
س : ومن الجهة الأخرى، إذا واظب المرء على الجمناستك بمزيد الجهد، وعاش عيشة الترف، مع الإعراض عن الموسيقى والفلسفة، أفلا يوحي إليه حسن صحته الجسدية الاعتداد بالذات والحماسة، فيتشجَّع فوق طوره؟
غ : بلى، إنه يصير هكذا.
س : فماذا تكون نتيجة الاشتغال بعملٍ كهذا مع هجر الموسيقى الهجر كله؟ حتى لو فرضنا أنه كان فيه أولًا شيء من الذوق العلمي، ولكن إذا لم يتغذَّ ذلك الذوق باكتساب المعرفة أو طلب العلوم، ولم يشترك في المباحث العقلية ومنازع العرفان، ألا تضعف نفسه فيصبح أصم وأعمى البصيرة لافتقاره إلى المنبهات والغذاء الروحي، ولأن ذهنه لم يتنقَّ التنقية التامة؟
غ : تمامًا هكذا.
س : فيصبح رجل كهذا أمِّيًّا يمقت البحث والطلب، ويهجر كل ما هو من ملكوت العقل، ويعمد إلى حل مشاكله كالوحش الضاري بالقوة والخشونة، ويعيش بالجهل وسماجة النفس بلا اتزان ولا جمال.
غ : هذا هو الحال تمامًا.
س : فلإصلاح الخلقين: الحماسي والفلسفي، أعطى أحد الآلهة على ما أرى فني الموسيقى والجمناستك، لا لإصلاح الجسد والنفس مستقلين إلَّا في أحوال ثانوية، بل للتوفيق بين هذين الخلقين، بشد الواحد ورخي الآخر (كأنهما وترا الحياة) إلى الدرجة المطلوبة، فيحصل التلاؤم المتبادل.
غ : هكذا يظهر.
س : فمن قرن الموسيقى بالجمناستك على أفضل أسلوب وأحلَّهما في نفسه في أضبط مقياس دعوناه عن جدارة أكمل الموسيقيِّين وأرقى المنشدين، وهو أرقى كثيرًا من الموسيقي الذي يُدوزِن الأوتار.
غ : نعم، وبتعقُّلٍ عظيم تنطق يا سقراط.
س : أوَلا تحتاج دولتنا احتياجًا لازبًا إلى ناظر كهذا يا غلوكون إذا رُمنا خلودها؟
غ : حقًّا. إن موظفًا كهذا لا يُستغنى عنه.
س : هذه هي خلاصة التهذيب والتدريب في نظامنا، ولماذا يشتبك المرء في أبحاث مستفيضة في ما يتعلق بالرقص في دولةٍ كدولتنا، وبالصيد والرياضيَّات في الحقول والأرياف، أو بالجمناستك وسباق الخيل؟ لأنه واضح أنه يجب تطبيق هذه الأشياء على ما سبق بيانه، وليس من الصعب إدراكها.
غ : الأرجح لا.
س : حسنًا، فما هي النقطة الثانية للبتِّ في أمرها؟ أليست هذه: أيُّ الأشخاص الذين تهذَّبوا على ما وصفنا يجب أن يكونوا حُكَّامًا وأيهم رعايا؟
غ : لا شك في لزوم البت فيها.
س : ليس من شك في أن الشيوخ يجب أن يكونوا حُكَّامًا والشُّبَّان رعايا.
غ : حق.
س : وأن يكون الحاكمون أفضل أولئك الشيوخ.
غ : وهذا أيضًا حق.
س : أفليس أفضل الفلاحين أكثرهم ميلًا إلى الزراعة؟
غ : بلى.
س : أوَلا نجد أفضل الحُكَّام الذين ننشدهم بين أكثرهم قدرة على إدارة الدولة؟
غ : بلى.
س : أوَلا يكونون لذلك ذوي فطنة وقوة وحرص على مصلحة الدولة؟
غ : يجب أن يكونوا هكذا.
س : والمرء كثير الحرص على ما يحب.
غ : من كل بد.
س : ومن المؤكد أنه يحب أعظم حب الذين يعتقد أن مصلحتهم ومصلحته واحدة، وأن مصيره مرتبط بسرَّائهم وضرَّائهم.
غ : تمامًا هكذا.
س : فيلزم أن نختار من جمهور الحكام الأفراد الذين ظهر لنا بعد المراقبة اللازمة أنهم ممتازون بالغيرة على القيام بكل عمل مفيد للدولة مدى الحياة، وينبذون ما يحسبونه ضارًّا.
غ : نعم، هؤلاء هم الأشخاص المناسبون.
س : فأرى من اللازم أن نراقبهم في كل أطوار الحياة؛ لنرى هل هم حكام ثابتون في هذا اليقين، ولا تُزحزحهم عنه قوة ولا رقية لاطراحه ظهريًّا، بل يحرصون على الاقتناع بأنهم يجب أن يعملوا الأفضل للدولة.
س : عن أي اطِّراحٍ تتكلم؟
س : سأقول لك: إني أرى أن الآراء تبرح العقل إما اضطرارًا وإما اختيارًا، فالرأي الفاسد يبرح العقل عفوًا حين يقف صاحبه على خطئه، أما الرأي السديد فيبرح العقل اضطرارًا.
غ : فهمت البراح الاختياري، أما الاضطراري فلم أفهمه.
س : أفلا تُسلم معي أن الناس يتجرَّدون من الأشياء الحسنة بدون اختيارهم، لكنهم باختيارهم ورغبتهم يهجرون الأشياء الرديَّة؟ أوَليس شرًّا مُستطيرًا أن لا يكون الإنسان صادقًا حين يصف الأمور بما هي عليه؟
غ : بلى، إنك مُصيبٌ. وأرى أن المرء يترك الآراء السديدة بغير اختياره.
س : أوَلا يحصل ذلك بالسرقة أو الرقية أو الإرغام؟
غ : لم أفهم.
س : أخشى أني أتكلم كلامًا غامضًا ككلام المأساة، فإني أعني بمن سُرقت أفكارهم الذين ضلوا أو نسوا يقينهم؛ لأن الحجة سرقتهم في الحال الأول، والوقت خانهم في الثاني، فأظن أنك فهمت.
غ : نعم.
س : والذين أُرغموا هم الذين تغيرت آراؤهم بالآلام والأمراض.
غ : وهذا أيضًا فهمته، وأراك مُصيبًا فيه.
س : والذين رقوا أظن أنك تقول هم الذين أغرتهم المسرَّات، أو ثبَّطَتْ عزائمهم المخاوف.
غ : نعم؛ لأن كل ما يخدعنا يرقينا.
س : فكما قلت الساعة يجب أن ننشد أفضل الحكام ذوي الاقتناع الداخلي بأنهم يجب أن يفعلوا ما يحسبونه أفضل لمصلحة الدولة، ونراقبهم منذ حداثتهم، فنعطيهم من الأعمال ما يسحر الناس عادةً ويقودهم إلى النسيان. فمن غلب هواه عوامل ضلاله وغلبت ذاكرته بواعث النسيان فإيَّاه نختار للحكم، ومن لم يكن كذلك نبذناه قصيًّا. أليس كذلك؟
غ : بلى.
س : وعلينا أن نمتحنهم بالأعمال والآلام ونرقب خوضهم معمعانها لنرى ظاهرات صفاتهم.
غ : بالصواب هكذا.
س : ونمتحنهم ثالثةً بالنوع الخلَّاب ونرقُب تصرُّفَهم، وذلك كتعريض المهاري للصيحات والضجَّات لتبيُّن جبنها، هكذا نمتحن الشبان بالمروِّعات ثم بالمسرَّات، ونمتحنهم ولا امتحان الذهب بالنار؛ لنرى أَصَلْبٌ عودهم في كل الأحوال فلا يخدعهم التدجيل؟ فتثبت كياسة تصرفهم حسن الإدارة لأنفسهم وللموسيقى التي ثقفوها، مُبرهنين في كل حادثة على محافظتهم على قوانين اللحن والإيقاع، ساعين جهدهم ليكونوا أعظم النافعين لأنفسهم وللدولة، فمن جاز الامتحان المرة بعد المرة حدثًا وشابًّا وكهلًا، وخرج من كور التجربة سليمًا، فهو الذي نختاره حاكمًا ومديرًا، ويجب إكرامه في حياته وفي مماته، ويُخوَّل أعظم الامتيازات بمراسم الجنازة والذكريات بعدها. ومن كانت صفاتهم نقيض ذلك نرفضهم. هذا هو يا غلوكون النمط الأفضل لاختيار حُكَّامنا الذين مرَّ بك وصفهم مختصرًا دون تدقيق.
غ : أنا من رأيك تمامًا.
س : أوَحقًّا تسمية هؤلاء «بالحُكَّام الكاملين» لاتِّصافهم بالعناية والسهر حتى لا يريد أصحابهم في الوطن ولا يقدر أعداؤهم في الخارج أن يُحدثوا أدنى ضرر للدولة؟ والشبان الذين دعوناهم الساعة حُكَّامًا نسميهم «مساعدين»، وهم الذين وظيفتهم إنفاذ قرارات الحكام؟
غ : هكذا أرى.
س : وإذا كان الحال كذلك، أفيمكننا أن نخلق وسيلة حكيمة نتمكن بها من تمثيل دور وهمي، كالقصص التي ذكرتها آنفًا، فنقتنص حتى الحكام بأفعل الذرائع، وإلَّا فنقنع العامة فقط؟
غ : أي نوع من القصص؟
س : ليس شيئًا جديدًا، بل قصة فينيقية تداولتها ألسنة الشعراء، والناس موقنون بصحتها، على أنها لم تحدث في عصرنا، ولا علم لي بأنها حدثت في غيره من العصور، ولكنا نقدر أن نجعلها خبريَّة موثوقًا بصحتها، فنحتاج إلى حيلةٍ نافذة لإقناعهم.
غ : أرى أنك تتردد في الإفصاح.
س : وسترى ترددي طبيعيًّا متى أخبرتك إيَّاها.
غ : فقل غير هيَّاب.
س : سأقول، ولا أدري بأية جرأة وأي إيضاح أوردها. فأولًا: أحاول إقناع الحكام أنفسهم، ثم إقناع الجنود معهم، وبعدهم سائر الأمة، أن كل ما أمليناه عليهم لتهذيبهم حدث كأمرٍ واقعي، ولكنه حلم، وفي حقيقة الأمر أنهم هذبوا وثقفوا في جوف الأرض حيث طبعوا أسلحتهم وأدواتهم وكمل تهذيبهم، وحين ذلك ولدتهم أمهم الحقيقية، وهي الأرض، أي إنها قذفت بهم إلى سطحها، فيجب أن يهتموا بالمنطقة التي هم فيها كأمٍّ ومرضع، فيصدُّون عنها الغُزاة، ويحسبون سكانها إخوتهم، أبناء الأرض.
غ : ولسببٍ كافٍ كنت تخشى أن تورد هذه الخزعبلة.
س : فسمعًا لبقية القصة: سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم إخوان في الوطنية، ولكن الإله الذي جبلكم وضع في طينة بعضكم ذهبًا ليُمكِّنهم أن يكونوا حُكَّامًا، فهؤلاء هم الأكثر احترامًا، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العتيدين أن يكونوا زراعًا وعمالًا، ووضع نحاسًا وحديدًا، ولمَّا كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالأولاد يمثلون والديهم، على أنه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبًا، هكذا يلد كل ما يلد، وقد أودع الحكام من الله قبل كل شيء وفوق كل شيء هذه الوصية: أن يَخُصُّوا أولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم، فإذا ولد الحكام ولدًا ممزوجًا معدنه بنحاس أو حديد فلا يشفقنَّ والدوه عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيُقصونه إلى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعًا أو عاملًا، وإذا ولد العمال أولادًا ثبت بعد الحك أن فيهم ذهبًا أو فضةً وجب رفعهم إلى منصة الأحكام، أصحاب الذهب حُكامًا، وأصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: أن المدينة التي يحكمها النحاس والحديد فهي إلى البوار. فهل عندك من حيلة لإقناعهم بهذه الخزعبلة؟
غ : لا حيلة في إقناع أبناء هذا الزمان، على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الأسطورة.
س : وحتى هذه تفيد في جعلهم أكثر اهتمامًا بالدولة وبعضهم بالبعض الآخر، فإني أظن أني فهمتك، ولكنَّا سنترك الأسطورة إلى ما قضي به عليها، وإذا تقلدنا زمام أبناء هذه الأرض فلنَقُدهم إلى الأمام بإدارة قوادهم، ومتى بلغوا المدينة اختاروا فيها محلة تمكنهم من حفظ النظام، فيُجلون عنها الأهالي ويحلون محلهم، وإذا وُجد متمرد أو أجنبي دفعوا الأجانب والعُصاة دفع الذئاب، ثم يضربون خيامهم فيها ويقدمون الذبائح للآلهة المحلية، وبعد ذلك يعدون مواقع مبيتهم. أصوابٌ كل ذلك؟
غ : صواب.
س : ويلزم أن تكون تلك الخيام كافلة وقايتهم من تأثير الإقليم صيفًا وشتاءً.
غ : حسنًا، فيظهر أنك تعني بها أن تكون بيوتًا لا خيامًا، هذا إذا لم أكن مخطئًا في ظني.
س : نعم، ولكن بيوتًا عسكرية، لا بيوت أغنياء.
غ : فما الفرق بين هذه وتلك؟
س : سأريك، فإن من أفظع أعمال الرعاة وأدعاها إلى الخزي في الرعية أن كلابهم التي ربوها لحراسة القطيع تهجم على الأغنام، إما لسبب جوعها أو نهمها، فتمزقها بأنيابها، فتكون ذئابًا لا كلابًا حارسة.
غ : حقًّا إنه أمر شائن.
س : أفلا يلزم الاحتياط لئلَّا يفعل مساعدو حكامنا هكذا بالأهلين لأنهم أقوى منهم، فيصيرون وحوشًا ضارية بدل كونهم حلفاء صادقين؟
غ : يلزم ذلك.
س : أوَلا يتسلَّحون بأفضل ضمان إذا تهذبوا تهذيبًا حسنًا؟
غ : لقد سبق أن سلَّمنا أنهم مهذبون.
س : ليس من الضرورة يا عزيزي غلوكون الوقوف عند هذه النقطة، ولكن الأمر الأجدر بأعظم أهمية هو الإصرار على ما قُلناه، وهو أنه يجب أن يُهذَّبوا تهذيبًا صحيحًا مهما يكن من أمرهم، إذا أُريد بهم الحصول على أعظم مؤهلاتهم للحنان واللطف نحو رفاقهم ونحو الذين يحكمونهم.
غ : حق.
س : علاوة على ذلك التهذيب فإن الرجل الحكيم يقول: يجب أن تكون بيوتهم مما لا يحول دون كونهم حُكَّامًا كاملين، ولا تمكنهم من الإضرار بالآخرين.
غ : وبحقٍّ يقول.
س : فاعتبر الرأي التالي: أيوافق حياتهم وسكنهم إذا أريد أن يكونوا على ما ذكرت من الأوصاف الأمور التالية؟(١) أن لا يتملَّك أحدهم عقارًا خاصًّا ما دام ذلك في الإمكان.(٢) ولا يكون لأحدهم مخزن أو مسكن يحظر دخوله على الراغبين، فليكونوا في أسمى ما يتطلبه الأعِفَّاء الشجعان المدربون تدريبًا حربيًّا، ويجب أن يقبضوا من الأهلين دفعات قانونية أجرة خدمتهم، بحيث لا يحتاجون في آخر العام ولا يستفضلون، ولتكن لهم موائد مشتركة كما في ثكنات الجنود، وأن يخبروا أن الآلهة ذخرت في نفوسهم ذهبًا وفضة سماويِّين، فلا حاجة فيهم إلى الركاز الترابي، وعيب عليهم أن يدنسوا بصناعة الآلهة السامية بمزجها بالذهب الفاني؛ لأن نقود العامة فيها دخل كثير، وهي مجلبة لكثير من الشرور، ولكن ذهب الحكام السموي عديم الفساد، فهم وحدهم من بين كل رجال المدينة مستثنون من مس الفضة والذهب، فلا يدخلونهما تحت سقفهم ولا يحملونهما ولا يشربون بكئوس صيغت منهما، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم. لكنهم إذا امتلكوا أراضي وبيوتًا ومالًا ملكًا خاصًّا، صاروا مالكين وزراعًا عوض كونهم حكامًا، فيصيرون سادةً مكروهين لا حلفاء محبوبين، ويصبحون مُبغِضين ومُبغَضين، يُكاد لهم ويكيدون، فيقضون الجانب الأكبر من حياتهم في هذا العراك، وخوفهم العدو الداخلي أكثر جدًّا من خوفهم العدو الخارجي.ففي حالٍ كهذه يُسرعون بالدولة إلى الدمار. فلأجل كل ما ذُكر، هل نُبرم ما قرَّرناه في مصير حُكَّامنا بالنظر إلى بيوتهم وغيرها، ونربط ذلك بأحكام الدستور أم لا؟
غ : نبرمه ونربطه.
١  أوديسا ١١: ٤٨٩.
٢  إلياذة ٢٠: ٦٤.
٣  إلياذة ٢٣: ١٠٣.
٤  أوديسا ١٠: ٤٩٥.
٥  إلياذة ١٦: ٨٥٦.
٦  أوديسا ٢٠: ١٠٠.
٧  أوديسا ٢٤: ٦.
٨  إلياذة ٢٤: ١٠.
٩  إلياذة ١٨: ٢٣.
١٠  إلياذة ٢٢: ١٦٨.
١١  إلياذة ١٨: ٥٤.
١٢  إلياذة ٢: ١٦٨.
١٣  إلياذة ١٦: ٤٣٣.
١٤  إلياذة ١: ٥٩٩.
١٥  أوديسا ١٧: ٣٨٣.
١٦  إلياذة ٤: ٤١٢.
١٧  إلياذة: ١: ٢٢٥.
١٨  أوديسا ٩: ٨.
١٩  أوديسا ١٢: ٣٤٢.
٢٠  أوديسا ٨: ٢٦٦.
٢١  أوديسا ٢٠: ١٧.
٢٢  يظن أنه لهسيودس.
٢٣  إلياذة ٩: ٥١٥.
٢٤  إلياذة ١٢: ١٥.
٢٥  إلياذة ٢١: ١٣٠.
٢٦  إلياذة ٢٣: ١٥١.
٢٧  إلياذة ٢٢: ٣٩٤.
٢٨  من نيوب أسخليس.
٢٩  يصعُب تعيين الاصطلاحات الموسيقية القديمة، فترجمنا الكلمة اليونانية «أرمونيا» بكلمة «لحن»، مع أنها في الأصل اليوناني تختلف عنها قليلًا. دافيس وفوغان.
٣٠  إلياذة ٤: ٢١٨.
٣١  وردت في بعض الترجمات «النفس» بدل العقل، فلا ينسَ القارئ ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤