الحرية١

لو كنَّا نعيش بالخبز والماء، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكنَّ غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة، بل هو غذاء طبيعي أيضًا كالخبز والماء، لكنَّه كان دائمًا أرفع درجة وأصبح اليوم أَعَزَّ مطلبًا وأغلى ثمنًا، هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.

إنَّا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئًا كثيرًا، إنَّما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب أن لا نموت، ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلا الحياة ووسائل الحياة، كما أنَّه لا أحد أقل كرمًا من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة.

لست أَعْجَبُ من الذي يستهين بحياة الرجل فيستعجل عليه القدر المحتوم، ولكنِّي أعجب من الذي يُبالغ في الرحمة بالإنسان يستحييه شبعان رَيَّانَ يفهق جيبه بالنقود معطل الحرية، قد ضرب بين عقله وبين الأشياء والمعاني بحجاب، فلا يتناولها، وحيل بين مشاعره وبين موضوعات غذائها فلا تتحرك بل تموت، أعجب من الذي يظن الحياة شيئًا والحرية شيئًا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأنَّ الحرية هو المقوم الأول للحياة ولا حياة إلا بالحرية.

أجل! إنَّ المرء يحفظ حرية الفكر وحرية المشاعر أي يحفظ حرية الطبيعة حتى في غيابة السجن، يحفظها في كل حال هو عليها ما دامت روحه في جسده، إنَّه خلق حرًّا، حر الإرادة، حر الاختيار بين الفعل والترك، حرًّا في كل شيء حتى في أن يعيش وفي أن يموت، غير أنَّ هذه الحرية الطبيعية لا فائدة منها إذا تعطلت من آثارها، فالذي سُجن والذي مُنع الكلام، والذي مُنع الكتابة، كل أولئك يحفظون حريتهم في نفوسهم، ولكنهم فقدوا الانتفاع بها أي فقدوا بذلك الحرية المدنية.

كذلك الذين تُرِكُوا أحرارًا كما خلقهم الله، أحرارًا يقولون ويكتبون ما يشاءون ويعملون بالمعروف ما يشتهون، ولكنَّهم ليس لهم في إدارة جمعيتهم إرادة محترمة، أولئك لهم الحرية الطبيعية والحرية المدنية، وهم محرومون من الحرية السياسية.

لا نريد بذلك أن نتصدى للتعريفات الاصطلاحية لأنواع الحرية، ولكن جَرَّنَا إليه عَرَضًا التدليلُ على أنَّ الحرية المعطلة عن الاستعمال هي في حكم المفقودة، وأنَّ الحرية الطبيعية الملازمة للإنسان لا يصح أن تُسمَّى حرية، إلا إذا كان مُيسرًا له استعمالها، أرأيت أنَّ المرء يرى الطريق بعينيه المعصوبتين، ويأكل ويشرب ويبطش بيديه المكتوفتين، لكن العين المعصوبة واليد الموثوقة كلتاهما في حكم المعدومة، إنَّما يكون المرء حرًّا بمقدار ما لديه من وسائل استعمال هذه الحرية، وإنَّما يكون حيًّا بمقدار ما جاز له من الاستمتاع بالحرية. فالحرية الناقصة حياة ناقصة، وفقدان الحرية هو الموت؛ لأنَّ الحرية هي معنى الحياة.

طبعنا على حب الكمال في حياتنا ومعاداة كل العوارض التي تعرض لنا في طريق المثل الأعلى للمعيشة المستكملة وسائل الحرية وآثارها، ولا خيرة لنا فيما طبعنا عليه، وسواء كان هذا الشوق الطبيعي إلى حياة الحرية مصدر سعادة أو مصدر شقاء، فإنَّه على كال حال نار تأجج بين ضلوع الحي لا تبرد أو تصل به إلى المرغوب، أجل إنَّ المثل الأعلى ليس نقطة ثابتة ولا غرضًا محدود المسافة يُمكن بلوغه، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى على أبعد مرمى النظر لسنا بالغيه ولا منصرفين عن التشبُّث بإدراكه، بل يسوقُنَا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر عن قضائها ولو كلفتنا أن نركب متن التعسف.

لذلك لا يزال يستغلق علينا فهم الأباطيل القديمة التي كانت الغطرسة الجنسية تأخذ بها الكتاب ليسقطوا في هاوية التناقض.

يقولون: إنَّ بعض النَّاس خُلق للسيادة أبدًا وبعضهم خلق للعبودية أبدًا، ولا نزال نرى هذا الخطأ يتردد في آراء الساسة المستعمرين في هذا الزمان على صورة أقل شناعة، وبعبارة أكثر ائتلافًا مع مدنيتنا الحديثة؛ يضعون أصابعهم في أعينهم إذ تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هي هذه الجزئية: (بعض الإنسان لا إنسان).

كذبت فلسفتهم وصدق الذي يشعر به كل إنسان مِنَّا من الميل إلى الرقي في كل شيء وإلى الحرية قبل كل شيء، صدق هذا الأثر الذي نجده في طليق الأسر أو السجن يوم إطلاقه، وفي محاولة المعقول أن ينشط من عقاله، صدق ذلك الألم الذي يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها فَتَظَلُّ تجول في نفسه، ويغلي في نفسه حب إبدائها في صدره يقلق خاطره ويكد ضميره ويحتوي على كل مشاعره، حتى يفضل الموت في إرضاء هذا الحب على الحياة في كتمانه، وكم عالم استحب الموت على الحياة في سبيل حبِّه لحرية اقتناعه العلمي، فمنهم من قُتل، ومنهم من حُرق، ومنهم من حُبس أو عُذِّب، وجلهم من تلك الأمم التي يقولون إنها خلقت لغير السيادة، فإذا وجدت عبدًا لم يُؤْثِرِ الحرية على العبودية، ولم يَطِبْ نفسًا بالعتق من الرق، فذلك مثل من أمثلة التشويه النادر في بني الإنسان وليس قاعدة يَصِحُّ الأخذ بها، وحسبنا أن نرى الأدلة الحسية قائمة على أنَّ حفظ الوجود الذاتي المُجَرَّدُ عنه آثار الحرية ليس أعز على نفس الإنسان من الاحتفاظ باحترام حريته، وأنَّ الذي يُراجع ماضي العالم لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية — كما يزعمون — إلا قاتلت عن حريتها، وإذا كان أصدق المعلومات هي تلك المعلومات التي تقدمها لنا المشاهدة الواقعة، وما دامت هذه المشاهدات تدلنا على ما ذكرنا بعض أمثلته، فالإنسان — على الرغم من فلسفة الاستعماريين — حر بطبعه ميال إلى الحرية، ميال إلى الترقي فيها إلى المثل الأعلى، وأنَّه لا تفاوت بين أفراد الإنسان إلا في تقدير هذا المثل الأعلى وفي سهولة الوسائل الموصِّلة إليه.

الحرية طبيعية، وميل الناس إلى تحصيلها طبيعي بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أنَّ القَوِيَّ لا يموت جوعًا كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية، ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأصلي الذي يتألف مع شرف الإنسان في هذا الزمان، فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة ومن كل قانون ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أنَّ الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور، ومِنَّا من لا يخشى أن يصرح بأنَّ استقلال الأمة هو الطِّلْبَة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، فلم يبقَ علينا للتدرج في مراقي الحرية والتَّقَرُّب من مثلها الأعلى المتفق عليه بيننا، إلا الوسائل المنتجة، فإنَّ إرادة الأمر شيء والقدرة عليه شيء آخر.

أما القوة فإنَّ طبيعتها تختلف في كل زمان ومكان تبعًا لطبيعة عيشة الأمة واعتقاداتها الدينية وعاداتها وأخلاقها، ونتيجتها تختلف دائمًا باختلاف طبيعة الوسائل التي يُمكن استخدامها، وعندنا أنَّ أول مظهر للقوة هي القوى المعنوية قوة الحرية العلمية، فإنَّ الآراء العلمية ليس من شأنها أن تجد من القوة القاهرة خصوصًا في الأزمان الحاضرة معارضة تُذكر، فإذا استخدم المتعلمون إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية، كان لهم من ذلك مرانة تنفعهم في تربية أخلاق الشعب وتعويده على حرية الرأي والصبر على الأذى الذي ينتج دائمًا عن حرية الرأي، سواء أكان ذلك من الحكام أم من المحكومين.

إنَّ الذين يبخلون علينا بالقرب من المثل الأعلى من حريتنا التي أتانا الله إيَّاها من فضله، يجدون من أمثلة تقصيرنا في إظهار حرية الرأي في العلم وفي السياسة ما يَحْتَجُّونَ به في إرادتنا على البقاء على ما نحن عليه، فإذا أحسوا من حريتنا في الآراء العلمية الإرادية قوة لا يقف أمامها استهزاء الجهلاء ولا غضب الكبراء ولا استدرار المنافع الخسيسة، لا يجدون مندوحة من التخلية بيننا وبين طريقنا إلى المثل الأعلى لحريتنا، ومن قِصَر النظر أنْ يظن أنَّ هذه القوة المعنوية قوة التمسك بالحرية والتماسك على نصرتها غير كافية في تقريبنا من مثلها الأعلى. أقول وأؤكد أنَّها هي وحدها كافية في إنالتنا طِلْبَتِنَا، فَلْنَرُضْ نفوسنا على الاستمساك بها ولننتظر النتيجة.

إنَّ تقدُّمنا في نيل قسطنا الطبيعي من الحرية يستحيل أن يوجد ولو كانت في أيدينا أكبر معدات القوة الوحشية، وكان عددنا أضعاف ما نحن عليه — إذا كنَّا لا نتخلص من وصمة عبادة الآراء والأفكار من غير تمحيض اعتمادًا على مكانة قائلها، وإذا كُنَّا لا نقطع بأيدينا تلك السلاسل التي قَيَّدَتْ عقولنا والأوهام التي أفسدت علينا الاستفادة من المبادئ الجديدة — أننا إذا جربنا أن نرفع منار الحرية في الميدان الذي لنا فيه حرية العمل وليس لنا فيه مُزاحم ولا شريك كان ذلك فاتحة خير لإظهار شيء من القوة الضرورية لظهور الحرية وتأييدها.

١  الجريدة في ١٩ من ديسمبر سنة ١٩١٢ العدد ١٧٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤