مصريتنا١

لو كان الإغريق حينما ملكهم الأتراك خرجوا من قوميتهم ونبذوا حفائظهم الجنسية واحتقروا الانتساب إلى بلادهم ونسوا أنَّهم اليونان، لبادت شخصيتهم ولماتت في نفوسهم أطماع الاستقلال ببلادهم ولاستحال عليهم أن يَسْتَرِدُّوا شرفها، ولكنَّهم على الرغم من ضعفهم قد احتفظوا بقوميتهم وتضامنهم ولم يُخْزُوا أوطانهم بالانتساب إلى غيرها فَفَازُوا بما كانوا يطلبون.

كذلك الطليان ضعفوا وتفرقوا ووقعوا تحت حكم النمسا وفرنسا فلم يستردوا استقلالهم ولم يستعيدوا مجدهم إلا باستمساكهم بقوميتهم وحُبِّهِمْ لبلادهم، فما سمع عن أحدهم أنه قال إنَّه فرنساوي ولو كان من أصل فرنساوي، ولا قال إنَّه نمساوي ولو كان من أصل نمساوي، بل كلهم ينتسب إلى إيطاليا ولو أنَّها ضعيفة مغلوبة على أمرها، ولولا تَشَبُّثُهُمْ بالانتساب إلى بلادهم لما تضامنوا في احتمال مصائبها ذلك التضامن الذي أَدَّى بهم آخر الأمر إلى شرف الاستقلال، ثم إلى السمو إلى مَصَافِّ الدول العظمى الاستعمارية.

كذلك نحن المصريين نُحب بلادنا ولا نقبل مطلقًا أن ننتسب إلى وطن غير مصر، مهما كانت أصولنا حجازية أو بربرية أو تركية أو شركسية أو سورية أو رومية، أقمنا في مصر وطنًا لنا وعقدنا معها عقد صدق ترزقنا من خيرها ونقوم على مصالحها ونفدي شرفها بأرواحنا، فما النَّزَرُ اليسير الذي لا يزال يحب الانتساب إلى قوم غير المصريين أو إلى وطن غير مصر إلا ناكث عهده ومُتَاجِرٌ بشرفه، إذ من القواعد الأولية للعيشة الإنسانية أن «الغُرْمَ بِالْغُنْمِ» فالذي يعيش في مصر يجب أن يدفع ثمن هذه العيشة الراضية مَحَبَّةً لها وحنانًا عليها، وأقل أقدار المحبة عدم عقوقها والانتساب إلى غيرها.

أرأيت أنَّه يَحِلُّ للمرء أن يقطع نسبه لعائلته إذا وقعت في الضعف أو في الفقر ثُمَّ هو بعد ذلك يعتبر نفسه رجلًا شريفًا؟ وما قوم الرجل إلا عائلته الكبرى؟! أليس إقرار المصري بانتسابه إلى العربية أو التركية، لا يدل إلا على أنَّه يحتقر وطنه وقومه وما الذي يحتقر قومه إلا مُحْتَقِرٌ لنفسه.

على أنَّ الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارًا، فإنَّ مصر بلد طيب قد ولد التمدن مرتين وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفُل له الرقي متى كرم أهلوه وكرمت عليهم نفوسهم وكبرت أطماعهم فاستردُّوا شرفه وسَمَوْا به إلى مجد آبائهم الأولين.

قوميتنا أولها أن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب إلى وطن غيره ونخصه وحده بكل خيرنا وكل منافعنا ونحيطه وحده بكل غيرتنا، فما هو أصغر من أن يُصبح من أعلى الممالك ولا أجدب من أن يصير من أغنى البقاع، فالذي يُفَرِّطُ في شرف مصر ويقول في المجالس: إنَّه منتسب إلى غيرها، يؤخر بمقدار مركزه في الجمعية المصرية سير التقدم المصري المطلوب ويكون بذلك جانيًا على بلاده جانيًا على نفسه.

وإنَّه لَيَسُرُّنَا أنَّ هذا الفهم قد أصبح عامًّا في الأمة بعد أن اعتقد الناس أنَّ رُقِيَّ مصر لا يجيئها من الخارج بل هو نتيجة عمل أبنائها وأنَّ الاتكال على غير المصريين في حل المسألة المصرية لمصلحة مصر ضَرْبٌ من العبث، وليس العمل على هذه النظرية جديدًا في مصر، فإنَّ محمد علي باشا الكبير كانت أقواله المأثورة وأعماله المشهورة تدل بجملتها على أنَّه يلحظ فيها تطبيق نظرية القومية المصرية، وجرى على سننه خلفاؤه الأمراء وكثير من ذوات مصر وأعيانها وأخذ الجيل الجديد الحاضر يفضل البضاعة المصرية على غيرها بقدر الإمكان ويرغب في تمصير المدنية الأوروبية على قدر الإمكان، ويُؤْثِرُ منفعة المصريين جهد المستطيع، كل ذلك يبشر بأنَّ القومية المصرية ستستأثر في عهد قريب بقلوب المصريين، ولا يكون منهم إلا من يرى من الشرف العظيم الانتساب إلى هذا الوطن المحبوب.

١  الجريدة في ٩ من يناير سنة ١٩١٣ العدد ١٧٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤