ربيع الحياة١

رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون، إمَّا في أكمامها وآثار الصحة بادية عليها، وإمّا زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بين بين، لا هنَّ سوافر خالعات العذار، ولا هنَّ متخذات ستورًا من الأكمام والأفنان، أسفرن فكلهن قرة للعين، ولذة للشم، ومبعث لحركات العواطف، لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور، ولكنَّها في الواقع جميلة، كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمها، وبين آيات الحب، جلت حكمة الله أن تتناولها عقولنا، ولكن الاستقراء دل على أنَّ هذا النوع الإنساني منذ نشأ إلى اليوم، يتعشق الزهر ولا يطيب له مجلس لهو إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثورًا ومنظومًا، صحبًا أو أشتاتًا، بل كلنا يَوَدُّ أن يكون له بستان من زهر، ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية، ومن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيرًا أن يقيم وقت أنسه على قرب من زهر الفول، ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية للفخار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره، بل أصبح من القضايا البديهية أنَّ الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به، وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسبًا ثابتًا بين الزهر وبين الأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب.

لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيف بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة التدليل، ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أنَّ الزهر من دواعي التقريب بين القلوب وبين عوامل الائتلاف بين الجنسين، وقد كان دائمًا مفتاحًا تستفتح به هدايا الوداد، بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه، وهو الحب.

وإذا كان الزهر من دواعي الحب، وكان الحب داعية حفظ النوع، وكان الربيع خير الفصول في وفرة زهره وجماله، فهل يُستطاع الأمل بأنَّ هذا الربيع يدعو الغلاة المماطلين من أبنائنا وبناتنا إلى فك (الاعتصاب) الذي لزمهم أو لزموه هذه السنين الأخيرة على أكبر واجب حيوي! فينزل كل منهم عن المثل الأعلى في خياله إلى ما دونه من الأمثلة، ولا يتشدد في التمسك بالاعتبارات الإضافية كفقر الزوج أو مركز أبيها في الحكومة … إلخ، وأن يتساهلوا بعض الشيء ولو في بعض الشروط المعقولة عندهم غير المقبولة عندنا نحن الآباء، لا بحجة العقل ولا الدين، ولكن بحكم العادة الطويلة.

هل يستطاع الأمل بأنَّ هؤلاء المماطلين المتعصبين يخففون عنا كابوس الخوف من قلة النسل في الفرقة المتعلمة من الطبقة الوسطى؟ إنَّهم لو ذاقوا تلك السعاة الزوجية وشملهم سلام العيشة العائلية وشعروا بلذة عواطف الأبوة، لما احتاجوا إلى إلحافنا في المسألة، ولندموا على ما ضيعوا من ربيع الحياة.

١  الجريدة في ١٥ من أبريل سنة ١٩١٣ العدد ١٨٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤