كعب بن الأشرف وعصماء

سيقولون: كان كعب شاعرًا، وكان فتًى جميلًا، وكان محكم النظم حتى إن قدامة الناقد الكبير يستشهد بشعره، وكان عرسًا حديث العهد بالزفاف، وكان سيد قومه بني النضير، وبنو النضير لم يتعرضوا للمسلمين في وقعة قينقاع، ولكن الذين يقولون نسوا أن لكعب بن الأشرف لسانًا وفصاحةً وقدرةً على الهجاء تعدل سلاح قبيلة، وأن المسلمين كانوا أحوج إلى الدعاية لأنفسهم، لا أن يُحرَّض عليهم ويُحطَّ من قدرهم، ولكن النبي كان حليمًا إلى أقصى فسحات الحلم وصابرًا إلى أبعد حدود الصبر، وصافحًا إلى أعلى ذروة الصفح التي لا يعلوها إلا صفح الله وعفوه، فلما تقدم محمد بن مسلمة إلى الرسول في قتل كعب بن الأشرف بعد عصماء الفاجرة التي قتلها الأعمى، لم تكن مؤامرة ولا اغتيالًا ولكن عملًا من أعمال الدولة يقتضي الكتمان والسرعة، ولم يكتفِ الرسول بأمره وهو ولي الأمر ولا برأيه وهو صاحب الرأي ولا بحقه وهو صاحب الحق، وقال لمحمد بن مسلمة الذي كان قبل إسلامه شاعرًا وخبيرًا بأخلاق اليهود؛ لأنه ولد ومات بالمدينة ولم يستوطن غيرها ولم يخرج منها إلا للغزوات والمشاهد، واستخلفه النبي عليها أحيانًا، وكان رجلًا أسمرَ شديد السمرة طويلًا أصلعَ ذا أسرة كبيرة، وكان أمينًا على المال بعيدًا عن الفتن، وكان عند عزمه على قتل كعب بن الأشرف في الثلاثين من عمره فخاف الرسول أن يكون عجولًا، فأمره أن يشاور سعد بن معاذ وهو الأنصاري العظيم المحالف لليهود والواقف على حقيقة أمرهم.

نعم؛ إن كتاب العرب يظنون أن محمد بن مسلمة استدرج كعبًا؛ ليرهن عنده سلاحًا مقابل أقوات من التمر وغيره، ولكن ظني أن اليهود لم يألفوا أن يعقدوا صفقاتهم تحت جنح الظلام وما هم بالذين يدفعون البضاعة ويقبضون الرهان في سواد الليل والناس نيام خشية أن يُخدعوا، وما كعب بالذي يترك حضن امرأته الدافئ وصدرها الخافق وحرارة أنفاسها المترددة وذراعها الذي توسده تضمهما ملحفة واحدة؛ ليربح دراهم معدودة، وإن أفقر مرتزقة اليهود في حاراتهم لا يترك فراشه نصف الليل في الخريف؛ ليربح عشرة دنانير، فما بالك بهذا الشاعر الرقيق والفتى الأنيق والسيد الخطير في بني النضير؟!

الغالب على ظني أن فرقة الخلاص من كعب التي قادها محمد بن مسلمة خدعته وأوهمته أنها تنوي اغتيال النبي، وهذا أحب شيء إلى كعب، وهو الطعم الوحيد الذي يخرج هذا الثعبان من وكره في أي وقت من أوقات الليل أو النهار؛ لأن هواه في قتل محمد أقوى وأعظم وأعصف من هواه في حب عروسه، وشغفه بإهراق دماء النبي، أشد من شغفه بوصل زوجته، واحتراق قلبه على عصماء التي قتلها المسلمون، وأبي عفك زميله ورفيقه، جعلته يعمى عن الحذر ويغفل عن الدسيسة ويستسلم لكلِّ من يلوح له بشبح من أشباح الآمال في الانتقام من الرسول، وإلا كيف نفسر قوله لزوجته وهي تتشبث بملحفته لتعوقه وتنشب أظفارها المخضوبة بالحمرة في غلالته وبطانة قبائه وهي بعدُ لم تشف غلتها من حبه ولم يقضيا أسبوعًا من شهر العسل، يقول لها: لو دعي الفتى لطعنة أجاب، أي طعنة؟ يأخذها الفتى، أم يعطيها؟!

ولذا كانت فاتحة المؤامرة على النبي، أن قال أحدهم لكعب: «إن قدوم هذا الرجل كان علينا من البلاء! حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، ونحن نريد التنحي منه، ومعي رجال من قومي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعامًا وتمرًا.»

من هذا القول إلى مشاركة كعب إياهم خطوة واحدة؛ ها هم رجال من العرب مسلمون حتمًا ضاقوا ذرعًا «بهذا الرجل» الذي يبغضه، وقد جاءوا جائعين لتقرضهم تمرًا، منكوبين بالنبي الذي جلب عليهم البلاء كله، ألا تأخذ بيدهم وتنصرهم أنت الذي سار شعرك في الآفاق بهجائه والتحريض على قتله؟

إنها مكيدة محبوكة الأطراف وضع خطتها محمد بن مسلمة ومن معه؛ ليحصروا القتل في كعب وحده، فواعدهم كعب على مصاحبتهم ليلة اعتزموا اغتيال النبي، أليس التمر والقوت عربون الاشتراك في العمل؟

وهذا وحده الذي أقام شاعر السوء من فراشه وأخلى ذراعي زوجته من صدره وظهره وعنقه!

فحدثتها غريزة الأنوثة أن هذه الرأس لن تبقى طويلًا على هذين المنكبين، وأن عينيها لن تقع بعد الساعة على أنفه الأقنى ولِمَّته السوداء الكثة وشاربيه المتهدلين على شفتيه الغليظتين؛ فقد كان كعب نصفًا من شيلوخ ونصفًا من عمانوئيل؛ يتملك الفن والأدب، والوطن نصفه، والنصف الآخر للربا والشهوة والقتل والطمع، ولذا رأت زوجته في وجهه التناقض فأحبت بعضه وأُعجبت ببعضه الآخر، وهي عما قليل تفقد الأديب والتاجر والعاشق المتآمر.

•••

نترك كعب بن الأشرف يتخبط في دمه ويصرخ صرخةً تكفي لإيقاظ أمة في قبرها، لا لفجيعة عروسه وحدها، وقد تعود هؤلاء الشرار أن يصرخوا عند الموت صرخات تقلق الجن في مغاورها؛ لشدة تعلقهم بالحياة، وعدم إيمانهم بالبعث والثواب والعقاب، ولننظر فيمَ كان يقضي الرسول أيامه فيه بالمدينة التي حامت حولها ملائكة الرحمة والرخاء والنعمة بعد العسر والشدة.

وفيمَ كان يقضي لياليه في تلك السنة الثالثة للهجرة.

فإذا هو في المدينة يحكم ويفصل بين الناس بالعدل، ويشجع القوم على العمل ويعدهم بالجزاء الأوفى، ويعفو عمن أذنب، ويولي النصح من هم في حاجة إليه، ويتلقى الوحي من السماء ويبلغه بأمانة إلى أهل الأرض، ويوفد أخِصَّاء من النجباء في تقصي أخبار القبائل المجاورة، إلى مكة فتأتيه الأنباء تترى لا تفوته مما يقع بين جدرانها صغيرة ولا كبيرة، وها هو يصل إلى علمه بعد بدر بخمسة أشهر أن أبا سفيان قد حرم الدهن والعطر على نفسه وحرمت هند نفسها «على النمارق» حتى يثأر من محمد وأصحابه؛ لقد قُتل لهند ثلاثة أو أربعة من أقاربها، ففيمَ فكرت تلك الفاجرة (رضي الله عنها؛ لأنها أسلمت فيما بعد وإنما فجرها ينصب على فترة وثنيتها)؟! لقد فكرت في نبش قبر أم النبي في أبواء، وهددت زوجها أبا سفيان بأن تفارقه ولا ترقد على النمارق إن لم يمكِّنها من ذلك، وكان رجلًا متزنًا حسَّابًا للعواقب؛ فقال لها: لو فعلنا لقابلونا بالمثل ونبشوا قبور أجدادنا وآبائنا! ففترت حدَّتها وهدأت نارها، ولكنها لم تلبث أن دفعت بأبي سفيان من «أعلى النمارق.» ودحرته، فجرى إلى آخر جدار في غرفة رقادهما، وحرضته على قتال محمد فقام يتعثر في أذياله ويتجسس صلعته وسعة بطنه حتى كان الصباح فخرج في مائتي راكب فسلكوا طريق النجدية حتى طرقوا حيي بن أخطب؛ ليستخبروه من أخبار الرسول فأبى أن يفتح لهم، وقد كانت هذه يدًا لبني النضير حفظها لهم النبي، فلم يهرق في الحرب نقطة من دمهم، واتخذ من ابنة زعيمهم زوجة رفعها الله إلى مقام أمهات المؤمنين، وهي صفية النضيرية التي كانت تحلم أحلامًا تدنيها من فراش الرسول ومكانة زوجاته كعادة الصالحين من بني إسرائيل، وكأحلام يوسف الصديق قبل أن يجعله فرعون على خزائن الأرض، لقد كان حيي بن أخطب رجلًا شهمًا لولا أن أفسدت ضميره أشعار عصماء وكعب بن الأشرف وذبذبة قريظة ونفاقها، ولو أنه بقي على خطة الولاء والوفاء للصحيفة إذن لبقي في وطنه وآطامه؛ ولو بقي على ملة آبائه وأجداده.

فعاد أبو سفيان من باب حيي بن أخطب بالخيبة، وقصد إلى يهودي آخر؛ وهو سلام بن مشكم، ففتح لهم وسقاهم خمرًا وقراهم، ويظهر أن أبا سفيان لم يحلف على الخمر فيما حلف عليه؛ فقد حلف على العطور وحلفت هند على النمارق، أما الطعام الجيد والنبيذ العتيق فلم يحلف أبو معاوية عليهما، فلما تزوَّد منهما ومن أخبار اليهودي عن الرسول خرج ليلًا مثقل الرأس والبطن بالخمر واللحم إلى أن وافى مكانًا على ثلاثة أميال من المدينة فعربد وقتل فلاحًا وأجيرًا وحرق كوخًا وتبنًا ثم ولَّى هاربًا، وأفتى لنفسه أن يمينه قد حلت وأصبح حلالًا له أن يتعطر ويتدهن بالعطور والأدهان وأن يأمن أن تدحرجه هند مرة أخرى من أعلى النمارق، فلما خرج المسلمون؛ ليقتفوا أثر أبي سفيان الذي نزل إلى حضيض قُطَّاع الطريق، والحريق العمد وقتل الرعاة العزل من السلاح، كان الرجل قد لاذ بالفرار، وهو خير من يطوي البيداء طيًّا محكمًا، فهو قائد عير حاذق ودليل طرق ومسالك، وأخذ يخف حمله كالمنطاد المنفوخ، يلقي بأكياس الرمل؛ ليرتفع في الجو، ولا بد أن مونجو لفييه الذي أطار في سنة ١٧٨٠ منطادًا فلما تلكأ ألقى عنه بعض ما حمله من رمال؛ ليخف ويعلو قد تلقت روحه عن روح أبي سفيان هذه الطريقة؛ فقد جعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون جِرَبَ (جمع جراب) السويق عن ظهور ركائبهم وهي عامة أزوادهم، والسويق: أي نوع من الحبوب المدشوشة تكون أقوات المحاربين في الوقائع، فجعل المسلمون يأخذونها ولم يلحقوهم، فعاد أبو سفيان إلى مكة بخفي أبي جهل وعتبة، وعاد المسلمون بجراب أبي سفيان، وقد سميت هذه النزهة الحربية غزوة السويق.

ورأى الرسول رُعاء فيهم غلام يقال له يسار، فاستظرفه النبي فسأله عن الناس فأجاب: «لا علم لي بهم، إنما أورد لخمس وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتفعوا إلى المياه ونحن عزاب في النعم.» فأعجب الرسول بالراعي الصغير ولا بد أنه تذكر أيام رعيه الغنم، ولم تطاوعه نفسه على أن يترك الصبي المليح الفصيح فأخذه وأعتقه؛ لأنه رآه يصلي ويحسن الصلاة، ثم إن الرسول بعث يسارًا في لقاح في الحرة فأقام بها، وهي في ضواحي المدينة، وكانت طائفة من عرينة (اسم قبيلة) أظهرت الإسلام ووردوا المدينة وشكوا أمراضهم إلى النبي وقد انتفخت بطونهم بداء الاستسقاء وورم المعى وامتلأت أجوافهم بالهواء واصفرت وجوههم وكدرت ألوانهم، فأشفق النبي عليهم وأرسلهم إلى يسار وهو يرعى إبل النبي وغنمه وأمره أن يعالجهم باللبن، فكانوا يشربون ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم وهبط انتفاخها، فكان أول ما فعلوا أن قتلوا الراعي المليح الفصيح الذي عالجهم حتى شفوا وسملوا عينيه، وارتدُّوا وفروا.

وحُمل يسار ميتًا إلى قباء فدفن هناك.

وهكذا يصح أن يُضم اسم يسار إلى اسم سنمار، فنكران الجميل هنا أظهر فيقال «كما يجزى يسار.» أو يقال «أجحد من عرينة أو أخبث من عرينة أو أكفر من عرينة.»

•••

كان الرسول في المدينة أبعد الناس رغبةً عن خيرات الدنيا، إلا ما كان منها لخير المسلمين، وكان أشدهم ميلًا إلى التعفف، والحرص على أن لا يعرف الفقر عن أحد من المهاجرين والأنصار، وإن كان فقرهم لا شك فيه، ولم يكن أحد يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضا من سريرته إلا من يطمئنه على الحاضر ويبشره بالمستقبل، ما لم يكن هذا الأريب المتحدث منافقًا من طراز ابن سلول أو أحد اليهود الذين نصبوا له وللمسلمين حبائل مكايدهم وأضمروا لهم الانتقام كلما سنحت فرصته أو هبت ريحه، فهؤلاء إن مدحه أحدهم ساءه مدحهم.

وكان للنبي شعراء يلوذون به وينشدون أشعارهم في مسجده، وقد يجلس أحدهم على منبره؛ فإن «بانت سعاد» قد أُنشدت من على أعواده، وتصدى حسان بن ثابت للنيل من كلِّ من تجرأ على مقامه، فكان الرسول يشير إليه بالكف عن المديح والثناء فيقول له حسان: إنَّا نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبت من فضلك، فإنما يعيبنا ولا يعيبك أن نقصر في هذا أو نتمادى في نسيانه، وها هم الغرباء يمدحونك، ويضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباء ونحن سكوت! وحقيقة كانت الوفود ترد في كل وقت تقول الشعر وتلقي الخطب وتحمل الهدايا. لقد مدح الناس من ملل الأرض أنبياءهم وحكماءهم، فلا بد أن يُمدح هذا النبي ويشاد بمناقبه وسجاياه، وكأنما يطلق ألسنتَهم إصغاء الرسول وارتياحه وحياؤه، يقول حسان: «الغرباء»، وهو في الحق غريب منهم بالنسبة للنبي؛ لأنه كان من الأوس، فإذا انتسب فهو مدني أنصاري، وليس قرشيًّا ولا مهاجرًا.

ولكن حببه إلى الرسول إخلاصه وشعره وإن يكن جبانًا أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، حتى إنه ليفزع من خياله ويجزع من جثة يهودي قتيل قضت عليه صفية عمة الرسول بضربة واحدة من عمود. كان محمد يحب الصراحة والفكاهة، فلما سمع بهذه القصة أضمر أن يفاتح فيها ابن ثابت؛ ليرويها بنفسه فيضحك محمد ويتفتح للسمر البريء، ويجري مع أصحابه في مجراهم؛ لأنه وإن زهد في المجد والسلطان وإن اختار العزلة والفاقة، فلا عن صغر في النفس أو قناعة بحظ متواضع، وإنما استخفافًا بعرض الدنيا وتحديدًا لقدرها وقيمتها في نظر الله، وحرصًا على أن لا يُفتن به الناس إن جمع بين رسالة الله وسيادة الدنيا؛ فقد أتيح له أن يصبح مليكًا في مكة وأتيح له أن يعطل تتويج ابن سلول في المدينة، وها هو سيدها فعلًا لا قولًا، وعملًا لا خيالًا، ولكنه أصبح باختياره زاهدًا متبتلًا يعرض عن الدنيا وينثر المال بمئات الألوف في المسجد يعطي منه من يشاء، يكف عنها ويتركها تسيل بين كفيه نضارًا، ولعله حين يعطي لا يمس المال ولا ينظر إليه، وتراه يجعل خيرة رجاله على الزكاة والصدقات وإدارة الحرب، ولا يجعل لنفسه نصيبًا إلا فيما يغنمه غازيًا ومجاهدًا، وإنك ترى بعض نوابغ الصحابة وإن صغرت سنهم يجلسون إليه يطيلون النظر ويحسنون السماع؛ ليشرق شعاع من حقيقة الرسول على أذهانهم:

يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا

وإنهم في ظاهر الأمور ليفرحون؛ إذ لا تخفى عليهم خافية من خواطره ولا تغيب عنهم خالجة من خوالج طبعه؛ فقد بلغت نفسه صفاء الجوهر الفرد ونقاء أشعة الشمس، فليس فيه غموض ولا ألغاز ولا سر مستور يدعو إلى الحيرة، إنه لمناضل لا يكلُّ ومغامر شجاع لا يحب الجلوس، وإن نفس الزاهد منه لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكم الله، ثم حكم العقل، ثم مشورة أصحابه كما فعل في بدر، ويأنف أن يموت قبل أن يتم أمره، ولكنه لا يحتاط لنفسه، ألا تراه ينام تحت الشجرة أعزلَ لا سلاح بيده ولا مشرفيًّا يضاجعه وهو ينتظر جفاف ثوبه فيهاجمه عدوه ويشهر سيفه ليقتله، وهو آمال أمم لا أمة، ورجاء دول لا دولة، وهناء شعوب لا شعب؟! ولكن شجاعته كانت فوق حرصه على الحياة، واتكاله على الله أقوى من رغبته في إتمام رسالته وخجله من أن يصطحب أحدًا وهو يتمشى حول المعسكر أكبر من أن يدركه عدو كامن لينال منه في غفلة من حرسه، ولكن الله كان يعصمه من الناس على الرغم منه، ويقيه شرور أعدائه في المدينة.

وكم عدو للرسول! إنهم لا يحصيهم العد؛ فقد كان محسودًا من كل جانب، ومعادى من أكثر النواحي، وإن عددت أعداءه لا تحصيهم.

ففي مكة أعين لا تغمض وأنفس لا تنام، كانت قبل بدر تحرض على قتله، وهي بعد بدر تريد النساء منهم أن ينبشوا قبر أمه، وفي القبائل المجاورة شيوخ وفتيان نفسوا على المسلمين أنهم حرموهم أموال قريش التي كانوا ينقدونها أجرًا على تأمين الطريق وثمنًا للتجسس، ففكر أبو سفيان في سلوك خطط أخرى عن سكة العراق، وذلك في الشهر الرابع من السنة الثالثة للهجرة، فخرج بالعير على ذات عرق طريق العراق، فوجه الرسول زيد بن حارثة على جيش، فأصاب مائة ألف درهم وآنية من فضة وكان عليها صفوان بن أمية، وهذه عداوات جديدة يحصدها النبي؛ لأن القبائل على طريق الشام وساحل البحر الأحمر غدًا تجوع وتوحش فتوجه همها وغيظها إلى صاحب المدينة الذي لا يكفيه إلا أن تدخل في ملته ولا يقنعه إلا أن يقلعوا عن الشرك والإجرام.

أما في المدينة فالأنون، فهنا اليهود والمنافقون يُحصون على المسلمين فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، ويضمرون العداء، وكثيرًا ما يظهرون ما يبطنون بالأقوال والأفعال ويحثون شعراءهم على قتله، وإذا سنحت لهم فرصة التآمر على اغتياله فلا يتأخرون، وأما المنافقون؛ فقد رأينا بعض أساليبهم في مسالك ابن سلول الملتوية؛ فهو يظهر المزاح ويبالغ في توكيد «القسم»؛ ليرغم الرسول على العفو عن بني قينقاع، ثم يتهجم عليه في بيته يريد الدخول بغير استئذان! كأن بيت الرسول حمى مباح لأعدائه! فيلقى من يشفي غليلًا بشج وجهه الصفيق.

وكان النبي صبورًا على هذا وذاك؛ فقد وقر في نفسه أن الناس ليسوا أهل ورع أصلًا أو أصحاب كرم وتقوى ولم يكونوها في غابر الأزمان، وأن الأديان قد اتخذت نظرية سوء الظن بالإنسان؛ لأن الله يعلم فطرتهم وهو الذي خلقهم، هل كان الناس في غابر أزمانهم وسالف عصورهم وأوانهم أهل خير وبر ونجدة وشرف ومروءة ثم عدت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؟ فإن كان كذلك فهناك أمل في عودتهم إلى ما كانوا عليه، ومن قال إنهم اليوم جاهلون، وغدًا يعلمون، وإنهم على عوج وغدًا يستقيمون، فذلك خليق بتبديل الرأي فيهم عصرًا بعد عصر وأمةً بعد أمة.

ولكن الرسول قد بلاهم فعلم أنهم هكذا كانوا منذ كانوا، وأخبار الأمم القديمة في الكتب المنزلة التي بين يديه وخاتمتها القرآن حافلة بأحوال الأمم، نعم قال المسيح يومًا: «اللهم اغفر لهم؛ فإنهم يجهلون ما يفعلون.» ولكنهم يفعلونه سواء أجهلوه أم لم يجهلوه، وإنك لتسأل نفسك: لم جهلوا الخير وعلموا الشر، وعدلوا عن الأول وانغمسوا في الأخير؟ ثم إن النبي رجا صلاحهم واستأنف الرجاء، وإنك لتعجب من أمره معهم على شدة علمه بهم، وما يوم ثقيف ببعيد، وما يوم هجرته ببعيد، وما يوم المقاطعة والنفي إلى شعاب أبي طالب ببعيد، وما يوم دخوله بلده مستجيرًا بمشرك ببعيد، وما يوم الاعتداء على بنته زينب واعتداء النضر وعقبة عليه في الكعبة والمسجد وفي غيرهما ببعيد، ولكنه أحسن عندما أيقن بفساد بيئته الأولى وقطع حبل الأمل فيها بالفرار منها بدينه وحياته وأصحابه وبعض أهله.

ولكن الرسول إذا تذكر تلك كلها واستبقاها في نفسه فهيهات أن ينجح في رسالة، فإن بعضها من قاصمات الظهور وفي تواردها على الخاطر مما تضيق له الصدور، فلا بد أن يصر وأن يصفح وأن ينسى.

لقد أنقذ الله محمدًا بخلقه وشيمة السمت والوقار وأدب البيئة وأصول اللياقة، والقرآن والحديث وسيرته الشخصية ومناقبه حافلة بمظاهر هذه الشيمة، كان يبغض اللفظ النابي والحركة الطائشة ويكره الغضب وينهى عنه ويؤنب الثقلاء ويعرض عن السفهاء حتى يحسوا سفاهتهم، وهذه الشيمة وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، ولعل الدين وحده لا يكفي إلى الإصلاح إن لم يصحبه وازع السمت والوقار والاعتداد برأي الناس، وكان الرسول المثل الأعلى والقدوة البالغة بسلطان البيئة وأدب العرف والتقاليد.

وكانت بيئة المدينة تختلف عن بيئة مكة اختلافًا كبيرًا؛ فالمدينة تكاد تكون على الفطرة لولا الدخلاء من اليهود، وما زال أهلها في طور الزراعة وليس لهم معبد وثني أو غير وثني سوى معبد اليهود لليهود، أما مكة فمدينة تاجرة وبيئة فاجرة تعرف الحق وتحيد عنه وترى الصدق وتسمعه وتقاومه وتسخر منه وتهزأ به وتقذف به في وجه صاحبه، وقد وصلوا في التهتك درك الخلاعة؛ وهي غاية السقوط عند العرب، ففيها ولا سيما في أشرافها المعاصرين للرسول، كل عاصٍ وكل جارم وكل آثم، وسواء أفسدهم طول الزمن أو كثرة المال أو قدوم المسافرين في المواسم أو تعودهم الارتحال وكسب الاختبار في بلاد غير بلادهم وتهاونهم في الأخلاق بحكم هذه الخلال مجتمعة أو متفرقة؛ فقد صح للعاقل الحكيم أن ينفض يديه منهم، وما أقام محمد فيها ثلاث عشرة سنة بعد البعثة إلا مضطرًّا بأمر الله، وقد عرض على فكره بالوحي والذكاء وحسن الاستعداد كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل إلا ما ارتضاه الله وما ارتضاه العقل الراجح والذوق السليم وأدب النفس.

وإنه الذي جمله بالوقار ليحسب الوقار نعمة لا تدانيها نعمة وجمالًا للرجال لا يدانيه جمال؛ كالعفة في المرأة، وإنه لأشد تحرجًا من كثيرين، وإنه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، أما مسألة تعدد زوجاته حتى بلغن اثنتي عشرة زوجة مات عن تسع منهن، التي أثارت عند صغار الأحلام من الباحثين ريبة فدوَّنوها تحت عنوان: «محمد يشرع للناس ويستثني نفسه»، فقد فصلناها تفصيلًا وافيًا في كلامنا على بيت الرسول وحياته الزوجية؛ فلا نعود إليها، وأما من زعم أن عائشة كانت عند زفافها إليه أصغر سنًّا من أن يعقد عليها، فلا يقوله إلا جاهل بأدب البيئة، ولو كان في الأمر ما يخالف السمت والوقار ما فعله، دع عنك أنه زوج بنتيه رقية وأم كلثوم على التعاقب لعثمان بن عفان وتقدم كلٌّ من أبي بكر وعمر في فاطمة بنته وكانت في حدود المراهقة، وعقد لنفسه على حفصة بنت عمر وهي صغيرة، فهذه كانت تقاليد البيئة وعرف البلاد، فلا غبار عليه، وقد أنتجت زيجته بعائشة أنفع النتائج للتاريخ والدين وسياسة الدولة، وعقد آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر على ماري أنتوانيت وهي في الرابعة عشرة في سنة ١٧٧٤؛ وهي سن لا تتزوج فيها البنات ولا سيما بنات الملوك، ولكن آداب اللياقة والعرف في أواخر القرن الثامن عشر المسيحي كانت تبيحه، وكذلك زواج محمد من عائشة كانت تبيحه آداب اللياقة والعرف والسمت والوقار.

نشأ محمد فقيرًا، هذا أمر لا ريب فيه، وتركته من أبيه معروفة للجميع، ولكن أباه مات في الشباب، ولم يرث شيئًا عن أبيه عبد المطلب.

فلما احتضنه جده، وجد نفسه في بيئة الوجاهة والصلاح والغنى وإن لم يكن عبد المطلب زعيم قريش، فهو من زعمائها وهو حافر زمزم بعد طمرها، ومن أولاده العباس السري، وكان بنو هاشم وبنو عبد المطلب يتوارثون الجاه والصلاح ويعيشون بين الناس كما يعيش أهل الجاه والشرف والسيادة والمناصب العامة، أي على شعائر المروءة والتعفف والأنفة من غشيان مواقع الشبهات، وعلى الهيبة التي لا غنى عنها لمن يسوسون الرعية باسم الآلهة واسم القبيلة والمدينة، يفهمون أن العرض قوام الشرف والعزة، وأن الابتذال هو الهوان الذي ما وراءه هوان، وأن الرجل الذي يجترئ عليه المجترئ بمذمة أو سخرية هو حمى مستباح، وأن من لا عرض له لا حياء له، ومن لا حياء له لا حياة له ولا خير فيه، والعرض جماع المكرمات، لا ينصب على حرمة النسوة كمدلول لفظه الآن، ولكن النبي صبر على الأذى والمذمة والسخرية في مكة وفي المدينة، صبر عامين طويلين إلى أن شعر أن السكوت يؤخذ حجة عليه ويُخرج صحابته ورعيته عن السمت والوقار، فعاقب الشعراء الثلاثة بما استحقوا، وقتل النضر وعقبة والجمحي بحكم القانون، لا انتقامًا لنفسه ولكن حرصًا على كرامة الأمة التي يربيها ويعدها لحضارة من أعظم الحضارات إن لم تكن أعظمها، فإن محمدًا كان خاليًا من الكبرياء، ولكنه ملآن بعزة نفسه؛ لأنها من عزة الله، ولذا لم يفكر في ملك ولا تاج ولا عرش ولا صولجان، وكانت هذه المظاهر المادية معروفة، حتى السخيف ابن سلول كان يؤمل أن يكون ملك المدينة، لم يفكر محمد في شيء من هذا، ولم يفكر أحد من صحابته أن يعرض الرأي عليه؛ لأنه يعلم ما يلقاه به، ولم يتخذه أحد منهم لنفسه إلى أن بلغ سوء طالع الإسلام إلى معاوية، وكان أبوه يوم إسلامه ورؤيته جيش النبي يدخل مكة يقول للعباس بن عبد المطلب: «لقد صار ملك ابن أخيك كبيرًا.» فقال له: إنها النبوة يا أبا سفيان. فقال: «لقد صار ملك ابن أخيك كبيرًا.» وقد ورثها عنه ولده معاوية ووعاها حتى صار ملكًا بالفعل؛ ولكن الرسول والخلفاء الراشدين أبرياء من هذا النظام١ بعد آيات القرآن الواردة في نعته وذمه.

ومن شيمة الوقار ووجاهة الأهل وشرف البيئة وسمو النفس التي توجها الله بالرسالة، نشأت في نفسه خصلة النسك والزهد في الحياة، ولكنه زهد الأنبياء لا يأبى من نعيم الدنيا ما فيه نظافة البدن والزينة المباحة والصدوف عن اللذات والشهوات، وإلا فكيف يجتمع الزهد في أطايب الطعام والشراب إلى اللذات والشهوات، ومن دأب الزهد والقناعة أن يضعفا البدن إلى حد ما، وما كان محمد ولا أحد من أصحاب محمد — ما عدا معاوية — أبيقوريين، وها نحن قد رأيناه يفحم الحبر السمين ويدله على آية التوراة التي تنص على كراهية الله للحبر السمين؛ لأنه لا يجوز للأحبار أن يسمنوا على حساب الدين:

ويعجبني فعل الذين ترهبوا
سوى أكلهم كدَّ النفوس الشحائح

ويزيدك إعجابًا بأخلاق الرسول ووقاره وعفته وزهده أنه نشأ في البلد الحرام، الذي تحلل معظم أهله عن الفضائل، وفي عصر فتنة واضطراب وجزع على الأنفس والأموال، والدليل على ذلك بعثته هو نفسه لمحاربة البيئة، ومن بقايا هذه الحال وجود رجال كعمر بن أبي ربيعة الخليع الذي ما زال يشبب بالنساء حتى في المطاف وفي منى، فهذا عصر شاع فيه الفساد وندرت العصمة وكثر فيه اغتنام الفرص والتهافت على اللذات ولا سيما في الحجاز، وهو ملتقى الطرق بين حضارة الروم وحضارة الفرس، وحياة مكة والطائف وكلها حضارات آخذة في الزوال، ولم تستبق من المناعة والتماسك ما يزجر النفوس ويعصم الأخلاق ويحيي شرائع الآداب، حتى مبادئ الأخلاق كالوفاء لم يمكنوا منها رجلًا كالسموأل بن غريض بن عادياء، أراد أن يفي لامرئ القيس في أمانته ووديعته، فذبحوا ابنه بمرأى منه؛ عقابًا على المروءة!

فقال أبياته المشهورة:

وفيتُ بأدرع الكندي إني
إذا ما ذُمَّ أقوامٌ وفيتُ

وقد أعان الرسول على بعثته وسيره قدمًا لا يحيد، أنه كان أميًّا فاختار له الله سواء السبيل، ولو كان محمد متعلمًا مثقفًا على ما كان يزعمه المستشرقون وادعاه معاصروه من اليهود والنصارى لما أمكنه أن يختار لنفسه هذه السبيل، لا لما فيها من الوعورة والصعوبة والأشواك ومرارة الفشل وسخرية الأعداء وتهكم السفهاء، بل لعل الحيرة والتردد أظهر وأقوى حين يختار الحكيم المثقف لنفسه، فينظر في مختلف الشئون قياسًا على كثرة ما يرى وكثرة ما يستوعب من المزايا والنقائض وكثرة ما يعلم للمسألة الواحدة من وجوه وأطوار، لقد كان زوجًا لخديجة باختيارها وموافقة عمه وعمها، وكان زوجًا لزمعة وعائشة باختيار خاطبة، وهاجر إلى المدينة بأمر الله وورود الأنصار، وفي موقعة بدر دله الحباب بن المنذر على مكيدة الحرب، وفي الخندق رسم له سلمان الفارسي خطة الخندق، أما اختصاصه فكان في دعوته التي لا يفتر عنها وفي تبليغ رسالته التي بذل دونها حياته وراحته، وكانت حكمته تتجلى حين يختار لغيره، فيأمر وينهى وينصح ويبذل المال، ويجود بنفسه لأصحابه وفي نصرة الضعفاء ونصفة المظلومين، وبلغت نفسه أشدها في هذه السنوات الثلاث في المدينة، تراه سيدًا جليلًا ينظر بعين إلى السماء، وبالأخرى إلى الأرض، وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر وقضايا المصالح والحاجات، فيحلها ويحكم فيها ويرد الفروع إلى الأصول بلا ملل ولا ضجر، روى عاصم عن أبي وائل الأسدي قال: كنت في إبل لأهلي أرعاها فمر بي ركب فنفر إبلي، فقال رجل من القوم: أنفرتم عن الغلام إبله؟ ردوها عليه كما أنفرتموها. فردُّوها، فقلت لرجل منهم: من الذي قال: ردُّوا على الغلام إبله؟ قال: رسول الله (ص٣، ج٣، أسد الغابة).

كان في هذه السنوات الثلاث بالمدينة لا تغيب عنه أخبار مكة ولا تخفى فيها خافية، وكان يعرف أن الحرب آتية في الشهر التاسع والعشرين من الهجرة؛ فقد وقعت بدر في ٢٤ مارس سنة ٦٢٤ وتتلوها أحد في ١٦ مارس سنة ٦٢٥؛ فقد عجل أبو سفيان أسبوعًا؛ لتحرقه على الثأر، ولكن النبي لم يكن مشغولًا بمكة لاستقاء أخبارها وحسب، بل كان يشتاق إليها وإلى الكعبة ويحن إلى العود إليها:

بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها

وقد عرفها وما كاد يعرف غيرها إلى أوائل العقد الخامس من عمره مع أنه عافها؛ لما تجشم فيها من عناء، وما فوجئ فيها من سوء وما ذاق من مرارة العيش وما امتحن ببلواه، وإن كانت الدنيا بدأت تبتسم له ويفتر ثغرها عن ضحكات بعد طول العبوس، فهذه المدينة آخذة في النمو والعظمة، وها هم أهلها قد تركهم الشقاء والضيق وانصبت الأموال في خزائنها والمتاجر في مخازنها والإبل والنعم في مرابضها وحظائرها، وامتلأت بيوتها بالسلاح والميرة وحوانيتها بالأقوات، وساد السلام عليها، وحفظ النظام في ضواحيها، وأضاءت آطامها وقصورها، وأينعت أثمار بساتينها، واخضلت مزارعها، وجرت السيول في وديانها، واطمأنت النفوس إلى الشرع الجديد، وأخذت الأفراح تقام احتفالًا بالزواج في كثير من الأسر والبيوتات، وقد خفَّت وطأة اليهود بجلاء بني قينقاع، وكان يُظنُّ أن خروجهم يصيب اقتصاد المدينة بضربة قاسية كما يشيع اليهود عن أنفسهم في كل مكان، ولكن قد يصح إن سحبوا معهم أموالهم، أما في هذه المرة فقد جلوا وخلَّوا أموالهم مرغمين وإن أخفوا بعضها، فدخلت بيت مال المسلمين غنيمة هنيئة مريئة؛ فما اتخذوها إلا من لحم العرب ودمهم فرُدَّت إليهم، وخلوا بيوتهم وهي تزيد على مائتي بيت وفيها الآطام؛ فقد كانوا سبعماية رجل بين دارع وحاسر، عدا عن نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خرجوا يغذون أسطورة اليهودي التائه ويحتفظون بشعلة التيه المتقدة من عهد موسى إلى آخر الزمان! وخف عن كاهله حمل أسئلتهم وامتحانهم وهم لم يسألوا أحبارهم بل ولا أنبياءهم عن عشر معشار ما سألوه، كأن أنبياءهم وعلماءهم كانوا مدلجين في الظلام يحملون مصابيح على قدر ضيائهم، فيرون ما هنا ولا يرون ما هناك، فلا يسألونهم إلا عما يجوز علمه أو يجوز وجوده؛ حيث يراه المدلج، وحيث يقع عليه شعاع المصباح.

ولكنهم يتبعون هؤلاء العلماء والأنبياء (وإن قتلوا بعضهم أحيانًا كأشعيا) ويصدقونهم، أما الذين أبهظوا كاهله بالأسئلة وفَتَنَهُمْ بكل جواب فلا يتبعونه ويصدقونه، فلما كسرت الأيام شوكتهم وألجمتهم الحوادث وكفَّت عنه بعض شرهم تنفس الصعداء وأخذ يعد نفسه وقومه لما هو أعظم من جدلهم وثرثرتهم ولغوهم وزبدهم، فالوقت أثمن ما في الحياة، وهؤلاء اليهود لا قيمة للوقت عندهم؛ لأنهم لا غاية لهم ولا رسالة أمامهم يودون أداءها، إنما هم عابثون.

وقد علم الرسول وتأكد أن قصارى ما يملك المرء في هذه الدنيا عمر واحد يعلم فيه كل ما قدر له من العلم، ويعمل فيه كل ما وسعه من العمل، ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره، فإذا قضاه فتلك حصته من الزمن لا حصة له بعدها، وقد ضيع عليه أهل مكة ثلاث عشرة سنة، وجاء اليهود يضيعون العشر الباقية، كلا لن يمكِّنهم من ذلك ولو كان فيه هلاكهم.

عليه بعد بدر أن يوطد أركان الحكومة المدنية، وأن يجعل من يثرب نموذجًا لكل ما يؤسس بعدها من بلاد، ونظمها منهاجًا ومثالًا لما يتلوه من نظم، فلن تكون حكومة الإسلام جورًا ومظلمة ولا فتنةً ولا استبدادًا مكنونًا، ولن يقول أحد من ولاته وخلفائه: إنه معصوم لا يحاسب، أو إنه رب يدان له بطاعة الراكعين الساجدين، وها هو يعمل جاهدًا على أن يفرغ صحابته في قوالبه؛ لينشئوا على غراره، ولن يرضى هو أو أحدهم أن يقال في حقه:

تلوا باطلًا وجلوا صارمًا
وقالوا صدقنا فقلنا نعم

كما هي الحال في كل أنحاء العالم في عصره حتى في مكة، لا بد أن يبطل هذا التحكم، ولا بد أن يشعر الإنسان بقيمته وأن يكون للفرد مكانة غير مكانة العبد والرقيق، ولا بد أن تخف وطأة الفقر والجهل والمرض عن مناكب العامة والدهماء، ولا بد أن تزول الفوارق بين الطبقات بالقضاء على فوضى الجاهلية والحمية الجاهلية وتارات الجاهلية، وقد فكر الرسول أثناء هذه السنوات الثلاث: هل يخضع الناس على كره منهم أم على رضًا؛ لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين ويفكرون تفكيرهم ويريدون مرادهم ويفرحون بعظمتهم؟ ألم يقل أهل مكة: اللهم إن كان هذا الحق من عندك؟! إن كان الأمر كذلك فقد سلبت أفكارهم وطمست عقولهم وأمسوا آلات وعجماوات بل أضل سبيلًا، والله لا يريد للإنسان هذا الدرك الأسفل، ولا يحب الناس كالأنعام لهم أعين لا ينظرون بها وأفئدة لا يعقلون بها وآذان لا يسمعون بها، ورسوله لا يريد أن يبقى الناس على هذه الحالة من الحيوانية والجهالة، ويجب أن يدركوا أن الظلم والجهل والاستبداد قد ذهبت وولت، وأن حجاب الزمان قد هبط بعدها فلا منفذ من ورائه إلى تلك المخزيات التي كانت سائدة على الأذهان والأبدان، وأنهم خليقون بأن يشهدوا الدنيا في صورة علانية وهيئة مثالية، وأنها بغير هذه الصورة وتلك الهيئة لا تستحق النظر ولا تستحق المعرفة، فإن الظلم والجهل والاستبداد والتمييز بين الطبقات واستئثار فريق دون فريق بالمال والتطاحن على النفوذ والاندفاع في الشهوات قد قضت على الحضارات القديمة وإن كانت قوية الأساس رفيعة العماد، وهذه الأمة العربية تجري منذ الخليقة على وتيرة لا يشذون عنها ونظام لا يهاودون فيه من سلب وغزو وقتل وحرب ومبالغة في استجلاب المال واستمتاع بالشهوات وإغراق في الملذات المادية وتضييع لمواهب الروح وإهمال لترقية النفس، وهذه النظم السائدة في دار الندوة أو في المسجد أو حلف الفضول لا تحمي من الفوضى ولا نفع لها يعاش به في أزمان القلاقل، وقد وفقه الله إلى الإنشاء في المدينة لا التبديل والتغيير، فلم يتخذ مكة أو غير مكة من المدن الناجحة نموذجًا يحتذى، ولم يكن لديه خطة مرسومة، وإنما شاء حسن الطالع أن يكون منهاج السنوات العشر في المدينة كفيلًا بالنجاح، وكأنه منهاج ألف عام، وهذا الذي تم في ثلاث كثير، فليس أمامه في المدينة آلهة وأصنام تُعبد كالتي في الكعبة، ولا طغاة يظنون أنهم معصومون، كما كان أبو جهل وعتبة وأبو سفيان والوليد أبو خالد الذي وصفه القرآن بزحمة من المثالب؛ لعتوه وطغيانه، ولا كأبي لهب ورهطه وصفوان بن أمية وأترابه، ولا سدنة للهياكل كالأحبار السمان، فما أحمق هذا وما أحراه أن لا يكون في مكة، كما أنه لن يكون في المدينة، ولم تكن في مكة رعية بالمعنى الصحيح تحب هؤلاء المتسلطين أو تطيعهم وهي راضية بما تطيع، أما في المدينة فهنا رعية تحب الراعي وتطيعه عن نفس طيبة وعين قريرة وخاطر راضٍ، وتؤمن بالتوافق بين مشيئة الله وحكومة الراعي، فهذا بيت جديد يشاد على دعائم قوية وفي مكة بيت قديم يتداعى ويريد أن ينقضَّ على رءوس ذويه.

كان محمد سابقًا لأوانه بألوف السنين، وحجة لله والطبيعة على حجج المتعجلين والمتحاملين، ومعجزة خارقة للمساواة بين البشر، وموجدًا لنظرية العقد الاجتماعي قبل وجودها باثني عشر قرنًا، فإن جاك روسو حكيم الثورة الأوروبية لم يزد على أن الناس تواطئوا على أن يتنازلوا عن نصيب من سلطانهم؛ ليكون وديعة بين أيدي الحاكمين وهم منهم، وما زالت جمهرة الأمة مصدر السلطات تولِّي من تشاء وتعزل من تشاء، فتعاقد الرسول مع القبائل والمدن أنواعًا من التعاقد المكتوب والتعاقد المحكي المضمون بشرفه، غير أنه زاد تعاقده أمانًا بأن كان الله كفيلًا له وأصحابه.

فكانت حياته وأعماله ورسالته ملائمة لأسلم العقول وأصوب الآراء، والدليل عليها لا نأخذه من القرآن ولا السنة، وإن كانا مصدرين مسلَّمًا بهما من أشد خصومه؛ القدامى والمحدثين، ولكن نأخذ البرهان الناصع على قولنا من كلام كاتب غربي كبير في سنة ١٩٤٠ بعد رسالة النبي بستين وثلاثمائة وألف سنة.

قال جون جنتر مؤلف كتابي «أحشاء أوروبا» و«أحشاء آسيا» في الكتاب الثاني، مطبوعة سنة ١٩٤٠، ص٥٦٥، ما نصه: لا يمكنني أن أقاوم فكرة تملكتني؛ وهي أن أشمل حياة محمد في معرض لتراجم الأبطال الأحياء، فإنه ليس، لمن قرأ تاريخه، شخصًا من أشخاص التاريخ القديم، بل إنه من أشخاص التاريخ الحديث، يُلقي ظل حياته النابضة على المعاصرين من أبطال هذا الزمان، إن سلسلة أعماله البادئة بنبذ الدين القديم وقيامه بالدعوة لدين جديد وفتوحاته المدوخة تثب كلها من الماضي تاركة العصور القديمة في هوة لتتبوأ مكانها في حوادث هذه الأيام، فإنك تجد في خطواته وأعماله أشياء تجلب إلى ذهنك أشباهًا لحوادث هذه الأيام، وكلما بحثت في تاريخه وخططه وطرائق فهمه للرجال والحوادث تشعر بأنك حيال رجل عصري لا شك في معاصرته.

ثم أخذ يضرب أمثالًا منتزعة من حياة النبي؛ ليقارن بينها وبين حياة نابوليون ووشنطون ولينكولن وغيرهم من قادة الأمم الذين سادوا في العصور الحديثة فليرجع إليها من شاء الاستزادة في هذا الباب (صفحات ٥٦٦–٥٦٩)، وإن هذه الفكرة كانت تعاودنا كلما رأينا تلك النظائر والمشابهات، بل نعترف بأننا كنا نتساءل فيم تدوين السيرة المحمدية مع تكاثر الكتب التي ألفت فيها قديمًا وحديثًا؟ وكلما حاولنا أن نلقي القلم من قبيل اكتفاء القنوع بما هو مخطوط ومطبوع في لغات الأرض، كنا نشعر بدافع يدفعنا إلى الاسترسال لاستكمال هذه الناحية من النظر والعرض، فلما وقع لنا ما كتبه جون جنتر وجدنا عنصرًا قويًّا من عناصر التبرير للاستمرار في العمل الذي كنا نخشى عدم انطباقه ورغبة الناس في زيادة الفهم والاستنارة، وقد دهشنا لظهور تلك المعالم ووضوحها حتى لذهن كاتب سياسي دولي يعالج المسائل في اتجاه لا يجبره على الإقرار بفضل محمد، والاعتراف به بوصفه شخصية كونية لا يؤثر فيها مر الزمان ولا يحجبها تواتر القرون والأجيال.

وها هي السنوات الثلاث الأولى التي عاشها في المدينة قد أثبتت أنه استعاد نشاطه ونفذ خططه وبنى على أساس متين واتسع أفق التفكير والتدبير يدعمه القرآن ويوحى إليه؛ ليرد على خصومه ويفحمهم، وليشد أزر أصحابه المخلصين، وليفتح له الطريق الممهد إلى نصر المؤمنين.

١  أي النظام الملكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤