صلح الحديبية١

الهدنة قبل فتح مكة
في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة٢ عزم رسول الله على الخروج إلى مكة معتمرًا لا يريد حربًا، واستعمل على المدينة نُمَيْلَةَ بن عبد الله الليثي، وقد لاحظنا أنه كان في كل مرة يستعمل رجلًا غير الذي استعمله في المرات السابقة.
ثم دعا الرسول العرب ومَن حوله من أهل البادية؛ ليخرجوا معه، وقد أخبرهم أنه يريد الخروج للعمرة وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن الكعبة، فأبطئوا عليه، فخرج بمن معه٣ من المهاجرين والأنصار وكانوا حوالي سبعمائة رجل، وقيل ألف وأربعمائة، منهم ٢٠٠ فارس، وساق معه الهدي (سبعين ناقة)، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه خرج زائرًا لبيت الله ومعظمًا إياه، وقد جعل الهدي سبعين بدنة، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وأمر النبي أن لا يكون معهم سلاح غير السيوف في القرب، ولما رأى عمر بن الخطاب ذلك، ظن في هذا المظهر ضعفًا أمام قريش، ولم يفطن إلى أن غاية الرسول من بداية الأمر أن يثبت للملأ أنه خارج للعمرة لا للحرب، فقال للرسول: أتخشى يا رسول الله من أبي سفيان وأصحابه؟! ولم تأخذ للحرب عدتها.

فقال الرسول: لست أحب أن أحمل السلاح معتمرًا.

وما زال النبي وصحبه سائرين حتى كانوا بعسفان، وهو مكان قريب من مكة، تقدم إليه بسر بن سفيان الكعبي٤ وقال له: يا رسول الله، هذه قريش سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل، وقد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدًا عَنْوَة، وهذا خالد بن الوليد٥ في خيلهم قدموها إلى كراع الغميم (وكلاهما مكان قريب من الحديبية)، فقال رسول الله: يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة.

فما تظن قريش؟!

فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟

فتقدم رجل ممن أسلم، وسلك بالنبي ومن معه طريقًا وعرًا بين شعاب حتى بلغوا ثنية المرار فبركت ناقة الرسول.

فقال بعض ذوي الألسنة الطويلة الذين ينتظرون العثرات: لقد خلأت الناقة!

فرد عليهم الرسول وهو أبدًا حاضر البديهة: ما خلأت الناقة وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، فلا يدخلها قهرًا.

ثم قال مسالمًا: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم زجر ناقته فقامت.

ثم أمر الناس بالنزول في الوادي، ولما اطمأن جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي، وكانت خزاعة مصادقة لرسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئًا كان بمكة، وربما فطنت قريش لذلك، فقال له بديل: ما الذي جاء بك؟

محمد: ما جئت أريد حربًا، وإنما جئت زائرًا للبيت ومعظمًا لحرمته.

وهو مثل ما قاله لبسر بن سفيان، فعاد بديل إلى قريش وقال لهم ما سمعه من النبي، فاتهموه وجبهوه هو ومن معه، وقال أحد رجال قريش: وإن كان لا يريد قتالًا، فوالله لا يدخلها علينا عَنْوَةً أبدًا، ولا تتحدث العرب عنا بذلك وبيننا من الحرب ما بيننا!

وإنني أحب أن أذكر المبعوثين من قريش إلى محمد؛ لغرابة أخلاق بعضهم، وكأن دهاة قريش أرادوا أن يقفوا على الحقيقة من اختلاف مشارب رسلهم؛ فقد بعثوا أولًا بديلًا الخزاعي وهم يعلمون موالاة خزاعة للرسول، فهو أقرب إلى المسلمين وأحب، وكان من أمره ما كان، ثم أرسلوا الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش،٦ فلما عاد برأي يؤيد المبعوث الأول وهو بديل الخزاعي ويعظم لهم من شأن النبي سخروا منه وقالوا له: اجلس؛ فإنما أنت أعرابي لا علم لك!

فغضب الحليس لكرامته وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم! أَيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظمًا له؟ والذي نفس الحليس بيده لتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأُنْفِرَنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد!

فقالوا له: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به!

فسكت وصبر على مضض، وكانت غاية قريش أن يتأكدوا من غاية النبي من مجيئه، فاستعملوا هذه الطريقة التي تدل على الدهاء والسياسة وبعد النظر، وذلك بعد أن أرسلوا له بشر بن سفيان يصف للرسول استعداد قريش للحرب بخَيلهم ورجْلهم وجنودهم المدججة بالحديد، ثم أرسلوا مكرز بن حفص بن الأحنف، وكان رجلًا غادرًا فعلم من الرسول ما علم السابقون.

ثم اختارت قريش رجلًا كان قبل إسلامه خبيثًا طويل اللسان واليد ذا بذاءة وقذاعة بعيد الغور اسمه عروة بن مسعود الثقفي وكلفوه بمقابلة الرسول، فقال لهم بعد أن سمع توبيخ المفاوضين السابقين: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا عاد إليكم من التعنيف وسوء اللفظ؛ وقد سمعت بالذي أصابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.

فقالوا له: صدقت! ما أنت عندنا بمتهم!

ووعدوه أن يأخذوا برأيه وأن لا يغلظوا له القول مهما كانت نتيجة بعثته.

وهذا الرجل الذي يخشى التعنيف وسوء اللفظ كان هو نفسه يستحق التعنيف؛ لما فُطر عليه من الحقد وسوء اللفظ مع أنه من أشراف قريش؛ لأنه حفيد عبد شمس بن عبد مناف.

فقد سار حتى أتى الرسول وجلس بين يديه ثم قال في وقاحة وغلظة، وقد تخيل له أنه لا يرى في أصحاب النبي عظماء، بل رأى أسرابًا خليقًا أن يفروا ويتركوا الرسول!: يا محمد! أجمعت أوشاب الناس (يقصد المسلمين من المهاجرين والأنصار والعرب الذين جاءوا لزيارة الكعبة) ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا (يريد المهاجرين والأنصار)، وكان أبو بكر قاعدًا خلف رسول الله فغاظته هذه الكلمة من عروة وهو رسول صلح أو مفاوضة فانقلب دسَّاسًا ومتهددًا، فقال لعروة: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟! وهذه أكبر مسبة تصدر من مسلم لمشرك.

فقال عروة: من هذا يا محمد؟!

محمد: هذا ابن أبي قحافة.

عروة: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. ثم جعل يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه.

وكان المغيرة بن شعبة واقفًا على رأس رسول الله مدججًا بالسلاح، فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله ويقول: اكفف يدك عن وجه الرسول قبل أن لا تصل إليك!

فيقول عروة: ما أفظَّك وأغلظك!

فتبسم رسول الله، فقال له عروة: من هذا يا محمد؟

محمد: هذا ابن أخيك؛ المغيرة بن شعبة.

عروة: أَيْ غُدَرُ! وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس (يشير إلى أن المغيرة قتل ثلاثة عشر رجلًا ثم دفع ثلاث عشرة دية في خبر طويل لا محل لذكره).

وكان المغيرة من دهاة العرب، وعُمِّرَ وحَكَمَ الكوفة وخطب بنت النعمان بن المنذر، وكلم النبي عروة بما كلم الذين سبقوه فقام وعاد إلى قريش وقال لهم: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيءٍ أبدًا، فَرُوا رأيكم؛ فقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

ولا نعلم إن كان هذا الرجل صادقًا في أنه رأى هؤلاء الملوك في مقر ملكهم أو أن هذه العبارة ذكرها المؤرخون ليفخموا من شأن النبي؛ لأنها تكررت في مواضعَ كثيرةٍ بنصها؛ وإن كانت في جوهرها صادقة صحيحة، بل إن وزراء هؤلاء الملوك ورجال حاشيتهم وأعوان البلاط لم يكونوا ليقدموا بين أيدي ملوكهم ما كان يقدمه الصحابة بين أيدي النبي؛ لأن خادم الملك مأجور على خدمته، والصحابة محبون بقلوبهم مخلصون بأفئدتهم؛ فقد كان الصحابة لا يرونه يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وشربوا ماءه أو مسحوا به وجوههم، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، دع عنك استعدادَهم للدفاعِ عنه بأبدانهم وأرواحهم وفدائه بكل عزيز من أنفسهم، فكان هذا المنظر يبهر رسل قريش وغيرهم؛ لأنهم لم يتعودوا رؤية مظاهر الحب والإخلاص من رجال هم سادة قومهم لزعيمهم بمثل ما رأوا، وقد تعوَّد العرب الصراحة والحرية وعدم الملق والزلفى، ومع ذلك فقد رأى عروة بعينه الرسول إذا تكلم خفض أصحابه أصواتهم عنده، ولا يحدُّون النظر إليه تعظيمًا.

وقد خرج النبي من مكة مهاجرًا مع رجل واحد، وطارده الكفار مطاردة المجرمين وجعلوا لرأسه ثمنًا، وها هو يعود إليهم بعد ست سنين على رأس ألف رجل، فيراه رجل من أعاظمهم فيكبر في عينه عن جميع الملوك الذين رآهم على عروشهم في عواصم ملكهم، وهم أعظم ملوك الدنيا في عصره، وفي عبارة عروة لقريش ما يُشعر بأنه يميل إلى مصالحة الرسول، فلما وقفت قريش على رأيه صحَّت عزيمتهم على عقد الصلح مع النبي.

وعروة هذا هو أحد عظيمي القريتين الذي قصدت إليه قريش بقولها: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.

والآخر الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان عروة يشبه بالمسيح — عليه الصلاة والسلام — في صورته، وسبب إسلامه وقتله أنه لما انصرف الرسول عن ثقيف اتبع عروة أثره فأدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم ثم حث النبي على دعوة قومه إلى الإسلام معتمدًا على منزلته عندهم، فلما أشرف عليهم وأظهر لهم دينه الجديد لم يبالوا بمنزلته ورموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله.

وهذا مرغليوث العالم المعاصر غاظه فرح كعب بن مالك بغفران الله له فأراد الخروج من كل ماله صدقة، فوصفه مرغليوث بأنه طفل يستحق السخرية؛ لشدة فرحه بما ناله من عفو الله ورسوله.

فكان كلام عروة بن مسعود الثقفي لقريش دليل مكره ودهائه؛ فإنه لم ينصحهم بشيء واكتفى بتفويض الأمر لهم بعد أن وصف استقتال أصحاب محمد في سبيله.

وكان محمد إذا بعث لهم رسولًا أهانوه وفعلوا به الأفاعيل، كما حدث لخراش بن أمية الخزاعي ليبلغ أشراف قريش عن الرسول ما جاء له، فعقروا جمله وأرادوا قتله لولا أن منعته الأحابيش، وهم رجال الحليس بن علقمة، وترسل قريش كتيبة من الجند فترمي الكتيبة أصحاب محمد بالنبل والحجارة، وهذا سبب صريح للحرب، فيعفو عنهم النبي ويخلي سبيلهم.

وأخيرًا وقع اختيار الرسول على عمر بن الخطاب؛ ليبعثه مفاوضًا، وقد أعجبنا جواب عمر قال: يا رسول الله، إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها.

وقد أحسن عمر؛ لأن قتله كان خسارة كبرى، وهو رجل لا يصبر على الإهانة، ولا يُعَدُّ رفضه جبنًا، ولكنه حكمة وإصابة رأي وضنٌّ بشخصه الذي خدم الإنسانية والحضارة أجلَّ خدمة بعدله وحكمه وفتوحه.

غير أنه قال للنبي: ولكني أدلُّك على رجل أعز بها مني؛ عثمان بن عفان.

فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش.

فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعد بن العاص، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله وهي: إن محمدًا لم يأتِ لحرب، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظمًا لحرمته.

فلما أدى أمانته قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فَطُفْ. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله.

فاحتبسته قريش عندها، فشاع أنه قتل، فقال الرسول: لا نبرح حتى نناجز القوم.

فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، بايعه العرب على الموت أو على عدم الفرار، وأول من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي على الحرب إلى النهاية، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجَدُّ بنُ قيسٍ؛ فقد رأوه لاصقًا بإبط ناقته يستتر بها من الناس، وهذا الرجل هو نفسه الذي اعتذر عن غزوة تبوك بشدة شوقه لنساء الروم وخوفه من فتنة الجمال والحب …!

وظهر أن نعي عثمان كان سابقًا لأوانه وأن قريشًا خجلت وخشيت عاقبة الإصرار على الرفض، فأرسلوا سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

وكان نظره صائبًا، فإن سهيلًا كان يحمل شروط الصلح؛ وأهمها: أن يرجع الرسول هذا العام؛ لئلا يقال إنه دخل مكة عَنْوَة! ولكن سهيلًا كان كثير الإلحاح والتهجم، ولعلها عادة المفاوض الذي يحمل رسالة التسليم بمطالب العدو القوي، وقد أطال الكلام وخرج في ألفاظه كما سيأتي، حتى غضب عمر ووثب، فأتى أبا بكر ودار بينهما الحوار الآتي:

عمر : يا أبا بكر، أليس رسول الله؟
أبو بكر : بلى.
عمر : أولسنا المسلمين؟
أبو بكر : بلى.
عمر : أوليسوا بالمشركين؟
أبو بكر : بلى.
عمر : فعلامَ نعطي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟!
أبو بكر : يا عمرُ، الزم غَرْزَهُ؛ فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم تقدم عمر إلى النبي وقال: عمر: يا رسول الله، ألست برسول الله؟!
محمد : بلى!
عمر : أولسنا بالمسلمين؟!
محمد : بلى!
عمر : أوليسوا بالمشركين؟!
محمد : بلى!
عمر : فعلامَ نعطي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟!
محمد : أنا عبد الله ورسوله! لن أخالف أمره ولن يضيعني.

فاقتنع عمر وهدأ رَوعه وعاد إليه حلمه.

وكان بعد ذلك يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرًا.

وهذه حقًّا كانت غضبة عمرية، وكان عمر على حق، ونحن نقرُّه على ذلك؛ لأنه كان يحكم بظاهر الأمور، ولا يعلم ما يبطنه الرسول من الحكمة والحنكة وسعة الحيلة؛ فإن الوصول إلى معاهدة الصلح ودخوله مكة معتمرًا وطائفًا كان أمرًا عظيمًا له شأنه. نعم؛ إن مسلك سهيل كان لا يطاق، وفيه بعض الإهانة للمسلمين، ولكن السياسة تقتضي الصبر على الشدائد وانتهاز الفرص، وكانت قريش على حق في عدم السماح للنبي بدخول مكة على رأس جيش فيه نحو ألف مقاتل بسلاحهم.

وقد ادعى مرغليوث أن عمرَ كان على وشك الردة لو أنه وجد من يتبعه! ويستند في ذلك إلى رواية في الواقدي.

ونحن نعلم مقدار أمانة مرغليوث في التلاعب بالنصوص فلا نأبه له! وكلُّ من عرف أخلاق عمر لا يعجب لغضبه، ولكن إيمان عمر كان أرسخ من رضوى، وأثبت من أُحد؛ ولو كره الحاقدون، وكان صدر محمد أوسع من البحر، وحلمه أعمق من طبقات الأرض، وكان داهية زمانه بل باقعة كل زمان ومكان ! ولننظر الآن في عقد الهدنة الذي تم بين الرسول وقريش.

فإنه بعد أن تمت المفاوضة الشفوية اتفقوا على تدوينها بالكتابة، وكان الكاتب لها علي بن أبي طالب، ومن مجرى الوثيقة تظهر أسباب غضب عمر.

أملى الرسول: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: لا أعرف هذا (يقصد الرحمن)، اكتب: باسمك اللهم (وهي صيغة الجاهلية).

فقال النبي: اكتب باسمك اللهم. فكتبها.

ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك!

فقال الرسول: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.

وهذا صحيح في رأي سهيل؛ لأنه لو سلم برسالة النبي فلا معنى للعداء والحرب بل يكون من صحابته وتابعيه، ولكنه في هذا المقام — مقام الند للند — فلا معنى لتعظيم أحد الفريقين، ولكن عمر بن الخطاب عزَّ عليه تساهل النبي في أمرين هما من أسس الإسلام؛ الأول: صيغة البسملة وذكر اسمين من أسماء الله الحسنى لا يعترف بها الكفار، وتنحيه عن صفة الرسالة مؤقتًا وفي صك رسمي يعد حجة على الطرفين، ولكن غاية محمد كانت أبعد وأسمى مما رمى إليه عمر — رضي الله عنه — وقد اصطلحا على:
  • (١)

    وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكفُّ بعضهم عن بعض.

  • (٢)

    وعلى أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يرده (وفي هذا الشرط إجحاف بالمسلمين).

  • (٣)

    أن بينهم عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

  • (٤)

    أن الرسول يرجع عن قريش عامه هذا فلا يدخل مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجوا عنها فيدخلها بأصحابه فيقيم ثلاثًا معه سلاح الراكب؛ السيوف في القرب، لا يدخلونها بغيرها.

فلما فرغوا من الكتابة والتوقيع من الطرفين أُشْهِدَ على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص. وكان سهيل يشترط شروط القوي، بل كان يملي شروطًا؛ فقد أبى أن يكتب العهد أحد سوى علي أو عثمان، وحذف صفة رسول الله واسم الرحمن الرحيم، ونص على التزام الرسول بتسليم المسلمين الذين يفرون من مكة، وكان المسلمون كلما سمعوا شرطًا ضجوا ولا سيما بعد أن علموا أنهم سيرجعون أدراجهم خائبين بلا حرب ولا عمرة، وكان الرسول وعدهم بالنصر والفتح القريب، وكان المسلمون يرفعون أصواتهم ويهزون أسيافهم، واتخذوا احتجاج عمر شعارًا لهم فصاروا يقولون: لِمَ نعطي هذه الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا!

فجعل الرسول يخفضهم ويومئ بيده إليهم أن اسكتوا.

ولم يكن أبو بكر أَقَلَّ حبًّا بالحرب من عمر، فإن رسول الله لما تأكد أن قريشًا تريد منعه من البيت قال: أشيروا عليَّ أيها الناس، أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟

فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربًا فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه.

وقال المقداد: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل!

•••

وحدثت حادثتان عند تدوين هذه الصحيفة: الأولى: أن خزاعة تواثبت فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده.

وتواثبت بنو بكر فقالت: نحن في عقد قريش وعهدهم.

وأثناء الكتاب جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو (وكان مسلمًا مقيمًا بمكة) وهو يرسف في الحديد، وقد انفلت إلى رسول الله.

وكان المسلمون القادمون مع النبي وقد تكبدوا المشاق والانتظار الطويل لما رأوا الصلح والرجوع وما تحمله الرسول دخل عليهم أمر عظيم من الغم والغيظ وخيبة الأمل، مما يدلنا على أن عمرَ كان معذورًا في غضبه، فكاد المسلمون يهلكون من الألم والحسرة، وليسوا كلهم في مكانة النبي ولا في قوة عقله وخلقه، ولكنهم كظموا غيظهم وأطاعوا ولم يخرجوا على النظام ولم يتسرب إليهم الفشل.

فلما رأى سهيل ابنه قادمًا يلجأ إلى النبي قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ثم قال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.

– صدقت.

– ومعنى هذا أننا اتفقنا على أن من يأتيك من قريش ترده إلينا.

وأغرب ما في الأمر أن يكون اللاجئ ابن المفاوض نفسه، ولعله لو كان غيره لسلك سهيل مسلكًا لينًا، ولكنه رأى في إسلام ابنه وفراره والتجائه إلى النبي في نفس الوقت الذي يتم فيه الصلح إهانة لكرامته وهو ممثل قريش ولسان حالها وصاحب كلمتها.

ثم جعل سهيل ينثر ابنه بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!

فزاد هذا النداء نار المسلمين اشتعالًا ولكن النبي نظر إليه وقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا! إنَّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنَّا لا نغدر بهم.

فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل؛ فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. وهو يدني قائم السيف منه؛ يرجو أن يأخذ أبو جندل السيف فيضرب به أباه، فضنَّ الرجل بأبيه ونفذت القضية.

وهذا المسلك من عمر مشكوك فيه؛ نعم إنه يتفق مع مزاجه وحالة سخطه وسخط المسلمين على قريش وعلى مفاوضتهم سهيلًا، وفيه نجدة للمسلم المستغيث، ولكن قتل سهيل وهو آمن يحمل شروط الصلح وقد تمت، غلطة لا تغتفر ولا يليق أن تصدر عن الرسول وأصحابه، وكانت تعطي قريشًا سلاحًا قويًّا، ولم يكن عمر أغير على الإسلام من محمد، ثم إنه المسئول في هذا كله؛ لأن عمرَ لم يكن حينئذ سوى صحابي فاضل، وقد رأيناه بعد ذلك وهو خليفة كيف سلك مسالك الحكمة والتروي حتى صار مثلًا حيًّا للعدل ومضربًا للأمثال.

غير أن المعزو إلى عمر في كتب السير أنه كان يرجو أن يضرب أبو جندل أباه، ولكنه لم يوعز إليه بذلك، فكان اغتيال سهيل مجرد رغبة تجول في نفس عمر ولكنه لم يَبُحْ بها، وإن كان يظن أنه سهل السبيل لأبي جندل بدنو قائم السيف من يده، وقد كان أبو جندل في حال انكسار واضطراب واستغاثة، ولم يخطر بباله فكرة قتل أبيه ونعم ما فعل؛ لأنه ببلادته أو بغضِّه عن إشارة عمر أنقذ موقف النبي والمسلمين في هذا الصلح الذي أعقبه خير كثير.

فإن هذه الهدنة وقد أطلق عليها اسم «صلح الحديبية» كانت من أحكم الأعمال، وقال الزهري: إنه ما فُتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه؛ ذلك أن القتال بين المسلمين والكفار في كل مكان، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس؛ كلم بعضهم بعضًا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة؛ فلم يُكَلَّمْ أحد في الإسلام وهو يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في الإسلام في سنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.

والدليل على قول الزهري؛ أن الرسول خرج إلى الحديبية في سبعمائة، وقال بعضهم: في ألف وأربعماية مسلم، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف.

•••

ولما فرغ النبي من تدوين وثيقة الهدنة من صورتين أمر أصحابه بالنحر والحلق ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد؛ لشدة سخطهم وألمهم مما وقع، وهم لا يعلمون ما انطوى عليه هذا العهد من المنافع للإسلام.

فدخل الرسول على زوجته أم سلمة وهو شديد الغضب، فاضطجع فسألته عن حاله مرات وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: هلك المسلمون؛ أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا؛ وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي!

– يا رسول الله، لا تلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.

ثم أشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحدًا منهم وينحر بدنة ويحلق رأسه.

ففعل ذلك، فلما رأوه قاموا فنحروا وحلقوا وانصرف إلى المدينة بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يومًا، وكان المسلمون معذورين حقًّا؛ فقد تعبوا في السفر وفي الانتظار عشرين يومًا وقد تقذرت أبدانهم وثيابهم وأصابتهم عدوى الهوام والطفيليات، فامتلأ شعرهم بها حتى إن كعب بن عجرة قال: جعل القمل يتساقط على وجهي فمرَّ بي رسول الله فقال لي: احلق!

ولا عجب إذا انتشر هذا التذمر في جيش الرسول، ولكن العجب لتأثيره فيهم؛ فإن مجرد ظهوره في الناس وأخذه بنحر ضحيته وحلق رأسه جعل المتذمرين والساخطين والمنتقدين والمتأففين يعودون إلى عادتهم من طاعته وتقليده في سنته، فأقبلوا يحلقون وينحرون، ثم عادوا أدراجهم إلى المدينة في صفوف منتظمة.

وبعد الصلح وعودة النبي إلى المدينة فر من سجون مكة مسلم محبوس اسمه أبو بصير عتبة بن أسيد، وقدم على رسول الله مستغيثًا مثل ما فعل أبو جندل، فرده رسول الله تنفيذًا لمعاهدة الحديبية وسلمه إلى رسول قريش وهو رجل من بني عامر أوفده المكيون؛ ليتسلم الأسير المسلم — الفَارَّ — من المدينة ويعود به إلى سجنه.

فخرجا واستغفل أبو بصير حارسه وخطف سيفه وقتله، فلما سمع الرسول بهذا النبأ قال: ويل أمه! محش٧ حرب لو كان معه رجال. ثم جاء أبو بصير بنفسه إلى النبي بعد قتله الحارس ونجاته وقال له: يا رسول الله، وَفَّتْ ذِمَّتُكَ وأدى الله عنك، أسلمتني ليد القوم وقد امتنعت بديني أن أُفتتن فيه أو يُعبث بي.

ثم خرج أبو بصير هائمًا على وجهه وقد عزم على أن يعيش عيشة الغزو والمعاكسة لقريش ويعلن عليهم حربًا بمفرده، فنزل مكانًا اسمه العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش إلى الشام.

وعلم المسلمون المحبوسون بمكة بخبره ففروا وانضموا إليه، فاجتمع منهم قريب من سبعين رجلًا، وتربصوا بتجارة قريش وقوافلها حتى ضيقوا عليها، فكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها.

فلما ضاقت قريش ذرعًا بهؤلاء العصاة الذين لا يطيقون الإقامة في مكة، ولا يُقبلون في المدينة؛ تنفيذًا للمعاهدة التي خرقتها نخوة رجل مغامر بقوة إيمانه فخرج على قانون لا يعترف به وخالف صلحًا لم يكن فيه طرفًا؛ لأنه على الحالين من بعض الرعايا، فليس صلح الحديبية حجة على أحد سوى محمد، ومحمد قال له: يا أبا بصير، إنَّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا فانطلق إلى قومك.

ثم سلمه إلى رسول قريش يدًا بيد، ولم يكن الرسول وحده، بل كان معه أحد الموالي، فذمة محمد بريئة، وقد وفى بعهده كما قال له أبو بصير بعد قتله الحارس.

وكانت قريش قبيلة تجارة وأسفار ولم يقدروا على هذا العدد من قطاع الطريق المؤمنين، أي الذين يدفعهم إيمانهم إلى التربص والقتل والغنيمة، فإنهم لم يكونوا مجرمين، بل كانوا آبقين لا وطن لهم ولا ملجأ لهم، فهم يقتلون قريشًا وينهبونها؛ انتقامًا لحريتهم وحياتهم، فلما عجزت قريش عن مقاومة هؤلاء السبعين، كتبوا إلى الرسول يسألونه بأرحامهم أن يئويهم فلا حاجة لقريش بهم!

فآواهم رسول الله فقدموا عليه المدينة واستراح منهم القرشيون.

وهذا خرق في المعاهدة لم يتكهن به سهيل بن عمرو، خلقته الحوادث وطبيعة الأشياء وحيلة فتقها ذهن الزمان وتمخض بها فكر المصادفة، وحل لم يخطر ببال عمر عندما غضب؛ لأنه رأى في النص إجحافًا بحق المسلمين، وقد خلق أبو بصير وأصحابه قاعدة ثابتة؛ وهي أن كلَّ من يستطيع من المسلمين الفارين أن يجعل نفسه مرغوبًا عنه لدى قريش يدخل المدينة برجاء من قريش نفسها!

وها نحن نرى الحوادث قد أنتجت العدل في المعاهدة، فإنها نصت على التزام النبي بردِّ من يفر إليه من مسلمي قريش، وليس على قريش أن تفعل مثل ذلك إذا فرَّ إليها أحد من المدينة، وكان في هذا النص أكثر من عدم المساواة؛ لأن المنتظر أن يفر إلى المدينة أكثر ممن يفرون إلى مكة؛ لأن كلَّ من جاء المدينة مهاجرًا جاءها مختارًا متشوقًا؛ ليقيم، فلا ينتظر أن يعود إلى مكة، فجاء أبو بصير وأعاد ببأسه واستبساله الحق إلى نصابه، وصحح خيط الميزان وجعل أهل مكة يتوسلون إلى محمد بأرحامهم أن يكف عنهم أذى الهاربين الذين انقلبوا عليهم حربًا.

وحدث بعد أن قتل أبو بصير الحارس القرشي منظرٌ مضحك؛ وهو أن سهيل بن عمرو وهو المفاوض المعلوم كان شأنه شأن كل وزير يوقِّع على معاهدة؛ وهو التفاني في احترامها وتنفيذها (ما أشبه اليوم بالبارحة!) فجاء سهيل وأسند ظهره إلى الكعبة ثم قال: والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يُودَى هذا الرجل.

أي أن يلزم المسلمون بدية الحارس الذي قتله أبو بصير.

فقال أبو سفيان بن حرب: إن هذا لهو السفه! والله لا يُودَى. ثلاثًا.

لقد تغالى سهيل وأعمته سياسة المحافظة على المعاهدة، وصدق نظر أبي سفيان؛ لأن محمدًا تعهد برد الهارب ولم يتعهد بحماية حارسه.

سهيل بن عمرو

كان سهيل بن عمرو أحد أشراف قريش وعقلائهم وخطبائهم وسادتهم، وكان أعلم الشفة أي ولد مشقوقها، فلما أسر يوم بدر كافرًا أشار عمر على رسول الله بنزع ثنيتيه؛ ليفسد منطقه فلا يقدر على الخطابة ضد النبي، فرفض الرسول رأي عمر، وأسلم سهيل في الفتح أي في اللحظة الأخيرة، وكان في حجة الوداع قائمًا عند المنحر يقرب لرسول الله بُدْنَهُ والرسول ينحرها بيده، وهو الذي أبى على المسلمين ذكر الرحمن الرحيم ووصْف محمد بأنه رسول الله، وقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وهو معاند للمسلمين.

ولما توفي رسول الله ارتجت مكة لما رأت قريش من ارتداد العرب، واختفى عتاب بن أسيد الأموي أمير مكة للنبي، فقام سهيل بن عمرو خطيبًا فقال: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد! والله إن هذا الدين ليمتدن امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما أيها القوم!

ومات سهيل في طاعون عمواس بالشام في خلافة عمر سنة ثمان عشرة.

١  الاسم تصغير حدباء، وهي مكان قريب من مكة، وقيل: قرية، أو بئر، أو شجرة.
٢  وتُسمى عام الحديبية.
٣  والقبائل التي خرجت معه : غفار، وأسلم، ومزينة، وجهينة، ومن النساء أم سلمة وأم عمارة وأم منيع وأم عامر الأشهلية، وتثاقل كثير ممن دعاهم النبي للخروج معه، وقال بعض المنافقين: أنذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة (يشيرون إلى وقعة الخندق)، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟! وتعللوا بالشغل بأهلهم وأموالهم وعدم النصير في غيبتهم.
٤  هو بسر الكعبي الخزاعي، وكان شريفًا، كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام فلبى دعوته وأسلم سنة الحديبية، وفي بعض السير أن الرسول بعث به عينًا على الأعداء في مكة فلما كشف أحوالهم عاد إليه وقال له: «إن معهم العوذ المطافيل»؛ كناية عن النساء والصبيان، وأصل الوصف للناقة التي تضع. فمن يأخذ الخبر على ظاهره يفهم أن قريشًا خرجوا ومعهم النياق ذوات اللبن؛ ليتزودوا به ولا يرجعون خوف الجوع، ومن يأخذه بالكناية يفهم أنهم أخذوا معهم النساء والأطفال، وعلى كلتا الحالتين يفهم أن الأعداء خرجوا مستعدين للحرب، خصوصًا وأنه أردفها بقوله: «لبسوا جلود النمر»، أي أظهروا العداوة والحقد، وبعد أن قالها بسر وردت على ألسنة الكثيرين ممن شهدوا معسكر قريش فصارت صيغة سهلة الرواية لأداء المعنى المقصود بها وزيادة.
٥  كان خالد بن الوليد لا يزال مشركًا، وقد جعلوه على الفرسان كما كان موقفه في أحد، وقد أراد أن يستعمل طريقة الهجوم على غرَّة؛ وهي الطريقة نفسها التي نجح بها في أحد، وظاهر أن المعسكرين كانا مرأي العين؛ فإن المشركين رأوا المسلمين يصلون الظهر متجهين إلى القبلة الأولى وظهورهم لمكة! فقال خالد: لقد مكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم على غرة، ولو حملنا عليهم أصبنا منهم!
واتصل هذا الكلام بالرسول، فلما حل العصر أمر النبي بصلاة الخوف، فقسموا الجيش قسمين؛ قسمًا يصلي وقسمًا يبقى قائمًا يحرسه، وقد سميت هذه الصلاة صلاة عسفان؛ لحصولها بالمكان.
٦  والأحابيش عرب من بني الهون بن خزيمة وبني الحارث بن عبد مناف وبني المصطلق بن خزيمة، وقد أطلق عليهم اسم الأحابيش؛ لأنهم تحالفوا مع قريش تحت جبل بأسفل مكة يقال له حبشي «على أنهم وقريش يد واحدة على من عاداهم ما سجا ليل ووضح نهار.»
٧  موقد لنارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤