عمرة القضاء

مضى على صلح الحديبية عام وحلَّ للمسلمين أن يذهبوا للحج، فسار الرسول ومعه ألفا رجل للحج ومائة فارس، ولكن الحجاج كانوا بغير سلاح سوى السيوف في قرابها والفرسان بعيدًا عنهم، وانجلت قريش عن مكة؛ ليتركوها لمحمد وصحبه؛ غيظًا منهم وتنفيذًا لعهد الحديبية، ودخل الرسول مكة على ناقته القصوى يأخذ بخطامها عبد الله بن رواحة، وقد أحاط به كبار الصحابة وخلفهم الصفوف راكبة وراجلة، يا له من منظر فذ من مناظر التاريخ، فلما رأوا الكعبة قالوا: لبيك!

وأخذ القرشيون من أعلى الجبال ينظرون على هذا المنظر التاريخي والنبي يطوف بالكعبة مهرولًا وماشيًا وخلفه ألفان من الحجيج، وصرخ عبد الله بن رواحة: لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وخذل الأحزاب وحده! فدوى بها الوادي وارتفعت رهبتها إلى قلوب الذين تسنموا ذرى الجبال حوله.

وصلى المسلمون في المسجد العتيق وأذن بلال عليه الأوقات ثلاثة أيام، وظهر المسلمون بمظهر العفة؛ لا يشربون خمرًا، ولا يأتون منكرًا، ولا يغريهم الطعام ولا الشراب، ولا تفتنهم فتنة الحياة.

وقد اهتزت قلوب قريش وارتعدت فرائصهم وتزعزعت ثقتهم بأصنامهم وكادوا يقعون ليدخلوا في دينه ولكن الكبرياء منعتهم.

وفعلًا هوى قلب ميمونة أخت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب إلى الإسلام، فعرض العباس أمرها على محمد وهي خالة خالد بن الوليد، فقبل محمد وأصدقها ٤٠٠ درهم، وجاء سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى من قبل قريش قبل آخر المهلة بثلاثة أيام يطلبان رحيله عن مكة، فعرض عليهما أن يبقى حتى يعرس بميمونة فرفضا، فلم يتردد في قبول رأيهما وخرج، وترك أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها، وهي آخر زوجاته عمرت بعده ٥٠ سنة ودُفنت حيث بنى بها كطلبها، وحمل محمد معه أختيها سلمى أرملة حمزة عمه وعمارة البكر التي لم تتزوج، وعاد محمد والمسلمون إلى المدينة وهم واثقون أن مكة قد دانت لهم.

أما خالد بن الوليد وهو بطل أحد فقد وقف في مكة بعد النسب الجديد يقول: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا بشاعر وأن كلامه من رب العالمين؛ فحق على كل ذي لب أن يتبعه!

فقال له عكرمة بن أبي جهل: لقد صبأت يا خالد! فقال: لا والله أسلمت.

وحاول عكرمة أن يستفزه بأن محمدًا وضع شرف أبيه حين جرح وقتل عمه وابن عمه ببدر، ولكن خالدًا قال: هذا كلام الجاهلية، والله أسلمت!

وبعث خالد إلى النبي أفراسًا وبإقراره بالإسلام وعرفانه بالدين الجديد ولم يخشَ أبا سفيان، ودار بينهما الحوار التالي:

أبو سفيان : أحق ما بلغني عنك؟!
خالد : إنه حق!
أبو سفيان : واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد (يعني هو يشك في إسلام خالد وإلا قتله).
خالد : فوالله إنه لحق على رغم من رغم.

فهجم عليه أبو سفيان في غضبه، فحجزه عكرمة وكان حاضرًا، وخرج خالد من مكة إلى المدينة وانضم إلى صفوف المسلمين، وأسلم بعده عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فارس الكعبة وكثيرون من أهل مكة اتبعوا هؤلاء الأشراف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤