حنين والطائف

تقع هوازن جنوب مكة في جبال، وقد خشيت بعد فتح مكة أن يهجم محمد على جبالها ويقضي على استقلالها بعد أن قضى على كل قوة في الجزيرة وأخضعها للإسلام وحكم الله، فجمع مالك بن عوف النضري هوازن وثقيفًا ونضرًا وجشمًا، رجالًا ونساءً وبعيرًا وإبلًا وأغنامًا وخيلًا إلخ.

وأشار دريد بن الصمة (زعيم جشم) برأي خالفه مالك، ولكن الناس تبعوا رأي مالك، فأمر بالتربص عند قمم حنين، وعند مضيق الوادي، ورسم لهم الخطة الآتية: إذا نزل المسلمون واديه فليشدوا عليهم شدة رجل واحد فيختلط حابلهم بنابلهم ويهزموا. وخرج المسلمون من مكة في اثني عشر ألف، وبينهم أبو سفيان بن حرب تلمع درعهم وترفرف عليهم الأعلام، والإبل تحمل الميرة والذخيرة، ولم تعرف العرب مثل هذا الجيش من قبل وقالوا: لن نُغلَب؛ لكثرتنا!

وركب محمد في المؤخرة على بغلة بيضاء، وسار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدمة.

وانحدروا من مضيق حنين في وادي تهامة فشدت قبائل مالك بالنبال وهم في عماية الفجر، فاختلط المسلمون وعادوا منهزمين وفزعوا، واغتبط أبو سفيان وقال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.

وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قد قُتل في أحد.

وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم!

وارتدت القبائل منهزمة تمرُّ بالنبي، أيضيع جهاد اثني عشر عامًا في دقائقَ؟! وأحاط به قوم من أهله والمهاجرين والأنصار وهو يرد الناس ويقول: أين أيها الناس؟! أين في عماية الفجر؟!

ولكن الناس من هول الفزع لا يسمعون لشيء، وكانت هوازن وثقيف تنحدران بقيادة رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء ورمح يطعن به الناس، فتحمس النبي وأراد أن يخوض غمار المنايا على بغلته، ولكن أبا سفيان بن الحارث حال دون ذلك.

وصرخ العباس بصور جهوري: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، إن محمدًا حي فهلموا! وحصلت معجزة وتذكروا وقوف محمد في أحد في وجه الأعداء فقالوا: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة مستبسلين.

وعادت الطمأنينة إلى النبي ورأى حمو المعركة فقال: الآن حمي الوطيس! إن الله لا يخلف رسوله وعده. وأخذ حفنة من الحصى ألقى بها في وجوه العدو قائلًا: شاهت الوجوه.

وانهزمت هوازن وثقيف وتركوا وراءهم غنيمة مهولة، وهي التي ساقها مالك رغم إرادة دريد بن الصمة، فأخذ المسلمون النساء والأطفال والغنم، وجعل للأسرى معسكرًا في الجعرانة وكان عددهم ٦ آلاف، وقتل دريد بن الصمة شر قتل بيد رجل كان دريد أنقذ أمه وجدته!

أما مالك بن عوف فقد فرَّ إلى الطائف فاحتمى بها.

ونزل قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙوَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙإِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.

وفقد المسلمون رجالًا كثيرين؛ نحو قبيلتين.

وحاصر النبي الطائف؛ ليوقع بمالك بن عوف، كما حاصر خيبر بعد أحد، وحاصر قريظة بعد الخندق، وتذكر التجاءه إلى الطائف.

كانت الطائف مدينة غنية قوية ولها أبواب تقفل مثل كل المدن في الجزيرة وفي القرون الوسطى، فعقد النبي مجلسًا في مكان بعيد عن مرمى النبل، وأسس مسجدًا، وأخذ يبحث مع أصحابه في الخطط، فقال أحد المسلمين: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث؛ فإن تركته لم يلحقك منه ضر.

وطلب النبي من بني دوس استعمال الدبابات والمنجنيق بعد أربعة أيام من حصار الطائف وحضرت العدة ولكن لم يفلحوا.

فشرع في إحراق النخل وقطع الكروم وهي ثروة عظيمة، فاسترحموه وقالوا: خذ الكروم لك ولا تقطعها، وبعد ذلك، وبعد الحصار شهرًا رفع الحصار؛ لبداية الأشهر الحرم، وعاد إلى مكة، وفي طريقه عرج على معسكر الجعرانة؛ ليقتسم غنائم هوازن، وجاء وفد من هوازن يستعطفونه ويذكرونه بأنه نشأ بينهم، وكانت بين السبايا امرأة تخطت الكهولة عنف عليها الجند فقالت: «تعلموا، والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة!» فجاءوا بها النبي فإذا هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى فأدناها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ومتعها وردها إلى قومها.

لقد كان شأن محمد مع كلِّ من أسدى إليه يومًا من الدهر يدًا أن يعطف عليه ويجيبه إلى مطلبه، كان عرفان الجميل بعض شأنه والبر بكليم القلب في جِبِلَّتِه، ورُدَّت نساء هوازن وأبناؤها إليها بعد أن أعلنت إسلامها؛ وذلك لأن وفد هوازن جاء محمدًا وذكره بنشأته بينهم.

وعلم محمد من وفد هوازن أن مالك بن عوف في ثقيف، فأمر بتبليغه أنه إذا أتى مسلمًا رد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، ففر مالك من الطائف ونال هذا العطاء، وأجزل محمد العطاء من نصيبه في الغنائم إلى الذين كانوا إلى أيام غير بعيدة أشد الناس عداوة له؛ نصيبًا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل لمعاوية وأبي سفيان وعليم بن الحارث بن كلدة وسهيل بن عمرو وسائر الأشراف وزعماء العشائر، وخمسين لمن أقل منهم؛ وهكذا، وكان «يقطع لسان» الطامعين بالعطايا وقضاء الحاجات مثل: عباس بن مرداس.

وغضب الأنصار وقالوا: «لقي والله رسول الله قومه.» فبلغها سعد بن عبادة فجمعهم وقال: أما والله لو شئتم لقلتم وَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك! أوجدتم يا معشر الأنصار في العلالة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؛ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناءَ الأنصار وأبناءَ أبناءِ الأنصار.

فبكوا وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا!

وكذا أظهر النبي رغبته عن هذا المال الذي غنم في حنين والذي بلغ ما لم يبلغ فَيْءٌ من قبل، أظهر رغبته عنه وجعله وسيلة يتألف بها قلوب الذين كانوا إلى أسابيع قليلة مشركين؛ ليروا في الدين الجديد سعادة الدنيا والآخرة.

وخرج محمد من الجعرانة إلى مكة، فلما قضى عمرته ترك بها عتاب بن أسيد على أم القرى، ومعاذ بن جبل ليفقه الناس في دينهم ويعلمهم القرآن، وعاد هو والأنصار والمهاجرون قافلين إلى المدينة.

وبدأ الشعراء الذين كانوا يهجونه يأتون إليه، والقبائل تقدم طاعتها.

وكان عدي بن حاتم الطائي المسيحي الشهير بالكرم عدوًّا للنبي ففر إلى الشام بعد أن سمع انتصاره، وذهب المسلمون وهدموا صنم طيء واحتملوا الغنائم والسبايا وبينها بنت حاتم، فلما مر بها النبي محبوسة قالت له: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك! فأعرض عنها لما علم أن رافدها عدي بن حاتم، ولكنها راجعته وذكر ما كان لأبيها من الكرم في الجاهلية، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أول ركب قاصد إلى الشام، فلما لقيت أخاها وأخبرته عاد إلى الإسلام وتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤