المادية في الأدب الجاهلي وعبادة جسم المرأة والخمر والدم

وأظهر ما كانت عليه المادية في الأدب وصف المرأة العربية في الشعر الجاهلي، ومنه قول الأعشى في وداع صاحبته:

وَدِّعْ هريرةَ إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفتْ
كما استعان بريح عشرق زجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل

وهذه صفات يدور معظمها على الطول والعرض والقامة والضخامة والتراخي ونضج الأنوثة واتخاذ الزينة، وكثيرًا ما شبهوا المرأة بالبقرة ونحرها برقبة الغزال وعينيها بعيني الوعل.

لا ننكر أن الحب غريزة بشرية وعاطفة إنسانية أودعها الله — تعالى — في نفس عباده منذ ذرأهم على الأرض. وسأحدثكم عن الشعراء فيه، وعن تعبيرهم عنه وتصويرهم إياه. وأقصد بذلك إلى ما نسميه بالغزل أو النسيب؛ وهو الشعر الذي يصف حب الرجل للمرأة. وهذا الفن من الشعر قديم في الأدب العربي قدم الأدب العربي نفسه، وقد سلك الإنسان في تعبيره عن هيامه وتغنِّيه بمحبوبته مسالكَ منوعة من البيان واستخدم من الصور والخيالات ما أوحته إليه بيئته وثقافته في عصوره المختلفة، ولا يهمنا إلا الجاهلية.

ولدينا فيما يتعلق بالأمة العربية دليل على أسبقية الغزل على سائر فنون الشعر؛ وهو أنهم منذ جاهليتهم يبدءون قصائدهم بالغزل مهما تكن أغراض تلك القصائد بعيدة عن مرح الغزل، أكبر مبرر للشعر، ولقد سنوا بذلك لمن جاء بعدهم البدء بالغزل في قصائدهم لإثارة وجدان السامع والاستيلاء على مشاعره قبل الخوض في موضوعات قصائدهم. وأعجب الأمر أن ذلك التقليد كاد يلازم جميع العصور حتى يومنا هذا؛ فلم يتحرر منه شعراء مصر إلا في السنوات الأخيرة.١

قلت إن الغزل لون من ألوان الشعر نجده في أدب كل أمة، ولكنه يقل ويكثر نسبيًّا تبعًا لظروف كل أمة ومؤثراتها، كما كان الشأن عند شعراء العرب قبل الإسلام. ولنُلقِ الآن نظرة سريعة في الغزل الجاهلي.

غزل العرب في الجاهلية؛ كانت دواعي الغزل موفورة لعرب الجاهلية؛ فقد كانوا يعيشون في معظم الأحيان في خيامهم التي يقيمونها في مواضع الكلأ حيث ترعى إبلهم، وكانوا يأتون إليها من كل فج في جزيرتهم ويقيمون فيها حتى يجف الماء وينفد الكلأ، فيرتحلون إذ ذاك كل فريق في اتجاه، ويومئذٍ يفترق المحبون بعد طول لقاء فيتألمون للوعة الفراق ويبكون أيامهم المواضي!

ولأصور لكم الآن تلك المرأة التي فتنت ألباب الشعراء في ذلك العصر وحرَّكت عواطفهم وأوحت إلى خيالهم ما أوحته من الوصف والابتكار، أصورها لكم كما رأيتها في شعرهم، أو على الأصح في شعر أساطينهم الذين وصلت إلينا دواوينهم من أصحاب المعلقات وأضرابهم.٢
هي امرأة طويلة سامقة، حسنة القوام بطيئة الخطى، مشرقة المحيا ساحرة العينين بهما كحل، بضة الجسم لينته، أسيلة الخد منصوصة الجيد طويلة الشعر فاحمته، تستوي على ساقين كالأنابيب الريانة ليونةً وكالعاج أو الرخام بياضًا، مليئة الصدر مصقولته صقل المرآة، هضيمة الكشح دقيقة الخصر ثقيلة الأرداف مليئة الذراعين رخصة الأنامل، فإذا ابتسمت ابتسمت عن أسنان بيضاء كاللؤلؤ أو كشوك السيال (وهو نبت أبيض مستطيل)، أو كالأقحوان أو كالبرد، وهي لمياء الشفتين أو لعساؤهما (أي سمراؤهما)، وريقها عذب كالخمر أحيانًا وكالعسل أحيانًا أخرى، وقد يكون مزيجًا من الشهد والأترج والتفاح، وإذا تنفست كان لنفسها شذا طيب كأنه العطر المستخرج أو الروضة الأنف، بل إن لهذه المرأة في نفوس الشعراء، رائحة زكية عبقة تفوح من نفسها ومن أردانها ومن مقصورتها.٣
وقلما نجد هذه المرأة متحلية بأدوات من الزينة من أساورَ وعقودٍ، ولا عجب؛ فقد كانت غنية بحليتها الفطرية عن التحلي، وبجمالها الطبيعي عن يد التجمُّل، ألم تُوصِ المرأة العربية ابنتها قبيل زفافها بقولها: «واعلمي أن أطيب الطيب الماء»؟ قلت قلما نجدها متحلية متزينة؛ فقد وجدت قليلًا من وصف الحلي ولا سيما على لسان الأعشى والنابغة، ولكن لذلك سرًّا سأشرحه بعد.٤

هذه صورة كما ترون مادية حسية لم تتناول المرأة إلا عن طريق الحواس؛ لمسًا ليدها الرخصة الناعمة، ونظرًا إلى وجهها المشرق الوضاء، وشمًّا لشذاها العبق، وتذوقًا لريقها العذب، وتسمعًا لصوتها الرخيم، فإذا استنفد الشاعر الجاهلي حواسه الخمس فقد استنفد مجال الوصف في محبوبته … ولا نكاد نرى شاعرًا منهم قد تعمق وراء ذلك فوصف لنا نفسية تلك المرأة، أو ثقافتها أو آمالها وآلامها! على أن هذه النزعة الحسية لم تكن مقصورة على غزل الجاهليين، بل كانت عامة في جميع شعرهم؛ فهو في جملته شعر مادي حاسي، يستمد من الحواس صوره وأخيلته، ويعكس الصورة الفطرية التي كانوا يعيشونها في أحضان الصحراء قبل أن ينبثق عليهم نور الإسلام. ولنستمع الآن إلى بعض هؤلاء الشعراء حين يصفون هذه المرأة؛ ففي قوامها وطولها يقول الأعشى — وهو أعشى قيس، وقد هلك مشركًا:

غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويراها النابغة كاملة الخلق مشربة البياض مصفرة كالغصن الطويل المتأود، وهذا الوصف منتزع من الطبيعة كعاداتهم:

صفراء كالسيراء أكمل خلقها
كالغصن في غلوائه المتأود

أما إشراق محياها فقد كان موضع مباراتهم في الوصف؛ فهي تضيء الظلام بنورها لامرئ القيس «كأنها منارة راهب متبتل»:

تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل

وهي في نظر طرفة كالشمس المشرقة:

ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد٥

ويرى لبيد أن ضوءها يشتد بريقه، حتى يعشى دونه البصر:

وفي الحدوج عروب غير فاحشة
ريا الروادف يعشى دونها البصر

ويشبهها العاشق، مرة بالشمس يوم تطلع، في سعد السعود:

بيضاء كالشمس وافت يوم أسعدها
لم تؤذِ أهلًا ولم تفحش على جار
قامت تراءى بين سجفي قبة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

وتارةً يتساءل: أيرى سنا البرق، أم وجه نُعْمٍ؛ وهو اسم حبيبته:

ألمحة من سنا برق رأى بصري
أم وجه نعم بدا لي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر
فلاح من بين أثوابٍ وأستار

وأخرى يراها مضيئة يبتهج بها غواصها، بل يسجد أمامها:

كمضيئة صدفة غواصها
بهج متى ينظر إليها يسجد
أو دمية في مرمر مرفوعة
بنيت بآجر يشاد بقرمد

فإذا كان داخل البيت؛ حيث لا يستطيع أن يتصورها شمسًا أو برقًا، لم يعجز عن أن يتخيلها سراج الموقد، وقد كان محجوبًا:

وتخالها في البيت إذ فاجأتها
قد كان محجوبًا سراج الموقد
ولا شك في أن تشبيه المرأة بالشمس والقمر والبرق وما إليها قد وصل إلينا من ذلك العهد، وما زال باقيًا في شعرنا وعلى ألسنتنا إلى اليوم، حتى وصل إلى الأغاني الشعبية، بعد شعراء العصر الحديث.٦

وأما عيناها وخداها وجيدها فقد فازت بنصيب كبير من غزل الشعراء، وقد وجدوا في الغزالة جمال العينين وطول العنق، كما وجدوا جمال العين واتساعها في المها وبقر الوحش، فحبيبة امرئ القيس حين تتدلل عليه تصد وتبدي عن خدٍّ أسيل وتتقيه بعينٍ كعين الظبية الحنون ذات الطفل التي ترعى في وجرة:

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته، ولا بمعطل

أما محبوبة عنترة؛ فقد كانت أكثر حياءً وخفرًا، وأطول عنانًا، ولعلها كانت فتاة صغيرة السن، قليلة الحيلة:

دار لآنسةٍ غضيض طرفها
طوع العناق لذيذة المتبسم
ويرى الأعشى جيد المرأة كجيد الغزالة ولكنه يراه متحليًا بالسموط والعقود٧ على طريقة نساء القبائل التي على الفطرة:
وكأن السموط علقها السـ
ـلك بعطفي وشاح أم غزال

وهذه غدائر شعرها الأسود، قد تدلت على ظهرها، أو رفعت على رأسها، في ضفائرَ، وعقائصَ، فأنطقت المحبين بأشعار الغزل.

وشعر المرأة في كل عصر ولدى كل أمة مظهر من مظاهر جمالها، بل هو تاج الطبيعة فوق رأسها، وللشعراء فيه خيالات تختلف باختلاف بيئاتهم، ولأخرج بكم لحظة عن العصر الجاهلي بل عن الأدب العربي، ولنعرض صورتين مختلفتين لشعر المرأة في نظر شاعرين إنجليزيين؛ أحدهما: سونبرن حين يصف شعر المرأة بأنه يتدلى خيوطًا كخيوط المطر الغزير في الجو المعتم، فهو يستمد من الجو المطير الذي يعيش فيه صورةً لخياله. وثانيهما: روزني؛ وهو شاعر إنجليزي ينحدر من أصل إيطالي، عاش في إيطاليا وقتًا طويلًا ورأى فيها سنابل القمح تتهادى في الشمس المشرقة، فيصف شعر حبيبته بأنه في لونه الذهبي يشبه سنابل القمح.٨ وشعراء الجاهلية لم يزيدوا على أنهم استوحوا بيئتهم، فأمدتهم بما فيها من سرور، رسموا لنا ما كان شائعًا عندهم من الطراز الفاشي في الشعر، من تصفيفه وعقصه أو إرساله خلف الظهر، ومن سواد لونه ورجالته؛ أي كونه بين السبوطة والجعودة، ووصفهم لجمال الشعر نادر لانشغالهم بما هو أجدى …

وقد شبهه النابغة الذبياني بالفحم في لونه والنبت في أثاثته وغزارته والكرم في طوله وارتفاعه فقال:

وبفاحم رجل أثيث نبته
كالكرم مال على الدعام المسند

ويصف الأعشى فتاته بأنها ترتب بأناملها الرخصة شعرًا سخامًا أي أسودَ لينًا وتفتله بعيدان الغلال:

حرة طفلة الأنامل ترتـ
ـب سخامًا تكلفه بخلال

ولعل أوضح صورة وصلتنا، عن شعر المرأة قبل الإسلام، هي التي صورها لنا امرؤ القيس، حين تحدث عن الفرع الأسود الفاحم الذي يزين الظهر ثم شبهه بقنو النخلة أي سباطتها الكثيرة العثاكيل أي الشماريخ، وقال إن ضفائره مرتفعات إلى العلا وهو غزير بعضه مرسل وبعضه مثني، وبين هذا وذاك تتيه العقائص؛ أي الخصل المجموعة:

وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل المدارى٩ في مثنى ومرسل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
عليَّ هضيم الكشح ريَّا المخجل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل

وقد أجمع هؤلاء الشعراء على أن مثلهم الأعلى في المرأة هو البضاضة ونعومة الجسم وامتلاء الصدر والذراعين ودقة الأصابع وجمالها:

تريك إذا دخلت على خلاء
وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدباء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وثديًا مثل حق العاج رخصًا
حصانًا من أكف اللامسينا
ومتني لدنة سمقت وطالت
روادفها تنوء بما ولينا
ومأكمة يضيق الباب عنها
وكشحًا قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام
يرن خشاش حليتها رنينا

وانظر إلى وصف النابغة للمتجردة إذ يسقط قناعها فتستر وجهها بذراعيها لبضاضتها:

سقط النصيف ولم تُرِدْ إسقاطَه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة تعقد
١  راجع مقالتَي الأستاذ أحمد أمين «جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي» في مجلة الثقافة، ورد ناقديه في الرسالة صيف ١٩٣٩.
٢ 
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن
أما المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة
شعاع الضحى في لونها يتوضح
«البيتان لذي الرمة.»
٣  راجع بحثًا طريفًا أذاعه الأستاذ مهدي علام من محطة إذاعة لندن العربية في صيف ١٩٣٩. ولأوس بن حجر الشاعر الجاهلي:
كأن ربقتها بعد الكرى اغتبقت
من ماء أدكن في الحانوت نضاح
أو من معتقة ورهاء نشوتها
أو من أنابيب رمان وتفاح
٤ 
كأن البرى والعاج عيجت متونه
على عشر نهى به السيل أبطح
والبرى هي الخلاخيل، والعاج كان يتخذ مكان الأساور للحلية. كتاب الكامل للمبرد، جزء ثانٍ صفحة ١٣.
٥  يشير إلى أن وجهها خالٍ من الكلف الذي في قرص الشمس.
٦  بعد أن ورد على ألسنة البارودي وشوقي وحافظ، يقول المغني الشعبي في المنظومات التي تسمى «أدوارًا»: «حبي قمر طالع على غصن.»
٧  وإن تطرقوا إلى وصف شيء غير مادي قال شاعرهم ابن الأبرص:
ولقد لهوت بمثل الرئم آنسة
تُصبي الحليم عروب غير مكلاح
وفي القرآن: عُرُبًا أَتْرَابًا وهن المحبات لأزواجهن حسنات التبعل.
٨  والشعر أرق ما يكون من مادة البدن، ولكن الجاهليين تغزلوا فيه وفي الأرداف والأعناق والثغور.
٩  المدارى جمع مدراة، وهي المشط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤