نشأة عبد المطلب بن هاشم بمكة ووظائفه

وإذن نشأ عبد المطلب طفلًا يتيمًا بمكة كما نشأ حفيده الأعظم بعد ذلك، ولكنه وجد في دار أخيه المطلب ما أنساه ألم اليتم، وحرقة البُعد عن أمه، وفي الحق كانت أسرة بني هاشم من أبر العرب بأبنائها وأيتامها وأشدهم عناية بصلة الرحم والعطف على ذوي القربى، ولا سيما الضعفاء منهم، وهذه ناحية إنسانية أهَّلتهم للرسالة.

ومن لطيف العناية بهم أن نال ضعفاؤهم الشأن الأعلى، وبلغوا الغاية القصوى من الخير والمجد والمحامد، وأن الله — سبحانه وتعالى — وقد اختار أحد أفرع هذه الدوحة لرسالته العظمى فأسبغ عليهم النعم منذ القدم، وأقدرهم على الخير والبر والإحسان، وانتقى منهم أشهر العظماء وأضخم الأبطال وأكرم الرجال، وجعله مبعوثًا بالرحمة للأمم، ومصباح الضياء الأسنى للظُّلَمِ، وهو محمد بن عبد الله .

نشأ عبد المطلب في مكة بعد أن دخلها مستضعَفًا وذليلًا، فبسط الله له في الرزق وأنشأه على المحبة والفضيلة وجعله مصدر خير عميم لقومه وللإنسانية. وإن القانون الطبيعي الذي حدا هاشمًا لاختيار زوجه سلمى من يثرب كان منطويًا على حكمة جليلة خافية على الذين لا يؤمنون إلا بظواهر الأمور.

وهذه الحكمة هي ارتقاء النسل المختلط إذا تم الزواج بين الأباعد، ولهذا جاء نسل هاشم ذكيًّا «زكيًّا» كما هي السنة الطبيعية كلما تزوج رجل من غير قبيلته، وكان الزواج قائمًا على حسن الاختيار، وقد كان من نصح محمد بعد ذلك أن نهى عن زواج الأقارب الأقربين خشية أن يجيء النسل مشوبًا بضعف البدن أو العقل؛ لأن المشاهَد أن يجيء نسل الأقارب في أغلب الأحوال ذاويًا ضعيفًا لخلو الدم من العناصر الغريبة التي تسبب التجانس والقوة والجمال والفطنة، والمشاهَد في الأسر القديمة التي حصرت تناسلها في أقاربها ضعف النسل وانحطاط قواه١ بعد الجيل الثاني أو الثالث؛ فيولد معظم الأولاد بعاهات دائمة في الجسم والنفس. وقد أرادت العناية تنزيه سلالة هاشم عن هذا النقص فاختار زوجًا يثربية؛ فجاء عبد المطلب جميلًا قويًّا فصيحًا مقدامًا كريمًا سمح النفس رَضِيَّ الخلق حسن العشرة، جامعًا بين ذكاء أهل مكة وخبرتهم بالمعاملات وإقبالهم على التجارة وحب الأسفار والتنقل، وبين أخلاق أهل المدينة المعروفين بلين العريكة ودماثة الطباع وظرف الشمائل ونعومة العيش. فلم يكن عبد المطلب بالمكي الشديد الحب للمال، المستهتر بالحياة، المفطور على الشدائد والمصاعب، ولا بالضعيف المسترخي الآخذ بأهداب الفراغ وحب الراحة، بل كان مثال الاعتدال في كل شيء، وكان خليقًا به أن ينبت ويشب كأبيه هاشم، فتى قريش وسيدها السند، وزعيمها الذي يُعتمد عليه في المواقف كلها، نجدةً وشهامةً وتضحيةً في مروءةً وشجاعةً في لين وحلم، وقد حل عبد المطلب محل أبيه وشغل مكانته الاجتماعية؛ فورث عنه الرفادة والسقاية، وقديمًا رأينا هاشمًا يملأ الجفان ويهشم الثريد للجائعين في مكة حتى قالوا فيه الشعر، وكذلك ورث السقاية للحجيج، وناهيك بمن انتهت إليه وظيفة الضيافة في مكة، وهي مورد السائحين والعابدين، ومحط رحال الرائحين والغادين، وملتقى التجار والحجيج من كل فج، وممر القوافل من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

كان عبد المطلب يرى الأصنام في كعبة مكة كما رآها في المدينة، وكان يرى النصارى واليهود في القريتين ويعرف الفرق بين دينهم ودينه، كما كان يسمع أحاديث الرواة وقصائد الشعراء وأخبار القصاصين عن قصور فارس وملوكها، ومعابد العجم وسدنتها، ونار المجوس المقدسة التي لا تنطفئ، وحراسها المقنعين الذين لا يغمضون عنها، وعن بابل وعظمتها، ونينوى ومعابدها، وعن كلدة ومبانيها وعن سلع ومعابد الشمس فيها، وتدمر وهياكلها، والزباء ومكرها، ويتفكه بأنباء اليمن وأخبار الخورنق ونوادر الشام وقصور صنعاء الشامخة وكنوزها وكنائس الحبشة ونجاشيها، وجمال جواريها، ورقة أهل مصر ونيلها وعجائب آثارها، وقوم الروم ونظمهم، وسلطان الفرس وعدلهم؛ كل ذلك يرويه شهود الرؤية وجوابو الآفاق؛ فكانت طفولته في يثرب وشبابه في مكة بمثابة التخرج من جامعة حافلة بأنواع المعارف تعلَّم فيها وتهذَّب، وهو يلهو ويتسلى؛ لأن مكة كانت لعهده مركزًا لمدنية الشرق الأدنى وممرًّا لتجارة الأمم الدانية والنائية، كما كانت بمثابة المعرض الدائم للفصاحة والبلاغة، والتجارة والصناعة. وما كان المكيون يرحلون إلى البلاد القصية عبثًا؛ فقد يعودون إلى «أم القرى» بالأدم والخمر والخز والسندس والمعادن النفيسة والجواهر الغالية، وإذا راق لهم إله غريب وأحبوا عبادته جلبوه إلى قريتهم أو صنعوا مثله ووضعوه في مخدع أربابهم وعبدوه معها ليجلبوا إليه وإليهم عباده ولو كانوا في أقصى الأرض، ويعتقدون أنه يجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر، حتى الآلهة التي كانت تغرق، وتلقي بها الأمواج على شواطئهم يتولَّوْن إنقاذها وينصبونها ليعبدوها. كان عبد المطلب وثنيًّا بحكم بيئته وقريته وأهله، ولكنه كان حر الفكر بحكم نشأته وتعليمه؛ فكان يخضع للدين العام خضوع الفرد لحكم القبيلة، ولكنه كان يشعر في حنايا ضلوعه بعقيدة أخرى أوحتها إليه سماء الحجاز بجمالها وتألُّق كواكبها، وصحراء بلاد العرب بسعتها وترامي أطرافها وعليل نسيمها، وبروعة تلك الجبال الشامخة التي يكللها الغمام الأزرق فتعتم بألوان البنفسج واللازورد، وتطل على الوديان والواحات، وتشرف على خضرة الأعشاب ورءوس النخيل وأعين الماء الصافية الدائمة الخرير.

هذا فتى قريش قد أنجبه هاشم وسلمى، ورباه المطلب، واحتضنته مكة، وفرح به فتيان قريش وكهولها، ونادمه شبابها، ورمقته فتياتها بأعينهن الدعج، ووراءه ماضٍ جليل وأمامه مستقبل مزهر حافل بعظائم الأمور؛ فهو — بلا ريب — زعيم قريش المدخر وقائدها إلى المفاخر.

وكانت مكة لذاك العهد حكومة فطرية لها مجلس عام في فناء المسجد ومجلس خاص في دار الندوة، فاقتسموا فيما بينهم السلطة المدنية، وجعلوا لكل سيد منهم نصيبًا من النفوذ والمناصب؛ فكان لبني عبد شمس ولبني عبد الدار ولبني مخزوم ما لهم من مظاهر المجد والعظمة، ولكل سيد منهم مآثر ومفاخر ولكنها لم تصل قط في سموها إلى ما وصلت إليه مكانة بني هاشم، ولكل سبط من أسباط قريش خلة يُعرفون بها وتُعرف عنهم؛ فهؤلاء بنو أمية اشتُهروا بحب المنافسة والظهور مع ضعف الخلق؛ فنساؤهم أقوى من رجالهم، كما اشتُهر بنو مخزوم بالكرم والجمال والتفاني في حفظ الأعراض، واشتُهر بنو عبد شمس بحب المال واكتنازه. أما بنو هاشم فاشتُهروا بالشجاعة والكرم والفصاحة وحب الدعاية والإقدام والميل للنساء في غير ضعف ولا استكانة. نقيض الذين خضعوا لهند وصواحبها.

استكمل عبد المطلب رجولته فتزوج من سمراء بنت عامر بن صعصعة، ولكنه عقد عليها عقدًا غير الذي عقده أبوه على أمه سلمى النجارية. ولم يكن بنو عامر بن صعصعة ممن يقيمون في المدن ويخضعون لنظم الزواج وسيادة الرجل التي لم يتطلع إليها بنو أمية.

فانتقلت سمراء من خيام قبيلتها إلى بيت بعلها راضية بحبه خاضعة لحكمه لا تشاركها فيه زوجة أخرى ولا ينازعها حب سُرِّيَّة ولا عشق محظية على شيوع هذه العادة في بني عبد شمس.

ولا بد أنه كان للوسط الجديد أثره في ذهن تلك العروس البدوية. كان أهل البادية أقل إيمانًا بالكعبة وأصنامها من أهل مكة، بل كانوا حينًا ينتقدون تماديَهم في تمجيد هذا البناء المكعب الذي يضم صورًا وحجارة لا تنطق ولا تسمع، ومع ذلك فقد زيَّنوها بالجواهر واليواقيت وحلَّوْها بالمعادن النفيسة وكسَوْها بالخز والديباج والسندس، ولولا حاجة أهل البادية ومنافعهم لما هبطوا إلى بطاح مكة حاجِّين ومعتمرين وناحرين متزلفين. وقد ظن أهل البادية أن أهل مكة قوم ضعاف يكبرون ما لا يكبر غيرهم ويعبدون ما لا يعبد سواهم، ويخدعهم أن قلوب البدو والحضر تتهافت عليهم فيحسبون أن هؤلاء المقبلين والمدبرين إنما يقبلون على مكة بالدين ويولون عنها بالطاعة. هذه صورة تقريبية لمعقولية أهل البادية قبل الإسلام بقرن ونصف. وفي الحق كان أهل مكة أكثر فطنة من أهل البادية؛ فقد اتخذوا هذا البناء المكعب معبدًا كما اتخذوه وسيلة للترغيب ومَعينًا للرزق لا ينضب بعد حلول الأصنام محل الحنيفية دين إبراهيم يجذب الحجيج ويجلب السائحين والزائرين، يدفعون لهم عن يدٍ أموالًا طائلة، كما تدفع الشعوب المحكومة الضرائب للحكومات المتغلبة، ويقبلون عليهم بما لديهم من عروض، وينصرفون عنهم بما يشترون من البضاعة يحملها تجار مكة من الآفاق النائية.

وكذلك كان القادمون يعقدون في بطحاء مكة تلك المواسم الشهيرة والأعياد المقدسة ويتجشمون المشاق ليَفُوا بالنذور، فيضحون بالضحايا، وينحرون الذبائح، وتلك خلة أخرى عظيمة النفع وهي إطعام الفقراء، كما رأيناه من فعل هاشم في المجاعات؛ ففي معظم أشهر العام يقبل أهل البادية من كل فج تعج بهم مكة ويقبل الحجيج من البطاح والظواهر، فيتنافس القادمون في تقديم الضحايا للأصنام ويستبقون في تقديم القرابين فتُنحر الإبل ويُقتسم اللحم الغريض، ويكثر الطعام والشراب فلا يبيت في مكة جائع ولا ظمآن، وهذه الضحايا تُباع وتُشترى في قريش، وتُذبح على مذابح قريش، ويتناهبها فقراء قريش وبائسوها. وإذن لم يكن تمجيد أهل مكة لتلك الأصنام عبثًا، ولا تقديسهم الكعبة لهوًا ولعبًا، ولا تزيين هذا البناء تسلية وترفيهًا، بل كان لمآرب اقتصادية بعد الغاية الدينية، ولكن أهل البادية لا يفطنون إلى دقائق الأمور التي حذقها المكيون وأدركوا حقائقها؛ لأن في أهل البادية طباعًا غليظة ونفوسًا تحكمها الظواهر، كما أنهم لا يستشعرون ولا يدركون معنى الغيب المستور أو الغموض الذي تنطوي عليه المعتقدات الدينية، وهم لا يؤمنون إلا بما يرونه رأْي العين، ولا يخشَون إلا القوى الظاهرة؛ فكان حظهم مما وراء الطبيعة محدودًا. قلنا إن عبد المطلب كان صاحب السقاية والرفادة، فما هي السقاية التي تكبده في سبيلها ما تكبد؟

(١) السقاية

كانت السقاية في مكة وظيفة وتكليفًا والتزامًا وعلامة شرف يُعِد صاحبُها حياضًا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقِرَب، وذلك قبل حفر زمزم، وكان يقذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لشرب الحجيج أيام الموسم حتى يتفرقوا.

وقام بالسقاية والرفادة بعد قصي ابنه عبد مناف ثم ولده هاشم وبعده أخوه المطلب، فلما شب عبد المطلب فوض إليه عمه أمر السقاية والرفادة في حياته، فلما مات المطلب وثب على عبد المطلب عمه نوفل، فاستنجد عبد المطلب بخاله أبي سعد بن عدي بن النجار، فأنجده وتنازل نوفل لعبد المطلب، وهذه النجدة التي أشرنا إليها في مقدمة هذا الكلام بالتجاء عبد المطلب إلى خئولته بيثرب. ولما حفر عبد المطلب زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب يستحضره من بساتين العنب التي كان يملكها ولده العباس بالطائف. ولا ينكر بعض مؤرخي الإفرنج وظيفة السقاية والرفادة على عبد المطلب، ولكنهم يغمزونه عند ذكرها كما صنع مرغليوث حيث يقول:٢ «وليس من المعقول أن يكلف عبد المطلب نفسه كل هذه النفقة وتلك المشقة بدون مقابل، فلا بد أن السقاية والرفادة كانتا في مكة من التجارة الرابحة، ولم تكونا مشرفتين لصاحبهما؛ فإن النبي حرم بيع الماء.» ولا علاقة بين الأمرين كما ترى!

وغني عن البيان أن مرغليوث يقيس على بعض بلاد أوروبا الغربية؛ حيث لا يقام للكرم وزن إلا نادرًا، فلا يتصور رجلًا يضيع ماله على الجود وصنع الخير؛ لأنه في معظم بلاد أوروبا لا يستطيع الرجل أن يشرب جرعة ماء بلا مقابل؛ دع عنك الطعام! فكيف يصح في ذهن مرغليوث وأمثاله أن عبد المطلب ينقل الماء وينقع فيه التمر والزبيب للحجيج إحسانًا منه وتقربًا إلى الله أو خدمة عامة للجماعة المكية، ولكن الشرق كريم والعرب، والماء ملك مشاع بين القبائل، والقِرى (إكرام الضيف) من الخلال التي سارت مسير الأمثال في البادية، وكان لأهل مكة مصادر كسب غير بيع الماء.

وإن كان بعض ملوك مكة قبل الحكم الوهابي باع للحجيج قربة الماء القراح بدينارين فلم يضره، وكان المثل يضرب بثروته قبل ذلك، ولكن لم ينسب كاتبٌ بيعَ الماء لعبد المطلب قط!

(٢) الرفادة

أما الرفادة فهي إطعام الحجيج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وكانت قريش على زمن قصي — أحد أجداد النبي — تُخرج من أموالها في الموسم ما تدفعه إلى قصي، فيصنع به طعامًا يأكل منه من لم يكن مع سعة ولا زاد كأنه زكاة المال والصدقات، وما زالت هذه العادة إلى أن زالت الخلافة من بغداد ومصر؛ فهي من نشأتها مقصورة على الفقراء من الحجيج وهم في الغالب قليل؛ لأن المسلم لا يحج إلا إذا استطاع إلى الحج سبيلًا وتوافرت لديه الوسيلة.

ولم يكن شخص واحد يقوم بالنفقات، بل كانت الرفادة نوعًا من التعاون على البر والمساهمة في إكرام الفقراء من الحجيج، وهم ضيوف قريش كلها بعد أنهم ضيف الله. هذا كلام لا يدركه مرغليوث ولا يرضاه!

(٣) القيادة ثالثة المناصب في القرية المكية

وهي أمارة الركب، وصاحبها يقود الناس في غزواتهم، وكان صاحبها بعد قصي عبد مناف وولده إلى أن تولاها أبو سفيان صاحب راية العقاب الذي قاد قريشًا ضد النبي في بدر وأحد وفي يوم الأحزاب أو الخندق، وكانت القيادة لا تُعقد إلا للأمير الشجاع الداهية المحنك في الحرب والسلم، وكان أبو سفيان قبل إسلامه باقعة قريش ومقدمهم وأقدرهم في المواقع؛ ولذا كانت هزيمته على يد النبي مدعاة لإقرار قريش بعجزها، وسببًا في اعترافهم بصدق النبوة؛ فقبِل أبو سفيان الإسلام هو وزوجته هند ولكن في اللحظة الأخيرة والسيف على عنقيهما.

(٤) دار الندوة ووظيفة النيابة في بلدية مكة

كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين. وكانت الفتاة إذا بلغت الرشد وظهرت علامة ذلك تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبد الدار درعها ثم يدرعها إياه فتحجب بعد أن تكون برزة؛ وهي سُنة قصي، كما كان لا يُعقد لرجل على امرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة، ولا يُعقد لواء إلا فيها، ولما مات قصي كانت قريش يتبعون ما كان عليه في حياته كالدين المتبع، ولا زالت هذه الدار في يد بني عبد الدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم،٣ ثم اشتراها معاوية بأكثر من ذلك، واختلفوا في كنه دار الندوة أكانت مجلسًا نيابيًّا أم مجلسًا للشيوخ أم مجلسًا بلديًّا أم محكمة عرفية أم جمعية سرية أم مجلس إدارة لشركة تجارية تنظم الهيئة الاجتماعية وتفصل في النزاع وتصدر الأحكام، أم مجلس حرب تدبر فيها المواقع وترسم خطط القتال، أم نقابة قومية أم غرفة تجارية؟ الحق أنها كانت خليطًا من هذه كلها، كانت بمثابة دار الحكومة المكية أسسها قصي مجمعًا قوميًّا، وكان مكانها في مكة جنوب الكعبة من غرب، وكانت مطلة على الطواف بناها قصي سنة ٤٤٠م قبل مولد النبي بمائة وثلاثين سنة في نفس العام الذي جاء فيه عبد المطلب طفلًا؛ فكانت عودته بداية الحياة القومية. وتركها قصي لولده عبد الدار، وقد سمَّاه بذلك الاسم تفاؤلًا، ونسبه إلى «دار الندوة» نفسها، وآمنة بنت وهب أم محمد بن عبد الله تنتسب إلى عبد الدار؛ لأن أمها برة من بني عبد الدار، فأم محمد من أسرة «برلمانية»؛ لو صحت هذه التسمية الحديثة.

وكان من وظائف «الدار» الحجابة، وهي الخاصة بالبنات — وتقدم وصفها — والاجتماع للشورى في الأمور ذات الشأن، وفيها اجتمع المعارضون من قريش ليكيدوا للنبي ويتآمرون به، وقد اتخذتها قريش موطنًا للمؤامرة ضد النبي بعد أن كانت معقل العظمة القرشية. وفي السنة السابعة للهجرة اجتمع فيها المعارضون وأطلوا منها على طواف النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار، في طواف العمرة؛ لأنها تطل على المطاف، كما يرقب الناس مرور الملوك والأمراء من أماكنَ مشهورةٍ في طريقهم في زماننا هذا.

١  كما هي الحال في بعض الأسر المالكة في أوروبا ومعظم الأرستقراطيات المسيحية والإسلامية. انظر أصول الحضارة لأفبري.
٢  ص٤٨، تاريخ محمد، لمرغليوث، وهو مملوء بالأحقاد والأضغان وتشويه الحق.
٣  قيمة ذلك بالمال في عصرنا الحاضر من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جنيه. وهذا يدلنا على أن أبا بكر كان من أصحاب الملايين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤