قس بن ساعدة

قيل إن الرهبان الذين لقيهم الرسول ثلاثة: بحيرا ونسطور وقس بن ساعدة، لقي الأولين في وطنهما وتحدث إليهما وعرفا أنه النبي الذي بشَّر به عيسى، كما بشر موسى بالمسيح، وأنه الذي وُصف في التوراة. ولقس الإيادي شأن في نظر التاريخ المحمدي؛ لأنه كان ناسكًا متنقلًا، وكان خطيبًا فذًّا قبل الإسلام، ولأن النبي اكترث له، وخلة رابعة لطيفة وهي أن محمدًا وأبا بكر اجتمعا في شبابهما حول منبره ولم يكونا قد تعارفا، وسمعا خطبة قس الشهيرة ولم يعِ النبي منها شيئًا وإن كانت شخصية الرجل قد تركت في ذاكرته أثرًا كالذي تركته صورة عبد الله بن جدعان في حربه وكرمه.

كان محمد — عليه الصلاة والسلام — طلعة فيما يتصل بعظماء الرجال في الجاهلية؛ لأنه كان يلمح فيهم شعاعًا من نوره الفياض، فلما صار أخطب الخطباء وأفصح الناطقين بالضاد ونزل عليه أبلغ الكتب، عادت ذاكرته إلى من كان لهم قبس من نور العقل وفصوص من جواهر الحكمة ولو لم يدركوا بعثته، وقد لازمه إعجابه بالمتميزين إلى حدود الكهولة، فكان يقول: «اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين.» وما زال واضعًا عينه على خالد بن الوليد، حتى بعد موقعة أُحد وحتى ضمه الله إلى حصن الإسلام فسماه سيف الله.

الثابت أن محمدًا لم يتعلم في صغره وكان أميًّا بكل معاني هذه الكلمة، ولكن يظهر أنه كان ذا ذاكرة قوية وكان يحضر أحيانًا أسواق الأدب ومجامع الشعراء والخطباء، وفي خبر أنه حضر سوق عكاظ وسمع قس بن ساعدة يلقي خطبته المشهورة، وهذا دليل على أنه كان في شبابه يقضي بعض أوقاته في سماع الشعر والخطب، ولكنه عندما أراد استعادته لم يتمكَّن.

ومن غريب ما يُروى أن اليوم الذي سمع فيه محمد خطبة قس في سوق عكاظ كان كثير من الشبان من جيله وسنه وطبقته حاضرين فسمعوا الخطبة ووعوها، ومنهم أبو بكر الذي صار فيما بعد أعظم أصدقائه وأقرب الناس إليه. فما أغرب هذه المصادفة؛ فقد كانا على قيد ذراع أو ربما تجاورا في الموقف أو تبادلا كلمة تحية أو نظرة احترام، ولم يكلم أحدهما أخاه، ولا يعلم أحدهما أنه سوف يكون للآخر نصيرًا ومعينًا لمدة عشرين عامًا، ولم يعلم أبو بكر أنه سيلي ملكًا وسلطانًا بسبب اعتقاده في هذا الرجل وثقته به، وأنه سوف يصاهره ويرافقه في هجرته ويُلذع من أفعى يَسري سمها في بدنه، ويخاطر بحياته المرة بعد المرة في سبيل محمد ونصرة محمد ودين محمد، وقد تعرَّف إليه في التاسعة والثلاثين من عمره قبل المبعث بعام واحد.

ولم ينسَ الرسول هذا الموقف ولم ينسَ قسًّا طول حياته، وعلامة تلك الذكرى كثرة سؤال الرسول عن قس بعد البعثة؛ فإنه لم يَرَه إلا مرة واحدة في عكاظ، ولا يعرف أحد مكانًا من الأمكنة التي تنقَّل فيها قس أو تنقَّلت فيها قبيلته (إياد) وهل كان يعيش بينها أو كان يعيش بين قبيلة أخرى غيرها أو كان يعيش هائمًا متنقلًا لا يقر في مكان؟ وكما قيل إنه كان أسقف نجران. كذلك قيل إنه لم يكن تُكنُّه دار ولا يقر له قرار، ويتحسى في تقفره بعض الطعام ويأنس بالوحوش والهوام، ويعيش أحيانًا في رءوس الجبال وفي ظل الأشجار، ويفد على الملوك زائرًا كما ورد على قيصر وكسرى فيسألانه في الحكمة والطب ويكرمانه ويعظمانه. وعلى الرغم من تناقض الأخبار وإبهام حياة قس في نسيجٍ من الأساطير، فقد نقدِّر له السنة التي تُوفِّي فيها حوالي ٦٠٠م؛ أي قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة، ولكن الذي يهمنا أن الجارود بن عبد الله لمَّا وفد في وفد عبد القيس سأله الرسول: يا جارود، هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسًّا؟ قالوا: كلنا نعرفه. وسأل في مرة أخرى: ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: مات يا رسول الله.

وفي مرة ثالثة سأل: ألكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا: مات يا رسول الله.

وفي كتب الحديث ذُكر قس وسماع النبي إياه في سوق عكاظ من طرق متعددة (انظر الطوالات للطبراني، والإصابة لابن حجر العسقلاني)، وإن تكن كتب السير وأمهات الأدب قد اغترفت من بحر هذه الرواية، إلا أننا نثق بالإصابة كل الثقة، والعسقلاني صاحب الإصابة يذكر أن طرق الحديث الخاص بقس كلها ضعيفة ولا تصلح للاحتجاج بها.

غير أن حديث قس وسماع خطبته ووصفه وسؤال النبي عنه لا تقدم في الرسالة ولا تؤخر، ولو حرص المؤرخون على إنكار لقاء الرسول لهؤلاء الرهبان والمتألهين والناسكين لما أبقَوْا على ذكر واحد منهم، وإنما ذِكر هؤلاء الرهبان دليل صدق المؤرخين، وإنما في تاريخ قس طرافة كتلك الطرافة التي تحيط بحياة الغامضين في التاريخ. وكانت حياة قس محاطة بالغموض من بدئها إلى نهايتها. إن الجارود بن عبد الله لم يقصر في وصفه للرسول من أنه كان يلبس المسوح ويتبع السياح على منهج المسيح لا يغير الرهبانية، مُقرًّا بالوحدانية، تُضرب بحكمته الأمثال وتنكشف به الأهوال وتتبعه الأبدال … إلخ.

ولم يكن النبي في حاجة إلى التعريف بقس؛ فقد رآه ولكنه كان يسأل عما جرى له بعد خطبة عكاظ، ونحن نشك في كلمات الجارود؛ لأنه لم يكن يجرؤ على قولها أمام النبي لثلاث؛ الأولى: أنه لا يجمع بين الرهبانية والإقرار بالوحدانية؛ فإن كان قس نصرانيًّا فليست هذه عقيدة النصارى، ومن أهم أصولها عقيدة التثليث وألوهة المسيح وعقيدة الصلب والفداء، والقرآن يذكر ذلك: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ. وينكر الصلب ولا يقر نظرية الفداء ولا الخطيئة الأولى. والثانية: أي أهوال تنكشف بقس. والثالثة: أن كلمة «الأبدال» منسوبة إلى الجارود، وهم طبقة من أولياء الباطن صوفية حديثة بالنسبة لزمن النبي، ولم تكن من المتداول على الألسنة في عصره! ولكن هذا لا ينفي أن الجارود كان على حقٍّ في نسبة التوحيد لقس؛ لأن الآثار التي وردت فيما كان يدعو العرب إليه لا تفيد أكثر من أنه كان يدعوهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث والحساب، ولم يرد فيها أنه كان يدعو إلى عقيدة التثليث والصلب والفداء ونحوهما؛ وهي العقائد التي لا تثبت النصرانية إلا بها، بل لم يرد فيها أنه كان يدعو إلى الإيمان بعيسى — عليه السلام — وإنما ورد أنه كان يبشر العرب بدين جديد قرب ظهوره بينهم. أما كلمة «الأبدال» فلعل الذي كتبها مشيرًا بها إلى ولاية قس وقدرته على التصرف في الكائنات ومنها خضوع الوحوش كما خضعت لبوذا في خلوته تحت شجرة التين! وكما خضعت لدانيال في سجنه ببابل، فلعل مصدره حكاية رواها قصاص أو مؤرخ أنه رأى قسًّا على عين ماءٍ تقصد إليها السباع لتشرب، فكلما زأر منها سبع على صاحبه (كما يختلف البشر على بئر عند ورود الآبار) ضربه قس بعصًا وقال له: كف حتى يشرب الذي سبق! فكأنه كان يفهم لغة الحيوان ويفهم السبع لسانه! ونحن نعلم أن هذه المعرفة لم يؤتِها الله إلا نبيه سليمان (سورة النمل)، ولكن الله قدير على أن يؤتيَ علمه وحكمته من يشاء …

إن لم يكن قس نصرانيًّا ولا أسقفًا في نجران ولا وليًّا واصلًا هائمًا متصرفًا تنكشف به الأهوال وتتبعه الأبدال، فماذا كان؟ هل كان من قدماء الحنفاء الذين ظهروا في بدء انحراف العرب عن ملة إبراهيم إلى الوثنية فكان يدعوهم إلى العَود إلى الحنيفية السمحاء ويحارب فيهم بدعة الوثنية التي أدخلها عمرو بن لحي؟ وإذنْ وجب ضمه إلى هؤلاء الحنفاء ومنهم أمية بن أبي الصلت في الطائف، وزيد بن عمرو بن نفيل في مكة، وأبو قيس بن أبي أنس وأبو عامر في المدينة، وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي الذي أراد ملكًا على مكة ولحق بقيصر.

والواضح من تراجم هؤلاء المتحنفين أنهم لم يكونوا وثنيين، ولم يكونوا يهودًا أو نصارى كما أراد أن يلحقهم صاحب كتابَي «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» و«شعراء النصرانية»،١ بل كانوا وثنيين ثم ألحدوا وكفروا بالوثنية ورجعوا بأقوالهم وفعالهم إلى ملة إبراهيم، وذهبت مطامع بعضهم إلى ارتقاب النبوة تهبط عليه؛ لشدة ما وثق من مخالفة دين آبائه للمعقول؛ فكانوا رواد عقيدة التوحيد ولكنهم لم يدركوها، إلا واحدًا أو اثنين أكل الحقد قلوبهم فانتحلها واحد ثم ارتد، ونفى آخر نفسه باختياره من مكة حتى قضى نحبه!
وأقرب إلى الحق والعقل والتاريخ أن قسًّا كان أسقفًا ثم عدل عن المسيحية لأسباب مجهولة كالتي ألجأت المتحنفين إلى العدول عن الوثنية. ولكن قسًّا لم يستطع أن يتهود لتعلقه بالتوحيد الذي جاء به موسى؛ لأن دين المسيح كان أحدث عهدًا، ولأن عادة العقلاء في العرب إذا تركوا الوثنية أن يتهودوا أولًا ثم يتنصروا، كما فعل ورقة بن نوفل الذي لو أدرك الإسلام لآمن به، لا أن يتهودوا بعد النصرانية! فاختط قس الذي كان نسيج وحده لنفسه هذه الخطة؛ وهي أن يمجد التوحيد ويدعوَ إليه ويحبذ ظهور نبي جديد ويبشر به ولو تبشيرًا مبهمًا أو واضحًا، ويضيف إلى دعوته نتفًا من المواعظ العامة التي لا يأباها أي دين. وقد سار في سبيله في العصر الحديث هياسنت لوازون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ فتحرر من دينه وكان قسيسًا كاثوليكيًّا شهيرًا (انظر مجلة مركور دي فرانس سنة ١٩٢٠) وساح وخطب متنقلًا بين لندن وباريس ولوزان وجنيف والقاهرة، وفي خطبه تحبيذ كبير لعقيدة التوحيد. وإن الذي يحدث له ذلك ويأنف أن يعلن تغيير عقيدته لروابط الأسرة أو حرصًا على المكانة الاجتماعية أو خشية الاتهام باللوثة؛ لَيشعر بقلق عظيم واضطراب مؤلم، ولعلهما سبب تنقل قس حتى إنه ليخطب على ناقته وقد اتخذ من ظهرها منبرًا متجولًا. وقد أعان قس كما أعان هياسنث لوازون Hayasinthe Loyson قدرته في الخطابة وشعره الذي كان يزين به خطابته، وقد ضربوا بفصاحته المثل وتهكموا على من يحاول مطاولته؛ قال المعري في نعي صروف الدهر في لاميته الجميلة:
وعير قسًّا بالفهاهة باقل!

ونسبوا إليه الحكمة حتى تغنى بحكمته أعشى قيس فقال:

وأحكم من قس وأجرأ مِ الذي
بذي الغيل من خفان أصبح خادرًا

وقال الحطيئة:

وأقْوَل من قس وأمضى إذا مضى
من الرمح إذ مس النفوس نكالها

ويؤيد الرأي في هذا التحليل لقس أنه كان يُعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها كما عُني هياسنت لوازون بالخطابة الدينية بعده بثلاثة عشر قرنًا، وكما عُني رجل من طراز آخر في سعة العلم وأفق المعرفة، وهو إرنست رينان بالكتابة الدينية، فإنه بعد أن تحوَّل عقله عن دينه لم يرق في نظره بحث غير حياة المسيح وأعمال الرسل وتاريخ بني إسرائيل، وساح في الشرق لزيارة هياكل اليونان وقبر المسيح. الفرق بين هؤلاء مئات السنين ودرجات من العلم قد لا تقاس ولا تقدر، ولكن الميول واحدة والنفسيات واحدة والطرائق واحدة، فقس أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالبعث والحساب. قد يقال إن رينان رمى إلى الهدم! فنقول بل رمى إلى التحرير والتبسيط ومقاومة الإبهام والتعقيد، وكذلك حاول لوازون الذي قيل إنه دعا يومًا إلى الجمع بين العقائد في حيرة ويأس من استدراج الناس إلى سماع صوت العقل؛ ولذلك كان قس يؤْثر في خطابته الألفاظ السهلة على غيرها ويختار السجع القصير الفواصل ويلجأ إلى الرقة والعذوبة في ألفاظٍ تتجلى فيها معاني الموعظة الحسنة. وكل شيء لأمثال قس في عصره كان بديهة وارتجالًا وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة؛ فكانت خطبه تارةً طويلة وطورًا موجزة. والكلام عليه أسهل وأيسر من أن يفتقر إلى تحفظ أو يحتاج إلى تدارس، ولم يكن كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، وهكذا كان لوازون، وعلى نقيضهما في هذه الخلة وحدها إرنست رينان الذي كان متعمقًا في علمه متأنقًا في أسلوبه، دقيقًا في تدليله، رشيقًا في رمايته فتمكَّن أن يستر حقيقة فكره بمحاسن عبارته وسحر تنسيقه:

يرمون بالخطب الطوال وتارةً
وحي الملاحظ خيفة الرقباء

ولعل هذه الناحية هي التي أعانت على رسوخ صورة قس في ذاكرة النبي حتى سأل عنه كما يسأل السيد السند البالغ قمة العظمة، عن صديق قديم رآه فعرفه وأكبر خلقه أو أعجبته فصاحته: ما فعل الله بقس؟ أو ما فعل قس بنفسه؟ وكان قس على شيء من الحكمة القديمة كتلك التي أبقت على ذكر سقراط. ألم ينسبوا إليه أنه قال في بعض خطبه: «أفضل العلم معرفة الرجل بنفسه وأفضل العقل وقوف المرء عند علمه وأفضل الأدب استبقاء الرجل ماء وجهه وأفضل المروءة قلة رغبة المرء في إخلاف وعده وأفضل المال ما قضى به الحق»؟ ألم يرد ذكر لقمان في القرآن الكريم لأنه كان حكيمًا وسرد الكتاب الكريم جملة من حكمه؟ ولكن قسًّا لم يرقَ في نظر أهل عصره إلى درجة لقمان.

ولكن النبي لم ينسَ لون ناقته الأحمر كأنها منبر حي يرفع علم الثورة على الوثنية ومساوئ الأخلاق والشهوات والتهافُت والتكاثُر في سوق عكاظ وقُبيل البعثة، وإن لم يعِ الرسول خطبته فقد وعى صورته، وإن لم يستظهر حديثه فقد أنصت إلى صوته وبقيت بعض نبراته في ذهنه، فإن نغم صوت جبريل — عليه السلام — لم يمحُ من ذاكرته غيره من النغم؛ ولذا أخذ — عليه الصلاة والسلام — يسأل الوفود أتعرفون قسًّا؟ ما فعل الله به؟

ما أشد وفاءك يا سيدي! وما أعظم تقديرك للرجال!

١  الأب لويس شيخو صاحب مجلة المشرق ببيروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤