المدينة عند قدوم النبي إليها

كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قومًا من الأمم الماضية يقال لهم: العماليق. وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل عز وبغي شديد، وكان نزوحهم من وطنهم الأصيل بسبب الفاقة، فحطوا رحالهم في المدينة؛ لخصوبتها، وخضرتها، ومائها، ونخيلها، وقد عرفت بطيبة ويثرب (مدينة تريفيس)، ويُظن أنه كانت بها في وقت ما مستعمرة مصرية، فلما استوطنها العمالقة كانوا قبائل؛ منهم: بنو هف، وبنو سعد، وبنو الأزرق، وبنو مطروق، وكان ملك الحجاز منهم رجل يقال له الأرقم. ينزل ما بين تيما إلى فدك، وقد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزروع.

فهجم عليهم اليهود لما ضعف أمرهم، أما مجيء اليهود فقد قيل إنه في زمن موسى، وتبعهم غيرهم من بني ملتهم بعد سقوط أورشليم في يد الرومان، وانتشروا في البقاع الخصيبة ما بين الشام واليمن، وبلغ عددهم في المدينة عشرين قبيلة؛ لأنها كانت أخصب البقاع؛ لأنهم كانوا في الطور الزراعي، وأسماؤهم عربية ما عدا ثلاثًا أو أربعًا أبقوا على أسماء آرامية أو انتسبوا إلى رموز تاريخية لحيوان أو طير، وقد أسسوا سبعين أطمًا لحماية حياتهم وأموالهم، وعندما جاء النبي إلى المدينة مهاجرًا كانت اليهود قلة بالنسبة للعرب، وكانوا أتباعًا لا متبوعين؛ فكان فيهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من بني إسرائيل فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود، وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصةً من اليهود: الكاهنان. قال كعب بن سعد القرظي:

بالكاهنين قررتم في دياركمُ
جمًّا تواكم ومن أجلاكم جدبا

وإذن يمكننا أن نتصور المدينة مقسمة بين اليهود وبعض بطون العرب منهم بنو الحرمان وبنو مرثد وبنو نيف وبنو معاوية وبنو الشظية وهم مزيج من أهل اليمن وغسان وغيرهما، ولكن السيادة كانت لليهود؛ لأنهم أهلكوا العمالقة وأفنوهم واحتلوا أرضهم، ولم يكن لليهود غنى عن تلك البطون العربية؛ لحاجتهم إلى اليد العاملة، فإن اليهودي قل أن يكلف نفسه مشقة العمل أو عناء الزرع مما يتطلب جهدًا، ولا نعرف شيئًا عن نظام الحكم في تلك البلدة إلا أن اليهود كانوا على شريعتهم والعرب إما مشركون، وإما نصارى؛ ولا سيما أهل غسان، ولا بد أن يكون بعضُهم قد تَهَوَّدَ.

فلما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب؛ وهم الأزد، نصح رائدُهم بعضَهم بأن يلحقوا بيثربَ؛ فقال: ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل؛ فليلحق بيثرب ذات النخل. فكان الذين نزلوها الأوس والخزرج، فلما توجهوا إلى المدينة ووردوها نزلوا في صرار ثم تفرقوا فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة؛ لأن المدينة ليست بلاد نعم وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع، وليس للرجل منهم إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات، والأموال لليهود.

وبعد فترة من الزمن تولد الحسد في قلب الخزرج فتآمروا على قتل اليهود وأعانهم أبو جبيلة ملك غسان، فقالت سارة القرظية ترثي من قتل منهم أبو جبيلة:

كهول من قريظة أتلفتهم
سيوف الخزرجية والرماحُ
رزئنا والرزية ذات ثقل
يمر لأهلها الماء القراح

وقال أبو جبيلة للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على هذه البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خيرَ فيكم! ولكن اليهود ناوءوهم وقاوموهم؛ غيظًا وحقدًا، وإن عجزوا عن أخذ الثأر فيمن قتل من أشرافهم وسادتهم، ولكن مالك بن العجلان الذي استنجد أبا جبيلة الغساني على اليهود أول مرة تعلَّم عنه وتلقى درسًا في إفناء اليهود؛ فقتل منهم ثمانين رجلًا؛ فذُلُّوا، وقَلَّتْ مَنعتُهم، وخافوا خوفًا شديدًا، وتركوا التآمر بينهم على الأوس والخزرج، فيقول أحدهم: إنما نحن جيرانكم ومواليكم. فلجأ كل قوم اليهود إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بها، ونذكر أن اليهود عند قدومهم على العمالقة أفنوهم حتى آخرهم، فلم يبقوا على أحد يتعزز بهم بعد هوانه، أو يلجأ إليهم، ولكن العرب أبقوا عليهم.

ثم قامت حرب بين الأوس والخزرج سببها التنافس بين مالك بن العجلان وأحيحة بن الجلاح على أيهما أعز أهل يثرب، ولا يخلو الأمر من دسيسة يهودية؛ للقضاء على القبيلتين، وكان اليهود قد حالفوا قبائل الأوس والخزرج إلا بني قريظة وبني النضير؛ فإنهم لم يحالفوا أحدًا منهم، حتى نشبت هذه المعركة فأرسلت إليهم الأوس والخزرج كلٌّ يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس وحالفوهم، والتي حالفت قريظة والنضير من الأوس أوس الله وهي خطمة وواقف وأمية ووائل، ثم زحف مالك بن العجلان بمن معه من الخزرج، وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة والنضير؛ وهم أشرف اليهود، واسمهم الكاهنان كما قدمنا.

فالتقى الجمعان في فضاء اتخذوا منه ميدان حرب؛ بين سالم وقباء (وهي القرية التي نزل بها الرسول أول ما قدم المدينة وشيد بها مسجد قباء الشهير)، فاقتتلوا قتالًا شديدًا قرَّت به عين اليهود حتمًا، وكانت نتيجة هذه الموقعة الأولى انتصاف الفريقين؛ أي تعادلهم، فالتقوا مرة أخرى عند أطم بني قينقاع فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج، ففاز معهم حلفاؤهم من اليهود، وانهزم مالك بن العجلان؛ وهو عدو لليهود أصلًا، ولبثت القبيلتان — الأوس والخزرج — متحاربتين عشرين سنة، فلما رأت الأوس طول العداء وأن مالكًا لا يهمد ولا يني تقدم إليهم عاقل منهم هو سويد بن صامت الأوسي، وكان يقال له «الكامل» في الجاهلية؛ لأنه كان شاعرًا كاتبًا شجاعًا سابحًا راميًا، فسمعوا له وهو يقول: يا قوم، ارضوا هذا الرجل من حليفه ولا تقيموا على حرب إخوتكم (يعني: الخزرج) فيقتل بعضكم بعضًا ويطمع فيكم غيركم، وإن حملتم على أنفسكم بعض الحمل. فحكَّموا بينهم وبينه الحاكم المنذر أبا ثابت، ويقال ابنه ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسان بن ثابت الشاعر المعروف، فعقدوا مجلسًا عند بئر يقال لها: سميحة. فحكم بأن يؤدي حليف مالك؛ وهو كعب الثعلبي الذي قتله سمير من بني عمرو بن عوف، دية الصريح، ثم تكون السنة فيهم بعده على ما كانت عليه في الصريح على ديته والحليف على ديته، وأن تعد القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم ثم يعطوا الدية لمن كان له فضل في القتلى من الفريقين، فرضي الفريقان بذلك وتفرقوا. وسنرى كيف عالج رسول الله مسائل الحرب والسلم في العهد الذي أعطاه لأهل المدينة بعد ذلك.

لقد أحببنا أن نرسم هذه الصورة الصغيرة لتاريخ المدينة قبل ظهور الإسلام وهجرة الرسول، وهي ضرورية؛ لتعرف الحوادث العظيمة التي صحبت الهجرة وتلت إقامة الرسول؛ فقد صارت المدينة عاصمة الإسلام، وما زالت العناصر التي فيها أكبر عون للنبي؛ فالأوس والخزرج هم الأنصار، واليهود هم الذين اعترضوا النبي وناوءوه، ولم تكن المناصرة متيسرة لو كان اليهود وحدهم أصحاب يثرب، ولكنهم عزُّوا أول الأمر بعد فناء العمالقة، فلما حلَّ الأوس والخزرج النازحون من الجنوب أطراف أرضهم في ضعف وفاقة استعبدوهم وقلدوا فرعون في ظلم الأوس والخزرج كما ظلمهم فرعون في القرون الخالية، وقد روى السمهودي في «تاريخ مدينة المصطفى»؛ وهو من أكبر الثقات، أن قيطونًا أحد زعماء اليهود كان يدخل بعرائس العرب قبل أن تُزفَّ إلى أزواجهن حتى قتله شقيق إحداهن متخفيًا في إزار العروس، ولعل هذا الحادث هو الذي دفع بمالك بن عجلان الخزرجي للاستنجاد بأبي جبيلة الغساني، فلما ذُلَّ اليهود بالقتل كفُّوا عن أذى الأوس والخزرج، وكان بنو قينقاع يملكون سوق المدينة، ولكنهم يحتمون بحماة من العرب، فتبدل الموقف وصارت السيادة للأوس والخزرج، ولولا هذه السيادة ما قدروا أن يعاهدوا النبي أو يبايعوه أو يدعوه إلى بلدهم، فصادف الوقت الذي هاجر فيه الرسول أن كان اليهود حتى الأشراف منهم (الكاهنان) قد انتحلوا أسماء عربية وأتقنوا تلك اللغة، أما انتحال الأسماء فقد جرت عادة اليهود أن يخلعوا أسماءهم ولسانهم في البلاد الأجنبية؛ لينسى الناس أصولهم، وكان من اليهود من يقول الشعر العربي كالسموأل وسارة القرظية، ومعنى هذا أن إقامتهم في المدينة وبين ظهراني العرب قد طالت.

أما ما زعمه ابن دريد واليعقوبي من أن قريظة وبني النضير عرب تهودوا فمخالف للحقيقة، فإن أقوالهم وأفعالهم وتمسكهم بتقاليد وعادات لا تصدر إلا عن بني إسرائيل تنقض ما ذهب إليه ابن دريد واليعقوبي، فالعربي الحديث العهد باليهودية لا يقرأ التوراة بالعبرية ولا يستمسك بما ورثه عن آبائه في مصرَ وبابلَ وكنعانَ، ولا يكون على شيء من الثقافة الدينية التي كان عليها يهود المدينة، ولا يجادل في الدين جدالهم، ولا يعرف من فنون الزراعة ومختلف الصناعات كالصياغة والتجارة وتدبير المال ما يعرفه اليهود الأصلاء، والعربي الحديث العهود باليهودية لا يعرف السحر ولا النفخ في العُقد، ولا يستغني بالتعاويذ والأحجبة والكتابة السوداء عن الحرب والقتال، وحياة هؤلاء اليهود في المدينة كان كثيرٌ منها قائمًا على هذه الحرفة السرِّية وعلى إقراض النقود بالربا وتأسيس المصارف ورصد الحساب في الدفاتر وإتقان الكتابة، والعربي أُمِّيٌّ بطبيعته، وقد أحصى ابن سعد في طبقاته من كتاب اليهود أبا عبس بن جبر ومعان بن عدي وأبيَّ بن كعب وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد وعبد الله بن زيد وأوس بن خولي والمنذر بن عمرو، وغيرهم، وكانوا يكتبون بالعبرية.

ولكن الأوس والخزرج كانوا الكثرة الغالبة في المدينة؛ فيهم العشيرة والبطن والأسرة، والأفراد ينتمون جميعًا إلى القبيلة، فكان كل فئة منهم تقطن خطة أو حيًّا، محاطة بنخلها وزرعها، في مساكن تشبه مساكن الفلاحين في كل أنحاء العالم، مبنية بالطين والتراب، وكان لبعض العشائر الكبيرة بيوت يجتمعون فيها للبحث في شئون العشيرة، ولم يكن فيهم هيكل ولا مسجد ولا معبد، ولبعض أشرافهم آطام يلجئون إليها بأموالهم وأولادهم في أوقات الخطر والشدة.

والآطام التي أوصى بها رسول الله وقال: إنها فخر المدينة وزينتها، مبنية بالحجارة السود في رأسها علامة بيضاء؛ لتُرى عن بعد شاسع، مربعة الشكل كحصون العصور القديمة، وكانوا فيها بمأمن حتى إذا هُزموا فلا يتعدى الظافر أبوابها.

ولا شك أن المدينة في الجاهلية كانت أحطَّ من مكةَ وأفقرَ وأجهلَ؛ فأهلها يوشكون أن يكونوا على الفطرة، أعلى درجات الرجال عندهم الكملة الذين منهم الحكم، وهو ثابت بن المنذر بن حرام، لا فضل له إلا بالفصاحة والرماية، وهذه أرقى درجاتهم الاجتماعية، وعدد الكملة كان قليلًا جدًّا فأين هم من فحول قريش وسادتها وذئاب مكة وقادتها؟! ولا عجب في ذلك؛ فقد كانت يثرب بلدة زراعية، ومكة حاضرة تجارية، فإذا احتاج أهل المدينة إلى تجارة حملها إليهم النبطيون، وكانت لهم سوق باسمهم في يثرب، وكانت المعاملة بالتمر بمعيار المُدِّ؛ لأنه أغنى ثمارها وأهم نتاجها؛ فهو وحدة النقد قبل الدرهم والدينار، كما كانت الإبل في مكة وحدة المعاملة، فأهل المدينة يتعاملون بما يقتاتون به ويقدرون على تصديره، وأهل مكة يتعاملون بما ينتقلون به ويحملون عليه متاجرهم، فلا شك أن أهل يثرب كانوا فقراء، وإن ذكر التاريخ رجلًا واثنين، فلم يكن فيهم كعبد الله بن جدعان ولا أبي سفيان ولا عبد الرحمن بن عوف ولا عثمان بن عفان ولا أبي بكر الصديق، وعشرات من أرباب البيوت الغنية في الجاهلية، حتى كان لهم في الأعراس ثوب واحد، ويقترضون الحلي من اليهود، فأين هذا من بذخ مكة وزخرفها وحللها وزينتها وتبرجها، حتى كان لوالد العروس ثياب يلبسها ليلة زفاف كريمته ذات ألوان وعطور خاصة به.

وقد زاد في فاقة أهل المدينة تسلط اليهود عليهم يأكلون مالهم القليل بالربا؛ فإنهم وردوا المدينة فقراء وعاشوا فيها عالة، فاستعبدهم اليهود ثم وثبوا على اليهود فاغتصبوا منهم السلطة ولكنهم لم يغصبوا الأموال، ولو غصبوها وأحسنوا تدبيرها لحسنت حالهم، ولكنهم لم يفعلوا فبقوا تحت سلطان اليهود في كل ما له مساس بالمال.

ولما كان اليهود على شريعة موسى، والعرب على عبادة الأوثان، وليس بين الطائفتين أساس للتفاهم على الأمور العامة، فلم تكن لهم حكومة ولا قضاء ولا شرطة غير الحرب والصلح بالتحكيم وعرف الزراعة والتجارة، ولكن لم تكن هناك هيئة حاكمة يرجع إليها في الأمور الهامة كما كان في مكة شبه مجلس قروي في دار الندوة؛ لأن مكة كان لها مال وتجارة ورجال مسلحون يعبئونهم للقتال وقوافل جرارة من الإبل ومعرفة بالطرق والمواصلات وأسفار ومواسم للحج والتجارة والأدب، وكان بها مسجد ومعبد كبير يؤمه الناس من جميع الأقطار فيه مخدع للأوثان.

فأين للمدينة كل هذا أو شيء منه؟ فلم ينفعها الخصب وحده وطيبة الأرض وزراعة النخيل والأعناب بقدر ما نفع مكة جدبها وجفافها؛ لأن الطائف كانت قريبة، منها فاشتغلت العقول حتى أخصبت الخزائن بالمال، ونظموا شئونهم بقدر ما سمحت لهم ظروفهم، فكانت لهم تقاليد بلدية وأثارة من معرفة نبغ بها شعراء الجاهلية وبعض المتحنفين الذين كرهوا عبادة الأصنام، ولم يكن بمكة يهود يقرضون أهلها، بل كانوا يتقاضون فيما بينهم كما يفعل أهل دمياط حتى لا يعيش بينهم في زماننا هذا يهودي ولا رومي ولا أرمني، وكما فقدت مكة حكومة معترفًا بها، كذلك كانت المدينة بغير هيئة حاكمة غير تبعة كل قبيلة بأعمال أفرادها، فإذا قُتل قتيل دُفعت ديته، وإذا نشبت معركة لم يسرفوا في إهراق الدماء، فإذا فرَّ فريق مهزوم لم يتبعوه إلى مأمنه؛ ليبيدوه أو يُجهزوا عليه، وقد رأينا في حرب الأوس والخزرج أنهم تقاتلوا في موقعتين؛ إحداهما فاصلة، فلما استمر المهزوم في المناوأة حكموا بينهم كاملًا من كملتهم، فوضعت الحرب أوزارها بعد أن دفع الفريق الذي قتل العدد الأكثر من القتلى ديتهم، وهذا وضع غريب؛ فإن المنتصر هو الذي يدفع الغرامة، على خلاف ما استجدَّ في الدول المتمدنة من أن المغلوب هو الذي يدفع ويغرم ويعمل على إعجازه إن لم تكن الإبادة ممكنة.

•••

هذه حالة المدينة التي هاجر إليها النبي، وقد كانت له صلة نسب قديمة بها؛ فأخواله بنو النجار الذين منهم أبو أيوب الأنصاري، وبداره نزل النبي، وبجواره الأرض الفضاء التي بركت عندها الناقة فبنى عليها مسجده بعد أن اشتراها من يتيمين كانت لهما، وأصل نسب النبي وقرابته سلمى بنت عمرو إحدى نساء بني عدي بن النجار التي ولدت عبد المطلب بن هاشم جد النبي لأبيه، وهذه السيدة كانت قبل زواجها من هاشم عند أحيحة بن الجلاح سيد قومه من الأوس، وكان رجلًا صنيعًا للمال شحيحًا عليه، يتبع بيع الربا بالمدينة حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسعة وتسعون بعيرًا كلها ينضح عليها، وكان له بالجرف أسوار من نخل قلَّ يوم يمر به إلا يطلع فيه، وكان له أطمان: المستطل، والضحيان، فقتل قومه رجلًا من أصهاره بني النجار فأرادوا الأخذ بثأرهم، فجمع لهم أحيحة وأراد أن يأخذهم على غرة، فلما علمت زوجته سلمى بنت عمرو عزمه على حرب أهلها، أسهرته ليلة ثم انتهزت فرصة نومه في الهزيع الأخير من الليل فتدلت من الحصن بحبل شديد، وانطلقت فأنذرت قومها فاستعدوا له، وسماها قومها المتدلية، ولها منه عمرو بن أحيحة أخو عبد المطلب من أمه.

ومن أشهر أيامهم يوم بعاث الذي سبق هجرة الرسول بمدة وجيزة، وفي حوادث هذه الحرب يبدأ ظهور شخصيات كبيرة ممن كان لهم شأن في مناصرة الرسول أو مناوأته، منهم عبد الله بن أُبَيٍّ وأبو لبابة وأبو عامر الراهب وسعد بن معاذ، ومن مظاهر هذه الموقعة أن العداء كان استحكم بين الأوس والخزرج حتى استنجد كلٌّ منهم بعشرات القبائل، وعزموا على أن تكون حرب فناء فيبيد الظافر منهم عدوه المنهزم، وأن يهدم بيوته ويحرق زرعه، وكذلك هلك فيها زعماء من الفريقين، كعمرو بن النعمان رأس الخزرج، ودارت الدائرة على الأوس ففروا، فعزَّ الأمر على حُضير الكتائب فطعن فخذه بسنان رمحه وصاح: وا عقراه! والله لا أريم حتى أقتل، فتنطعت الأوس وجمعت صفوفها وحاربت حتى تغلبت على الخزرج.

وسوف نصِف يوم بعاث بالإسهاب؛ لشأنه في الهجرة؛ فقد روي عن عائشة أنها قالت: إن يوم بعاث قدَّمه الله لنصرة الإسلام، وعندنا أن يوم بعاث أعدَّ له اليهود عدته ولعبوا فيه لعب الثعالب، وقد انتصروا فيه وحلفاؤهم الأوس على الخزرج، فكان من الخزرج أكبر أنصار النبي، وتابعهم الأوس؛ لما رأوا عظمة الرسول وعدله.

كان أول من رأى قدوم الرسول رجل يهودي؛ لأنهم كانوا يترقبونه، وهم على ذكاء وفطنة وقدرة على التجسس، فلما رآه قال: «يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء.»

كان دخول الرسول مدينة يثرب أو مدينة النبي كما سميت بعد ذلك حادثًا من أعظم حوادث التاريخ الإنساني؛ فقد اعتدل ميزان الكون واتجه إلى غايته الجديدة الصحيحة، وبدأت سلسلة من الأعمال الجليلة كان لها أعظم أثر في حياة العالم إلى عصرنا الحاضر، وسيكون لها هذا الأثر الأعظم إلى آخر الدهر، وقد بركت الناقة عند مربد اليتيمين من بني النجار؛ وهم أخواله، كما بركت في قباء في الأرض التي شيد عليها مسجد قباء (مسجد أسس على التقوى)، وما يزال مبرك الناقة في قباء، شاهدناه بالعين، وعليه كتابة باللغة التركية.

وفي نظرنا أن نزول الوحي بمكة أول البعثة، ودخول المدينة في الهجرة، ودخول مكة بالفتح في العام الثامن هي أعظم لحظات الحياة المحمدية، وعندنا وصوله المدينة أعظمها؛ لأنه تمكن في بضع سنين لا تتجاوز أصابع اليدين من تأسيس دولة الإسلام وإقامة التشريع لها كاملًا، وفيها أسس بيته وأتم السنة، وأتم الله نزول القرآن وبدأت المغازي المهمة؛ كبدر، وأحد، والخندق، والفتوحات العظيمة في أنحاء الجزيرة، وفي البلاد الخارجية.

كان النبي حازمًا رأيه مستهديًا بالوحي والإلهام، فشاد مسجده كما شاد مسجد قباء بالطين والتراب وجذوع النخل، وقد صار هذا المسجد أجمل وأعظم مسجد في العالم بعد المسجد الحرام، وأعان في بنائه؛ يحمل المونة، وينشد الحداء؛ ليشجع البناء، ولم يفكر في مال ولا ملك ولا تجارة؛ فقد مارس التجارة في مكة إلى أن ألجأه المشركون إلى الفرار والهجرة، فخرج لا يحمل معه شيئًا سوى زاد الطريق، ولا يصحب أحدًا غير أبي بكر الصديق، ولكنه كان يفكر في أنصاره والمهاجرين قبله؛ فقد سبقه إليها فريق منهم كالذين هاجروا إلى الحبشة، وكان يفكر في الدعوة إلى الإيمان بدين الله وفي توفير الطمأنينة لمن لبوا دعوته وأجابوا نداءه، ففرض حرية الاعتقاد؛ فلا إكراه في الدين؛ لينال هو وأتباعه نصيبه من تلك الحرية التي فرضها؛ فقد علم اختلاف العناصر في المدينة، كما علم أن أهل مكة لن يتركوه في راحة ولن يقصروا في إيغار الصدور وتوليد الأحقاد في نفوس من يجدونهم على استعداد.

لقد وفد على مكة وفد من الخزرج يستنجدون قريشًا على الأوس واليهود، فخذلهم القرشيون، فلا بد أن يكون بعض اليهود وبعض الأوس على وفاق مع المشركين الذي لم يقبلوا مناصرة الخزرج عليهم، ولا بد أن يكون معظم الأنصار من الخزرج، ولا بد أن ينظر اليهود والأوس — وهم مشركون — بعين السخط إلى هذا القادم الجديد الذي يحمل رسالة سماوية ويبدو عليه البأس والعقل والثبات.

المسلمون في المدينة قلة ضئيلة لا يتجاوزون مائتين من المهاجرين والأنصار، والمشركون من الأوس والخزرج كثرة ساحقة، واليهود قلة قوية غنية محاربة، وليس عهدهم بيوم بعاث ببعيد؛ فلم يمضِ عليه ست سنوات، وما زالت العداوة كامنة وكانت حربًا أرادوها للفناء.

اليهود — ولا سيما أشرافهم — دهاة وأهل تاريخ قديم وثقافة دينية، وهذا رجل عظيم مقبل من بلد بعيد كان فيه مضطهدًا، وقد عرفوا الاضطهاد قديمًا وحديثًا، ولعل هذا القادم ينصرهم أو يشد أزرهم أو يُحْدث بسبب دينه المنزل توازنًا بينهم وبين خصومهم، فرحبوا به وأحسنوا استقباله، وقد بدأ الرسول حياته في هيئة اجتماعية جديدة تختلف عن وطنه اختلافًا كبيرًا، عليه أن يربيهم؛ لينتج منهم شعبًا، كما فعل موسى باليهود في صحراء التيه. وقد أحس براحة؛ لأنه نجا من أخطار أعدائه؛ وفيهم أقاربه وجيرانه، وفلت من أيديهم ليلة المؤامرة على قتله، فلن يرى في شوارع المدينة وجوه السوء، ولن يحذر على حياته أنَّى ذهب، وإن يكن قلبه لا يدخله الخوف والحزن، إلا أنه كان يخشى على حياة أهله وأصدقائه؛ فقد كانت زوجته سودة، ومخطوبته عائشة لم يدخل بها إلا بعد ثمانية أشهر من الاستقرار في المدينة بعد الهجرة، وكان حوله وزيراه وصديقاه أبو بكر وعمر، وابن عمه علي وزوجته فاطمة، وكل بناته وأزواجهم ما عدا زينب وزوجها، ورهط من فضلاء الأنصار وشجعانهم، لقد أبدله الله بلدًا ببلد وأهلًا بأهل وجيرانًا بجيران وخصبًا بجدب وخضرةً بجفاء وثمارًا وأعنابًا ومياهًا عذبة تفيض بها غدران وأنهار وآبار عميقة الأغوار تطفئ الظمأ وتروي الأرض فتنبت من كل فاكهة زوجين، وهذه آفاق مفتوحة يسافر فيها النظر فلا تحده تلك الجبال الشامخة الجرداء التي تحيط بمكة إحاطة السوار بالمعصم، هذه أودية خضراء يجودها الغيث وتملؤها الأشجار وتزينها الآطام والقصور، ولا يحدُّ النظر إلا جبل أحد، وقد كان الرسول يحبه فقال: «أحد جبل يحبنا ونحبه.» وإذا كان الجبل أحبه، فما بالك بالقوم وهم الذين بايعوه ودعوه إلى بلدهم وقد فهموه بعد لقاء مرتين ولم يفهمه أهل مكة والطائف بعد جهاد ثلاث عشرة سنة قد خلفت لا ريب في نفسه مرارة؟!

لقد اقتنع الرسول أن الحق والصدق والعدل لا تقوم في العالم إلا إذا دعَّمتها قوة السيف والرمح وسالت بسببها الدماء الغزيرة، إن صاحب الحق والعدل والصدق والفضيلة قد يسعد بها في نفسه، ولكنه حتمًا يشقى بها عندما يلقى المجتمع؛ المجتمع القائم على الواقعات وعلى الكفاح والطمع والكذب والرذيلة، فإن أردت أن تُغلِّب هذه المبادئ السامية على تلك الأدواء الفتاكة فلا بد من حمل السلاح وشدِّ الرحال وقهر خصومك بالسيف؛ لتسود مبادئك، فما بالك إذا كانت هذه المبادئ هي شريعة الله ووحيه وإلهامه وإرادته وفي مقدمتها عقيدة التوحيد؟ لا بد لمحمد من أن يجهز جيشًا لقهر مكة للقضاء على باطلها، ومهما ثبت مركزه في المدينة ورسخ قدمه؛ فإن رسالته تبقى ناقصة إن لم يفتح تلك البلدة ويجبر أهلها بالقوة المادية على قبول الإسلام؛ حبًّا أو كرهًا، وإلا فإنه يدوم صاحب دين محلي مقصور على يثرب، كما كان أخناتون صاحب عقيدة توحيد في عبادة قرص الشمس؛ فقد أبِق إلى تل العمارنة وعبد ربه قرص الشمس، ودعا إليه من دعا، ولم يلبث أن مات حتى انقرضت العقيدة وأرغم كهنة آمون رع خليفته توتنخ آمُن على الردة والعودة إلى طيبة؛ لتمجيد الآلهة القديمة؛ لأن أخناتون كان يؤثر السلامة معتمدًا على هداية العقل والقلب، ولكن هذه خطة فاشلة قديمًا وحديثًا، فإن لم تدافع عن عقيدتك بالسيف فلا تفوز تلك العقيدة أبدًا، وهذا صحيح في كل زمان ومكان ومنطبق على كل رجل وعلى كل جماعة وكل أمة وكل عقيدة؛ ولذا أراد الله أن يظهر الرسول بمظهر البشر في حروبه، فكانت سجالًا؛ ينتصر في بعضها ويهزم في بعضها؛ ليكون درسًا وموعظةً للبشر الذين لا يعينهم الوحي ولا يرسل الله لهم جيوشًا من الملائكة تشد أزرهم في المعارك، وليعتمدوا على أنفسهم وأخلاقهم في نصرة مبادئهم، ومعرفة هذه الحقيقة والاقتناع بها كافٍ للحفز على العمل، لا بد من الحرب بالسيف؛ سواء أكان دفاعًا أم هجومًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤