ولد صغير

في صباح اليوم التالي كان ثمة ولدٌ في ثياب بالية يحمل صندوقًا من الورق به كمية من علب الكبريت، يَجلس على الرصيف المقابل لمطبعة «كمال السيد» في شارع محمد علي، ولم يكن هذا الولد سوى «تختخ» في ثيابه التنكُّرية المفضَّلة … ثياب الولد المتشرد …

واختار الولد مكانًا ظليلًا بجوار أحد الأعمدة الضخمة القديمة … وجلسَ ونظره الحاد مثبتٌ على باب المطبعة … كان قلبه يُحدثه أن ثمة شيئًا سيحدث يُعينه في تتبُّع أثر الزعيم الخفي … ما هو هذا الشيء؟ لم يكن يدري … ومضَت الساعات بطيئة بدون أن يحدث الشيء المرتقب … كانت حركة العمل تدور كالمعتاد … زبائن يدخلون … وزبائن يخرجون … وعمال … وعينا «تختخ» تراقب كل داخلٍ وخارجٍ …

كانت صورة «شحاتة علي» معه … صورته منذ ثلاثين عامًا … لقد تغيَّر بالتأكيد، ولكن هناك أشياء لا تتغيَّر … العينان وشكل الوجه المستطيل كما يبدو في الصورة.

إنه أملٌ بسيطٌ أن تعرف شخصًا من صورةٍ مضى عليها ثلاثون عامًا. ولكن لم يكن هناك حلٌّ آخر … وأقبل المساء بدون أن يحدث شيءٌ.

في فترة المراقبة هذه كان ذهن «تختخ» يعمل ويستنتج … ألم يكن من الأفضل إبلاغ المفتِّش «سامي» عن تطور الأحداث؟ … إنه بالأجهزة البوليسية يُمكنه متابعة عمليات المراقبة أفضل … ولكن في تلك اللحظة ظهر عاملان من عمال المطبعة يَحملان حقيبة كبيرة، انتقلا بها إلى الرصيف المقابل للمطبعة حيث يجلس «تختخ»، وسمع أحدهما يقول: إنه سيُسافر كالمعتاد، ويغيب طويلًا …

قال الآخر: المهم أننا نَقبِض مرتباتنا!

قال الأول: ستَذهب أنت بالحقيبة إلى عمارة الإيموبيليا … و…

وقبل أن يتمَّ جُملته أقبلت سيارة «تاكسي» أشار إليها ثم أوقَفَها ووضعا الحقيبة وركب أحدهما وانطلق، وعاد الثاني إلى المطبعة …

قام «تختخ» واقفًا … لقد أحسَّ أن الحوادث تتحرَّك وأن عليه أن يتحرك أيضًا … لم يكن في استطاعته اللحاق بالتاكسي … ولكنه كان يعرف أين يذهب العامل … وقفز إلى أول ترامٍ صادفه … وسار الترام إلى محطة في شارع شريف عند مبنى الأهرام القديم … وعمارة الإيموبيليا على بُعد أمتار … وأسرع «تختخ» على أمل ألَّا يكون «التاكسي» قد سبقه وبخاصة في زحام الشوارع … ولكن عندما وصل لم يجد «التاكسي» ولا العامل أمام العمارة الضخمة …

لم يتردد «تختخ» … بل تقدَّم من العمارة الضخمة، وقال لأحد البوابين: لقد حضر هنا عاملٌ منذ قليلٍ يَحمل حقيبةً كبيرةً …

وقال البواب: لم أرَ عمالًا ولا حقائب …

وعاد يتحدث مع زميله، ومرق «تختخ» … كالسهم إلى مدخل العمارة الضخمة …

وكم كانت مُفاجأةً له أن يرى العامل والحقيبة داخل أحد المصاعد، وقبل أن يلحق به كان المصعد قد تحرك، ووقف «تختخ» مشدوهًا لحظات، ولكنه نظر إلى أرقام اللوحة المضيئة على واجهة المصعد، وشاهده يقف عند الدور العاشر … ووقف في انتظار حضور أي مصعدٍ آخر … ومرت الدقائق ببطءٍ، وكان قد قرَّر أن يُلقي بنفسه في المعركة … وأن يُواجه الزعيم الخفي مهما كانت النتائج … وهكذا قفز في المصعد عندما نزل، وركب معه عددٌ آخر من السكان … كانوا ينظرون إليه — وهو بملاس المتشرِّد في ضيقٍ … وقرف … ولكنه لم يبال بشيءٍ حتى وصل المصعد إلى الدور العاشر وخرج منه … كان الظلام يسود الدهليز الذي وقف فيه … واستطاع بعد لحظات أن يتبيَّن أربع شقق مغلقة الأبواب حوله … فأين دخل العامل والحقيبة؟!

ووضع صندوق الكبريت جانبًا، ثم أخذ يقترب من كل باب ويقرأ الاسم الذي عليه … منزل مهندس … اسم راقصة مشهورة … مقر إدارة شركة سينمائية … شقة ليس عليها اسم … وضغط زر نور الدهليز … ولكنه لم يكن يعمل …

ووقف «تختخ» في الظلام الخفيف مُندهشًا … أين شقة الزعيم؟

وقرر أن يدقَّ جرس كل باب … وليُغامر … وهكذا تقدم من أول شقة … كانت شقة الراقصة المشهورة … ودقَّ جرس الباب طويلًا … ولكن أحدًا لم يرد … وتقدَّم من باب المهندس، وضرب الجرس … وسرعان ما فتح طفل ظريف الباب وقال: نعم!

قال «تختخ»: إنني أبحث عن شقة الأستاذ «شحاتة علي»!

قال الطفل باسمًا: لا أحد هنا اسمه «شحاتة علي»!

شجعت الابتسامة «تختخ» فقال: ألم ترَ منذ فترة قليلة شخصًا يحمل حقيبة ويدخل شقة هنا في هذا الدور؟

قال الطفل: لا!

تختخ: وهذه الشقة التي ليس عليها اسم … من فيها؟

قال الطفل: لا أعرف … إنها لا تفتح أبدًا!

تختخ: وشقة شركة السينما؟

عاد الطفل إلى الابتسام قائلًا: أظنُّ أنها لا تعمل في السينما أبدًا … لقد حاولت أن أرى نجمًا واحدًا فيها فلم أرَ شيئًا … إنَّهم جميعًا أشخاص عاديون ما عدا ممثلًا واحدًا … «وحيد يسري» …

أحسَّ «تختخ» براحة واطمئنان إلى هذا الطفل الذكي فقال له: هل تحب المغامرات؟

رد الطفل: طبعًا!

تختخ: ما رأيك أن تَشترك في مغامرةٍ!

الطفل: أشترك فورًا … ما هو المطلوب منِّي؟

تختخ: دورٌ صغيرٌ هذه المرة … سأقول لك على رقم تليفون … اتصل به إذا لم أعد إليك بعد عشر دقائق … اطلب المفتِّش «سامي»، واطلب إليه أن يأتي فورًا لأنَّ «توفيق» يطلبه … المفتش «سامي» مدير البحث الجنائي.

ظهرت الشغالة على الباب، ولم تَكد ترى «تختخ» حتى صاحت به: امش من هنا … ماذا تريد؟

ثم أغلقت الباب في وجهه … لم يكن «تختخ» قد أملى رقم المفتش «سامي» بعد … وأحسَّ بضيقٍ شديدٍ … ولكنه توجه إلى الشركة السينمائية وضغط جرس الباب … ومضَت لحظات، وسمع «تختخ» صوت أقدامٍ في الداخل … ثم توقَّفَت الأقدام عند الباب ولم تفتح … وأدرك «تختخ» أن من يقف خلف الباب يُراقبه من العين السحرية التي بالباب … ثم سمع الأقدام تبتعد مرة أخرى … ووقف مكانه حائرًا … وفجأة فتح الباب، وظهر عملاق طويل القامة، انقضَّ على «تختخ» قبل أن يدرك ماذا يحدث، ووضع يده على فم «تختخ» وباليدِ الأُخرى جذبه بشدةٍ إلى داخل الشقة ثم أغلق الباب …

حاول «تختخ» أن يُفلت، ولكن الرجل كان قويًّا كالثور وقال ﻟ «تختخ»: من الأفضل لك أن تهدأ، وألا تَصرُخ وإلا!

وأرخى قبضته بعد أن كاد «تختخ» يُغمى عليه. وقال العملاق: من أنت؟ وماذا تريد؟

كان ذهنُ «تختخ» يعمل بسرعةٍ هائلةٍ للبحث عن شيءٍ يقوله … ووجد فكرة معقولة فقال: إنني أريد أن أشتغل بالتمثيل!

قال العملاق وهو يمدُّ يده في الضوء: لهذا وضعتَ على وجهك بعض المساحيق كالممثلين … لقد جئتَ مُتنكِّرًا فما هو الدور الذي تُريد أن تلعبه؟

كان في صوت العملاق سخرية واضحة … وقبل أن يرد «تختخ» … فُتح بابٌ، وظهر «كمال السيد» … صاحب المطبعة فنظر إلى «تختخ» في ضيق ثم قال: أنتَ مرةً أخرى!

كان شعر «تختخ» المستعار قد انزلق على كتفه بعد صراعِه مع العملاق … ولم يكن في استطاعته أن يُنكر نفسه …

انطلق «كمال» في الحديث بصوتٍ حادٍّ: ماذا تُريد بالضبط؟ ما هي حكاية الصورة التذكارية التي تحملُها؟!

وبدون أن ينتظر ردًّا … دخل الغرفة التي خرج منها، وأغلق الباب بعد أن أشار للعملاق إشارةً معينة … فتقدم العملاق من «تختخ»، ولكن قبل أن يصل إليه كان «تختخ» قد طوَّح بساقه بكل شدةٍ، وأصاب بطرف حذائه ساق العملاق بضربةٍ قاسيةٍ جعلت العملاق يُطلِق آهة عميقة … وأسرع «تختخ» إلى الباب ففتحه وقفز إلى الخارج … ولكن كان في انتظاره مفاجأة قاسية … كان ثمة شخص يقف أمام الباب … وصاح العملاق، أمسِكْه! وانقضَّ الرجل على «تختخ» ودار صراع قصير فقد تدخَّل العملاق مرةً أخرى ووضع يده على فم «تختخ»، وحمله الرجلان ودخلا الشقة، ولم يتركاه إلا بعد أن شدا وَثاقه ووضعاه في غرفة، ثم أغلقا الباب وانصرفا …

برغم الباب المغلق كان «تختخ» يسمع حركة نَشِطة في الشقة … صوت أقدام، وأشياء ثقيلة تُنقَل … وأدرك أن من في الشقة يستعدُّون سريعًا لمغادرتها … وأحس بالضيق العنيف … لقد استطاع في النهاية أن يصل إلى زعيم العصابة بعد ثلاث مغامراتٍ، مخيفة … ولكنه سقط في شرك بسيط ولكن لا يُمكن الفكاك منه …

وتذكَّر «تختخ» الولد الباسم الصغير الذي في الشقة المجاورة … هل فهم كلامه؟ هل يتمكَّن من الاتصال بالمفتش «سامي»؟ ولكنه لم يستطع أن يُعطيه رقم تليفونه … فهل يعرف الولد الصغير كيف يتصرَّف!

بعد لحظاتٍ سكتت الأصوات في الشقة تمامًا … وسمع «تختخ» صوت باب يُفتح ويُغلق وأدرك أن الزعيم وأعوانه قد غادروا المكان … واستطاع أن يفلت بدون أن يراه!

مرت دقائق قليلة ثم سمع «تختخ» صوت باب يُفتح من جديدٍ ويغلق بسرعةٍ، وصوت أقدام تجري مسرعةً داخل الشقة … ثم سمع طرقات قوية على الباب وصوتًا يَصيح آمرًا بفتح الباب … ثم صوت تهشيم … وسمع وكأنه في حلم صوتَ المفتش «سامي» يُنادي: توفيق … توفيق …

ولم يكن في استطاعة «تختخ» … أن يردَّ … فقد كان مكممًا … استمر صوت المفتش ينادي … ثم فتح باب الغرفة ونظر «تختخ» … غير مصدِّق وهو يرى وجه المفتش المتجهم وفي يده مسدسه … أسرع المفتش بفكِّ وثاق «تختخ» وهو يقول: هل آذَوك؟ مطَّ «تختخ» شفتيه اللتين آذاهما الرباط القوي ثم قال: لا! ولكن هل قبض على الزعيم؟

المفتش: لا أدري … ولكن قبضْنا على رجلٍ طويل … وآخر نحيف يلبس نظارةً طبيةً ولم نستجوبهما بعد …

تختخ: ليس فيهما الزعيم … الأول العملاق ليس هو الزعيم … والثاني النحيف هو «كمال السيد» صاحب مطبعة، وأظنُّ أنه شريك الزعيم في التزييف …

المفتش: على كل حالٍ لن يستطيع الفرار منَّا هذه المرة … لقد وضعت حرسًا على المصاعد والسلالم … فإذا كان موجودًا بالعمارة فلن يستطيع الإفلات!

تختخ: مَن الذي أبلغكم بوجودي هنا؟

المفتش: طفلٌ يُدعى «عصام» … قال لي إنك تحدَّثت معه، وأنه شاهد الرجلين وهما يُهاجِمانك على الباب!

تختخ: إنه ولد ممتاز … فلم أقل له على رقم تليفونك!

كان «تختخ» قد تخلص من وثاقه تمامًا ووقف … وأسرعا معًا إلى خارج الغرفة وكان رجال الشرطة يَحرُسون العملاق وصاحب المطبعة، وقد جلسا على الأرض في ذلة …

قال المفتش موجِّهًا حديثه إلى الاثنين: أين بقية مَن كان معكم؟

لم يرد الرجلان، فتقدَّم المفتش منهما وقال: لا فائدة من الإنكار … أين بقية من كانوا معكم؟

قال «كمال»: لم يكن معنا أحدٌ!

المفتش: لم يفرَّ أحد … وسوف يقع الزعيم الغامض هذه المرة!

قال «تختخ» إن اسمه «شحاتة علي» … أليس كذلك!

لم يرد الرجلان فصاح المفتش: أَجِيبا … هل اسمه «شحاتة علي»؟

قال العملاق: إنِّي لا أعرف أحدًا بهذا الاسم!

وقال «كمال»: ولا أنا!

قال «تختخ»: لا يا «كمال» … أنت تَعرف «شحاتة علي» لقد كان زميلك في المدرسة، وأنت شريكه في التزييف!

رفع «كمال» عينَيه إلى «تختخ» في حقد وقال: نعم؛ لقد كان زميلي في المدرسة … ولكنَّني لم أعد أراه!

المفتش: وما سبب وجودك هنا؟

كمال: لي أعمال مع الشركة السينمائية … إنني أطبع لهم الإعلانات!

تختخ: إنهم جميعًا يَخافونه … حتى بقية زملائه الذين يشغلون مناصب هامة … كلهم يُخفُون حقيقته. إنه بالتأكيد يُهدِّدهم!

وفكر «تختخ» لحظات ثم قال: لقد عرفتُ اسمه … إنه «وحيد يسري» …

لم يكد العملاق و«كمال» يَسمعان الاسم حتى بدت عليهما الدهشة والاضطراب … ولاحَظ المفتش و«تختخ» ردَّ الفعل الذي بدا عليهما … وقال المفتش: لقد أصبت … إنه «وحيد يسري» وهو شيءٌ مدهش جدًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤