الحب الأول أو قيصر وكليوبطرا

قصص تاريخي١

كانت الحرب الأهلية دائرة الرحى بين پومپيوس الكبير، ويوليوس قيصر، وكانت مصر في أخريات عصر البطالمة، قد لجأت إلى رومية تطلب منها العون وتستمد الحماية، وكان بطلميوس أُوتيلس، والد كليوبطرا، قد خلف وصية، ترك فيها أمر الوصاية على أولاده الأربعة، بطلميوسين وكليوبطرا وأرسنوي، للجمهورية الرومانية، فلما مات انقسم الأحزاب في رومية شطرين: شطرًا يريد أن يتخذ من هذه الوصية ذريعة لامتلاك مصر، مفتاح الشرق، وشطرًا يكتفي ببسط النفوذ الروماني على البلاط البطلمي في الإسكندرية.

وكان «پومپيوس» الكبير ممن عطفوا على بطلميوس أوتيلس، والد كليوبطرا، واستخدم نفوذه ليعود إلى العرش، بعد أن اضطر إلى مغادرة مصر إثر ثورة دموية اضطربت منها الأحوال، وانتكست الأمور، فلما أن رجع بطلميوس إلى مصر واسترد عرشه، أصبح للقائد الروماني شبه دالة على بلاط الإسكندرية.

ومات بطلميوس أوتيلس، فتزوج أكبر ابنيه، بطلميوس الثاني عشر، من كبرى بنتيه، كليوبطرا السابعة، تنفيذًا لوصيته، وخضوعًا لعرف الأسرة البطلمية، ودارت رحى الدسائس، يزكيها فوتينوس وأخيلاس وثيودوتس، ليستأثروا ببطلميوس الصغير الأحمق، بأن يبعدوا عنه النمرة الصغيرة: كليوبطرا، أخته وزوجته.

فرَّت كليوبطرا ناجية بدمها إلى حدود سورية، ومضت تجمع الجيوش لغزو مصر من طريق سينا، وجمع بطلميوس حشده وتحصن في قلعة فلوسيوم، وهي ميناء مصرية حصينة، تشرف على البحر، وتقع في سفح الصحراء المنخفضة المرملة، على بضعة فراسخ شرقي الموقع الذي تقوم عليه الآن «بورسعيد»، وتأهب الجيشان للجلاد: هذا للهجوم، وذاك للدفاع.

وكانت كليوبطرا قد أشرفت بجيوشها على قلعة فلوسيوم، وأخذت تعد العدة للهجوم على قوات أخيها المحتمية من وراء الأسوار، وفي المواقع الحصينة القائمة من حول القلعة، ومضت تزحف حذاء الشاطئ، حتى لم يبق بينها وبين المدينة إلا بضعة أميال، وفي الثامن والعشرين من شهر سبتمبر سنة ٤٨ق.م. وقع حادث، قُدِّرَ له أن يكون سببًا في كتابة صفحات جديدة في تاريخ مصر، فقد رأى الناظرون من الشاطئ، سفينة حربية، دارت حول قمة برزت في البحر غربي فلوسيوم، وألقت مراسيها على بُعد قليل من الشاطئ.

من فوق هذه السفينة وقف القائد پومپيوس الروماني، وزوجه كُرنليا، بعد أن هزم في موقعة فرساليا، وفرَّ إلى مصر محتميًا بملكها بطليموس الثاني عشر، ولكن الحالات التي كانت قائمة في العالم الروماني، أوقعت پومپيوس ومستشاروه في حيرة؛ فإن مصر إذا حمت پومپيوس، وقعت في حرب مع يوليوس قيصر، عدوه، وإذن يكون في قتل پومپيوس مَخْلَصًا من هذا المأزق الحرج، وتمت المؤامرة على ذلك، وقتل پومپيوس، وفي تلك الأثناء هبط يوليوس قيصر الإسكندرية متعقبًا خصيمه، فلما علم بمصرعه، أراد أن ينتهز هذه الفرصة السانحة، ليتدخل في شئون مصر، متخذًا من وصية «بطلميوس أوتيلس» ذريعة إلى ذلك؛ فبعد أن دخل الإسكندرية، وحط رحاله في قصرها الملكي، أرسل رسلًا إلى بطلميوس وكليوبطرا، ليوافياه إلى الإسكندرية، فيصلح ذات بينهما، فسارع بطلميوس ومستشاروه بالعودة، ليحولوا دون كليوبطرا والعرش بكل وسيلة، ولكن كليوبطرا كانت تعلم حق العلم أن هبوطها الإسكندرية جهرة بمثابة حكم عليها بالإعدام، فإن أخاها لن يتعفف عن أن يغري بها رجلًا من رجاله، يقتلها غيلةً، فتسللت إلى الإسكندرية، ودخلتها تحت جنح الظلام مستخفية، لتبدأ مأساة «الحب الأول».

•••

كانت الساعة حوالي السابعة من المساء، والملاحون يفرغون من السفن آخر ما لديهم من أحمال البضائع، على أرصفة الإسكندرية المزدحمة، وأخذت سفائن الصيد تلقي مراسيها سراعًا على مرافئ ثغر «أونسطوس» Eonostus كأنهن طيور عيقت عن الرواح، وبدأ الليل يرخي سدوله السوداء، عندما تسللت آخر سفينة إلى الميناء، كأنها تحاول أن تلتفع من الليل بسترٍ يحميها العيون.

من هذه السفينة، نزل رجل عريض الأكتاف، قوي الأصلاب، وقد اشتمل بعباءة سوداء، سترت جسمه من مفرق رأسه إلى قدميه، وشد قلنسوة السفر على رأسه، حتى سامتت حافتُها أذنيه، ثم مدَّ يده في عناية وتؤدة، ليأخذ بيد سيدة صغيرة السن، خفيفة الخطو كأنها القطاة، حتى يخيل إليك أنها ما تزال في طور الطفولة.

بيد أن كليوبطرا لم تكن طفلة، بالرغم من أنها لم تكن قد حطمت السابعة عشرة من عمرها، بعد أن أمضت سنتين زوجًا لأخيها، الذي حملتها تقاليد الأسرة الملكية على أن تتزوج منه، بعد أن مات أبوها، وكانت شريدة طريدة، فهي تعود مستخفية تحت جنح الظلام، مظلة بحماية «أفوللوذورس» Apollodorus هابطة الإسكندرية هبوط النسر، بعد طول التجواب، وقد كسبت من التجاريب قدرًا، قلما حازته من بنات حواء، من كانت في مثل عمرها.
وإنك ولا شك تعجب، إذا حاولت أن تكشف عما انطبع في نفسها من الأحاسيس والانفعالات، لو أنك قرنتها بمثيلاتها من الفتيات، فقد نشأت في بلاط قضى فيه الفسق والفجور، على الشرف والعفة، وهي بعد ابنة «بطلميوس الحادي عشر»، الملقب أوتيلس Auteles ذلك الملك الهاوي الخليع المولع بالفنون الجميلة، الذي إن دلك شيء على حقيقة خلقه، فليس أدل عليه، من أنه واجه زمجرة الثورة في داخل بلاده، وخطر غزوها من الخارج، بمتابعة العزف على قيثارته.
سليلة شعب مثقف على الوجه الأكمل.٢ نبغت في الأدب والفنون، وتعلمت على أخص القواعد التي عرفت لعهدها، فكانت نظرة هذه الفتاة الفذة في الحياة، عريضة واسعة على غير مثال.

فإن مثيلاتها من الفتيات، لا يفكرون عادة، بعد أن يفك عقالهن، ويخرجن إلى ميدان الأنوثة، إلا في أمرين: إما في تقديس الفضيلة، وإما في انتهاب الملذات، أما هي فكانت ترمي إلى أن تتحايل، وأن تحكم، ولقد خصت بقدر من حرية الفكر، كانت تنظر من طريقه في الأشياء نظرة، تُسلِمُ بها إلى وجوهها الصحيحة.

عرفت ما للرجال من قيمة، فإما أرادت أن تتلهَّى بهم، وإما أرادت أن تخدم حظوظهم، فإنها استعانت في كلتا الحالتين بروح توقدت ذكاءً، والتهبت فطنة، واحترت تشهيًا والتياعًا.

من ثَمَّ أدركت ملهمة بذلك الوحي الذي تختص به العقول الرشيدة، والقلوب الحساسة، أن حظًّا باسمًا يرقبها، لما أن علمت أن قيصر قد هبط الإسكندرية، ولكن كيف تتصل بهذا الرجل العظيم؟ وبأية من الوسائل تستغل سلطانه الواسع، وتفوز بالعضد الذي ينقلها من غيابات الصحراء ووحشة المنفى، إلى كرسي مصر، ويرفعها من طريدة إلى … ملكة على عرش فرعون؟

كان الحكيم «أفوللوذورس» أستاذها في البلاغة، وأكبر المشفقين عليها، سفيرها الذي بدأ المفاوضات، ولقد أظهر «قيصر» بديئة الأمر، أنه أميل إلى الأخذ بناصر الفتاة المضطهدة، منه إلى نصرة بطلميوس، ووزيره اللبق الماهر.٣

فلِمَ إذن تخالج كليوبطرا الهواجس؟

كانت تحت رقابة مشددة، جاهلة بمسالك الطرق ومناحي السبل، التي ملئت بالعصابات وقُطَّاع الطرق، ولكنها بالرغم من ذلك أقدمت على العودة مصحوبة بعبدين لخفارتها، وسلكت طريقها إلى كَنُوبَسْ Canobus حيث كان ينتظرها «أفوللوذورس»، ولقد وثقت من أنها سوف تصل إلى غايتها، ما دامت مظللة بحماية أستاذها، محوطة بحنوه عليها، وإخلاصه لها.
ولم تخل السياحة من خطر، فإنها حذر أن تتجه إليها الأنظار، أو تأخذها العيون، وقع اختيارها على أصغر زورق من زوارق الصيد، وقد أشرف مرة على الغرق، وكادت الأمواج تبتلعه ومن فيه؛ لذلك شعرت «ابنة لاجوس»٤  Lagidae الصغيرة بشعور المرح والاطمئنان، الذي يخامر من يفلتون من مخاطر الماء، عندما وطئت قدماها الصغيرتان المرتعشتان ثرى عاصمتها … ثرى الإسكندرية المحبوبة، وقد نظرت إلى قبابها، نظرة من يعتقد أنها ملك له ومتاع.
أما الخطوة الثانية فكانت الوصول إلى القصر! وكيف تصل إليه، ولم يك ذلك بالسهل الهين؟ فإنه بالرغم من وجود الجند الروماني، كان عسس الملك٥ وعيونه في سهر ترقب، أما إذا عرفت كليوبطرا، فإنها ولا شك تذهب ضحية لمقت أخيها.

كان «أفوللوذورس» من حُسن الحظ، أريبًا قوي الشكيمة، صلب القناة، ولقد أدرك ما يتطلب موقفه من مهارة وفطنة، فلفَّ الفتاة في أسمال بالية، ورفعها من فوق كتفيه القويتين، كما لو كانت حملًا من البضائع التي ينقلها الحمَّالون ذهابًا وجيئة، على أرصفة المرفأ.

من ذا الذي يرى مثل هذا الحَمَّال العظيم، يسير بخطواته المتثاقلة المتئدئة على أرصفة الميناء، يئن تحت حمله كما يئن غيره من الحمَّالين، ثم يدرك أي سر حوى ذلك الحمل الثمين؟ ولما بلغ باب قصر «البُرُخيُوم»٦  Bruchium عرف الحرس من هو، ولكنه ادَّعى أن قيصر طلب إليه أن يأتيه بصنوف من السجاد، فأذن له الحراس، ودخل من باب القصر، خائفًا يترقب.

•••

كان «يوليوس قيصر» قد حَطَّم طور الفتوة، واستمتع بكل ما تحبو به الحياة إنسانًا من الفخر والعظمة والملاذ، حتى لقد كانت أعصابه تنمُّ بعض الشيء عن آثار ذلك.

أصابه الصلع وشيكًا، وتغضن وجهه، فظهرت بين طيات جلده أخاديد عميقه، فكان صلعه، وتجاعيد وجهه، بخطوطها البينة، دلالتين على كثرة ما قاسى من متاعب، وآنس من آلام، ولكن أقل المثيرات كانت كافية لأن تبعث من خلال نظراته بذلك الوميض السماوي، الذي يصقله السناء والإشراق، وينم عن العظمة والجلال، وما كان لإنسان أن يحتك بقيصر، من غير أن يشعر بجاذبية القوة والفتنة التي لم يدرك أحد لها من علة، فقيل: إن قيصر سليل إلهين: أنياس أبوه؛ والزهرة أمه.

كان إذا تكلم اجتذبت رشاقة إشاراته ورنين صوته الداوي إنصات السامعين، وسكتوا كأن الطير على الرءوس، فكسب عطفهم، وفاز بتأييدهم، إلى غير نهاية يعرفها العطف، أو يقف دونها التأييد، فإذا صمت، كان صمته فصاحة وسحرًا؛ لأن الناس كانوا يذكرون خطبه الرنانة، وكلماته الثابتة، التي تحملها الرياح إلى جنبات الدنيا الأربعة.

أينما سار، سارت في ركابه ذكرى أعماله الفذة المُذهلة، فكان الناس يتخيلونه على رأس الفيالق الرومانية يقودها، فيكتسح بلاد الغَال، وكان أول من غزاها، ثم يهبط مهاوي جبال الألب السحيقة، فيجتاز الرُّوبيكُون Robicon، ويزحف على رومية، وقد اتقدت بنيران الثورة، فتهدأ ثورتها، وتنحل قواها انحلال الثلوج في اللظى المضطرم، لما أن يظهر قيصر في الميدان.

ولم تقتصر أوهام الناس على ذكر الحقائق، وتخيُّل الممكنات في حياة «قيصر»، فحوطوها بالأساطير وسيَّجُوها بالخرافات، فقد زعموا أن «الجرمان» الذين هزمهم، أمة من الجبابرة، في نظراتهم الموت، وقالوا: إن «بريطانيا»، وكان أول روماني أقدم على هبوطها، تظل في ظلام دامس ثلاثة أشهر من كل سنة، وإن جوها مُفعمٌ بالأرواح، وهذه الأحاديث وما يتصل بها، زادت صيته بُعدًا، وانتصاراته قيمة، فضخَّمتها وملأتها مهابة.

لكي تلجأ إلى مثل هذا الرجل تطلب نصحه وتعضيده، عمدت كليوبطرا إلى الكلام بعض الشيء في حقوقها الطبيعية، بيد أنها لم تكن من الحماقة بحيث تؤمن بأن حق المرأة، مهما كان شأنه، ومهما علت قيمته، هو غاية ما تلجأ إليه من وسائل الإقناع.

لما أن خرجت كليوبطرا من الأسمال التي حجبت مفاتنها منذ هنيهة، تملكها شعور أشبه بشعور حيوان صغير أفلت من الأسر، وبجمّاع ما في المرأة من غريزة الغيرة واستِعَار الحرارة، اجتذبت مرآة فضية، كانت معلقة بزُنَّارها.

يا لها من فوضى، تلك التي رأت في هندامها! كان معطفها مثنًى كثير التجاعيد، وقد تدلَّى شعرها المرسل على كتفيها كستنائيًّا مموجًا، بل لم يبق أثر للكحل من حول جفونها الوسنانة، ولا للخضاب الأحمر في شفتيها أو على خديها.

ولكن … أكانت هذه المدعية، وهي على وشك الظهور أمام القاضي الأعظم بعد لحظات قصار، أقل ازدهارًا أو توردًا، أو أقل بهاءً أو سلبًا للألباب أو تحييرًا للأفكار، أو أقل رشاقة وفتنة، مما يتطلب موقفها؟

كانت مشفقة وجلة على كل حالٍ.

مضت تترقب كيف يلاقيها الرجل الذي اعتاد أن يختلب الرومان، ذلك الإنسان الفذ الذي اضطر الناس، من أشدهم استمساكًا بالفضائل، إلى أكثرهم تطوحًا مع الرذائل وإمعانًا في الفساد، أن تعنو له وجوههم، وتذلُّ له رقابُهم، ذلك بأن شهرة قيصر كانت عالمية؛ في زمانٍ تقطعت بالعالم المعمور أسباب الاتصال، ولكن الجميع كانوا يعلمون حق العلم، أن ذلك الفحل العظيم، الذي جمع نبوغه بين صفات القائد والكاتب والمشرع والخطيب في أعلى مراتبها، وأرقى ذرواتها، كان إباحيًّا فاسقًا، فبالرغم من المنكرات التي ينغمس فيها الشباب، وانغمس فيها قيصر مزهوًّا بما في الحياة من فرح ومفاتن، فإن غزواته ومخاطراته، قد أدت إلى أحزان عميقة، خيَّمت على كثير من البيوتات الكبيرة، وبخاصة على بيوت الكثيرين من أصدقائه.

ولِمَ لا؟ ألم يقترن اسم «قيصر» في العالم الروماني بقولهم: «قيصر زوج كل النساء» omnium mulierum veri.

ولقد ملأ كليوبطرا الروع لغير ضرورة، فإن طبعًا يتشهى الجدة، ويحن إلى التغيير، وينزع إلى الابتكار والشذوذ، ويتحرق إلى مخاطرات جديدة، وأعصابًا منهوكة متعبة كأعصاب «قيصر»، لن تألف من شيء، ألفتها منظر الملكة الفتية الفاتنة.

ولقد شعر «قيصر» بهزَّةٍ عميقة، يتعذر وصف أثرها، سرت في شرايين جسمه، منذ أول نظرة أخذ بها تلك القطعة الحية من فن الطبيعة، على جسمها الجميل المتسق، وقوامها الأهيف، وحاجبيها المرتخيين في استقامة واعتدال، والأشعة النفاذة المنبعثة من عينيها، وأنفها الدقيق الشهي، وشفتيها المنفرجتين الموحيتين بالشهوة، وبشرتها اللامعة الكهرمانية، التي تغري المرء بها، إغراء فاكهة مفرطة الطيب، لوحتها الشمس.

يا للآلهة! لقد عجز الغرب كله، كما عجزت رومية بعذاراها الفاتنات المغريات، عن أن تهبه شيئًا أشد من كليوبطرا اختلاسًا للنُّهى، أو اختلابًا للُّب، فسألها وفي نفسه لوعة تقسره على أن يستجيب لأيما تقول وتطلب ليصل منها إلى غرضه: «ماذا في طوقي أن أفعل من أجلك؟ أي شيء تطلبين؟»

فأجابته كليوبطرا مغرية فتانة، وبلغة لاتينية فصيحة كانت تجيدها، كما تجيد اليونانية والمصرية والسورية وعدة لغات أخر، ووصفت في بلاغة، عنف الاستبداد الذي قاست منه الأمرَّين، والإجرام الصارخ الذي بدَّلها من تاج الملك طردًا وتشريدًا؛ وقالت قول الواثق المستودع لسر رهيب، وفي قالب كله إغراء، إنها تلجأ إلى قيصر القاهر، عسى أن يرد لها تاجها المغتصب المفقود!

وكان صوتها حلوًا أخَّاذًا، حتى إن الأخبار التي روتها، وحقوقها التي اغتصبها أخوها الغادر الخدَّاع، قد نزلت، تفيئة أن خرجت عباراتها من بين شفتيها، من قلب «قيصر» منزلة الحقائق التي لا ناقض ولا راد لها، وكيف لا تقع هذا الوقع من نفس ذلك القاضي الفيصل الشجاع، وقد فتنه ذلك الوميض السماوي، الذي بعثته عيناها الساحرتان؟

ولقد هَمَّ «قيصر» أن يمنحها كل سُؤلها، غير أن عقبات تقف في سبيله، فإنه هبط مصر صديقًا وحلَّ بها ضيفًا، وليس له فيها غير عدد قليل من الجند؛ في حين أن جند بطلميوس فيالق منظمة، وعلى تمام الأهبة للدفاع عن عرشه وعن ملكه، فيجب إذن أن يستعلي النهى على الطيش، وأن يستقوي العقل على المشاعر؛ لأن «إطلاق كلاب الحرب من حظائرها، لم يحن حينه».

أما «كليوبطرا» فقد حاولت في حماسة مشبوبة النار، ولكن بكل ما يتطلب الموقف من اتزان الحكم والرويئة، عجيب أن يكونا لفتاة في مثل عمرها، أن تمسَّ «قيصر» نيرانها المتلظية، فإذا كان «قيصر» عاجزًا عن أن يعلن الغزو توًّا، إذن فليدعُ زحفه على عجل، وفي أقرب وقت ممكن، وفي انتظار الجنود يعلن ارتقاءها ملكة على عرش الفراعنة.

وبينا هي تتكلم، كان قائد رومية ورجلها الأوحد، عاجزًا عن أن يحول نظره عنها، ملاحظًا كل إشارة من إشاراتها المتسقة، مُصغيًا إلى كل كلمة تخرج من بين شفتيها.

«كليوبطرا، يا لك من خليلة معبودة!»

ذلك ما جال في خاطره، لما أن استروح عبق شعرها الكستنائي المتهدل من فوق كتفيها.

ولقد استيقنت «كليوبطرا» من أنها غزت العاهل الأعظم، وأنه أصبح مقودًا إلى أن يفعل ما تريد، فساورتها هزَّة أفعمتها لذاذة، وحدثها القلب حديث الهَسِّ الخفي: «عما قريب سأكون ملكة».

لما علم بطلميوس الثاني عشر، أن أخته التي اعتقد أنه تملص منها قد هبطت الإسكندرية، وأن «قيصر» قد أقسم ليردنها إلى العرش، أخذته نوبة من تلك النوبات التي تساور الحمقى المنحدرين من سلالة دبَّ فيها الفساد، وتمشى فيها الانحلال، شأن البطالمة في أخريات أيامهم، وصاح من أعماق نفسه «يا للخائنة!» وركل زهرية من «المُورا»٧ الثمينة رائعة الجمال، فحطمها وتطايرت شظاياها.

«لقد تحايلت عليَّ! إنَّ القرار الذي اجترأت على إعلانه، خيانة ملعونة.»

وما لبث أن عهد إلى «أخيلاس» بقيادة الجند، وأعمل السيف، فقتل الحرس الروماني.

كان هذا الحادث نذيرًا بحرب سوف تندلع ألسنتها، وكان من الظاهر أن «قيصر» تناصره كل قوى الجمهورية الرومانية سوف ينتصر في النهاية، غير أن هبوب رياح التمرد والثورة، ولم يكن جنده مدربًا على معالجتها، قد أحدث أول الأمر حالة، من الصعب الاضطلاع بملابساتها.

•••

ليس من الرشد في شيء أن يشتبك جند «قيصر» في مناوشات تقع في شوارع الإسكندرية وساحاتها، وفي ظروف غير مواتية، من غير أن يفكر في موقفه هذا، وكان الرشد في أن يتحصن وجنده خلف أسوار قصر «البُرُوخيُوم»، فإن هذا القصر بأسواره المنيعة، وجدرانه القوية، وقبابه الشمم، صالح لأن يتخذ عند الضرورة قلعة يلوذ بها الحرس الروماني مدافعًا، حتى تصل جنود «قيصر»، فتنقلب الآية.

أما أن تسجن «كليوبطرا» مع الرجل الذي كانت تحيك من حوله شبكتها لتأسره وتستعبده، بل لتسلب منه كل قوة على التفكير في هم من هموم الدنيا، اللهم إلا مصالحها وذاتها، فذلك غاية ما تشتهي، ونهاية ما يتجه إليه خيالها، وتسبح فيه أحلامها.

كان قصر «البروخيوم» من الآثار التي خلفها الإسكندر، ثم زاد إليه أخلافه، وكانوا، كما كان الفراعين من قبل، ذوي شهوة للبناء والتشييد، ولكن بفنٍّ أعلى، وذوق أرفع وأنعم.

وقد تربع ذلك القصر من فوق ربوة عالية تشرف على سلسلة من التلال تنحدر هابطة تحت قدميه الواحد تلو الآخر، حتى تُغيَّبَ في البحر، فكان من فوق ذلك الكرسي العظيم، بقبابه وأروقته وأجنحته الضخام، أشبه بمدينة يناجيها الماء، وتغازلها السماء.

هو كِنٌّ للجمال وحصن للحرب، ليس لعظمته من مثيل في أقطار الدنيا، فقد جمع بين ضخامة الفن الفرعوني، ورواء الفن الإغريقي، وجماله وخيالاته وأحلامه.

وكان الجناح الذي خصص للملكة الصغيرة قد لقي من عناية «بطلميوس أوتيلس» أبيها، ما جعله خليقًا بمنزلتها من نفسه، ومحبتها من قلبه، ولقد أحب «أوتيلس» كل نادر وكل جميل، ذلك بأن ذوقه الموسيقي، جعله يحنُّ إلى صفاء الفن الهندسي، حنينه إلى ألفة الأنغام.

ولقد ظهر آثار ذلك كله في ما زوَّد به جناح القصر الذي خصص لابنته، من بدائع الخيال، وروائع الفن، ففي كل زاوية أثر من فَنَّان، أثر من «ميرون» أو «إفرقطيلس»، أو «ڨدياس» فتلك ثريات جملتها الأقواس، وزينتها المنحنيات؛ وهذه مقاعد أفرغ عليها الفن جمال القطع والتخطيط، ناهيك بالمباخر التي يصعد مع دخانها أنقى العطر، وأشهى الطيب؛ والطنافس التي ازدانت بنقوش عليها من جمال الطبيعة مسحة ورواء، أما الخزائن فكانت من العاج النقي، ترهقه طبقة من الذهب الخالص.

وما كنت لتقع على حجرة أو بهو أو منعطف أو زاوية، إلا وتأخذك نشوة من المرح، وهزة من الغبطة، حتى ليخيل إليك وأنت في صحوك، أنك في عالم من الأحلام، قوامه حسن الصورة، وجمال الألوان وتفاني الظلال، وجملة القول أن كل شيء هنالك كان قد أعد للإغراء بالدنيا، وتحصيل لذة العيش ومتعة الحياة.

عامة ذا ليس بشيء إذا قرن بجمال الحدائق الغناء التي كانت تحيط بذلك الصرح العظيم، تلك الجنان الوارفة التي لن تظلها من سماء، غير سماء مصر الصافية.

كانت نسمات البحر تهب عليها عليلة، فإذا اختلطت بعبق الأزهار، أيقظت الروح وأيقظت الجسم، وهنالك بين الأشجار الملتفة يقوم مرتفع من فوقه آخر إلى غير نهاية، ورباطها جميعًا درجات من المرمر الناصع البياض، وقد نامت في أحضانها بحيرات صغيرات، تغذيها نوافير بماءٍ نمير كأنه البلور المصفى.

ما أشبه هذه البحيرات بالأحلام! كانت إذا غازلتها نسمات البحر تغضنت قليلًا، ثم تساوقت غصونها مويجات، حتى تغيَّب متكسرة على حافاتها كأنها الأجنحة المهيضة، تلك يقظتها … ثم ما تلبث أن تعود إلى الأحلام.

من تحت تلك المرتفعات تمر أنفاق تزود القصر والحدائق بماء النيل، وفي ذلك سر النماء، وسر الحياة، التي كنت تأنسهما مندفقين في معين تلك الجنة الظليلة.

أشجار دائمة الخضرة جُلبت من مناطق إقليمها أكثر من إقليم مصر اعتدالًا، وأخرى من التين والنخيل، خط الاستواء مرباها، وقفت هناك مشرفة بهامة الجبار على بحر الروم، وأزهار تفتحت أكمامها عن جمال فيه نضارة، وفيه اتساق علته تباين الألوان، هي نوارات مختلفات، وأخر متشابهات، حملتها شجيرات منبتها بلاد فارس أزواجًا بهيجة، أزرت بما كان في حدائق «إقبطانة» على شهرتها التاريخية، كلا — بل بما كان في حدائق «بابل».

من تلك الورود أنواع تسلقت جدران القصر حتى ساوت حجرة الملكة الحالمة، المغمورة في شهواتها، المجنونة بمطامعها.

أي مطمع ذاك الذي يملأ قلب «كليوبطرا»؟ أيكون لهذه الثائرة المتمردة من مطمع ينزل عن رومية؟ رومية وحدها! هي مطمحها، أنها لا تطمع، بعد أرض الفراعنة، في أكثر من أرض الرومان … ولكن.

هنالك من نافذة القصر، أطلت زهرة يانعة تجلَّت في نورياتها قوة الحياة والإشراق، ومن تحتها وعلى فريع صغير، زهرة ذابلة.

الأولى حمراء بلون الدم، أما الثانية فصفراء باهتة.

تطلعت إليهما «كليوبطرا»، فذكرتها الأولى بالحياة، أما الثانية، فبأي شيء توحي؟

يا لها من أحلام.

•••

أكان عجيب من ابن «الزهرة»، ذاك الذي حملته حاجات الحرب، ومطالب الضرب والقتال، على أن يصمد صابرًا على رمضاء الشرق حينًا، وعلى زمهرير بلاد الهمج الذين يقطنون أقصى الشمال حينًا آخر، أن تأخذه في محيطه الجديد نشوة تسكره بلذاذات ذلك القصر وتلك الملكة؟

لقد اتفق كل شيء من حوله على أن يزوده بنعائم حياة قلَّما ألفها! نعائم تتوجها مفاتن «كليوبطرا» وشبابها وسخريتها من الدنيا ومن الأحداث، ولقد أحبها «قيصر» لأول نظرة حبًّا ألهبته شهوة حارة، هي أشبه بذلك اللظى الرائع الذي تجلو به الشمس سماء الخريف، بعد أن يموت الصيف، وتلبس الأشجار حلتها الزاهية، انتظارًا لنوم الشتاء الطويل.

ولقد استجابت «كليوبطرا» لنداء الحب، ولبت داعي شهواتها، فألقت بنفسها في أحضان اللذة غير وانية، فالحرمان والنفي، والخوف من أن تعود سيرتها الأولى طردًا وتشريدًا، كل هذا جعلها تتحرق شوقًا إلى تذوق السعادة، وانتهاب لذائذها، ومن غير أن تسأل «قيصر» عن طبيعة ذلك الحب الذي كان يغمرها به، ومن غير أن تفكر هنيهة في بواعث الأنانية التي تكمن من ورائه، دلفت إلى حياة اللذة، مأخوذة بنشوة انتصارها وتسودها.

ولِمَ لا؟ لقد كان لها في تلك الحال أن لا تفكر، وكان لها أن لا تشفق من شيء أو تخاف شيئًا، ما دامت راضية بكل ما يحوطها، قانعة بأن تظل بين ذراعي «قيصر»، ما ظلت «مصر» بين ذراعيها.

كم تمنت أن تقع على من يحميها! وها هي ذي، قد وقعت على الرجل الذي يحميها ويحبها بحرارة ولوعة.

من فوق سفينة القدر التي ألقت مراسيها على الشطآن المهجورة، أسلمت «كليوبطرا» قيادها، وعهدت بحمايتها، إلى ذلك الرجل العظيم، وكأنها ألقت بروحها إلى قوة من قوى الكون الخفية، التي لن يفكر إنسان في تحليل عناصرها، أو تعليل حقائقها، ولئن لم يكن حبه قد أثار في قلبها حبًّا مثله، لكفى أن يبعث حب قيصر القاهر في روعها شعورًا بالفخار والعظمة، وأن يُحييَ فيها آمالًا تفعمها، فلا تترك في نفسها محلًّا لأمل آخر تصبو إليه؛ فغرقت في أحلام حملتها على أجنحة الخيال إلى مستقبل رائع عظيم، وطارت في عالم الغيب، حتى خيل إليها فيما يُخيل، أن سفينة القدر قد أقلعت بها إلى غاية، إن جهلت ماهيتها، فإنها ولا شك باهرة، ما دام قيصر ربَّان سفينتها.

•••

وبالرغم من أن أصوات المنجنيقات، وصخب العدد الحربية، حوالى أسوار قصر «البروخيوم»، كثيرًا ما كانت تصل سمع العاشقين، فقد مرت عليهما الأيام هنية رخيَّة، فلم يعكر صفوهما دخيل، ولم يفكرا في شيء، إلا في أن يكون كل منهما مبعث سعادة لصاحبه، حتى إذا انصرفا عن كل شيء في الدنيا، أقبلا على حديث الحب، وما إلى الحب من أحاديث، ولقد حققا بذلك مثلًا أعلى كثيرًا ما نشده العاشقون عبثًا وتخيله المحبون تخيلًا، مثل العزلة الكاملة، تظلل بسلامها العاشقين.

وأخذت الجيوش التي أرسل «قيصر» في طلبها تفد على مصر، فجاء من «قيليقية» ومن «رودس» سفائن مثقلة بالرجال والميرة، وشرعت كفة الأسراء ترجح كفة الآسرين، ولم يلبث العاشقان غير بعيد حتى أصبحا القوة المحتكمة التي تكيِّف الظرف بحسب ما تشاء، وقد أمدتهما بلاد «الغال» بكتائب من المشاة، ورومية بأثقال من عتاد الحرب، وتمت الأهبة للجلاد، بعد أن قدم «كلڨينوس» على رأس كتائب قوية تامة العدة من الفرسان، وسرعان ما رفع الحصار الذي طال أمده ستة أشهر، وانتقل ميدان الحرب إلى الرحاب.

وكان جيش «أخيلاس» أقوى مما قدر «قيصر»، وأوفر عُدة، بل لقد كان لما أبدى قائده من المهارة والدربة في فنون الحرب، أثر كثير ما زجَّ بقيصر في أحرج المواقف، ولكن «قيصر» ومن ورائه رومية كلها، بقوتها ومالها وأنفتها، لا بد من أن يصل إلى النصر؛ وأخذت بُداءة المنتهى تظهر بوادرها، لما أن ساق «قيصر» جيوشه عبر الدلتا.

ومن فوق الأرض التي هي هبة النيل، من فوق الدلتا المقدسة، ثارت عجاجة الموقعة الفاصلة، فهُزم جيش بطلميوس، كلا، بل ارتد في غير نظام، حتى ارتمى في أحضان النيل، ومزق تمزيقًا.

ورأى بطلميوس أن لا مناص له من الموت، فاقتبل النيل وغمز جواده غمزه قوية، فانطلق كالسهم إلى غمر النهر الفائض، ليكون مركبه إلى عالم الأرواح.

بهذا حكمت الأقدار، ولكن «قيصر» كان أرفق بأعدائه منها، فقد عفى عن «أخيلاس» بعد أن قيد أمامه في الأغلال، لقد اكتفى «قيصر» بهزيمة أعدائه، وارتد عجلان صوب الإسكندرية.

•••

هنالك من الطابق السابع في برجها العظيم، ارتقبت «كليوبطرا» عودة قيصر، فلما اكتحلت عيناها بمرأى النسور الرومانية لامعة في وهج الشمس، دق قلبها دقات شديدة قوية، وفقدت كل صبر عن لقائه، فأمرت بهودجها، وقالت لحملته: «أسرعوا».

فانطلق بها اثنا عشر عبدًا من عبيدها الأحباش، والعرق يتصبب من جباههم ومن فوق أرجلهم الأبنوسية، وهم يودون لو مُكِّنَ لهم أن ينهبوا الطريق نهبًا.

ولقد أرسل الصقر الذهبي القائم من فوق هودجها وهجًا لامعًا، وعكست ستائر المخمل الأرجوانية المعلقة بجانبيه لونًا شديد الحمرة، جعله مرئيًّا من بُعدٍ، وعند أول إشارة آذنت بأن «كليوبطرا» قد وصلت إلى مكان الزحف المنتصر، ترجّل «قيصر» بخفته المعهودة، وعليه مخايل الفروسة التي لا تفارقه، ومضى يحيي حبيبة قلبه وروحه، فقد أمضى أيامًا بعيدًا عنها، وقد شاقه حبها، وتمنى أن يضمها إلى صدره ضمة، يفرغ فيها كل لوعته، ويعبر بها عن جُمَّاع صبابته.

«إن مصر لك، إني ما غزوتها إلا لألقي بها عند قدميك، فاقبليها.»

وألقى إليها بمفاتيح الإسكندرية، وكان «أخيلاس» قد سلمها إليه، عقيب الهزيمة.

منذ تلك الساعة، عرف الثوار قدر رومية، وأحسوا بطشها وعظمتها، وأدركوا عمق الهاوية التي حفرها من ورائهم «فوتينوس»، فلقد انتكست آمالهم، وتبدلوا من مطامع الأمس الذهبية، بيأس اليوم المرير، أما أولئك الذين نزعوا إلى الانتقام والثأر من قبل، فأصبحوا لا يطمعون في أكثر من عفو يبقي الرءوس التي ملأتها الخيلاء، قائمة من فوق الأكتاف، بعد أن ترنحت وكادت تطيح بها الأقدار!

من ذا الذي يجرؤ على أن يناقش في حق ملكة وضعها «قيصر»، رجل الدنيا الأوحد، من فوق العرش؟ كلا، ليس هنالك من إنسان رخصت عليه رأسه، حتى يناقش في هذا، ولقد قوبلت «كليوبطرا»، لما أن ظهرت للناس أول مرة، بهتاف النصر والخضوع ترسله حناجر الجماهير، وقد غصت بها طرقات الإسكندرية.

شكرًا إذن لتلك الحرب التي ما أثارها إلا حب «قيصر»؟ فكانت أُلهيّة من ألهيات رجولته، غير أن لهو «قيصر» قد ردَّ إليها تاج آبائها العتيد.

ولقد أرادت «كليوبطرا» أن تحوز رضا الناس وتفوز بثقتهم، فعملت على إحياء تقاليد الأسرة التي كانت تقضي على الملكات بأن يكون لهن أولاد من صلب العترة الملكية، فأعلنت قبولها الزواج من أخيها بطلميوس الثالث عشر.

•••

كان كل شيء قد تم على ما يرغب قيصر، وآن له أن يغادر مصر إلى رومية، حيث ينتظر حزبه أوبته بلجاجة، ولكن «قيصر» لم يصبح سيد نفسه، فقد شملته الشهوة، تلك الشهوة التي ظلت حتى أخريات أيامه، النبع الوَحِيد الذي صدرت عنه كل أعماله، فقدَّمها على واجباته وعلى مطامعه، وعلى مصالحه العامة والخاصة، وجرَّته إلى آخرته المحزنة، فأجل الرحيل، وتصامم عن النذر التي كان ينقلها إليه كل رسول يهبط مصر موفدًا إليه من رومية، وألقى بسمعه إلى فاتنته، فاستجاب لها؛ ولقد ألقت في روعه، فوق ما ألقت من قبل، أن من تمام سعادتها أن يرافقها في رحلة يجوبان فيها مصر، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

كانت السياحة في تلك الأيام على ظهر النيل، كما هي اليوم، ومنظر الآثار التي خلفها الفراعين قائمة على ضفافه، منتجعًا للفكر، وسلوى للنفس، وكان ملوك المال من النبلاء، وأمراء الشرق الفائض بالثروات الضخمة، ورجال الفن من الأغارقة والأسيويين، بعد أن يمتعوا بلذائذ الإسكندرية، ويقفوا على آثارها، يُيممون شطر مصر العليا، ممتطين سفائن هيئت بكل ضروب الزينة والزخرف، يحملها النيل، وتظلها سماء مصر الصافية الباسمة، وكانت الرحلة تستغرق أسابيع، ينفقها السائحون منتهبين اللذائذ، أو مكبين على درس الآثار القديمة الخالدة.

وكانت سفينة «كليوبطرا» بمثابة قصر، عرشه الماء، وقد صنعت حجراتها وأبهاؤها على غرار قصر «البروخيوم» مصغرًا، أما الأسطول الذي اختارت الملكة أن يكون في رفقتها، فقد حمل عددًا عظيمًا من الحاشية والخدم والعبيد، ناهيك بالراقصات والشعراء والموسيقاريين، الذين عملوا جميعًا جهد ما يستطيعون، على أن يقتلوا الوقت قتلًا، ويبددوا الزمان تبديدًا، حتى تصبح الحياة في تلك الرحلة، سلسلة متصلة من الأحلام الهنية.

وكان الشتاء على الأبواب، وقد يعرف الذين شهدوا الشتاء في الأقاليم الشمالية من كرة الأرض، أن هذا الفصل يغمر الناس بكسفه المدلهمة، ويغشى على الحقول بغشاوة من الحزن، ويذر الأشجار عارية من الأوراق، فإذا دهمتها الرياح اهتزت أماليدها المعراة هزات فيها كل تعابير اليأس والقنوط، ولكن الطريق التي سلكها العاشقان، كانت طريق التألق والإشراق، فالسماء صافية، والشمس منعشة وهاجة، ومياه النيل تنساب في سكون «كأنها الأمل العريض، في وحشة الفراق».

وشقت سفينة «كليوبطرا» طريقها في النيل، بخمسين مجذافًا من خشب الأبنوس الخالص، في يد خمسين عبد نوبي، أشداء أقوياء الأصلاب، فانسابت متهادية، تظللها الحرية، وتحدوها السعادة، وتنبسط أمامها الرحاب تتلقاها بالراحتين، لتسلم بها إلى أرض الميعاد، والشمس من فوقها تزداد حرارة، كلما أمعنت السفينة نحو الجنوب، كأنها تُحيي العاشقين تحية صامتة، مرسلة إليهما على أجنحتها الذهبية.

وبعد أن تهادت السفينة عدة أيام من فوق النيل المقدس، فخلفت من ورائها فراسخ عديدة كستها الخضرة الزمردية، وأضفت الطبيعة على أشجارها بهاء اللازورد، دلفت فُجاءةً إلى رحاب أخذت خضرتها تقل شيئًا بعد شيء، وما لبثت غير قليل حتى أصبحت بين شاطئين قاحلين، لا يأتي النظر فيهما، مهما امتد، على غير رمال صفراء، وتلال تناثرت من فوق تلك الرقعة الفاقعة اللون، التي تتواصل أمام النظر حتى تلتقي بالأفق، كسلوك زريابية، تندفق في بحر من اللجين، وقد رُصِّعَت تلك الرمال بأدغال من شجر العود، تمايلت أوراقها النصلية تمايل النشوان الثمل، أو بحرجات من النخيل كللتها الأخواص الريشية؛ فيخيل إليك أنها مشاعل أعدها عِفْريَةٌ من الجن، لتنير تلك البيد المترامية؛ إذ ما انفجرت رءوسها عن لهب عظيم.

فلما وصلت السفينة تلقاء «ممفيس»، أشرفت على هياكل قامت كتلها الصخرية من فوق عمد عظام، وقصور ذات قباب بيض، زادت الشمس شهبتها بهاء، وأبواب كأنها قطع الجبال، وقد أطلت جميعًا على النهر الأقدس، فانعكست صورها على صفحته النحاسية.

وألقى المسافرون عصا الترحال إزاء الأهرام، فأعجب «قيصر» وحق له أن يعجب لتلك القوة العظيمة، والمهارة الفائقة التي أعتدت من الحجر الصامت، قبورًا تنطق بعظمة الماضي، أما الذين هم من شيعة «أفلاطون»، أولئك الذين لم يأبهوا بحاجات البدن ولذائذ الجسم، واعتقدوا أن الخلود إنما هو نتيجة للجمال الذي تحسه الروح، والهدوء الذي تأنسه النفس، فقد سألوا أنفسهم! أية فكرات تلك التي حوَّمت في وجدان «خوفو»، و«خفرع» وأترابهما، عن سر الحياة وسر الموت؟ أكان اعتقادهم أن الموت هو الحياة في عالم آخر، ليست حياة الأرض إلا وسيلة تسلم إليه؟ أرفعوا القواعد من هذه الأجداث العظام تحية للموت؛ أم أرادوا أن يتحدوا الفناء، ويسخروا من البلى، فشيَّدوا تلك المثلثات الباقيات؟

لقد تناثر من حول «ممفيس» كثير من الآثار الساحرة التي خلفها القدماء في السهل المنبسط من وراء المدينة، ولكن «أبا الهول» كان أبعثها على التأمل وأدعاها إلى العجب، ولقد ترغب «كليوبطرا» إلى «قيصر»، محبها وحاميها، أن يقايس بين ملامحها الناعمة، وملامح «أبي الهول» الجهم العظيم، لعله يقع على أوجه من الشبه بينهما.

وأخذت الشمس تتوارى من وراء تلال «لوبيا»، بعد أن أشرف المحبان على «أبي الهول»!

ما أشبه ذلك المسخ العظيم، قابعًا من فوق فراشه المرمل، بهولة من الهول الأسطورية، شرعت في الانفلات من أمواج بحر لجي؟ ها هي تقتبل الشرق! وقد ارتسمت على فمها ابتسامة ساخرة كادت تغيب في الظل المعكوس عن الشمس الغاربة، وارتمت على ظهرها الأحوى خيوط من الأشعة الباهتة، فلابستها صورة حي من الجبابرة العظام، حطَّ في تلك البقعة فجاءة، فذرى جلاميدها أباديد.

لقد استوحى «أوديپوس» من قبل مسخًا كأبي الهول، استوحاه مشفقًا مما تخبئ الأيام، أما وإن «قيصر» القاهر، عاهل الرومان وسيد الدنيا، ما زال يسبح في بحر الحياة اللجي، والليالي من حوله تذهب الواحدة تلو الأخرى مثقلة بالأحداث، فعليه أن يقف أمام الرمز المصري مطرق الرأس خاشع البصر، مكتنف النفس بشتى الحسوس المتنافرة، لعله يحظى منه بشيء ينير سبيله في الحياة!

أمجيب قيصر أنت يا سر الأسرار؟ كلا، ما فاز أحد قبل «قيصر» منك بجواب، وما كنت تخشى عظمة قيصر، فإنها عظمة يخشاها الفانون وأنت من الخالدين، ولكن لا، فبرغمك أجبت «قيصر»، وبرغمك أجبت غيره من أبناء الفناء، وإنما كان جوابك تلك الابتسامة السحرية التي ظلت تسخر من الشعوب والأمم والأقدار.

ولقد غشيت «قيصر» غاشية من التأمل والفكر، فمرت بخياله ذكريات رومية وواجباته ومكانته من الدنيا الحافة به، وما في القيصرية التي يحميها من متضارب الأغراض وكامن المطامع التي لا يقمعها إلا قيصر وحده؛ وأخذ يصيخ بقلبه إلى موحيات ذلك الهس النفسي العميق، ولكن ذراع النمرة المصرية طوَّق «قيصر»، فاستفاق من غشيته، وتطلع فرأى القمر يبزغ من وراء الرمال محمر اللون، كأنما هو نفس من أنفاس الليل، فأنساه حديث النفس، وصرفه إلى حديث الحب مرة ثانية، ذلك بأن الحب كان قد أخضع «قيصر» وتملك حواسه جميعًا، فأعماه عن كل شيء إلا عن «كليوبطرا»، وأصم أذنيه، إلا عن حديث قلبها.

•••

في اليوم الثلاثين من بدء الرحلة، بلغ العاشقان جزيرة «فيله»، تلك الدرة العصماء التي يحويها الأخضران: الماء والسماء، ولقد رق كلاهما وشف، حتى لقد يتعذر عليك أن تقضي أيهما ظل لصاحبه، ولا غرو، فلقد كانا مصدرًا للوحي الذي استلهم منه الشعراء على مدار العصور، ولقد حط كل من بلغ «فيله» رحاله فيها غير طامع بأن يحظى بفردوس آخر من فراديس الأرض؛ فهنالك ضرب المفتنون مخايمهم، وألقوا العصا على بساطها السندسي، قانعين بأن ينعموا فيها بعبادة الجمال، ناسين كل ما آنسوا من آلام الحياة في غيرها من رحاب البسيطة، وقليلًا ما هم، أولئك الذين سعدوا بهذه الأمنية المنشودة.

ذلك بأن جزيرة «فيله» كانت ملكًا لكهنة «إيزيس» منذ أزمان لا تعيها الذكريات، وكانوا يعتقدون أن دخول غيرهم فيها، تهجمًا على حرمتها وتدنيسًا لقداستها، ولقد كان لهم أن يتيهوا على الناس عجبًا، ويملئوا الأرض فخارًا، بأنهم حفظة هيكل أفرغ عبدته عليه من المال ما جعله أغنى هياكل مصر جميعًا، على فرط غناها، وتالد عزها، وزاد في نفوذهم أنهم احتموا بالآلهة المحبوبة، فحظروا على أي كان من الخلائق أن يمد إلى أمورهم أصبعًا، أو يتطلع إليها بطرفة عين، فاستأثروا بموارد الهيكل، وحجبوا غيرهم عنها، أنفة واعتزازًا.

وجرت العادة في كثير من الهياكل والمعابد ألا يشوب صفو العبادات والمناسك فيها شائبة من الدنيويات، لهذا رأى الناس في مقدم الأسطول الملكي فرصة ينفسون بها عن أرواحهم المقموعة، وأخيلتهم المكبوتة، فخرجت إلى عرض النيل سفائن شحنت بالموسيقاريين تحيي العاشقين الملكيين، واصطف على جانبي النيل طوائف من الكهنة يرتلون أغنياتهم المقدسة، ولقد اضطر العاشقان أن يوافيا الهياكل بزيارات يقومان فيها بأداء الفروض الدينية ويستمعان للمواعظ والخطب، وأن يستقبلا وفودًا تحمل إليهما الهدايا الثمينة والتحف النادرة، وهنالك نحرت الكباش تضحية وقربانًا، وجرى دم الحمائم قانيًا.

وما انتهى الاستقبال الملكي حتى أبدت «كليوبطرا» رغبتها في أن تترك و«قيصر» في انفراد وهدوء، بعيدين عن هموم الرسميات، وكانا يقضيان هاجرة النهار في خلوتهما؛ ومن حولهما نوافير تلطف من حرارة الهواء؛ وتتدفق مياهها في برك صغيرة نامت في أحضانها زهرات النيلوفر ترنو بأعين ناعسة، وتعكس ألوانًا مختلفة، من بياض ناصع، إلى لازورد اشتدت زرقته، إلى أرجوان قرمزي، ينبعث من نورياتها الوادعة الهادئة، وبهذه المثابة نسي العاشقان كل هموم الحياة، وما تتطلب الحياة من ميول ومطامع ورغبات.

ولئن نسيت الملكة كل شيء، فإنها ما نسيت ساعة واحدة، الغرض الذي من أجله اقتادت عاهل الرومان، إلى أقصى حدود مصر، وكانت قد عقدت العزم على أن تربط حاميها الأعظم بذكريات لا تمحوها الأيام، ولا تفعل بها السنون، وأن تثبت في روعه أن مصالح مصر ومصالحه شيء واحد.

وكانا، إذا عسعس الليل، وأرخت الظلماء سدولها على الوجود، يخرجان إلى الحدائق يجوبان ممراتها الجميلة الساكنة، ويشمان عبق البنفسج، أو يدرجان بين الخمائل الملتفة، فيساقط على رأسيهما التبر المصري الذي حمله هواء النهار، وكسى به الأشجار اليانعة، ولقد تجيب «كليوبطرا» على ما يوحي إليها به «قيصر» من بسمات الأمل، ولكن في فَرَقٍ أشبه بفرق الأطفال.

«نعم، نعم، إن بلادي أجمل بقاع الأرض، ولكن إخضاعها من جسام الأمور.»

وما يني «قيصر» عندما يحس نعومة الذراع الذي يطوق عنقه، عن أن يعد «كليوبطرا» وعد الصادق الأمين، بأن بلاده لن تقصر، بكل ما أوتيت من قوة وبطش، في حمايتها والذود عن حياضها.

على أن عزلة الملكة وقيصر، وبعدهما عن الظهور للناس، أمران لن يطولا إلى غير نهاية، فأرادا قبل أن ينهيا عزلة الحب، أن يخلدا ذكرى هذه الأيام التي قضياها معًا في سعادة ما شابها من شيء إلا خطرات كانت تمر بمخيلة «قيصر» عن رومية وهموم قيصريتها المترامية الأطراف، أو همس كان يساور «كليوبطرا» فيما يكون لو أن «قيصر» اضطر يومًا إلى الرحيل عن أرض السحرة الأقدمين؟

وإنما يخلد ذكرى الحب عمل تتوارثه الأجيال، وأي شيء تتوارثه الأجيال غير هيكل تعبد فيه «إيزيس» المحبوبة؟ وفي وسط خميلة من شجر الدّفَل والتين المصري، سكنتها أطيار أضفت الطبيعة على أرياشها ألوان قوس قزح، وضع العاشقان الحجر الأساسي من هيكل الحب والجمال، ولقد انسلخ ألفان من السنين، طوت الأرض خلالهما ثمانين جيلًا من أجيال البشر، وكل من زار فردوس «فيله» يقف وقفة المأخوذ بسحر ذلك الرواء الذي خلعه الفن على تلك العمدان القورنثية، الواقفة هنالك عنوانًا على الوداعة، ورمزًا للجمال، ولم ينقش على ذلك الهيكل من اسم يدل على الآلهة التي شيد ليكون وقفًا عليها، ولكن ما وقف أمام ذلك الهيكل من إنسان، إلا وأدرك بديئة، لمن وُضعت قواعده: ورُفعت أركانه.

•••

في الإسكندرية، هبط وفد من الرومان، ينتظر عودة قيصر!

لما علم الرومانيون أن قائدهم، فاتح الممالك ومدوخ الشعوب، ومبيد الثورات، وغازي أرض الفراعنة، وأن بطلهم الذي لا ملجأ لهم غيره، ولا محط لآمالهم سواه، قد عبثت به «سرسية» الجديدة؛ تملكهم الرعب، ومشى في قلوبهم الخوف والوجل.

أيخيل إلى قيصر أن في مقدوره أن يتحدى القدر؛ فإن ما أقام من مجد، وما شيد من عظمة، وما بنت عبقريته من طارف المجد وتالد العزة، قد ينهار ويتحطم، إذا تولاه الإهمال، وعملت فيه يد التهاون، ومن ذا الذي في مستطاعه أن يحدس النتائج التي تترتب على لهو قيصر، لو أن فلول حزب «پومپيوس» قد جمعوا كيدهم مرة أخرى، إذا علموا أن قيصر يلهو، وأنه قد أُخِذَ بمفاتن ملكة، فراح يهبها قلبه، ويبثها نجواه، ويبادلها الهوى والغرام، كلا، بل إنه سخر رومية لمطامعها، وساق كتائبها؛ فرسانًا ومشاة، ليغزو مصر، ثم يلقي بها عند قدميها.

أما الذين هم كانوا أقوى جنانًا، وأصرح نفوسًا، وأثبت قلوبًا، فقد جاهروا بمخاوفهم، ومضوا يترقبون الحوادث في انتباه وحذر، حتى لقد غشت على رومية غاشية من القلق، وأخذها ما يشبه الدوار الكاذب الذي يأخذ أولئك الذين يملكهم تيه الصحراء.

ومهما يكن من أمر المرأة، ومهما يكن في صدرها الحنون من عطف وملذات، ومهما استروح فيها الرجل من عبق السعادة والنعيم، فإن بطلًا من طراز قيصر، لا بد من أن يصيخ لكلمات صحبه، وأن يهب من ذلك الفراش الوثير مذعورًا، إذا ما أهابوا به «إن شرفك في الميزان»!

ولم تكد هذه الكلمات تخترق أذنيه، حتى استيقظ «قيصر» من سباته، وانتبه فيه البطل، واستخفى الشاعر، كيف لا وقد أدرك أن كل ما أتى من أعمال عظيمة خالدة، وأن كل ما بنى وشيد، وأقام ونجَّد، إنما يذهب في لحظة هباء، ويطير مع الريح بددًا، إذا هو لم يستجب لوحي الساعة، فإن من واجبه أن يغادر مصر توًّا، وأن يحل عن عنقه ذراعي النمرة التي كادت تستعبده، نعم، كان من واجبه أن يركب جناح القطا إلى رومية — غير أن هنالك واجبًا آخر، فإنه كان يحتاج إلى قليل من الزمن، يمهد فيه السبيل للإفضاء بذلك النبأ العظيم إلى المرأة التي كانت ترى فيه العون الأوحد في الحياة، والملاذ الأخير في الدنيا، وبكل ما يتطلب الموقف من لين ودعةٍ، وبكل ما يوجب ذلك الظرف من هدوء وعطف، أفضى «قيصر» إليها بالنبأ الذي روَّعها، وملأها خوفًا وإشفاقًا.

– «إذن فأنت تحاول أن تحل ذراعي من حول عنقك؟»

وبجمَّاع ما فيها من حرارة وفتنة، جذبته نحوها، وضمته إليها، وتشبثت به تشبثًا أملاه الحب والخوف، والحزن والاضطراب، حتى لقد خشي «قيصر» العظيم أن يلوذ بالهزيمة، إذا طال به موقف الوداع الأول؛ وهو بعد ذلك الرجل الذي تحدَّى العالم، وخلفه يرجف من تحت قدميه، غير أنه لم يلبث غير بعيد، حتى تذكر الحكمة التي اتخذها في حياته منارًا: «الأول دائمًا، وحيثما كنت.»

فاستعاد شجاعته، واستعلى على وحي المرأة مرة أخرى؛ فإن «قيصر» برغم ما عرف عنه من إباحية واستهتار، لم يكن يعد ذلك الشهواني الذي تخضعه غرائزه في كل الحالات، وتستعبده ملاذه وميوله في كل الظروف، ذلك بأن مزاجه كان يتحرق إلى الحركة، ويحنُّ إلى العمل ويميل إلى الصراع، وبخاصة في حالة كانت تدعوه حوادث السياسة في وطنه إلى المبادرة للعمل والجهاد.

– «أيُرضيك أن يصبح «قيصر» الذي نظر إلى الناس نظرة أنهم القطعان المسوسة، أن ينزل بجبنه وتهاونه إلى مرتبة أولئك الذين يشملهم احتقاره؟»

ولقد أخذ الحزن بمجامع «كليوبطرا» لما أن بدا لها أن الزمن يكاد يستلبها «قيصر»، كيف تستطيع أن تبسط على «قيصر» سلطانها، وتحوطه بيديها القويتين، وهو عنها بعيدًا من ذا الذي سوف يحميها ويدفع عنها عوادي الأحداث ومطامع الطامعين؟ ومن ذا الذي سوف يمد لها يد العون لتخضع أهل مملكتها، إذا هم كشروا لها عن أنياب كأنها المسنونة الزرق، أو شرعوا في وجهها راية العصيان بسواعد مفتولة، وأظافر محدودة؟

كانت «كليوبطرا» قد أوشكت أن تصير أمًّا، فاتخذت من ذلك الرباط الدموي الذي سوف يربطها بقيصر ذريعة استقوت بها عليه، فوعدها ألا يغادر مصر قبل أن ينشق أنفاس الحياة، حفيدُ أنياس والزهرة، وسليل بيت بطلميوس: ذلك الذي غادر تلال مقدونيا في ركاب الإسكندر جنديًّا صغيرًا، وانتهى به الحظ أن يصير فرعونًا للمصريين، وإلهًا للأغارقة.

أما «قيصر» فكان قد شغل ثانية عن رومية وأحزابها، وعن القيصرية وهمومها، بمقدم ذلك الذي ارتقب مقدمه، ولم يَجُل في صدر «قيصر» من هم فكان أشد به أخذًا، أو أمعن وخزًا، من أن الأقدار قد ذرته فردًا، فلم يعقب من زوجاته الثلاث اللاتي تزوج منهن وريثًا، فلقد أصيب من قبل بموت ابنته «يوليا»؛ ومنذ أن طوتها الأرض، لم تستجب له السماء بما يعوض عليه من فقدها، ولمن سوف يُوصي قيصر بثروته الطائلة، وضياعه الواسعة التي يملكها في مقاطعة «امبريا»؟ ومن ذا الذي سوف يزود البشر بأعقاب سلالة «قيصر» القدسية، على توالي الأعصر والأحقاب؟ أيجود عليه الحظ بغلام يرثه ويرث من آل بطلميوس؟ أما الأماني التي منى بها «كليوبطرا»، إن هي وهبته ذلك الوريث، فكانت ولا شك أشبه بالأحلام، وحبذا لو تصدق الأحلام.

لقد كان لأخته «أطيا» ولد، هو «أكتاڨيوس»، ولكنه كان يعلم حق العلم أن ابن أخته ضعيف التكوين، بدنًا وعقلًا، ناعمُ النشأة، خوَّار القلب، غيرُ صبَّار، وليس المستقبل لخوار العزيمة، ولا للقلق المتردد، وإنما ينزل الناس على حكم القوي، وعند رأي الأحيل، ومن ذا الذي يستطيع أن يحظر أن «ابن السفاح» سوف لا يكون أجدر من «أكتاڨيوس» بالميراث العظيم الذي سيخلفه قيصر «أمبرور» رومية! ولو أن أخيلة استمدها قيصر من نجم ضال في عرض السماوات، أو استخلصها من بطن كهف أجنته أغوار الأرض، لكانت أقرب إلى عقله وقلبه، من أن يتخيل أن سيف «أكتاڨيوس» سوف يحكم في خناق «قيصرون»، ابنه من «كليوبطرا»، بعد دورة قصيرة من الزمان!

في مساء اليوم الذي عمد فيه قيصر إلى الرحيل، مستجيبًا لإلحاح صحبه، بعد أن أمضهم طول الانتظار، تمخضت كليوبطرا عن مولود.

كان غلامًا.

وشاءت الطبيعة أن يكون ذلك الغلام نسخة من أبيه، لا يختلف عنه في شيء إلا في صغر ملامح الطفولة، مقيسة على ملامح الرجولة، ولقد هزَّ الفرح قيصر تلك الهزة التي تملك الكهول، إذا جادت عليهم الأقدار بعقب، بعد أن تكون قد نبذتهم، وأطالت بهم النبذ، في بيداء العقم المجدية، وسرعان ما اختار له الاسم فدعاه «قيصرون»، فإن ذلك من حقه وملك يمينه، أما أن يرسم له المستقبل ويحدد تخومه، ويخط في عقله مصوراته، فليس من حقه في شيء، بل إن ذلك من حق الأقدار وحدها؛ ولا شريك لها فيه.

لقد قطع على نفسه عهدًا أن يعترف بأبوته للغلام، عندما أقبل يودع كليوبطرا قبيل الرحيل، في موقف جاوزت فيه الملكة حد اللوم إلى التقريع والوخز، توطئة للإفضاء بما تنطوي عليه حناياها: «اتخذني زوجة، قيصر اتخذني زوجة!»

ذلك بأن رأسها الصغير الجميل، ومن فوقه تاج آبائها العظام؛ كان قد أفعم بالأماني، وفاض بالآمال الجسام، آمال أشعرتها بأن نفسها أعظم من أن تقنع بحكم أرض الفراعنة وحدها، لقد فقدت أرض الفراعنة، بعد أن عاثت فيها الجنود الرومانية، رونقها وعظمتها وكرامتها. إن أرض الفراعنة لم تصبح أكثر من سوق تجاري؛ لهذا سبحت أحلامها نحو رومية، وكيف السبيل إليها؟ إنما سبيلها أن تقرن حظها في الدنيا بحظ رجل الإمبراطورية الرومانية؛ ذاك الذي إن شاء وضع رومية من فوق السماك، وإن شاء جلد بها الأرض.

•••

لقد كبُرَ هذا الأمر على «قيصر» أول شيء، بل أوسعه همًّا وملأه إكبارًا، ففي القصر الرسمي في رومية «كلپورنيا» زوجه الشرعية، ترتقب أوبته، ذلك في حين أن كليوبطرا كانت زوجًا لأخيها، بطلميوس الثالث عشر، تلبية لتقاليد أسرتها القديمة، ولكن …

أية قيمة لمثل هذه المحظورات في نظر نمرةٍ مثل كليوبطرا، في صدرها قلب، وفي دماغها عقل، وفي نفسها شهوات؟ ما قيمة هذه الاعتبارات في نظر شابةٍ انحدرت من بيت ملكي عُرف في أميراته خاصة، أن فيهن من افتراس النمرات، أثرًا غير قليل؟

لقد وزنت كليوبطرا الدنيا في يدها، فرأت أنها لن تتسع لمطامعها، وأنها تضيق عن أمانيها ومطالبها، إذا هي قرنت ثروتها الطائلة التي تزودها بها مصر، بعبقرية القائد الأوحد في العالم الروماني، ولا شك في أن ثروة كليوبطرا تؤيدها عبقرية قيصر، كفيلة بأن تذلل الصعاب، وتدك العقبات.

على أن ما كان في إيحاء كليوبطرا من عظمة وجلال، وما كان في مراميها من طموح واستعلاء على كل ما في الدنيا الحافة بها، قد أفعم قلب قيصر، فسكن إلى ذلك الوحي، وجنح إليه، ذلك بأنه كان يعلم قدر ما في سكونه إلى ذلك الوحي من لذاذة تغمر قلب فاتنته الملكية، وهنالك أخذ قيصر من رومية هَمٌّ عميق: أتسمح رومية لقيصر أنه يركبها مطية إلى مطامع كليوبطرا؟ أضف إلى ذلك أن قانونًا صارمًا من قوانين «السناتو» الروماني، كان يحرم على النبلاء تحريمًا قاطعًا، الزواج من الأجنبيات!

– «أجل … ألست فوق القانون؟»

ولقد سمع قيصر هذه الكلمات تخرج من فم الفاتنة الإغريقية، كأنها رنات المثاني والأعواد، تحركها يدٌ صناع ذات مرانة؛ غير أن رجلًا أله في العالم الروماني، وأُنزل فيه منزلة الأرباب، كان في مستطاعه أن يقاوم بعض الشيء، مثل هذا الإغراء.

ودنت ساعة الوداع الأخيرة، فهزم قيصر، وضمَّ كليوبطرا إلى صدره ضمة، إن لم تكن وعدًا صريحًا منه بتنفيذ ما أرادت، فإنها قد جعلتها تشعر بعد ذهاب عشيقها، بأن خطبتها قد عقدت على العالم أجمع؛ ومن فوق قمته العليا، رومية العظمى.

غير أن كليوبطرا لم تكد تشعر بالوحدة، حتى انتكست أفكارها، وراحت تضرب في مهامه الحياة، مضطربة تختلج بالأوهام حينًا، وبالحقائق حينًا؛ راحت تتوهم «رومية» راكعة عند قدمي الإسكندرية، وأن الأتباع والأمراء يقتربون من عرشها زحفًا على الركب والبطون، ليلقوا عند قدميها بأسلحتهم خضوعًا، أو بمفاتيح أمصارهم إظهارًا للولاء؛ وأن ملايين من الخلائق البشرية أخذت تسجد أمامها، وأنهم جميعًا يرددون اسمها مقرونًا باسم قيصر، هاتفين بعظمتها، مولين بوجوههم نحو سدتها العليا، ابتغاء مطلب يرجى، أو معروف يسدى.

بمثل هذه الأحلام تحولت وحدة كليوبطرا من صحراء قفر مجدبة، إلى جنات ظليلة من الأماني الحسان، وتغيرت الحياة في نظرها، حتى لقد وهمت أن أحلامها أقرب إلى التحقيق، من حاضرها المحزن في وحدتها الأليمة.

•••

ما لبث قيصر «النائم» أن تحرر من السحر الذي سُلِّط عليه من عيني الملكة المصرية السوداوين الناعمتين، حتى ارتد قيصر «اليقظ» الصافي البديهة، السريع الخاطر، القوي الحجة، الثابت النفس، لقد تحرك فيه خُلُقُ «النسر» المتوثب، القفاز إلى الغايات، الطفار إلى النهايات.

على أن الحالات التي قامت في العالم الروماني، قد اختلفت كل الاختلاف عما كانت عليه عندما انتصر «قيصر» في برية «فرساليا» على جيش «پومپيوموس» فإن فلول ذلك الجيش، وقد طال بها العهد على سماع اسم «قيصر»، وهو في عزلته بين ذراعي كليوبطرا، قد جمعت كيدها، ونظمت صفوفها مرة أخرى، وما كان كيد أنصار «پومپيوموس» بالأمر الهين؛ فإن قواهم قد اكتنفته عن يمين وعن شمال، وأخذ شبح الحرب الأهلية يكشر عن أنيابه الزرق المحدودة، في ولايات الشرق الرومانية.

أيعود قيصر إلى رومية، والعدو يكتنفه، والحرب الأهلية تقرع بابه؟ لم يعتد قيصر من قبل أن يجمع العالم الروماني رجلين: قيصر؛ وعدوًّا ينابذه، لهذا يمَّمَ شطر آسيا الصغرى، قبل أن يهبط أرض إيطاليا، وبدأ بتحطيم الأسطول الذي ختم به العدو مصب نهر «القُدْنُس» Cydnus؛ ثم تحرك عجلان على رأس جيش انتقاه من جلاوزة الحروب، القادرين على أن يأتوا في ساحة الحرب بمعجزات، وهاجم «كايس كشيوس» في «إفسوس» و«فرناقس» في «زيلا»؛ ثم ارتد مسرعًا صوب إفريقية، وانتصر في وقعة «ثفسوس»، وبعد أن حصل على مبالغ عظيمة من المال، جمعها من الولاة الذين ملأهم منه الرعب، وأخذتهم منه سورة الوجل، تلقاء بقاع من الأرض تضم بأمره إلى الولايات التي يحكمونها، عاد إلى رومية مُثقلًا بالأسلاب، محفوفًا بمظاهر العظمة، ليتخذ من ذلك وسيلة إلى القضاء على نفوذ كل من حاول من الرومان أن يذكر اسم قيصر، بشيء يستشم منه ريح الامتعاض أو الارتياب.
ولقد أخذت رومية عدتها وأكملت زينتها لاستقبال «قيصر»، استقبالًا لم تشهده «الڨياسكرا» Via Sacra من قبل٨ فقد اجتاز قيصر شوارع المدينة وعلى رأسه أكاليل النصر، وفي ركابه عدد من الملوك أُسارى مقرنين في الأصفاد، يمشون حفاة الأقدام حاسري الرءوس؛ وفي مقدمتهم «فرسنغيتور»؛ الذي قاد الثورة على رومية في بلاد الغال.
ومن حول مركبته؛ وقد كتبت عليها العبارة المعروفة: «أتيت فرأيت فغزوت»٩  Veni, vidi, vici، التف شعب رومية يحيي بطله العظيم بحماسة الأطفال، أخذهم الفرح بعودة أبيهم الشفيق المحبوب، بعد طول الغيبة.

غير أن الأرستوقراطيين لم يرقهم ما رأوا، ولم تحفل قلوبهم بتلك الهزات المرحة التي حركت الجماهير، ولكن قيصر لم يأبه بهم، ذلك بأنه مع الشعب وإلى الشعب ومن الشعب وبالشعب، كان ديمقراطيًّا خالص العقيدة في الديمقراطية، بدأ حياته بطلب إصلاح حال الجماهير، وترقية مستواهم الاجتماعي، بيد أنه كان يعلم ما في الجماهير من قدرة على التحول والانقلاب من حال إلى حال، والانتقال من أحد طرفي النقيض إلى الطرف الآخر، فلم يمعن في إغضاب الأرستوقراطيين، ولم يفرط في إظهار ميوله الشعبية، إفراط الحمقى من الزعماء.

لقد علم، وعلم يحق، أن المنطق والعقل، لن يكونا أشد خسرانًا وضيعة، منهما إذا هما انزلقا ليخاطبا الجماهير؛ فأخذهم بأنواع المسرات، وضروب اللهو، فأمر بأن تقام الزينة، وأن تمد الموائد، وتقام معالم الأفراح في أنحاء رومية.

كذلك قد علم ما في البر بشعب فقير من أثر يملك الأرواح والعقول والخواطر؛ فأمر بالميرة والغلال والزيوت والخمور، فوزعت على الفقراء بغير حساب.

وأقيمت في الملاعب حفلات عظيمة، حتى لقد غصت على رحابتها بالخلائق، ينظرون في تشوق إلى عراك المجالدين، ويمتعون أنظارهم بمرأى الدماء المهراقة من الأجسام البشرية ومن الحيوانات، ويرقبون كيف تفارق الأرواح الأبدان.

وظلَّت الزينة أربعين يومًا متوالية، فكنت لا تسمع من كلمة يذكر بها روماني، اللهم إلا اسم «قيصر» وحده، منعوتًا بأنه «العظيم النابه»، أو «القاهر»، أو «الأب المحبوب لرومية العظمى».

ولقد غمره الرومانيون بالألقاب، وخصوه بأسمى التشاريف، فقد كان قنصلًا، ثم صار حاكمًا بأمره (دكتاتورًا) لعشر سنين، وتلقى من الشعب لقب «الحامي الأعظم» لرومية وممتلكاتها، وخُصَّ في «السناتو» بمكان أعلى من كل الأمكنة الأخر، ونقش على تمثاله الذي أقيم في معبد «يوپيتر» كلمة «إله» بحروف بارزة.

•••

ولكن الأمور في الإسكندرية لم تجر على وتيرة يطمئن لها قلب كليوبطرا، أو ترضي خيال قيصر، فإنه بالرغم من الجند الذي خلَّفه قيصر فيها بقيادة «كلڨينوس» ليحافظ على النظام والأمن، تمخضت الأيام عن عدة فورات، أقضت مضجع الملكة، وغشَّت على أحلامها بغشاوة من القلق والإشفاق.

قيل، في السر مرة، وفي العلنِ مرات، إن الملكة مالأت الأجانب، وألقت بنفسها في أحضان الدخلاء، وأنها رضيت أن تكون أمَةً لرجل روماني، وأنها فوق هذا وذاك، امتهنت شرف الدولة، بأن أعلنت في غير خفاء، أنه والد ابنها.

أيجول في خاطر كليوبطرا أن تؤمر على المصريين في المستقبل ملكًا، ليس منهم في شيء؟

على أن مثل هذه التهم، لم تكن لتهمَّ إنسانًا فيه من الجُرأة والإقدام قدرًا يحفزه على أن يهملها أو يضرب بها عرض الأفق الأوسع، غير أن كليوبطرا في ذلك الوقت، وهي في حدود العشرين من عمرها، لم تكن قد أصبحت بعد تلك الملكة الصلبة المقدامة الشديدة المراس، التي تقود الجحافل الجرارة إلى ساحة الحرب، وتكتم أنفاس الرأي العام، بنظرة غضب، أو لفتة احتقار.

نعم، كانت في حدود العشرين من عمرها الحافل بالأحداث، شديدة الحساسية، رقيقة العاطفة، وكان شبح الثورة يخيفها، بل يذهب بالنوم عن جفونها؛ فمضت مهزوزة القلب، ثائرة الأعصاب، تتوقع بين آن وآخر أن يكون، ما ليس في منطق الحوادث من دليل، على أنه سوف يكون.

أما حاميها ورادُّها إلى العرش، فلم يكن بعد إلى جنبها، يدفع عنها شر النفوس، وفتنة الأطماع، أفي مكنتها أن تتغلب دومًا على تلك النظرات الجافية التي يرميها بها ذوو الفتنة، والنذر التي كانت تقرع سمعها، والفورات التي لا يطفئها إلا الدماء؟

لقد كان لها حتى الآن من نفوذ قيصر، بالرغم عن غيبته، عضدًا ادَّرعت به، واحتمت من خلفه، ولكن إلى أي حد تتطور الحوادث، إذا ما ثبت في روع الثوار أن قيصر قد هجرها، وأن ليس في يدها من قوة غير عدتها الذاتية؟ من ذا الذي يحول بين هؤلاء وبين خيال يجول في أدمغتهم، أو مطمع يدور في صدورهم؟

عامة ذا لم يكن شيئًا مذكورًا، إلى جانب ما شاع عن قيصر من أحاديث، فقد قيل: إنه فتن، في أثناء مغزاته الإفريقية، بالملكة «أونونيا»! أذلك ممكن؟ أيقع هذا بعد فترة وجيزة من إفلاته من بين ذراعيها، حيث أقسم على أن يظل لها الحياة وفيًّا، وأن يمضي لها أمينًا؟

ما أضعف المرأة، على قوتها، إذا ما أصبح رجلها الذي تحبه بعيدًا عن أن تحوطه بتلك الحلقة الحديدية! التي هي ذراعاها!

على أن ما بين ذراعيها وقيصر، من فجاج الأرض، ليس مما يتعذر اجتيازه؛ وما الذي يحول دون ذهابها إليه، إذا كان قيصر ما يزال لها وفيًّا محبًّا، وإذا كان ما ينفك يحس فراغًا عظيمًا في جو حياته، بقدر ما بينها وبينه من نزوح الدار وبعد المزار؛ على ما كان يبثها في كتبه من نجوى؟

أما رغبتها في أن تحكم الصلة التي تربطها بقيصر، وأن تزيد أواصرها قوة، فقد كان يشوبها شعور بالخوف من رومية! نعم من رومية: عدوتها التقليدية، تلك المدينة الفتية، التي لولاها لتربعت الإسكندرية على هام الأمم، ولأصبحت سيدة الأرض كلها، بل لأضحت الدرة الصماء في تاج الدنيا، نعم رومية، عدوتها التقليدية؛ تلك التي لن تغمض عنها عين كليوبطرا، أو تفغر فاها الواسع العميق، لتبتلع الوادي الأقدس، وتضمه إلى ما ابتلعت من رحاب الشرق الفسيح، ولكنها برغم هذا كله، كتبت إلى قيصر تستوحيه رأيه في زيارة رومية.

•••

بعد أن غاب عنها قيصر حولًا كاملًا، تلقت منه رسائل يجدد لها فيها عهد الحب والوفاء، أما إذا كان قد فتن بعض الشيء «بأنونيا» ملكة «نوميديا»؛ فإنما هي فتنة عابرة، كسحابة الصيف، أو هو اتخذها ألهوة يروح بها عن نفسه، بعض ما كان يشعر به من حزِّ الذكريات القديمة.

أيجوز لرجل مثل «قيصر»، أثقلته المسئوليات، وأنقضت ظهره الواجبات، أن يدلف مع الحب إلى تلك الأغوار التي تصرفه عن أمور رومية، وفي يدها الدنيا بأسرها؟

سواء أجاز هذا أم لم يجز، فالواقع أن «قيصر» كان دائم التفكير في ليالي قصر «البروخيوم» مأخوذًا بدوافع لم يكن له في صدهن عن خياله من حول ولا طول، كان يحلم بالإسكندرية، وبالساعات التي قضاها في حضن النيل الهادئ، وقد همدت ثورات نفسه، ونعست أعصابه المضطربة، فأغفت عيناه الوقادتان، وفيهما مرأى النهر الأقدس، يوحي إليه بالأحلام الشهية.

•••

لقد تردد قيصر شيئًا قليلًا، قبل أن يبيح للملكة زيارة رومية، أما أن تزور ملكة مصر، عاصمة العالم الروماني، فذلك أمر جسيم، ليس لقيصر أن يقضي فيه بحكم ظهر الغيب، ومن غير أناة، وطول تفكير، ولقد رأى بثاقب بصيرته أن السبيل ينبغي أن تمهد، قبل أن تطأ قدما كليوبطرا عاصمة الدنيا، أما أكبر العقبات التي كانت تقوم في وجه قيصر، فعلمه بكراهية الرومان الرسيسة، لكل من يحمل من فوق رأسه تاجًا، وربما لا نخطئ إذا تصورنا أن أهل رومية، كانوا يرون في هبوط أصحاب التيجان أرضها عامل هدَّام يضرب في أصول الحريات الرومانية، اللهم إلا أن يهبطوها أُسارى مقرنين في الأصفاد، أضف إلى ذلك أن كليوبطرا كانت تُرمقُ في رومية بأعين تفيض بالارتياب والحقد والغضب.

كان الرومان يعرفون فيها الطمع الأشعبي، غير ناسين ما بسطت على قيصر من سلطان، وما سلطت عليه من سحر، وما كان «قيصر» لينسى أن أهل رومية كانوا قد جنحوا إلى الارتياب في أمره، والتشكك في نياته، أما وقد استطاع أن يحول ريبهم إلى ثقة بعد انتصاراته في آسيا وإفريقية، وإخماده الثورات التي هددت أم الدنيا، فإن هذه الريبة لا بد من أن تُوجه إلى كليوبطرا، مجددة بالذكريات التي ثبتت في عقليتهم من التجاريب الأولى.

إن المرأة التي استطاعت أن تحبس قيصر عن العودة إلى وطنه طوال تلك الفترة، وصرفته عن التفكير في أولئك الذين لهم فيه الحق الأول، لا بد من أن تكون الطبيعة قد هيأتها بقوى تمكنها من محو العرف الإنساني، لتستن للإنسانية عرفًا يرضيها.

وبعد، أمن الحكمة أن يحمل «قيصر» فاتنته الملكية إلى مثل هذا الجو، وأن ينزلها مثل هذا المنزل، وأن يقذف بها في مثل هذا الأتون المستعر من الفكرات والخيالات والأوهام؟

لقد سأل قيصر نفسه: «أيقوى على أن يضع كليوبطرا موضعًا تُقابل فيه بهتاف العداء؟»

«أيستطيع أن يغمض عينه عن أعدائه الذين سوف يستغلون الموقف قائلين: لو لم تأت كليوبطرا لذهب قيصر إليها، نابذًا رومية ومن فيها؟»

ومضت الأيام تترى، وقيصر في بلباله، وكليوبطرا في ألمها ووحدتها مهتاجة قلقة، تمر بها الساعات طويلة ممضة حزينة.

•••

إلام تنتظر كليوبطرا؟ وعلام يتوقف رحيلها؟ أعلى إرادة قيصر؟ كلا! فإن لها لإرادة أين منها إرادة العاهل الأعظم، وإن لها لذكاء أين منه عبقرية زعيم الدنيا! لهذا صممت كليوبطرا على أن تهبط رومية بمحض إرادتها مدعية أن نصوص عهدها السياسي مع رومية، في حاجة إلى أن تُحدد، وأن تفسر تفسيرًا فاصلًا، لهذا تتنازل كليوبطرا بزيارة رومية لتناقش في نصوص العهد التي ما تزال موضع خلاف، يُخشى معه، أن تكدر العلاقات بين مصر والجمهورية الرومانية!

أمن أجل أن تنال مصر لقب «حليفة الجمهورية» Socius Republicae تشق كليوبطرا عباب بحر الروم؟ لم يكن هنالك من حاجة لأن تذهب الملكة بنفسها إلى رومية لتنال حظوة الحلف معها! وإلا ففيم كان السفراء؟ غير أن «السناتو» الروماني، وقد أخذه الزهو بأن تمثل أمامه ملكة مصر، صدَّر إليها دعوة رسمية، يدعوها إلى زيارة رومية.

ها هي ذي كليوبطرا قد طوت «السِّنَاتُو» الروماني في صدرها، كما طوت من قبل عاهلهم الأكبر، أما وقد دعتها رومية، ففيم الانتظار؟

•••

كانت شمس يونية مشرقة وضاءة؛ وقد دبت الحياة في أرجاء «الفوروم»١٠  Forum بمدينة رومية، وغصَّت شرفات منازلها بالناس، وازدحمت الشوارع والأسواق بشتى الخلائق البشرية، على اختلاف أجناسهم وألوانهم، كان يخيل للرائي أن رومية إنما لبست هذه الحلة الزاهية إحياء لعيد، أو تخليدًا لذكرى من ذكريات المدينة الخالدة؛ على أن خليقة الجمهور الروماني، في ذلك اليوم، لم تكن خليقة العطف والحب، بل خليقة المناوأة والتحدي.

ولقد راجت في تلك الآونة أقوال، وشاعت أقاصيص، عن تلك الزائرة التي فزعت رومية ولدانًا وشيبًا، فتيات وفتيانًا، لاختطاف نظرة منها، قيل بأنها غانية، ترفل في الدمقس، وتخبُّ في الديباج، وتغرق في الأحجار الكريمة والذهب الخالص، وقيل: إنها ساحرة، لن يفلت من شرها إنسان اتصل بها، أو كان له بها علاقة ما.

أما الخواص، فكانوا على أن كليوبطرا ليست إلا ملكة من ملكات الشرق، غير أنها الملكة التي لم يكن الشعب الروماني في صدره من حقد لإنسان، بقدر ما أكنَّ لها.

وتقدم ركبها عدد من العبيد السود يلبسون أقراطًا من ذهب، وبينهم الخصيان؛ فكانوا يشتملون بأردية طويلة، كتلك التي يلبسها النساء، أما الوزراء وصدور الدولة، فقد لبسوا على رءوسهم شعورًا مستعارة؛ ذلك في حين أن الجند كانوا نصف عراة، وعلى رءوسهم ما يشبه الملامس١١  Antennae، فلاحوا كأنهم حشرات كبيرة الأجسام.

ولما أن بدأ ذلك الموكب يشق قلب رومية، قوبل بعاصفة من الضحك والسخرية، أما الاستهزاء فكان من نصيب العلماء الفلكيين، بقبعاتهم الطويلة، ذوات القمم المدببة، والكهنة بجلود النمور التي ارتدوها، وبلغ الاستخفاف بأهل رومية مبلغه الأخير، لما أن وقعت أنظارهم على تلك الأعلام الكبيرة، وقد رسم عليها صور مقدسة! فما تلك الثعالب؟ وما هذه الصقور؟ وعلى أي شيء تدل تلك البقرات السِّمان؟ أهذه مُثلٌ من آلهة؟ لا جرم أن الذوق الروماني كان يأنف من النظر إلى مثل هذه الرموز، تُتخذُ لآلهة وإلهات.

غير أن أهل رومية لا يلبثون على هذا غير قليل، حتى يلوح لهم الهودج الملكي، غارقًا في بحر لجي من الحراب المشرعة، والسيوف الباترة، فيسود الصمت العميق، كأن قبرًا أجنَّ أهل رومية أجمعين، عندما تقع أنظارهم على كليوبطرا، ومن فوق ذراعيها ولدها «قيصرون».

كم ذا سبَّبَ لها «قيصرون» هذا من قلق، وكم ذا بعث في نفسها من مضضٍ، في قصر الإسكندرية؟ همها بمستقبله، وهمها بأبيه!

أما في رومية فقد ارتقبت كليوبطرا من ابتسامته الساذجة، ومن قربه في الشبه بقيصر، أن يكون مبعث عاطفة تنطلق في صدور الرومان بما يدنيها خطوة من غرضها الخطير، ولم يخب في ذلك نظر كليوبطرا، فإن قيصر في ذلك الوقت كان معبود رومية، وما عمل من عمل، أو أتى من شيء، إلا انتحل له الشعب الروماني منطلقًا يؤيده، أما إذا كانت بعض الصدور تغلي بالحقد وتنفث بالغضب، أو كانت بعض الرءوس تحتشد بشتى النقود، فإنها لم تقو على أن تجهر بشيء، أو أن توجه إلى الملكة الشرقية بكلمة، يشعر معها قيصر، أن فيها امتهانًا لعزته، أو افتياتًا على جبروته.

ومهما يكن من أمر تلك المسحة السحرية التي مسحت بها الطبيعة ملامح كليوبطرا؛ فإنها لم ترتقب أن ترضي بجمالها شعبًا تضخمت في رأسه فكرة السيادة على الدنيا، فنظر إلى بقية الشعوب نظرة أنها خَوَلٌ له وإماء، غير أن كليوبطرا لم تلبث أن أذكت في الرومان روح الغيرة! بشعرها الذهبي المموج؛ وعينيها الدعجاوين المكحولتين فطرة بما يعجز الفن عن محاكاته، وأهدابها الطويلة المعكوسة على جفونها، وشفتيها العنابيتين، وقميصها الشفاف الزاهي، وقد برز نهداها من خلاله، كأنهما حق عاج، في صفحة من المرمر الصافي، أما تجاعيد شعرها العجيبة، فقد أطلَّ من ثنياتها الصلُّ المصري، يأخذ بعينين متقدتين، رومية والرومان.

ولكن قيصر كان قد فرض على أهل رومية أن يُحيوا الزائرة الملكية، فما وسعهم إلا أن يحيوا قيصرون، زاعمين أن إهابه الأشقر الجميل، وحركاته الخاطفة السريعة، النامة عن الذكاء والتوقد، إنما هي الدليل الكافي على انحداره من سلالة تمت إلى الآلهة بأسباب.

•••

من أجل أن لا يداخل أحدًا من الرومان شك في ما ينبغي أن تُخص به كليوبطرا وولدها من الاحترام والكرامة، أنزلها قيصر في صرحه العظيم الذي أقامه على شاطئ نهر التيبر Tiber الأيسر، مشرفًا على الحدائق الغناء الممتدة على سفح أليانكولوم Janiculum تلك الحدائق التي أوصى أن تكون ملكًا للشعب من بعده، وأنها لهبةٌ ذكرها السواد الروماني غداة مقتله، فراح يسجد ذارفًا الدمع أمام شملته Toga الملطخة بدمائه الزكية.

ولما أن رأت كليوبطرا أنها استقرت ضيفًا كريمًا على الأمة الرومانية، شملها شعور الرضى، وأفعمها إحساس الفرح، الذي يأخذ أولئك الذين غامروا وجاهدوا في سبيل غاية، فأفلحوا ونجحوا، فإنها على الرغم من كل العقبات التي قامت في سبيلها، خطت خطوة موفقة نحو غرضها الخفي الخطير.

غير أن مرماها الأسمى الذي تحاول أن تكمل ببلوغه انتصارها الأخير، كان ما يزال طيَّ الغيب، وكان عليها أن تجاهد في سبيله، فإن من الضروري لها، لكي تنجح، أن تربط قيصر بالزواج؛ ذلك الرباط الذي يعقد من فوق رأسها تاجين: تاج الفراعنة، وتاج الرومان.

وإن بنتًا من بنات حواء، لها مواهب كليوبطرا السامية، وفيها عبقريتها الأخاذة في استخدام مواهبها النسوية ذريعة إلى تحقيق أحلامها، لن تتصور موقفًا أكثر مواءمة من موقفها في قلب رومية، وبين ذراعيها قيصر، وفي حضنها قيصرون، ولده الأوحد.

بيد أن رومية، عندما هبطتها كليوبطرا، لم تعد بعد ذلك المعقل الحصين الذي تحتمي فيه التقاليد، وتقدَّس فيه الشرائع القديمة، فإن تلك التقاليد التي قامت عليها عظمة الجمهورية الرومانية، ومنها استمد الرومان تلك القوى التي هزت الدنيا بأسرها، كانت قد أخذت في الزوال والفناء، فإن الدين القديم كان في طور انحلال، وبالرغم من أن الدين كان معترفًا به في الدولة، فإن الملاحدة كانوا كثيرين؛ وبخاصة بين الأرستقراطيين، وكذلك الشعب؛ فإنه إن أظهر بعض الخوف من آلهته، وأبدى لهم بعض الاحترام، فإن هذا لم يصدَّ روماني ذلك العصر عن أن يفسقوا عن شرائع آلهتهم، ومن تحطيم هياكلهم أو تدنيسها، إذا ما ملكتهم سورة غضب، أو هبُّوا ثائرين، وكفى بقصة ذلك الجندي المستهتر دليلًا، فإنه مضى يفاخر بأنه سرق تمثال الآلهة «ديانا» Diana وأنه اجتنى بسرقته ثروة، من غير أن يرى في ذلك استخفافًا بآلهة ولا دين، ومن غير أن يرى الشعب الروماني في ذلك تدنيسًا لحرماته.

أما تقديس الزوجية، فقد أصبح تقليدًا من تقاليد الماضي العتيقة، فكنت ترى كل يوم وتسمع في كل آونة، أن عضوًا من «السناتو»، أو «قنصلًا»، أو موظفًا كبيرًا، أو شيخًا مبجلًا، أو سيدًا محترمًا، قد سَرَّحَ زوجه بالطلاق الأبدي لأتفه سبب، أو بدعوى لا دليل عليها، ولقد امتدت الاستهانة بهذه التقاليد حتى إن «قيقرون» الخطيب المشهور، بالرغم مما عرف عنه من رضي الأخلاق وسماحة النفس، طلق زوجه «ترنتيا»، بعد أن عاشرها ثلاثين سنة، وشيعها بكلماتٍ قاسية قائلًا: «اذهبي من هنا، واحملي معك كل ما هو ملك لك.» ذلك بأنه رغب في أن تحل محلها فتاة أصغر منها سنًّا، وأكثر جمالًا.

لقد أصبحت الاستهانة بالأخلاق والعرف والشرائع، تلك الأصول التي سيطرت على النظام الروماني من قبل، طابع عصر قيصر في رومية، بل أضحت السرطان المزمن الذي تشعبت عقده وجذوره في صميم المجتمع الروماني، ولقد ذاعت الفضائح الجسيمة والمنكرات الضخام، ذلك بأن الثروة التي حصلت عليها رومية، إثر المغازي الكبيرة والحروب الموفقة التي قاد قيصر جحافلها، كانت قد أبعدت الرومان عن فكرة الحياة البسيطة التي عكف عليها آباؤهم من قبل، وأبطرتهم النعمة، فراحوا ينغمسون في الترف، وينتهبون الملذات، وعلى الجملة أصبح الذهب معبود رومية الأوحد، وإلهها القاهر القادر على كل شيء، سبحانه وله الحمد.

كان الذهب في رومية، قبل ذلك العهد، من الأشياء النادرة، فلا تراه إلا في المعابد تُزين به بعض أجزائها، أما في عصر قيصر، فقد دخل المقاصير الخاصة، والأبهاء العامة، وزين به الفراش والأثاث، ونقشت به الأسقف والجدران؛ وإن شئت فقل: إن كل شيء في بيوت أهل رومية، من الطبقات العليا، كان يرهقه الذهب، ويحليه التبر الخالص.

ولقد أراد «كاتو» Cato وهو من أعظم رجالهم، أن يحتج على ما انغمس فيه قومه من ترف، وما تطوح فيه المترفون من مفاسد، فمشى في أسواق رومية عاري القدمين، وعليه شملةٌ ممزقة، ولكن من ذا الذي يتبع «كاتو» في عالم الذهب معبوده، والفسق شريعته؟ ولقد استهزئ به، واستضحك منه، وهو يمشي على تلك الهيئة الغريبة، إلى جانب العجلات المموهة بالذهب، تجرها خيل مطهمة جياد، من أجَلِّ ما أنتج الشرق من سلالات: أصيلة ومولَّدة.

أما النساء فكنَّ قد نسين شرائع رومية القديمة، فرحن يسرفن على ملبسهن إسراف الحمق والتبذير، فمن حول أذرعهن، ومن فوق جدائل شعورهن، وفي أرجلهن ومناطقهن، حلي ذهبية من صنع أمهر أهل الفن، تغطيهن من مفرق الرأس إلى أخمص القدم، وفي أعناقهن تدلت صنوف الجوهر، ومنها اللآلئ الثمينة النادرة، التي تنافس أغنياء الرومان في الحصول عليها من بلاد الهند خاصة، فحملتها قوافل التجار من تلك الأنحاء القصية البعيدة تلقاء بدرات من المال، لا يتصورها عقل، ولا يدركها خيال.

وكانت الولائم التي تعد على موائد الأثرياء من النبلاء، تحاكي تلك التي أقامها «لوكلوس»، فالصحاف من الفضة الخالصة، والكئوس من الذهب المنقوش، وفراش الموائد من الديباج الأرجواني الثمين؛ وعلى الجملة فقد حاكت ولائمهم، ولائم ملوك الشرق، جمالًا وعظمة، أما تقديس الفضائل المدنية السامية، فضائل القصد والاعتدال ونبات الخلق والصبر والاحتمال، تلك التي أثرت عن رومية في نشأتها الأولى، فلم تصبح أكثر من أساطير تروى عن الماضي، وأحاديث ضاع زمانها، وانطوى أوانها.

مع هذا لا ينبغي أن يغيب عنا أن نظام الجماعة القديم في رومية، إن كان قد أخذ يخلي الطريق لعصر جديد، نقصه الكثير من مجد الأسلاف الأقدمين، فلا شبهة، في أن مسرات الحياة ومباهجها قد كسيت روحًا مادية، غمرت الناس بحالات لم يألفوها من قبل، فإن ثقافة العقل، وحب الفنون، لم يبلغا في عصر من عصور رومية السالفة، مبلغها في عهد «قيصر»، ناهيك بالفلسفة والحفر وتعلم اللغات، وبخاصة الإغريقية، تلك التي كان يفخر نابهو رومية بإتقانها قراءة وكتابة، كل أولئك، أشياء قد تجدد ميلادها في رومية قيصر.

لم تكن لتشهد ناشئًا من النبلاء لا يفخر بأنه أتمَّ ثقافته في «رودس» أو «أفلونيا»، أو بخاصة في أثينا، ولقد كان للنظريات والمبادئ التي يتلقونها خطر الذيوع والتقبل في دوائر الأدب، وحلقات العلم، وذاع الأدب وتعددت ألوانه، وكثرت ضروبه وصوره، حتى لقد عَمَّ التأدب طبقات من الشعب كثيرة؛ وكان الأدب من قبل، وقفًا على فئة قليلة، دعاها الرومانيون «أهل الأدب»، وقد نقول على الجملة: إن الأدب والعلم، أصبحا طابع ذلك العصر المجيد.

ولا تنس، إلى جانب هذا، أن حماية الأدب والفلسفة والفن، وشمولها بالرعاية، كان من حسنات ذلك العصر الفذ في تاريخ العصور، ففي قصر كل نبيل فيلسوف، أو عالم بَحَّاثة، يتشرف ذلك النبيل بأنه تحت سقفه، وفي حمايته، يدلك على هذا أن أهل رومية كانوا يرون أنه من أكبر الشرف أن ينزل «ڨرجيل» ضيفًا على أحدهم، وكان قد هبط رومية قادمًا من «سنتو» لينشد في السهرات مقطوعاته الريفية، أو يسمعون تلك المقطوعات ينشدها «هوراس»، وكان ما يزال شابًّا في العشرين، موقعة على الأوتار؛ ولقد تبددت تلك الأنغام مع الأثير، ولكن ذكراها قد بقيت، لتنحدر إلينا مع العصور، فتكون في عصرنا هذا من أخص الذكريات، وجملة القول، أن رومية ما رأت من شيء في عصر قيصر، فقدسته وشرفته، واستعلت به على كل الأرضيات، بقدر ما قدست العلم، وشرفت الفلسفة، وأعلت الأدب.

•••

أما «كليوبطرا»، فقد أدركت بديئة، مقدار ما تستطيع، بمواهبها ومفاتنها، أن تغمر به جمعية متمدينة، تتطلع إلى المتعة بكل جديد مبتكر، أو قديم خلاب، ولا يبعد أن تكون كليوبطرا وحدها، دون كل نساء الحلقة التي احتكت بها، قد استطاعت أن تسحر علماء رومية وأدباءها، فأمَّ قصرها فلاسفة من الأغارقة، وأدباء من الرومان، لم تقو فيهم الفطرة على أن تقاوم وحي الملكة، وكأنما جاذبية الأرض قد تركزت حيث كانت، وكأنما فتنة الدنيا قد تجمعت حيث نزلت، فكانت القطب المغنطيسي، في عالم اتجه إليها، وأحاط بها.

لقد خصت كليوبطرا بتلك الموهبة العليا السامية، موهبة الإدراك، ولقد حلَّ في جسمانها روح تضاءلت أمامه عظيمات رومية وخليعاتها على السواء، وكن لا يعكفن على غير اللغو وكلام أهل الفراغ، أو يعرفن من شيء، إلا لذائذ الجسم، دون لذائذ النفس والروح، وهنالك عرفت كليوبطرا أن النجاح حليفها، وأن غرضها يخطو إليها، بعد أن كانت تخطو إليه.

في البهو الأعظم الذي التفت من حوله أجنحة القصر الذي أنزلها فيه قيصر، وقد أشرفت كليوبطرا على تنسيقه بما عرف فيها من سمو الذوق ورجاحة الفن، كانت الملكة واسطة العقد في حلقة جمعت رجالات رومية من أصدقاء قيصر، يقضون هنيهات في ظلها، بل في ظل الحكمة والعلم والأدب والفتنة، لينسوا بقربها في العشية، بؤس ما لَقَوا من مهام رومية في النهار.

ولكن قيصر كان يقضي تلك الليالي قلقًا حائر النفس لا لأن رومية قد هددتها الأعداء، ولا لأن الثورات تقرع بابها، وإنما انتظارًا للساعة التي يضمها فيها إلى صدره، ناشقًا عبق ذلك الجسم الرباني، ويحس ضربات قلبها تدق وقلبه، دقات ما تتفاوت ثوانيها.

هنالك في تلك الحلقة الفريدة، كنت تأنس تريبونيوس، وليفيدوس، وسلپيشيوس روفس، وقوريون، وغيرهم من رجال الملأ الروماني، الممتازين بالعبقرية، المعروفين بالتفرد في سلامة الذوق، ورفاهة الحس، ودقة الملاحظة، وسمو الفكرة، والإحاطة الشاملة بآداب العالم القديم؛ فإذا تحدثوا فإنما يتحدثون عن مشاكل الساعة، وأزمات القيصرية؛ تحدثوا في الوسائل التي تمكنهم من إنجاز وعودهم للجند، وإلغاء الديون، وإنقاص الإيجار عن الأرض المزروعة؛ إلى غير ذلك من معضلات عالم أصغر، حكم وتحكم في عالم أكبر.

في كل ما تناوله الحديث من أحزان رومية ومسراتها، تفردت الملكة الصغيرة بالرأي الفرد، والحكم القاطع، والمقال الفصل، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة.

ما كان لرجل من هؤلاء الأفذاذ أن يتصور أن هذه المرأة التي ما حضرت مجلسهم إلا لتضفي عليه من جمالها، وتسبغ عليه من دلالها، وتصبغه بصبغة الطراوة التي يأنس فيها المكدودون المُجهدون راحة تشمل العقل وتغمر القلب، ستكون في حلقتهم الفيصل الذي يدلي بالرأي؛ فلا يخطئ مقاتل المصاعب والمشكلات.

وأيةٌ من مظاهر الطبيعة تكون بألباب هؤلاء الجلاوزة أشد أخذًا، من أن يشهدوا نقاش الفاتنة المصرية مع المؤرخ العظيم «سالوست»، وكانت قد درست كتبه وأحاطت بمذهبه في علم النفس، فأخذت تعصر المؤرخ الفيلسوف عصرًا، وتشدد عليه الخناق تشديدًا؟

لقد كانت نقودها على ما كتب «سالوست» مربكة فائضة بالأسئلة المسكتة؛ تلك التي لن تجد من جواب لها، أبلغ من السكوت عليها.

وكان من مفاخر الخطيب المفوه «أسينيوس فوليون» أن يلقي إليها بأصول خطبه، لينال حظوة نقدها، ثم بأشعاره التهكمية التي كان يصوغها على لسان راعٍ، مُنحيًا بها على الأوهام التي شاعت بين أهل رومية في زمانه.

وما كلمها من رجل، أديب أو شاعر، حكيم أو مشرع، فيلسوف أو كاتب، إلا وآنس في براهينها قوة العقل المتدفق الفيَّاض، والعظمة القائمة على العبقرية، تهبها الطبيعة بغير حساب، لمن تشاء من أبناء الفناء؛ من أبناء الطين والتراب.

كان في رومية عالم من علماء الآثار اسمه «أتيكوس»، استرعت أعماله ومكتشفاته انتباه كليوبطرا، فكانت تقبل عليه إقبال المحب للعلم الهائم بالمعرفة، وتقضي ساعات طوال تفحص عن جمال الفن في قطعة من النسيج الفارسي، أو تحفة من العاج صقلها عامل صيني صبور، أو نقش بارز نقل إلى رومية من معبد «إفسوس»، عامة ذا، إن دل على شيء، فإنما يدل على متجه عقلي سمي إلى غايات الفن العليا، وتطلع إلى الاستعلاء على ما بلغ أهل الأرض جميعًا من مراقي الأدب والفنون.

ومن ذا الذي لا يؤخذ إخذة العجب والانبهار، إذا ما رأى تلك الفتاة الصغيرة تفيض بوحي العلم على خريطة السماء، وقد تجمَّعَ من حولها علماء رومية في ندوة علمية ليصلحوا التقويم الروماني؛ أو يستمعون إلى كلامها فيما انتاب وضع الدب الأكبر وكوكبة ذات الكرسي، وكوكبة الجبَّار، من تغير الوضع حول النجم القطبي؟

لقد كانت في كل شيء بمثابة الظاهرة الخارقة في تجانس الطبيعة، كانت من تلكم المخلوقات التي كثيرًا ما يقع عليهم اختيار الآلهة، ليكونوا في الأرض، مثلًا لهم وبرهانًا عليهم.

•••

حدث في تلك الفترة أن قُدِّمَ لها شاب جميل الطلعة، قوي الأصلاب، ذائع الصيت، فائض القوة، عقلًا وبدنًا، كان ذلك الشاب قد هبط رومية قافلًا إليها من إسپانيا، وعلى رأسه أكاليل الغار التي كان من حقه أن يُتوج بها، جزاء ما أبلى في مواقع «مُنْدا»، ومن ورائه أثقال من الأسلاب، كان قد اعتلى ذروة المجد؛ فنبه ذكره، وعلا صيته، حتى عقد المجد من فوق هامته تاجًا من العظمة والفخار، أما قوامه المعتدل، وعضلاته المجدولة جدل الحديد الصلب، وضحكته «الباكوسية» التي كانت تشيع في كل قسمات وجهه الوسيم، وتفانيه في البذخ والإسراف، وصورته الأخاذة بقامته المديدة، واتساق تركيبه الجسماني، فكانت صورة مما تخيل الرومان من «هركوليس» الجد الأول لذلك الشاب، المملوء فذاذة وقدرة.

أتعرف من كان ذلك الشاب؟ هو بعينه «مرك أنطونيوس».

بالرغم من أن «أنطونيوس» كان واقعًا في شباك الخليعة الرومانية «فوثيرس» فإن جمال كليوبطرا قد أخذه بالناصية، وحل من قلبه في الصميم، ولولا ما كان من احترامه لقيصر، وتقديسه له، إذن لبثها الهوى، وشكى إليها الغرام.

على أن «أنطونيوس» لم يقو فيما بعد أن يُقصي عن مخيلته ذكريات اللقاء الأول، تلك العظمة الفاتنة التي شملت الملكة الصغيرة، وتعابير السلطة والقوة التي انبعثت من عينيها، وقد مدت إليه يدها الناعمة ليقبلها، ناهيك بلباسها المنسجم، المنسق على أخص ما يسمو إليه الفن والذوق من دقة وإحكام، أما نبرات صوتها فقد وقعت في قلب «أنطونيوس» وقع نصل مسنون رهيف، هدَّه هدًّا، ودكَّه دكًّا.

•••

مهما يكن في أمر ذلك الإعجاب الذي حوط به الرومانيون «أسپاسيا» Aspasia الجديدة، وهي بين جدران قصرها الذي أصبح لهم بمثابة منسك للفن، ومعبد للجمال، ومهبط لوحي الأدب؛ فإن بعضًا من الذئاب المفترسة، والنمور الجارحة، كانت تحدجها بالنظرات، مكشرة عن أنياب زرق، لعابها سم زعاف.

هم رومانيون قدسوا الفضائل، أو هم ادعوا أنهم يقدسونها، أخذتهم العزة الرومانية، فراحوا ينقمون على قيصر، قائدهم وحاكمهم المطلق، تبذُّله مع الغانية الغريبة، التي لم يشرُف دمها بأن يكون فيه من الدم الروماني إثارة، تشفع لها عندهم بأن تكون لرجلهم خليلة أو زوجة، ولقد انضم إليهم كل نساء رومية النابهات، وكان أكثرهن قد لقين من أزواجهن بعض الجفوة، أو آنسن منهم نظرات احتقار، أو لفتات سخرية، بعد أن عرفوا كليوبطرا عن كثب، وقايسوا بين أنوثتها وأنوثتهن، في زمن اتقدت فيه الشهوات، والتهبت العواطف، وتسلط فيه نداء الجنس، فهزم الفضائل، وهَدَّ ركن الآداب؛ فانحزن مأخوذات بعواطفهن، مسوقات بمشاعرهن، إلى ذلك الحزب، تحدوهن الغيرة، وتدفعهن الحفيظة، إلى تحطيم تلك الساحرة الشرقية، التي أصبح قصرها مباءة لرجالهن، بل أصبح لرومية جميعًا، بمثابة البيضة والعش، والسَّكن والوطن والسكون.

•••

هنالك كان لكليوبطرا أعداء، أشد من هؤلاء نكاية، وأصحَّ على الانتقام عزيمة؛ أعداء أثبت من هؤلاء قلوبًا، وأحَرَّ نفوسًا، هنالك كان أعداؤها السياسيون، سياسيون ذوو عقيدة في قداسة التقاليد الرومانية؛ محافظون: يرون في ما بثت كليوبطرا من روح في رومية هدمًا لتقاليدهم، وذهابًا لطرائقهم، وتطويحًا لأنماطهم الموروثة، وكان قد هبت على رومية ريح الاعتقاد بأن قيصر إنما يرمي، بعد الاستئثار بالسلطة، إلى الاستئثار بتاج روماني، يبدد الجمهورية، التي هي بنظاماتها المعروفة، موئل الديمقراطية، ومباءة الحرية، وبالرغم من مظاهر العظمة والجلال التي حاول قيصر أن يحوط بها نفسه، وبالرغم من مرائي التحكم التي ظهرت في أعماله، واتصفت بها سياسته، فإن اللوم كل اللوم، إنما انصب على فاتنته الملكية.

أظَهَرَ قيصر بمظهر المارق عن حكم التقاليد، المستهتر بحق الآداب، المرتد عن منقول السلف الروماني؟ هل اعتدى قيصر على القوانين، وافترى على الشرائع؟ هل امتهن قيصر مخلفات رومية المقدسة، واحتقر كل ما أجَلَّ الرومان من موروث الأقدمين؟ نعم، فعل قيصر كل هذا! ولكن اللوم على المصرية الملعونة التي زينت له الفسوق والارتداد، وهوَّنت عليه أمر رومية، والرومان أجمعين.

ومهما يكن من أثر الملكة المصرية في ما بدَى على أفعال قيصر من فسوق عن تقاليد قومه، فإن مرَّ الأيام قد أثبت لأهل رومية، أن قيصر إنما ينأى شيئًا بعد شيء، عن أوضاع الجمهورية.

ما الذي يحمل قيصر على أن يطيل أمدَ سلطته الاستبدادية (الديكتاتورية) بعد أن رفع شبح الحرب ظله عن رومية، ورفَّ عليها السلام؟

غير أن قيصر كان ما يزال المسلط على رومية، الآمرها بما يحب، الناهيها عما لا يحب، القابض عنها ما لا يريد، الباسط لها الكف بما يهوى.

كان يدني إليه من رجال الجيش من يشاء، ويقصي منهم من يشاء، يقطعهم الولايات، ويملكهم الرقاب، حرًّا مختارًا، فلا إرادة إلا إرادة قيصر؛ ولا رادَّ لما يشاء.

أيمضي قيصر في استغلال السلطة إلى غير حد؟ وعند أي حد سوف تقف سلطة قيصر؟ إن عنوان «الملك» إذا أُضفي على قيصر، لن يزيد من سلطته شيئًا؛ ولكن أهل «رومية» كانوا يحسُّون أن قيصر إنما يريد أن ينتهب أول فرصة لينادي بملوكيته، وليقر السلطة على أساس من شريعة الملك.

ما مرَّ بخيال قيصر في تلك الفترة أن يستشير زميلًا، أو يقف أمام شيوخ رومية وقناصلها وساداتها، ليؤدي حسابًا عما يفعل، أو عما فعل، بل كانت كل أفعاله نامَّةً عنه أنه يحاول أن يتحداهم، وأن يمتحن قدر ما في أيديهم من قوة، ليزن الأمر، ويكيِّف الظرف، هذا إن لم يكن قد قام في ذهنه أنهم كميات مهملة، أو فروض لا حقيقة لها، أو أصفار.

لقد طال المدى بقيصر، وجرى في حلبة التطرف شوطًا حمله على أن يهزأ بآداب «كاتو»، وأن يشك في التقاليد، بل وفي الشرائع، ثم في الآلهة! ألم يعلن في «السناتو» الروماني جهرة: «إن الجمهورية منذ اليوم اسم لا مسمَّى له»! مضيفًا هذا القول إلى أشباه من شاكلته، كانت جُمَّاعُها أبعد ما فاه به «قيصر» عن مظنة التبصر والحكمة؟

•••

كان «قيقرون»١٢ زعيم الحزب المنابذ لقيصر، ولقد أخذه من أمر رومية هم عميق، وأزعجه مجرى الحوادث، وكان «قيقرون» أعظم خطباء رومية؛ وكان بعد قيصر، أول روماني يتصدر للزعامة، عن جدارة واستحقاق، ولقد دلت الحوادث التي عركها وعركته، على أنه أصلب الرومانيين في نصرة الحق عودًا، وأعظمهم في الدفاع عن مصالح «رومية» تضحية.

كان متجهه الحر، وسياسته الحرة، قد حملته على أن يناصر حزب «پومپيوس» الكبير، ومنذ هزم ذلك الحزب وتقطعت بفلوله الأسباب، انكفأ يعيش بعيدًا عن هموم السياسة في قصره على مقربة من «توسكولوم»، ليأنس بتأملاته، ويجذل بأحاديث نفسه.

ولقد أسف قيصر كل أسف، أن يفقد نصرة ذلك الرجل المحتر القلب، الصُّلب في الحق، المضحي في سبيل الصداقة، ذلك الرجل الذي رفعته كفاياته ومواهبه السياسية والمدنية إلى الذروة العليا من ذلك البناء الحضري، الذي أقامته «رومية» على كواهل أبطالها الأمجاد، أسف «قيصر» أن يحرم من نصيحة يدلي بها «قيقرون» فتصيب محز الأمور، إذا ألمت كارثة، أو نزلت جائحة، أو زلزلت الأرض من تحت «رومية» الخالدة: وما كان اعتزال «قيقرون» العالم الروماني ليؤسف قيصر وحده، وإنما كان فيه إيلام لكليوبطرا، وامتهان لعزتها، كانت تريد، وما أسدَّ ما تريد، أن تجذبه إلى قصرها، فتضمه إلى حلقتها، فيكون من حاشيتها، ثم تُحكم معه الحلف والعهد، فإذا استوثقت منه، كان لها العون خير العون، لمَّا أن تأزفَ الساعة التي تهبط فيها على غايتها، وتقبض بيديها الحديديتين على مرماها.

مع ما اتصفت به «كليوبطرا» من تلك الصفات التي عددناها، ومع ما كان في قلبها من جُرأة الأسود، وما كان في صدرها من شجاعة الأفاعي، وما كان في أخلاقها من افتراس النمرات، فإن مطامعها الذاهبة بها إلى أبعد المذاهب، الرامية بها إلى أقصى الغايات، كانت تقف بعض الشيء عند «قيقرون»، لتصب عليه نظرة امتزج فيها الحقد بالأمل، والغضب بالرغبة، والكراهية بالإعجاب، ذلك بأن «قيقرون» دون سواه، كان الصخرة التي تقف إزاءها مطامع «كليوبطرا»، إذ تمر بمخيلتها مر البروق، لتتأمل هنيهة، فيما يكون من سحر ذلك اللسان في أهل العالم الروماني!

ما وسع «كليوبطرا» إلا أن تبوح لصديقها «أتيكوس» بما يجول في صدرها عن «قيقرون»، ولقد وعدها «أتيكوس» وكان من أصدقاء الخطيب الروماني، أن يعمل على إقناع «قيقرون»، تلقاء ما كان لها عليه من يد، وما آنس في عشرتها من صفاء ومودة، ولم يكن في العالم الروماني كله من سفير يؤدي رسالة «كليوبطرا» إلى «قيقرون»، أعظم من «أتيكوس» نفوذًا، أو أكثر ملاءمة لطبيعة الظرف السياسي.

وما من شك في أن «أتيكوس» قد أعانه في سفارته، ما كان يلقى خطيب رومية من ألم يحزُّ في قلبه الكبير، وقد نبذ وطال به النبذ، فإن رجلًا عرف قدر السلطة، وسكر برحيق القوة، وانتهل من مواردها العذبة، وخطيبًا هز أعواد المنابر؛ وسمع من الجماهير تصفيق الأكف، وهتاف الحناجر تزلزل أعمدة الهياكل الرومانية، لن يصاب في حياته بمصيبة، فتكون من الانزواء والأسر الاختياري أشد بنفسه أخذًا، أو بقلبه أمعن عصرًا.

وما أراد إلا أن يسمع تصفيق الأكف وهتاف الحناجر ثانية، فأصاخ إلى قولة «أتيكوس» وعمل بنصحه، فقبل أن يصافح «كليوبطرا»، وأن يكون في حلقتها محوطًا بأبهة قصرها، يقرأ في مكتبتها ما يرضي قلبه وعقله، ويأنس من جمالها ما يرضي خياله؛ فظهر على عتبتها، ملتفعًا بشملته الرومانية، التي كان يحسن التلفع بها، على طراز ما عرفه روماني قبله، فاستقبلته كليوبطرا، ومن ورائها قيصر، مفعم القلب بذكريات الانتصار.

•••

ولقد أشرق وجه «كليوبطرا» واستنار بتلك الأشعة التي كانت تغمر ملامحها عقيب انتصار تناله، أو بلوغ غرض تصيبه، فاستقبلت ضيفها العظيم بكل حفاوة، وحوطته بكل إكرام، ومن أجل أن تختلب خطيب «رومية» الأعظم، مضت ليلة ضيافته الأولى تفرغ عليه من ضروب البذخ، وتضفي عليه من صنوف الكرم، ما حملها على أن تطلعه على كل التحف الفنية النادرة، والمأثورات القديمة التي لا تقوم بمال، مما يزدان بها قصرها العظيم؛ ذلك القصر الذي أصبح في رومية مضرب المثل، بل قرن بقصور الشرق العظيمة في فارس والهند.

من فوق منضدة من المناضد، فرش غطاء من الديباج القديم مطرز بالذهب، تطريزًا يظهر شيئًا من وقائع الفراعنة وتاريخهم القديم، ومن فوقه كتاب من ورق الكتان الثمين، به صور تمثل حضارة مصر من أقدم عصورها، وقد يقلب الخطيب الأعظم صفحات ذلك الكتاب، وقد عمل فيها الزمن فاصفرت أطرافها، وظهرت على بعضها سُفعٌ هي من إملاء الدهر، دَمَغَ بها الأسطر الهيروغليفية التي مضت الملكة الصغيرة تترجمها للروماني الكبير، في لغة لاتينية فصيحة، كان لها من الأثر في قلب «قيقرون» أضعاف ما لصوتها الحنون الجميل.

ولما أن رأت أن «قيقرون» قد استغرقته تلك الصفحات، ظنت أو خيِّل لها أنها قد أخضعت الرجل، ونالت من رضاه ما أملت، فوعدته بأن ذلك الكتاب، سوف يحمل إلى قصره في «توسكولوم» صبيحة الغد.

غير أن رجلًا من طراز «قيقرون»، فيه خلاق القوة والجفوة، وانماز من أقرانه بفطرة الاستقلال في الرأي، وتقديس الحرية، قلما تستهويه؛ مثل هذه الأشياء التي هي إلى جانب شخاصته من صُغريات الأمور، فإن العهود التي كانت قد قطعت لحزب «رومية» المحافظ، تلك العهود التي حملته على الظن بأن «قيصر» سوف يعود إلى خطته الحرة القديمة، كانت قد عصفت بها خيلاء «قيصر» واستعلاؤه، وثورته على التقاليد، وتحكمه في أمور «رومية» وانفراده بالرأي فيها، وعامة ذا لم يترك في عقل «قيقرون» محلًّا لوهم، أو مكانًا لهوًى، فما كان ليشك أن سقوط الجمهورية كان وشيكًا، وأن دقائقها الأخيرة قد حانت، ولهذا لم يكن في الدنيا من مكان يستشم فيه «قيقرون» ريح الاستبداد فيخنقه، أو يستروح فيه هواء الديكتاتورية، فيكاد يذهب بأنفاسه، من قصر تلهو فيه «كليوبطرا» ويمرح «قيصر»، وإلا فكيف يتفق أن يجمع مكان واحد تاج الملك، وحكم الجمهورية؟ ثم يشعرُ «قيقرون» أنه في جو طبيعي، على مألوف ما يوائم آراءه ومبادئه في الحياة والحكم؟ فأخذت زياراته لقصر «كليوبطرا» تقل شيئًا بعد شيء، وتتباعد فتراتها، فقد آنس أنه في خارج جدران ذلك القصر أكثر حرية في التعبير عن آرائه، حتى لقد قال ذات يوم لصديقه «أتيكوس» مشيرًا إلى الجمع الذي كان يغشى بيت «قيصر»: «إني لأشعر بشيء من الاستيحاش في مكان لا يراعى فيه الاحتشام».

على أن مثل هذه النقود والكلمات، لم يكن مما يأبه له «قيصر»، فقد كان يعتقد أن كل العقول دون عقله، وأن كل صفات الرجال دون صفاته، فما الذي يخشى «قيصر» من رجال هم دونه في كل شيء؛ فصاحة لسان، وقوة بيان، وشجاعة قلب، بل أقل منه تقاليد! وأية تقاليد تذكرها رومية، فتطاول تقاليد قيصر، فاتح الدنيا وسيد العالم؟

كان يظن أن شيئًا واحدًا ينقصه، ليصبح على قمة الدنيا جميعًا، كان ينقصه حرب جديدة، يأتي فيها من الأعمال ما عجزت عنه «رومية» في سالف زمانها، بل ما عجز عنه هو بنفسه، في سابق أيامه، مغازٍ جديدة، وحروبٌ طاحنة؛ ذلك ما كان يجول في صدر قيصر، حروب لا تُذكر إلى جانبها حروب «رومية»، إلا لتظهر كأنها اللعب مقيسًا على الجد، أو الصغائر مقيسة على العظائم، حروب يذكرها التاريخ وينسى ما عداها، هذا والزمان يرقبه، وأظفر الغدر يمتد إليه عن كثب، بعد أن ظل مطويًّا في قنابه١٣ عهدًا، كادت تنسى فيه «رومية» سيل الدماء.

كانت بلاد «فارس» مرمى نظر قيصر، كانت «فارس» تغشى خياله، وتزوده بتلك الأحلام الشهية؛ أحلام الشرق، وأحلام القيصرية الرومانية، كان نظره يمتد إلى «فارس»، مجال المخاطرات التي أمدت الإسكندر المقدوني بالمجد الخالد والعز التالد، صحاراها المترامية الأطراف، ونجودها العالية، وسهولها الخصيبة، وجمالها الشرقي، ومدائنها العامرة، وأنهارها الجارية، ووديانها الفاتنة التي يغذيها الفرات، ويمنحها دجلة البهاء والإشراق، حدائقها المعلقة، وبروجها المشمخرة، وقصورها المرمرية، ومعابدها القائمة على تلك العمدان التي أقيمت رمزًا للعزة، وعنوانًا على الخلود: بُسطها التي تشارك الدهر، وورودها الجميلة، وخزفها المتقن الصناعة، كل مفاتن تلك القيصرية العظيمة، كانت قد اختلبت لب قيصر، حتى لم يخل في قلب «قيصر» مكان لغير «فارس».

أية فتنة في «فارس»! وأي ظلام واربداد في بلاد «الغال»! أي إشراق وجمال في «فارس»! وأي حزن واكدرار في بلاد «بريطانيا»! أما إذا سنح له أن تلمع نسوره الرومانية تحت شمس «فارس»، فلا المجد، ولا العظمة، ولا الخلود بكافيته مطمعًا في الحياة، أيجوس خلال الديار التي كانت من قبل مَجاس المقدوني الأعظم، ويستولي على تلك الثروات التي تعجز الدنيا كلها عن أن تجمعها في مكان، غير «فارس» القديمة؟

وكانت «كليوبطرا» أكثر من «قيصر» تحمسًا لتلك الحروب، فكانت تذكي خياله بالمطامع، وتشعل في نفسه حب العظمة الدنيوية، ومرماها أن تفوز من «قيصر» بكل ما يحوز من ثمار النصر، فتسخر «رومية» في شخص قيصر، لتنال في النهاية غرضها الأخير، وما غرضها إلا أن تقف على هام الدنيا، وتسخرُ من الأقدار.

لم تأبه «كليوبطرا» بما كان يحوم حولها من مظان الحسد والكراهية، ولم تُلن قناتها نظرات المقت التي كانت تنبعث من عيون أهل «رومية»، ولكنها كانت تعتقد اعتقاد أهل العقول الرشيدة، أن ما من شيء يلين قناة الأرسطوقراطية الرومانية، بقدر ما تلينها قوة «قيصر»، فمن أجل أن تركز القوة في شخص «قيصر»، كان لا بد لها من أن تعمل على تثبيتها في أنحاء العالم كله، من أقصى الشرق إلى حدود مملكتها العظيمة، حتى تصغر «رومية» في جانب الدنيا، وتصغر الدنيا في جانب «قيصر»، بذلك تكبح جماح الرومان، وتحملهم على الرضا ببقائها تحت كنف قيصر، ما دام قيصر تحت كنفها، وبذلك تخلص كليوبطرا من الدنيا بالدنيا، وتفوز من العالم بالعالم.

كانت تريد أن تقيم ذلك الصرح من رءوس الأمم التي يطيح بها سيف «قيصر» في الشرق والغرب، حتى إذا كمل بناؤه، وشيدت أركانه، وقفت من فوق قمته العليا تنظر إلى الدنيا في قبضتها الناعمة، ممسكة ببنانها الرخص على أعنتها.

قد نتساءل: لِمَ كل هذا؟ ولو أنك سألت «كليوبطرا» هذا السؤال، إذن لعجزت عن أن تجيب لماذا؟

وعلى الرغم من أنه كان يصعب على «كليوبطرا» أن تبارح ذلك القصر الذي كان يوحي إلى العالم كله بأن «كليوبطرا» سيدة العالم الروماني، فإن رجوعها إلى مصر كان أشد عليها صعوبة، أترجع إلى مصر بغير «قيصر»، لتعاشر أولئك الذين ما حدثوها مرة إلا بحديث الثورات، وما إلى الثورات من أحاديث؟ كلا إن ذلك مما لا يتفق وعقلية «كليوبطرا»، إنما يتفق وعقليتها أن ترافق «قيصر» إلى أقصى الشرق؛ تشاركه المشاق، وتشجعه على القتل والتخريب، فأخذت تعد العدة، وتجهز جهاز السفر الطويل.

•••

كان من المعتقدات السائدة في «رومية» أن «قيصر» سوف يتزوج من «كليوبطرا» عقيب عودته من مغزاته الكبيرة في بلاد «فارس»، وأن يعترف ببنوة الغلام الذي استولدها إياه، وراج الظن بأن «قيصر» سوف يضيف إلى السلطة المطلقة التي كان يمارسها في العالم الروماني صولجان الملك، وأنه كان يحاول أن يؤسس قيصرية مترامية الأطراف، الإسكندرية عاصمتها الأولى، ولقد أشفق الرومانيون أن تكون هذه مطامع «قيصر» وأخذهم مما روج خصومه من الإشاعات همٌّ عميق، ولقد شعروا بأن العزة الرومانية قد خدشت في أعز ما لديها، وأن أمانيهم أخذت تنهار وأن أقدس ما تطلعوا إليه بدأ ينحل ويتبخر؛ إذ خيل إليهم أن ما طمعوا فيه من سيادة «رومية» على الدنيا، قد يتحطم وينهار في ساعة واحدة، ومما لا شك فيه أن الرومانيين إذا تصوروا أن «رومية» مهددة بالانقسام، مُنذرةٌ بالخراب، فإن ذلك مما يبعث في قلوبهم أشد الحزن، ويبعث في قلوبهم أنكى حالات القسوة وحب الانتقام.

رميت «كليوبطرا» في هذه الآونة، كما رميت من قبل، بأنها مصدر الشر، ومبعث القلق، ومنبت الفساد، ولقد تضاعف في قلوب الرومان مقتها، وزادت كراهيتها، ونجح أعداؤها في ترويج الأكاذيب عنها، وبخاصة في إلقاح العقل الروماني الساذج بأن «كليوبطرا» قد قطعت على نفسها عهدًا لتحكمن «رومية» يومًا ما، ولما أن اعتقد الجماهير، أن الملكة الطامعة، قد امتدت مطامعها إلى «رومية» نفسها، غير مقتصرة على قيصر وحده، زاد بها الهم، وانساب في نفسها حب الانتقام، ولقد قام شغب شديد في «رومية» مرة، لما أن ظهرت في شوارعها محمولة على هودجها الملكي، وقام في أنفس الناس ميل إلى العمل على أن تضطر الدخيلة المصرية عنوة على أن تغادر بلاد الرومان، وأن تقسر على أن تعود إلى بلادها: بلاد التماسيح.

ولقد وقع في أذن «قيصر» شيء من هذه الأقاويل، فكان له من سوء الوقع في نفسه، أكثر مما كان للنقود التي وجهت إلى مسلكه وإلى أعماله، أن يجرأ الرومان على أن يمتهنوا تلك التي أحبها وعبدها وفضلها على نساء العالمين! أن يتفوه الرومان عنها بكلمات يعوزها الاحترام والتقديس! ذلك ما لا يستطيع «قيصر» أن يتسمح فيه، أو يهمل النظر في أمره، ولقد أشار في درج كلامه مرة إلى فئة من أولاء فقال: «سوف ترون العقاب الذي ينزل بهؤلاء المناكيد المأفونين».

واستدعى المثال «طيموماخوس» توًّا، وكان من أشهر مكبًّا على إخراج تمثال للملكة مصنوع من العاج، مُنزل بالذهب الخالص.

– «كم من الزمن تطلب للفراغ من عملك.»

فأخذ المثال يفكر، وحسب في نفسه الزمن الذي يستغرقه العمل في إنزال الذهب في جسم التمثال، ولم يكن قد بدأ به بعد، وأجاب في حذر: «أحتاج … عشرين سنة على الأقل».

– «لك ثلاثة أيام، أريد بعدها أن أرى التمثال مقامًا على قواعده في معبد ڨينوس».

كان كل روماني يخشى تلك الساعات التي تهتز فيها أعصاب «قيصر» المكدودة بماضٍ مفعم بأعظم المخاطرات، فالويل لمن يقف عند ذاك في سبيله، أو يخالف له أمرًا، وأقيم التمثال في اليوم المعين باحتفال قلما رأت «رومية» أعظم منه بهاءً أو أشد رواءً، ولكن المقت كان في النفوس مكبوتًا، نفوس رجال الدين والنبلاء والضباط والقواد على اختلاف المراتب والمنازل، إذ اضطروا أن يركعوا أمام الآلهة الجديدة التي غزت «رومية» في أعز معاقلها؛ في هياكلها ومكان العبادة فيها، عبادة الآلهة، وعبادة التقاليد، وعبادة الجمال.

•••

بعد فترة من الزمان أراد «قيصر» أن يمسَّ الرأي العام الروماني ليبلو ما فيه من قوة، وما يخبئ من ميول، أراد أن يمتحن ذلك بتجربة جديدة.

كان ذلك في عيد «لوفاركاليا»، وهو عيد «كرنڨالي» عدته بضعة أيام، اعتاد فيه فتيان النبلاء أن يظهروا في شوارع رومية نصف عرايا، يضربون المارة في رفق بسياط قصيرة من الجلد، بدعوى أن ذلك مجلبة للحظ الحسن والتوفيق، وبحكم أن قيصر كان حبرُ رومية الأعظم، رأس الاحتفال، فجلس في كرسي من العاج المموَّه بالذهب، وإلى جانبه «كليوبطرا»؛ وبعد أن اصطبغت الأرض بدماء المعزى والكلاب جريًا على مألوف العادة في ذلك العيد، كان «قيصر» على وشك الانصراف، إذ تقدم إليه «مرك أنطونيوس»، مخترقًا صفوف الناس، وتقدم إليه بتاج محاولًا أن يضعه على رأسه.

ارتفعت من بعض الجوانب أصوات، وظهر بعض الهرج، فكان أشبه بذاك الدبيب الذي يغشى سطح البحر العميق قبيل العاصفة، غير أن «قيصر» قد أحس أن زمن هذا لم يئن، فتنحَّى قليلًا، غير أن «أنطونيوس» عاود الكرة عليه، بتأثير «كليوبطرا» التي لا يبعد أن تكون مصدر هذه المأساة، فتقدم إليه «أنطونيوس» مرة ثانية، وبيده التاج المتوهج، ملحًّا في أن يقبله «قيصر»، وأن يزين به الرأس التي تنحني أمام أكبر رأس في «رومية».

ولكن الدمدمة، وكانت أشبه بدمدمة بركان يحاول أن يخرج حممه، قد قرعت أذني «قيصر» بأشد مما قرعتها أول مرة، حتى لقد خيِّل إلى «قيصر» أن العاصفة قد بدأت تداعب الأمواج، فما كان «لقيصر» بعد هذا إلا أن يشيح بوجهه عن التاج، ثم يلقي به بعيدًا عن رأسه، هنالك شهد العالم جميعًا أنه رفض أن يكون ملكًا، وأنه ألقى بالتاج إلى الأرض، فهل يتهمه بعد ذلك أهل «رومية» بمطمع الملكية، أو يتهمون «كليوبطرا» بأنها توسوس له بمطامع الملك؟

•••

لقد خدع الكثيرون بهذا المنظر التمثيلي، فهبوا يصفقون بأيديهم، ويرسلون هتاف الاستحسان من حناجرهم، أما الذين هم كانوا أنفذ نظرًا، وأعمق فكرة، فقد همس في وعيهم صوت مصدره العقل: «لا شك في أن «قيصر» إنما يرفض اليوم تاج الملك، ولكن ليقبله بعد أن يعود إلينا من مغزاته، رافعًا ألوية الانتصار، عاقدًا فوق رأسه أكاليل الفتح العظيم»، هنالك تكونت النواة الأولى من مؤامرة أخذ من ثَمَّ جيل يرويها عن جيل، وأهل ينقلها عن أهلٍ، وفي زوايا «رومية» المظلمة كنت ترى المتآمرين مجللين بسوادين: سواد الليل، وسواد الدسيسة، ليكونوا للقدر أداة القضاء على «قيصر».

•••

كان الربيع قد أخذت تبتسم براعمه الأولى، كان ذلك في منتصف شهر «مارس» الشهر الذي انتحل له اسم إله الحرب، فيه تهب على «رومية» رياح شمالية عاتية، تخضب سماءها بسحب حمر، انعكست عليها أشعة الشمس غروبًا وشروقًا، فتلوح من ورائها السماء كالحة الصفحة، باهتة الأديم، فيه تهتز الأشجار بعد سبات الشتاء، وتربو وريقاتها وبراعمها، وتعمر تلال «رومية» السبعة بعد انجرادها، بتلك الزهرات المخبوءة بين الحشائش التي تنبت ومقدم الربيع، في سفوح تلك التلال تنام المدينة الخالدة، حالمة في بحر من الليل الساكن، فإذا تساقطت كسف الظلام عليها، أخذت الحركة تقل في شوارعها وممراتها، شيئًا بعد شيء، حتى تموت جلبة النهار في لباس الليل، تلك سويعات يعود فيها المكدودون، بعد عمل النهار، ليتقبلوا من ساعات السواد، نعمة الراحة في بيوتهم، التي يشرفون منها على حظوظ العالم المعمور، وفي تلك الساعات كنت ترى «قيصر» بعد كد النهار في الإشراف على مهيئات المغزاة الفارسية، مسرعًا عجلان الخطى، ميممًا شطر القصر الذي تنزله فاتنته الملكية.

تراها جالسة بمقربة من النافذة، حيث تستطيع أن تراه عائدًا إليها، غارقة في أحلامها، مأخوذة بأوهامها، هنالك بعد أيام معدودات يغادران رومية للرومان، وبينما يكون «قيصر» في جوف آسيا يشن الغارات شرقي بحر «قزوين» تكون هي في مصرها على ضفاف النيل، ولقد همها الفراق وأفزعها، وأوحى إليها بأنه فراق سوف يكلفها المضض، ويوليها الصعاب، غير أنها اطمأنت للفراق، وراضت نفسها عليه، لعلمها بأنه محتوم لا مفر منه، أليس المجد للعظماء بضروري، كالخبز للدهماء والذؤبان؟ أما إذا تم لقيصر أن يصبح سيد «فارس»، فإنه ولا شك يصبح سيد الدنيا، أنه ليكون في مقدوره أن يضعها على عروش نينوة وبابلونيا وفارس، ما من قوة في الدنيا تستطيع أن تصدهما عمَّا يريدان، فهما معًا سوف يشيدان عاصمة ملكهما، أما «رومية»، تلك التي ما مَرَّت «كليوبطرا» في ناحية منها إلا وزأرت زئير الذئاب الجائعة النهمة، فسوف تضطر إلى أن تستقبلها بالهتاف خاشعة، ودموع التوبة تجري على خديها.

على مِثل هذه الخيالات القوية الصريحة، وبمثل هذه الأحلام التي هي أشبه بأحلام «سميراميس»، كانت لعنة «إيدس مارس» سوف ترسل صواعقها، وتنزل غضبها العاصف الشديد.

•••

كاد الصبح يتنفس؛ وقد غادرها «قيصر» منذ ساعة واحدة، غير أنه ضمها إلى صدره ضمة أحست بها «كليوبطرا» أن ضلوعها تكاد تمزق، وأن قلبها يكاد يعتصر، لم هذا، ألأن «قيصر» يشعر بأنه سوف لن يراها!

بومضة من ومضات ذلك الوحي الغريب، بل الإلهام السماوي، الذي قد ينزل بعض الأحايين على قلوب البشر، تشبثت به «كليوبطرا» متشفعة به أن لا يفارقها.

– «لِمَ تخرج اليوم باكرًا؟ لقد ذكرت أنك متعب! ظلَّ هنا واسترح.»

ولكن لا، إن «قيصر» كان مُنتظرًا، وحذر أن يتأخر أرسل «بروطوس» زميله «كشيوس» ليتلقاه؛ ومن غير أن يستشف «قيصر» شيئًا مما خبأ له الدساس القاتل، ألقى إلى «قيصر» أن يسرع الخطى، وأن يعجل في الذهاب، ذلك بأن أمورًا عظيمة لا يقطع فيها «السناتو» الروماني برأي من غير أن يستطلع رأي «قيصر».

هنالك في «السناتو» وقعت الكارثة، سمع لغط، فوقف السابلة من الخارج يستمعون متسائلين: ماذا جَدَّ؟

وبعد قليل ظهر بعض الشيوخ على الشرفة، صفر الوجوه مرتعبين، وصاح بعضهم «قتل قيصر».

وعلا الصياح وارتفع العويل من كل مكان، ولكن صوت المتآمرين كان عظيمًا، إذ صاحوا أجمعين والسيوف في أيديهم تلمع، وما تزال تقطر من دم قيصر: لقد أنقذنا شرف الجمهورية، وانتقمنا لها!

فزع الناس أشد الفزع، وهبوا هاربين كأنما هم في يوم الحشر الأعظم، أو نهر انهارت سدوده فتدافقت لججه، وانتشروا في نواحي المدينة، وفي لمح البصر، ذاع النبأ في «رومية»، حتى لم يبق فيها حجر واحد لم يسمع بمصرع قيصر، وعم الرعب المدينة، وسادها الفزع الأعظم؛ فأغلقت الحوانيت، وسدت النوافذ، وغلقت الأبواب، ليخفي كل إنسان أكنته «رومية» في ذلك اليوم، ما ناله من خوف واضطراب، لقد علم الرومان أن كارثة حلت بهم، وأنه على إثر «قيصر» سوف تذهب أرواح وتطيح رءوس.

•••

كان هذا الحادث نهاية أحلام «كليوبطرا» الذهبية؛ فخيل إليها أن هاوية سوداء فتحت تحت قدميها، وابتلعت في جوفها العميق الهاوي كل مستقبلها، لقد تبدلت الدنيا المخضوضرة الزاهية، في لحظة واحدة، صحراء قفر مجدبة.

وهنالك على ضفاف نهر «التيبر»، كانت تعدو شراذم من الجند شكت السلاح، وهي تلوح بشارات عليها صور عظام جماجم بشرية، ذلك رمز الحرية الرومانية.

ها هم قد وقفوا قليلًا بجوار منزل «قيصر»، ومن حناجرهم القوية صدرت هتافات، أفسدت على الطبيعة بهاء يومها الربيعي.

– لتسقط المرأة المصرية! اقتلوها! اقتلوها!

كانت هذه الأصوات عين الأصوات التي ترسلها الحناجر البشرية، في كل ثورة من الثورات التي شهدت فظاعتها البشرية على طول السنين والأحقاب.

هنالك من حول الملكة نفر من الخدم والعبيد، مصممين على أن يدافعوا عنها حتى الموت، ولكن الموقف كان أجل من أن يترك في رءوسهم عقولًا يفكرون بها، أو قلوبًا يصمدون بها في القتال.

كان هنالك رجل واحد لم تخنه شجاعته يومًا، ولا فارقه عقله ساعة، مهما ادْلَهَمَّ الخطب، أو تنكرت الأقدار، هنالك كان «أفوللودورس»: فسارع إلى القول: ينبغي لجلالتك أن تغادري هذه المدينة الدموية بغير إبطاء.

غير أنه لم يكن من طبع «كليوبطرا» أن تخضع للتهديد أو تنحني للوعيد، فثارت على نصيحة أستاذها وعاندت في تنفيذها، كانت فطرتها تحملها على أن تقاوم هذه الجماهير.

من ذا الذي يدري، لعل هناك بقية من أمل، أن «قيصر» لا بد من أن ينتقم له منتقمون! فإن حزبًا على رأسه «أنطونيوس» قد تكون سراعًا والتأمت وحداته، لقد أحب «أنطونيوس» قائده «قيصر» وقدسه … ولعله ينفذ وصيته فيعترف «بقيصرون» ابنه منها ووريثه في …

ما كانت هذه الأماني غير أحلام، أحلام إن تمادت فيها «كليوبطرا» فقد تودي بها، بل ربما أودت بها وبقيصرون.

وتعالت الصيحات، فلم يكن هنالك من منجى إلا بالخضوع إلى نصيحة «أفوللودورس»، وكان قد أعد كل شيء للهرب، ومغادرة الأرض الدموية.

من خلال تلك الحدائق الغناء، وبين مفاوز التلال الموحشة الجرداء، والاحتياط من الأنظار ومن قطاع الطرق، استعادت «كليوبطرا» ذكريات أربع سنوات فَرَطْنَ، عندما رجعت من منفاها تطلب حماية «قيصر»، وقد اضطهدها أخوها.

هنالك أرخت على وجهها قناعًا كثيفًا، وتسللت من «رومية» الهادرة بالثورة، الهابة إلى السلاح.

قد تحطم قلبها، وتحطمت أمانيها، أحست أن الدنيا تدور بها، وأن في كل خطوة فجوة من فجوات الأرض تلقاها.

الخوف، والوحدة …

كانت آمنة بقيصر، كانت مطمئنة إلى الدنيا بقربه.

منذ لحظات قصار، كانت الدنيا أمنًا وسلامًا؛ فانقلبت في لحظة واحدة، رُعبًا وحربًا.

لقد ساورتها هذه الأفكار، فغشت على عقلها وخيالها بغشاوة كثيفة من القلق والاضطراب، غير أنه إلى صدرها استندت تلك الرأس الصغيرة التي تحمل ملامح الراحل العظيم، فضمت الطفل إلى صدرها، وقبّلت فاه الباسم الجميل.

«كلا، إني لم أفقد كل شيء.»

ذلك همسٌ أحيى في قلبها الأمل تارة أخرى.

١  اعتمدت في هذا القصص على مراجع أهمها كتاب أرثر ويجل، وكتاب كلود فرفال.
٢  نقصد بذلك الشعب اليوناني الذي انحدرت منه كليوبطرا.
٣  فوتينوس.
٤  نسبة إلى جد الأسرة الأول. وكان أول البطالمة يدعى بطلميوس بن لاجوس Lagos.
٥  جواسيسه.
٦  Bruchium في اليونانية من معانيها ذراع، إشارة إلى المكان الذي شيد من فوقه القصر، وكان بروزًا من الأرض ممعنًا في البحر، شرقي الموقع الأصلي لمدينة الإسكندرية.
٧  المورا Murrah حجر أو مادة ثمينة كان يتخذ منها الرومان أوان أو كئوسًا نادرة غالية الثمن مقطوعة المنال.
٨  أعظم شوارع رومية؛ وكان يبدأ من تل «كاليا» إلى تل «إسكلين» مخترقًا قوس «طيطوس» مارًّا بالفورم الروماني إلى الكاپتول. (معجم سميث للأسماء القديمة، النسخة المختصرة، ص١٣٦، طبعة ١٨٦٧م).
٩  رسالة أرسل بها قيصر إلى السناتو الروماني عقيب انتصار له، فجرت مجرى الأمثال لإيجازها وعظيم دلالتها.
١٠  الساحة الرئيسة في مدينة رومية. وكانت تتخذ موضعًا لإقامة العدل بين الناس أو عقد المجتمعات العامة.
١١  للحشرات أعضاء في مقدم الرأس تستعملها للمس وتسمى Antennae فسميتها الملامس هنا تخفيفًا، ويدعوها البعض قرون الاستشعار، ولا أوافق على هذا الاستعمال.
١٢  يرسمه الكتاب شيشرون خطأ.
١٣  القناب: الجراب الذي يدخل فيه السنور أظفوره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤