الفصل العاشر

في مقصورة الأوبرا

كانت تلك إحدى ليالي الاحتفالات في مسرح كوفنت جاردن، وكانت باكورةَ ليالي الاحتفالات في موسم الخريف من عام ١٧٩٢ الذي لا يُنسى.

كان المسرح مكتظًّا، سواءٌ في مقصورات الأوركسترا الراقية والطابق المنخفض الرئيسي، أو في الشُّرفات والمنصَّات الأكثر عاميَّة في الأعلى. لاقى أداءُ المُلحِّن جلوك لعرض «أورفيوس» الأوبرالي استحسانًا شديدًا لدى الحاضرين في الأجزاء الأعلى ثقافةً في المسرح، أمَّا أولئك الذين لم يكونوا مهتمِّين كثيرًا بهذا «الاستيراد الأحدثِ الوارد من ألمانيا»، فكانوا مُعجَبين بالنساء الأنيقات والحشد المتألِّق ذي الثياب المبهرَجة.

كانت سيلينا ستوريس قد نالت تصفيقًا حارًّا مستحَقًّا من معجَبيها الكثيرين بعد اللحن المنفرد الرائع الذي غنَّته، أمَّا بنجامين إنكلدون، محبوب السيدات الشهير، فقد تلقَّى تقديرًا لطيفًا خاصًّا من المقصورة الملَكيَّة؛ والآن أُسدِلَ السِّتار بعد الخاتمة العظيمة للفصل الثَّاني، وبدا أن الجمهور، الذي كان ساكنًا تمامًا طوال العرض من شدةِ انجذابه المفتون إلى عزف العازف الرَّائع، أطلق تنهيدةً طويلة جماعية تُعبِّر عن رضاه، قبل أن يُطلِق العِنانَ للمئات من ألسنته المازحة العابثة.

كان بالإمكان رؤيةُ الكثير من الوجوه المعروفة في مقصورات الأوركسترا الراقية. كان السيد بِيت، المثقَل بهموم الدولة، يحظى باسترخاء قصيرٍ في تلك التسلية الموسيقية الليلة، أمَّا أمير ويلز، المرِحُ البدينُ ذو المظهر العامي الذي يخلو من الرُّقي إلى حدٍّ ما، فكان يتنقَّل من مقصورة إلى أخرى، مُمضيًا دقائقَ وجيزةً مع أولئك الذين كانوا من أقرب أصدقائه.

وفي مقصورة اللورد جرينفل أيضًا، لفَتَت شخصيةٌ مثيرةٌ للفضول والاهتمام انتباهَ الجميع؛ كان صاحبُ هذه الشخصية رجلًا ذا هيئة ضئيلة نحيلة ووجهٍ ماكر ساخر بعينَين عميقتين، وكان يُصغي إلى الموسيقى باهتمامٍ وينتقد الجمهور بشدَّة، وكان يرتدي ثيابًا سوداءَ ناصعة وذا شعر أسود خالٍ من أي مسحوق. كان اللورد جرينفل — وزير الخارجية — يقدِّم له احترامًا ملحوظًا وإن كان فاترًا.

كانت توجد بضعةُ أوجُهٍ أجنبية متناثرة هنا وهناك بين أصناف الجَمال الإنجليزي المميز، وبَرَزَت هذه الأوجُه في تناقضٍ ملحوظ مع بقية الحاضرين؛ إذ كانت تحمل ملامحَ الطبقة الأرستقراطية المتغطرسة، وكان أصحابها هُم المهاجرين الملَكيِّين الفَرنسيِّين الكثيرين الذين وجَدوا مَلاذًا آمنًا لهم في إنجلترا بعدما اضطهَدهم الفصيلُ الثوري الوحشي في بلادهم. كان الحزن والهمُّ محفورَين بعمقٍ على تلك الوجوه؛ ولم تكن النساءُ بالأخصِّ مُبالياتٍ كثيرًا بالموسيقى أو الجمهورِ المتألِّق المبهرج؛ فمن المؤكَّد أنَّ بالهن كان شاردًا ومشغولًا بزوجٍ أو أخٍ، أو ربما ابن، ما زال في خطرٍ أو لاقى مؤخرًا مصيرًا وحشيًّا.

كانت من بينهن كونتيسة تورناي دو باسيريف التي لم تصل من فرنسا إلَّا مؤخرًا، والتي كانت هيئتها بارزةً جدًّا؛ إذ كانت ترتدي ثوبًا حريريًّا أسودَ داكنًا كئيبًا، ولم يكن معه سوى منديلٍ أبيضَ من الدانتيل للتخفيف من مظهر الحداد الذي كان باديًا عليها، وكانت جالسةً بجوار الليدي بورتارلس التي كانت تحاول بلا جدوى أن ترسُمَ ابتسامة على ثَغْر الكونتيسة الحزين بإطلاقِ تعليقات طريفة ونِكاتٍ بذيئة بعض الشيء. وكانت سوزان الصغيرة والفيكونت جالسين خلفها، حيث كانا صامتَين وخَجولين بعضَ الشيء وسط هذا الكمِّ الهائل من الغرباء. كانت عينا سوزان تبدُوان مفعمتين بالحزن والاشتياق؛ فعند وصولها إلى الدَّار المزدحمة، كانت تنظر حولها بلهفةٍ وتفقَّدَت كلَّ وجه وتفحَّصَت كلَّ مقصورة. كان من الواضح أن الوجه الذي تتمنَّى رؤيته غيرُ موجود؛ لأنها استقرَّت بهدوءٍ خلف والدتها واستمعت إلى الموسيقى بلا مُبالاة، ولم تُبدِ مزيدًا من الاهتمام بالجمهور ذاته.

قالت الليدي بورتارلس عند ظهور رأس وزير الخارجية الذكيِّ المثير للاهتمام عند مدخل المقصورة بعدما طَرَق طرقةً حصيفةً على استحياء: «آه، لورد جرينفل. هذا أنسبُ وقتٍ يُمكن أن تصل فيه. هنا السيدة كونتيسة تورناي، ومن المؤكد أنها تتحرَّق شوقًا إلى سماع آخِر الأخبار من فرنسا.»

كان الدبلوماسي البارز قد تقدَّم وكان في تلك اللحظة يُصافح السيداتِ.

قال بحزن: «مع الأسف! إنها سيِّئة للغاية. فالمذابح مستمرَّة، وباريس غارقةٌ حرفيًّا في الدماء، والمقصلة تحصد مئات الضحايا كلَّ يوم.»

كانت الكونتيسة تُسنِد ظهرها إلى الوراء في كرسيِّها شاحبةً ودامعة، وكانت تستمع مصدومةً إلى هذا الوصف الموجز المصوِّر لِما يحدث في بلدها المضلَّل.

قالت بإنجليزيةٍ ركيكة: «آهٍ يا سيدي! من المروِّع سَماعُ كلِّ هذا؛ وزوجي المسكينُ ما زال في ذاك البلد الشنيع. من الفظيع لي أن أكون جالسةً هنا، في مسرح، آمنةً وسالمة تمامًا، بينما يقبع هو في خطرٍ كهذا.»

قالت الليدي بورتارلس الصَّادقة الصريحة: «ربَّاه يا سيدة! إنَّ وجودك في دير لن يجعل زوجَكِ آمنًا، ولديك ابنٌ وابنة ينبغي أن تُفكري فيهما، إنهما أصغرُ من أن يتجرَّعا الهمَّ والحِداد قبل الأوان.»

ابتسمَت الكونتيسة، وسط دموعها، على حميَّة صديقتها. كانت الليدي بورتارلس، التي كان صوتُها وسلوكها يُناسبان أحدَ فرسان سباقات الخيل، طيِّبة القلب، وكانت تُخفي أصدقَ مشاعر التعاطف وألطفَ الأحاسيس الطيبة تحت السلوكيات الفظَّة بعض الشيء التي كانت بعضُ السيدات تصطنِعُها آنذاك.

أضاف اللورد جرينفل: «إلى جانب ذلك يا سيدتي، ألم تُخبريني يوم أمسِ بأن عُصبة سكارليت بيمبرنيل قد أقسَمت بشرفها أن تُحضِر سيادة الكونت عبر القنال سالمًا؟»

أجابت الكونتيسة: «آه، أجل! وهذا أملي الوحيد. قابلتُ اللورد هاستنيجز البارحة … وطمأنَني مجددًا.»

«إذن فأنا متيقِّنٌ من أنَّه لا داعيَ إلى أن تخافي. فما أقسمَت عليه العُصبة، ستنفذه بالتأكيد.» وأضاف الدبلوماسي العجوز وهو يتنهَّد: «آه، لو أنني كنتُ أصغرَ ببضع سنوات فقط …»

قاطعَته الليدي بورتارلس الصريحة قائلة: «عجبًا يا رجل! ما زلتَ صغيرًا بما يكفي لتتجاهلَ تلك الفزَّاعة الفرنسية التي تجلس متوَّجةً في مقصورتِك الليلة.»

«ليتني أستطيع … لكن على سيادتكِ أن تتذكَّري أننا يجب أن نُنحِّي التحيزاتِ جانبًا في خدمة مصلحة بلدنا. السيد شوفلان هو الممثل المعتمَد لحكومته …»

«عجبًا لك يا رجل! أتُسمي أولئك الوحشيِّين المتعطشين للدماء حكومة، حقًّا؟»

قال الوزير بتعقُّل: «لم يُرَ إلى الآن أنه من المستحسَن لإنجلترا أن تقطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا؛ ولهذا لا نستطيع أن نرفض أن نستقبل بكل تأدُّب واحترام الموفَدَ الذي تريد إرساله إلينا.»

«اللعنة على العلاقات الدبلوماسية يا سيدي! ذاك الثعلب الصغير الخبيث هناك ليس إلا جاسوسًا، سأضمنُ لك هذا وستجد — وسأكون مُخطئة تمامًا إذا كان الوضع غيرَ ذلك — أنَّه لا يَشغَل بالَه أصلًا بهذه الدبلوماسية، وأنَّ اهتمامه بها لا يتجاوز مُحاولةَ إلحاقِ الأذى بالمهاجرين الملَكيِّين وببطلنا سكارليت بيمبرنيل وبأعضاء تلك العصبة الصغيرة الشجعان.»

قالت الكونتيسة وهي تضمُّ شفتيها الرفيعتَين: «أنا متيقنةٌ من أن شوفلان ذاك، إن رغب بإلحاقِ الأذى بنا، فسيجد الليدي بليكني حليفًا مخلصًا.»

صاحت الليدي بورتارلس: «لِيُبارك الربُّ المرأة! هل رأى أحدٌ ضلالًا كهذا قط؟ سيدي اللورد جرينفل، أنت تملك موهبةَ الثرثرة، فهلَّا شرحتَ من فضلك للسيدة الكونتيسة أنها تتصرَّف بحماقة.» وأضافت وهي تُوجِّه وجهًا غاضبًا وحازمًا نحو الكونتيسة: «بالنظر إلى وضعكِ هنا في إنجلترا يا سيدتي؛ فمن مصلحتكِ ألَّا تتصرَّفي بهذا التعالي الذي تعشقونه أيها الأرستقراطيُّون الفرنسيون. ربما تكون الليدي بليكني متعاطفةً مع أولئك الهَمَج الوحشيِّين في فرنسا أو لا، وربما تكون لها علاقةٌ باعتقال سان قرياقوس أو أيًّا ما كان اسمه وإدانته، أو لا، لكنها رائدةُ أحدث صيحات الأزياء في هذه البلاد، والسير بيرسي بليكني أكثرُ أموالًا من أيِّ ستةِ رجالٍ مجتمعين، وهو مُقرَّب جدًّا من العائلة الملَكية، ومحاولتكِ ازدراءَ الليدي بليكني لن تضرَّها، بل ستجعلكِ تَبْدين حمقاء. أليس كذلك سيدي اللورد؟»

لكن اللورد جرينفل لم يستطع التعبيرَ عن رأيه في هذه المسألة، وكذلك لم تستطع كونتيسة تورناي الإفصاحَ عن الخواطر التي جالت في رأسها؛ بسبب هذا التوبيخ المطوَّل الفظِّ من الليدي بورتارلس؛ لأنَّ سِتار المسرح كان قد رُفع للتو إيذانًا ببدءِ الفصل الثَّالث من عرض «أورفيوس»، وجاءت من جميع أنحاء دار الأوبرا نصائحُ حازمة بالتزام الصمت.

ودَّع اللورد جرينفل السيدات متعجلًا وانسلَّ عائدًا إلى داخل مقصورته، حيث كان السيد شوفلان جالسًا طَوال مدة هذه الاستراحة، ممسكًا بصندوق سَعُوطه الذي لا ينتهي، ومُحدِّقًا بعينيه الباهتتَين الثَّاقبتَين إلى المقصورة المقابلة له، التي كانت مارجريت بليكني قد دخَلَتها للتو مع زوجها، وسطَ قدرٍ كبير من حفيف التنانير الحريرية والكثير من الضحكات وضجَّةٍ فضولية عامة بين الجمهور، وهي تبدو إلهيةَ الجمال تحت تموُّجات شعرها الذهبي المحمرِّ الكثيفة، التي كانت تحمل قليلًا من المسحوق المنثور عليها، وكانت مُجمَّعةً خلف عنقها الجميل بربطةٍ فَراشية سوداء ضخمة. ولأنَّ مارجريت دائمًا ما كانت ترتدي أحدثَ صيحات الأزياء؛ كانت هي السيدةَ الوحيدة التي تخلَّت في تلك الليلة عن الشَّال المتقاطع والفستان الفوقيِّ ذي طيَّةِ الصدر العريضة، اللذين كانا رائجَين في آخر سنتين أو ثلاثة. إذ ارتَدَت الفستانَ التقليديَّ الشكلِ والمرتفعَ الخَصْر، الذي سرعان ما سيُصبح الطِّراز المعتمَد في كل بلاد أوروبا. كان يُلائم هيئتها المَلَكية الرشيقة ملاءمةً مثالية؛ لأنه كان مؤلَّفًا من موادَّ متلألئةٍ بدَت كأنها كتلةٌ من تطريزٍ ذهبي غالي الثمن.

وبينما كانت تدخل المقصورة، أمالت رأسَها خارجها لحظةً وتفحَّصت كلَّ الحضور الذين كانت تعرفهم. وبينما كان تفعل ذلك، انحنى الكثيرون لها باحترامٍ، وكذلك جاءتها من المقصورة الملكية تحيةٌ مهذَّبة سريعة.

كان شوفلان يُراقبها باهتمامٍ طَوال بداية الفصل الثَّالث بينما كانت جالسةً مفتونةً بالموسيقى، وكانت يدُها الصغيرة الفاتنة تلعب بمِروحةٍ صغيرةٍ مرصَّعةٍ بالحُلي، وكان رأسها الملَكيُّ وحنجرتها وذراعاها ورقبتها مُغطَّياتٍ بألماساتٍ ضخمة وأحجارٍ كريمةٍ نادرة مُهداةٍ إليها من الزوج العاشق الذي كان مُمدَّدَ الأطراف مسترخيًا بجانبها.

كانت مارجريت تعشق الموسيقى بشغف. وقد سحرها عرض «أورفيوس» في تلك الليلة. إذ كانت بهجة الحياة محفورة بوضوحٍ على قسمات الوجه الشَّابِّ الحلو، وجعَلَت العينَين الزرقاوين المرحتين تلمعان وأنارت الابتسامةُ التي كانت كامنةً في ثنايا الشفتين. فرغم كلِّ شيء، كانت مارجريت في الخامسة والعشرين من عمرها فقط، أي في رَيْعان الشباب، وكانت محبوبةً لدى حشدٍ متألق، ومعشوقةً ومكرَّمة ومدلَّلة ومُقدَّرة. كان يخت «داي دريم» قد عاد من كاليه قبل يومين، وجلب إليها أخبارَ وصول أخيها المحبوب سالمًا وأنه يُفكر بها وسيُحاول أن يكون حذرًا من أجلها.

العجيب في تلك اللحظة أنها، أثناء استماعها إلى ألحان جلوك المتَّقِدة، نسيَت خيباتها ونسيَت أحلام حبِّها المتلاشية، ونسيت حتى التَّافه المبتهج الكَسول الذي كان يُعوض افتقاره إلى المَلَكات الروحانية بإغراقها بمنافع دنيوية.

كان قد بقي بجانبها في المقصورة طَوال المدة التي يقتضيها العُرف فقط، مُفسِحًا المجال لصاحب السموِّ الملكي، ولحشد المعجَبين الذين أتَوا في موكبٍ مُستمرٍّ لِيُعبِّروا عن احترامهم لملكة صيحات الأزياء. كان السير بيرسي قد رحل متباطئًا ليتحدَّث إلى أصدقاء أكثرَ تَجانُسًا معه على الأرجح. ولم تتساءل مارجريت حتى إلى أين ذهب؛ فلم تكن مهتمَّة، وبعدما كانت محاطةً بحاشيةٍ صغيرةٍ من أغنى شباب لندن وأكثرِهم أناقة، صرَفَتهم كلهم للتو؛ لأنَّها تريد أن تبقى وحدها مع موسيقى جلوك وقتًا قصيرًا.

أيقظَتها طَرْقةٌ متحفظةٌ على الباب مِن استمتاعها.

قالت بنفادِ صبرٍ دون أن تلتفتَ لرؤية ذاك المتطفِّل: «ادخل.»

لاحظ شوفلان، الذي كان يتحيَّن فرصتَه، أنها كانت وحدها، وكان في تلك اللحظة قد انسلَّ بهدوءٍ إلى داخل المقصورة دون أن ينتظر حتى ذلك الإذنَ الذي أعطتْه بنفاد صبر، وفي اللحظة التَّالية كان يقف خلف كرسيِّ مارجريت.

قال هامسًا: «اسمَحي لي بكلمةٍ معك أيتها المواطنة.»

التفتَت مارجريت سريعًا بذعرٍ صادق تمامًا.

قالت بابتسامةٍ صغيرةٍ مصطنَعة: «ربَّاه يا رجل! لقد أفزعتَني، جئتَ في وقتٍ غيرِ مناسبٍ بالمرة. فأنا أريد الاستماعَ إلى موسيقى جلوك، وليس لديَّ رغبة في الكلام.»

قال هامسًا: «لكن هذه فرصتي الوحيدة»، ودون أن ينتظر إذنَها، سحَب كُرسيًّا قريبًا خلفها، قريبًا جدًّا لدرجة أنه يستطيع أن يهمسَ في أذنها، دون أن يُزعج الجمهور، ودون أن يراه أحدٌ وسط خلفيَّة المقصورة الداكنة. كرَّر مجددًا بينما لم تمنَحْه أيَّ رد: «هذه فرصتي الوحيدة. فالليدي بليكني دائمًا ما تكون مُحاطة بعددٍ هائل من الناس، ومُحتفًى بها من حاشيتها احتفاءً شديدًا، لدرجة أنَّه حتى مجرد صديقٍ قديم لا يجد إلا فرصةً ضئيلة جدًّا.»

قالت بنفادِ صبر: «يا إلهي يا رجل! لا بد أن تبحث عن فرصةٍ أخرى إذن. سأذهب إلى حفل اللورد جرينفل الرَّاقص الليلةَ بعد الأوبرا. وأنت ستكون هناك، على الأرجح. سأُعطيك خمسَ دقائق حينها …»

ردَّ قائلًا ببرودٍ: «ثلاثُ دقائق في خصوصية هذه المقصورة كافيةٌ جدًّا لي، وأظن أنَّ من مصلحتكِ أن تُصغي إليَّ أيتُها المواطنة سان جوست.»

ارتجفَت مارجريت ارتجافةً غريزية. صحيح أنَّ شوفلان لم يرفع صوته عن الهمس، وكان الآن يأخذ بعضًا من السَّعوط بين إبهامه وسبابته، ولكن كان ثمةَ شيءٌ في سلوكه، شيءٌ في تلك العينَين الثعلبيَّتَين الباهتتين، بدا أنه يُجمِّد الدمَ في عروقها، وكأنها تُلاحظ خطرًا مميتًا لم تُخمِّن ماهيَّتَه حتى الآن.

سألته أخيرًا: «أهذا تهديدٌ أيها المواطن؟»

قال بملاطَفة: «لا يا سيدتي الجميلة، بل مجردُ سهمٍ طائش جاوز هدفه.»

سكت لحظةً كقطٍّ يُراقب فأرًا يركض بالقرب منه دون انتباهٍ إلى الخطر المُحدِق به، مُستعِدًّا للانقضاض عليه، لكنه ينتظر مُفعَمًا بذاك التلذُّذ السنوري بالأذى الوشيك. ثم قال بهدوء:

«أخوكِ سان جوست في خطر.»

لم تتحرَّك أيُّ عضلة في الوجه الجميل أمامه. كان يمكنه أن يرى وجهَها من الجانب فقط؛ لأن مارجريت بدَت منهمكةً في مشاهدة المسرح باهتمامٍ شديد، لكن شوفلان كان قويَّ الملاحظة؛ إذ لاحظ ثباتَ عينَيها المفاجئ، وتصلُّبَ فمها، والتوتر الحاد الذي أصاب جسدَها الجميل الرشيق وجعله شِبهَ مشلول.

قالت بمرح مُصطنَع: «يا إلهي، إذن بما أن هذه إحدى حبكاتك الخياليَّة، فمن الأفضل أن تعود إلى مقعدك وتدَعَني أستمتع بالموسيقى.»

وبدأت تدقُّ بيدها على مسند المقصورة المُبطَّن مُسايِرةً إيقاعَ الموسيقى بعصَبية. كانت سيلينا ستوريس تُغني «تشي فارو (ماذا سأفعل)» للجمهور الذي كان مشدودًا بانجذابٍ مسحور إلى شِفاه تلك المغنِّية الرئيسية. لم يتزحزح شوفلان من مقعده، وكان عاكفًا في صمتٍ على مراقبة حركة تلك اليد الصغيرة العصبيَّة، التي كانت الدليلَ الوحيد على أن سهمه قد أصاب الهدف.

قالت فجأةً خارج الموضوع وباللامبالاة المُصطنَعة ذاتِها: «إذن؟»

أجاب ببرود: «إذن ماذا أيتها المواطنة؟»

«بشأن أخي؟»

«لديَّ أخبارٌ عنه أظنُّها ستُهِمكِ، ولكن دعيني أشرح أولًا … هل تسمحين؟»

لم يكن السؤال ضروريًّا. فشوفلان كان يشعر، مع أن مارجريت ما زالت تتجنَّب النظر إليه بكلِّ ثبات، بأنَّ كل عصبٍ من أعصابها مشدودٌ من فرط اللهفة لسماع ما سيقوله.

قال: «في ذاك اليوم أيتها المواطنة، طلبتُ مساعدتَكِ … فرنسا كانت تحتاج إليها، وظننتُ أنني أستطيع الاعتمادَ عليكِ، لكنك أعطيتِني جوابكِ … ومنذ ذلك الوقت، ظَلِلنا متباعدَين بسبب مقتضيات شئوني الخاصة وواجباتكِ الاجتماعية … مع أن أشياءَ كثيرةً قد حدَثَت …»

قالت بلا مبالاة: «أرجوك أن تدخل في صُلب الموضوع أيها المواطن، فالموسيقى رائعةٌ والجمهور سيفقد صبره من كلامك.»

«لحظة واحدة أيتها المواطنة. في اليوم الذي تشرَّفت فيه بمقابلتكِ في دوفر، وبعد أقلَّ من ساعةٍ من الوقت الذي أعطيتني فيه جوابكِ النهائي، حصَلتُ على بعض الأوراق، التي كشفَت عن مخططٍ آخر من تلك المخططات الخفية الماكرة لتهريب مجموعةٍ من الأرستقراطيين الفرنسيين — بينهم خائنُ تورناي ذاك وأشخاصٌ آخَرون — كلها من تخطيط ذاك المتطفِّل الخبيث، سكارليت بيمبرنيل. وكذلك وقعَت في يدي بعضُ خيوط هذه المنظمة الغامضة، لكن ليس كلها، وأنا أريد منكِ … كلا! بل «يجب» أن تُساعديني لأجمعها كلها.»

بدا أن مارجريت كانت تستمع إليه بنفادِ صبر واضح، والآن هزَّت كتفَيها وقالت بمرح:

«أف يا رجل! ألم أخبرك سلفًا بأنني لا أهتمُّ بمخططاتك أو بسكارليت بيمبرنيل. ولولا أنك ذكرتَ أخي …»

تابع برباطة جأش: «أناشدُكِ قليلًا من الصبر أيتها المواطنة. كان يوجد سيدان في «استراحة صيَّاد السمك» في دوفر في الليلةِ نفسِها: أحدهما هو اللورد أنتوني دوهرست، والثَّاني هو السير أندرو فولكس.»

«أعلم. رأيتهما هناك.»

«كان جواسيسي يعرفون بالفعل أنهما عضوان في تلك العصبة الملعونة. السير أندرو فولكس هو مَن اصطحب كونتيسة تورناي وابنها وابنتها عبر القنال. عندما كان الشابَّان وحدهما، اقتحم جواسيسي غرفة القهوة في النزل، وكمَّموا الشابين المتأنقين وأوثقوهما، وأخذوا أوراقهما وأحضروها إليَّ.»

وهنا سرعان ما خمَّنَت مارجريت ماهيَّةَ الخطر. أوراق؟ … هل كان أرماند أرعن إلى هذا الحد؟ صعَقَتها الفكرةُ ذاتُها برعبٍ لا يوصَف. لكنها لم تُرِد أن تجعل هذا الرجلَ يرى خوفها، فضحكت بمرح ولا مبالاة.

قالت بمرح: «ربَّاه! ووقاحتك تتجاوز التصديق. سرقة وعنف! … في إنجلترا! … وفي نُزلٍ مزدحم! كان من الممكن أن يُقبَض على رجالك مُتلبِّسين بهذا الجرم!»

«وماذا في ذلك؟ إنهم أبناءُ فرنسا، وقد تدرَّبوا على يدِ خادمكِ المتواضع. لو قُبِض عليهم، كانوا سيذهبون إلى السجن أو حتى إلى المشانق بلا أيِّ اعتراض أو حماقة؛ على أي حال، كان الأمر يستحقُّ المخاطرة. النزل المزدحِم آمَنُ لهذه العمليات الصغيرة ممَّا تظنِّين، ورجالي لديهم الخبرة.»

سألت بلا مبالاة: «إذن؟ وماذا عن تلك الأوراق؟»

«مع الأسف، مع أنها أخبرَتني بأسماءٍ معيَّنة … تحركاتٍ معيَّنة … كافية في رأيي لإحباط ضربتِهم المتوقَّعة حاليًّا، لكن هذا سيكون مؤقَّتًا فقط، وسأظل جاهلًا بهُويَّة سكارليت بيمبرنيل.»

قالت بالأسلوب اللامبالي المصطنَع ذاتِه: «عجبًا يا صديقي! إذن ما زلتَ حيثما كنتَ من قبل، أليس كذلك؟ وستدَعُني أستمتع بآخِر مقطعٍ من الأغنية.» وأضافت وهي تتظاهرُ بكبحِ تثاؤبٍ مصطنَع: «ربَّاه! ألم تقُل شيئًا حول أخي …»

«سآتي على ذكره الآن أيتها المواطنة. بين تلك الأوراق، كانت توجد رسالةٌ موجَّهةٌ إلى السير أندرو فولكس من أخيكِ سان جوست.»

«حسنًا؟ وماذا بعد؟»

«تُظهِر تلك الرسالةُ أنه متعاطفٌ مع أعداء فرنسا، بل ومُعاونٌ لعصبة سكارليت بيمبرنيل بالفعل، إن لم يكن عضوًا فيها.»

ضُرِبَت الضربة أخيرًا. كانت مارجريت تتوقَّعُها طوالَ هذا الوقت، لكنها لم تكن تُريد أن تُظهِر الخوف، كانت مُصرَّةً على أن تبدوَ غيرَ مباليةٍ بل حتى مُسفِّهة لكلامه. كانت تتمنَّى، عند مجيء الصدمة، أن تكون مستعدَّةً لها، أن تكون كلُّ بديهتها السريعةِ حاضرةً معها، تلك البديهة التي وُصِفت بالأذكى في أوروبا. حتى في تلك اللحظة لم تجفل. كانت تعرف أنَّ شوفلان قد قال الحقيقة؛ فالرجل كان أشدَّ جدِّيةً، وأشدَّ تفانيًا أعمى للهدف الضَّالِّ الذي يحمله في قلبه، وأشدَّ فخرًا برجالِ بلاده، أولئك الذين صنَعوا الثورة، من أن ينحدر إلى أكاذيبَ دنيئةٍ فارغة.

كانت تلك الرسالةُ المبعوثة من أرماند — أرماند الأحمق الأرعن — في حوزة شوفلان. وكانت مارجريت متيقِّنةً من ذلك كما لو أنها رأت تلك الرسالة بأم عينَيها، وكان من المؤكَّد أنَّ شوفلان سيحتفظ بتلك الرسالة من أجل أغراضه الخاصة حتى يُناسِبَه التخلصُ منها أو استخدامُها ضدَّ أرماند. كانت تعرف كلَّ ذلك، لكنها استمرَّت في الضحك بمرحٍ أكبرَ وصوتٍ أعلى من ذي قبل.

قالت وهي تتحدَّث إليه من فوق كتفها وتنظر مباشرةً نحو وجهه: «عجبًا يا رجل! ألم أقُل إنها حبكةٌ خيالية. أرماند عضوٌ في عُصبة ذاك المجهول سكارليت بيمبرنيل! أرماند مشغولٌ بمساعدة أولئك الأرستقراطيِّين الفرنسيين الذين يحتقرهم! … يا إلهي، الحكاية كلها من وحي خيالِك!»

قال شوفلان بالهدوءِ الثَّابت ذاتِه: «دعيني أوضِّح قصدي أيتها المواطنة، يجب أن أؤكِّد لكِ أن سان جوست قد فُضِح إلى حدٍّ يتجاوز أدنى أملٍ في نَيل العفو.»

خيَّم صمتٌ مُطبق في داخل مقصورة الأوركسترا كلِّها للحظة أو اثنتين. كانت مارجريت جالسةً، منتصبةَ الظهر جامدةً ساكنة، تُحاول التفكير، تحاول مواجهةَ الموقف لتتوصَّل إلى أفضل تصرُّفٍ ممكِن.

كانت ستوريس قد أنهَت الأغنيةَ على المسرح، وكانت الآن تنحني، في ثوبها الذي كان تقليديًّا، لكن طرازه كان مُستحسَنًا في القرن الثَّامنَ عشر، للجمهور المتحمِّس الذي ظل يُصفق ويهتف لها بأعلى صوته وقتًا طويلًا.

قالت مارجريت بليكني أخيرًا بهدوء، وبدون ذلك التبجُّح الطفيف الذي كان مُرافقًا لسلوكها طَوال الوقت: «شوفلان، شوفلان يا صديقي، هلا حاوَلْنا فَهْم بعضِنا البعض. يبدو أن بديهتي الحاضرة قد أصابها الصدأُ بسبب تعرُّضي لهذا الطقس الرَّطْب. الآن أخبرني، أنت متلهفٌ جدًّا لمعرفة هُوية سكارليت بيمبرنيل، أليس كذلك؟»

«عدوُّ فرنسا الألدُّ أيتها المواطنة … بل والأخطر؛ لأنه يعمل في الخفاء.»

«تقصد الأنبل … حسنًا! والآن أنت ستجبرني على مُمارسة بعض التجسُّس لصالحك مقابلَ سلامة أخي أرماند؟ أهذا كل ما في الأمر؟»

اعترض شوفلان بتأدُّب قائلًا: «سحقًا! كلمتان قبيحتان للغاية يا سيدتي الجميلة. لا وجود للإجبار إطلاقًا، والخدمة التي سأطلبها منكِ، باسم فرنسا، لا يمكن أبدًا أن يُطلَق عليها اسمٌ صادمٌ كالتجسس.»

قالت بواقعيةٍ جامدة: «على أي حال، هذا هو الاسم الذي يُطلَق عليها هنا. هذا هو مقصدك، أليس كذلك؟»

«مقصدي أن تربَحي أنتِ بنفسكِ عفوًا مجَّانيًّا عن أرماند سان جوست بتقديم خدمة صغيرة لي.»

«ما هي؟»

قال بلهفة: «فقط أبقِي عينيكِ مفتوحتَين من أجلي الليلةَ أيتها المواطنة سان جوست. اسمعي، من بين الأوراق التي وُجِدَت مع المدعو سير أندرو فولكس كانت توجد رسالة قصيرة.» أضاف وهو يُخرج قصاصةً ورقيةً صغيرةً جدًّا من محفظة جيبه ويُسلمها إليها: «انظري!»

كانت تلك القصاصة الورقية ذاتَها التي كان الشابَّان يقرَآنِها قبل أربعة أيَّام، في اللحظة ذاتها التي تعرَّضا فيها للهجوم من أتباع شوفلان. أخذتها مارجريت تلقائيًّا وطأطأتْ لتقرأَها. كان فيها سطران فقط، وكانا مكتوبَين بخطِّ يدٍ مُشوَّه ومُحرَّف بوضوحٍ لإخفاء هُوية صاحبه؛ قرأتْهما بصوتٍ خافت:

«تذكَّروا أننا يجب ألا نلتقيَ إلا للضرورة القصوى. لديكم كل التعليمات بخصوص الثَّاني. إن أردتم التحدث إليَّ مرةً أخرى، فسأكون في حفلة جي.»

سألت: «ماذا يعني هذا؟»

«انظري مجددًا أيتها المواطنة وستفهمين.»

«يوجد شعارٌ هنا في الزَّاوية، زهرةٌ حمراءُ صغيرة …»

«أجل.»

قالت بلهفة: «سكارليت بيمبرنيل، وحفلة جي تعني حفلة جرينفل … سيكون في حفلة سيدي اللورد جرينفل الليلة.»

استنتج شوفلان برقَّة: «ذلك تفسيري للرسالة، أيتها المواطِنة. بأمرٍ مني حُمِلَ اللورد أنتوني دوهرست والسير أندرو فولكس، بعد أن أوثقَهما جواسيسي وفتشوهما، إلى منزلٍ مهجورٍ على طريق دوفر، كنتُ قد استأجرتُه من أجل هذا الغرض، وبقِيَا هناك سجينَين في حبسٍ موصَدٍ حتى صباح اليوم. ولكن بعد أن وجدتُ هذه القصاصة الصغيرة، أردتُ أن يكونا في لندن عندما يحين موعد حفلة السيد اللورد جرينفل. تفهمين، أليس كذلك؟ فلا بد أنَّ لديهما الكثيرَ ليقولاه لقائدهما … وهكذا ستكون لديهما فرصةُ التحدث إليه الليلةَ، تمامًا كما أوصاهما. لهذا، في صباح اليوم، وجد هذان الشابَّان المتأنقان كلَّ الترابيس والأقفال في ذاك البيت المهجور على طريق دوفر مفتوحةً، وقد اختفى سجَّانوهما، وفي انتظارهما حِصانان جيدان مُسْرَجان مستعدَّان مربوطان في الفِناء. لم أرَهما بعد، لكن أظنُّ أننا يُمكن أن نستنتج بكلِّ ثقة أنهما لم يَشُدَّا اللِّجام حتى وصلا إلى لندن. الآن ترين كم هو الأمر بسيط أيتها المواطنة!»

قالت، بمحاولةٍ مريرة أخيرة لاصطناع بعض الوقاحة: «يبدو بسيطًا، أليس كذلك؟ عندما ترغب في قتل دجاجة … فأنت تُمسك بها أولًا … ثم تعتصر رقبتها … الدجاجة وحدها هي التي لا ترى الأمر بسيطًا جدًّا. الآن أنت تُسلِّط سِكِّينًا على رقبتي، ولديك رهينةٌ تضمن به طاعتي. ترى الأمر بسيطًا. لكني لا أراه كذلك.»

«لا أيتها المواطنة، أنا أعرض عليكِ فرصةً لإنقاذ أخيكِ الذي تُحبِّينه من عواقب حماقته التي اقترفها بنفسه.»

ارتخى وجهُ مارجريت، واغرورقَت عيناها أخيرًا، وهي تتمتم مخاطبةً نفسَها:

«الشخص الوحيد الذي أحبَّني حقًّا وما زال يُحبني.» ثم قالت بقدرٍ هائل من اليأس في صوتها المختنق بالدموع: «لكن ما الذي تريدني أن أفعلَه يا شوفلان؟ في وضعي الحالي، هذا شبه مستحيل!»

قال بجمودٍ وبلا هوادة دون أن يكترث بذلك الاستعطافِ اليائس الطفولي الذي ربما كان سيُذيب قلبًا قُدَّ من صخر: «لا أيتها المواطنة، فبصفتك الليدي بليكني، لا أحد يشكُّ فيكِ، وبمساعدتكِ لي الليلة ربما — من يعلم؟ — أنجح في اكتشاف هُوية سكارليت بيمبرنيل أخيرًا. أنت ستذهبين إلى الحفلة قريبًا. أبقي عينَيك مفتوحتين هناك من أجلي أيتها المواطنة، راقبي وأنصتي … يمكنك أن تخبريني إذا سمعتِ كلمةً أو همسةً بالصدفة. يمكنك أن تُلاحظي جميع الأشخاص الذين سيتحدَّث معهم السير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست. أنتِ بعيدةٌ عن الشبهات الآن بالتأكيد. سكارليت بيمبرنيل سيكون في حفلة اللورد جرينفل الليلة. اعرِفي هُويته، وأتعهَّد لكِ بشرف فرنسا أن أخاكِ سيكون آمنًا.»

كان شوفلان يضع السكين على حنجرتها. شعَرَت مارجريت بأنها واقعةٌ في شَرَكِ إحدى تلك الشباك التي لا أمَل لها في الهروب منها. كانت مُهدَّدة برهينةٍ غالٍ مُحتجَزٍ لضمان طاعتها؛ لأنها كانت تعلم أنَّ شوفلان لن يُطلِق تهديدًا فارغًا أبدًا. فمن المؤكد أنَّ لجنة السلامة العامة قد تلقَّت بالفعل إشارةً بأنَّ أرماند «مُشتبَهٌ به»؛ وبذلك لن يُسمح له بمغادرة فرنسا مجددًا، وسيُقتل بلا رحمة إذا رفضت إطاعة شوفلان. للحظةٍ — كدأبِ النساء — كانت ما تزال تتمنى أن تُماطل وتكسب بعضَ الوقت. فمدَّت يدها إلى هذا الرجل الذي صارت تخافُه وتكرهه الآن.

وقالت بلُطف: «إن قطعتُ وعدًا بمساعدتك في هذه المسألة يا شوفلان، فهل ستُعطيني رسالةَ سان جوست تلك؟»

أجاب بابتسامةٍ ساخرة: «إن قدَّمتِ لي خدمةً مفيدة هذه الليلة أيتها المواطنة، فسأعطيكِ تلك الرسالة … غدًا.»

«ألا تثقُ بي؟»

«أثق بكِ بالتأكيد يا سيدتي العزيزة، لكنَّ حياة سان جوست صارت رهنًا لدى بلاده … وفي يدَيكِ أن تُخلِّصيها.»

استعطفَته قائلة: «ربما أعجِزُ عن مساعدتك رغم رغبتي الشديدة في ذلك.»

قال بهدوء: «هذا سيكون فظيعًا بالتأكيد … لكِ ولأرماند سان جوست.»

ارتجفَت مارجريت. شعرت بأنها لا يمكن أن تنتظر أيَّ رحمةٍ من هذا الرجل. كان يُطبِق بكلِّ قوة وجبروتٍ على حياة أخيها الغالية في قبضة يده. كانت تعرفه جيدًا جدًّا لدرجة أنها كانت متيقنةً من أنه إنْ فشل في الحصول على مُبتَغاه، فسيصبح عديم الرحمة.

شعرت بالبرد رغم الجو الخانق في دار الأوبرا. بدا كأنَّ ألحان الموسيقى المُبهجة للقلب تصلُ إليها من أرضٍ بعيدة جدًّا. لفَّتْ شالها الحريري الثمين حول كتفَيها وجلست صامتةً تُراقب المشهد الباهر كما لو كان حلمًا.

وللحظةٍ شَرَدَت بأفكارها بعيدًا عن محبوبها الواقع في الخطر إلى ذاك الرجل الآخر الذي كان هو أيضًا له حقٌّ في نَيل ثقتها وحُبِّها. كانت تشعر بالوَحدة والخوف على أرماند؛ لذا تاقَت للبحث عن الطَّمْأنة والنصيحة من شخصٍ يعرف كيف يُساعدها ويُواسيها. كان السير بيرسي بليكني يُحبها يومًا ما؛ كان زوجَها، فلِمَ تقف وحيدةً في هذه المحنة الفظيعة؟ صحيحٌ أنَّ قدراته الفكرية ضئيلةٌ جدًّا، لكنه مفتولُ العضلات، ومن المؤكد أنهما، إذا تكفَّلَت بالذكاء وتكفَّل هو بالمقدرة الرجولية والشَّجاعة، يستطيعان معًا التغلُّبَ على الدبلوماسي الذكي، وإنقاذَ الرهينة من يده التوَّاقةِ للانتقام، دون تعريض حياة القائد النبيل الذي يرأس تلك العصبةَ الصغيرة الجسورة من الأبطال الشجعان للخطر. كان السير بيرسي يعرف سان جوست جيدًا — بدا أنه يُحبه بشدة — لذا كانت متيقنةً من أنه سيستطيع المساعدة.

لم يَعُد شوفلان مهتمًّا بها. فقد ألقى تهديدَه القاسي مُخيِّرًا إياها بين خيارَين أحلاهما مُرٌّ، وترَكها لتُقرر. كان بدوره الآن يبدو منغمسًا في ألحان «أورفيوس» المثيرة للروح، وكان يُساير إيقاع الموسيقى برأسه الحادِّ الشبيه برأس النمس.

أيقظتْ طرقةٌ متحفِّظة على الباب مارجريت من أفكارها. كان الطارق هو السير بيرسي بليكني، الذي وقف بقامته الطويلة ناعسًا ومبتهجًا، وحاملًا تلك الابتسامةَ البلهاء الخجولة، التي بدا في تلك اللحظة أنها تُزعج كلَّ عصبٍ من أعصاب مارجريت.

قال بنبرته المتباطئة المستفزَّة جدًّا: «آ… عربتكِ في الخارج … يا عزيزتي، أظن أنكِ تريدين الذَّهاب إلى تلك الحفلة المقيتة … اعذرني؛ آآ؛ يا سيد شوفلان … لم أنتبه إلى وجودك. …»

مدَّ إصبَعَين أبيضين نحيلَين نحو شوفلان الذي كان قد وقف عندما دخل السير بليكني المقصورة.

«هل ستأتين يا عزيزتي؟»

«هششش! شش! شش!»؛ هكذا جاءت اعتراضاتٌ غاضبة من أماكنَ متفرقة من الدَّار.

علَّق السير بيرسي قائلًا بابتسامةٍ مرحة: «يا للوقاحة اللعينة!»

تنهَّدَت مارجريت بنفادِ صبر. بدا فجأةً أن آخِرَ آمالها قد تلاشى. لفَّت عباءتها حولها وبدون أن تنظر نحو زوجها، قالت:

«أنا مستعدةٌ للذَّهاب»، وتأبطت ذراعه. وعند باب المقصورة، استدارَت ونظرت مباشرةً نحو شوفلان، الذي كان متأبِّطًا قبعته المطويَّة ذاتَ القرنين ومستعدًّا، بابتسامةٍ غريبة تحوم حول شفَتَيه، للَّحاق بالزوجين غير المتجانسين بغرابة.

قالت بسرور: «هذا مجردُ فراق مؤقَّت، يا شوفلان. سنلتقي في حفلة سيدي اللورد جرينفل، قريبًا.»

من المؤكَّد أنَّ الفرنسي الماكر قرأ في عينيها شيئًا جعله يشعر بالرضا العميق؛ لأنه تناول كمية ضئيلة من السَّعوط بابتسامةٍ ساخرة، ثم نفض منديلَ عنقه الأنيقَ المصنوعَ من الدَّانتيل، وفرك يدَيه العظميتين النحيلتين برِضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤