الفصل السادس عشر

ريتشموند

بعد دقائقَ قليلة، كانت تجلس ملتفَّةً بالفراء الغالية بالقرب من السير بيرسي بليكني على كرسي مقصورة عربته الفخمة، فيما كانت الجياد الأربعة تُسرع بصهيلٍ مُدوٍّ عبر الشَّارع الهادئ.

كان الليل دافئًا بالرغم من النسيم اللطيف الذي كان يُبرد خدَّي مارجريت المشتعلَين بهواءٍ مُنعش كالمروحة. وسرعان ما صارت منازلُ لندن قابعةً خلفهما، وكان السير بيرسي يقود جيادَه بسرعةٍ نحو ريتشموند، مُقعقعةً بحوافرها فوق جسر هامرسميث.

تلوَّى النهر ذَهابًا وإيابًا في انحناءاته الجميلة، فبدا مثل أفعى فِضَّيةٍ تحت سَنَا القمر المتلألئ. وكانت الظلالُ الطويلة من الأشجار البارزة على جانبَي الطريق تنشر حُجُبًا قاتمة متقطعة على الطريق. كانت الجياد تركض بالسرعة القُصوى، ولم تكن يدا السير بيرسي القويَّتان السديدتان تكبحها إلَّا بقدر طفيف.

كانت هذه الرحلات الليلية بعد الحفلات الرَّاقصة ومآدب العشاء في لندن مصدرَ سعادةٍ دائمًا لمارجريت، وكانت مارجريت تُكِنُّ تقديرًا شديدًا لغرابة أطوار زوجها التي جعَلتْه يتبنَّى هذه العادة في العودة بها كلَّ ليلة إلى بيتهما الجميل بالقرب من النهر، بدلًا من السكن في منزلٍ خانق مُملٍّ في لندن. كان يحبُّ قيادة جياده الجامحة على طول الطرقات الخالية المضاءة بضوء القمر، وكانت هي تُحبُّ الجلوس على كرسي مقصورة العربة تاركةً نسيمَ الليل الصيفي الإنجليزي العليل يُرَوِّح بالهواء على وجهها بعد الجو الحارِّ في حفلة الرقص أو مأدُبة العَشاء. لم تكن مثل هذه الرحلات طويلة؛ إذ كانت تستغرق أقلَّ من ساعة، في بعض الأحيان، عندما تكون الجياد منتعشةً جامحة، ويُطلِق لها السير بيرسي العِنان.

وفي هذه الليلة، بدا أنه يملك قوةً شيطانية خارقة في أصابعه، وبَدَت العربة كأنها تطير على الطريق، بحذاء النهر. وكالعادة، لم يُحادِثْها، لكنه كان يُحدق أمامه مباشرةً، واللجام يبدو طليقًا تمامًا بين يديه البيضاوَين النحيلتين. نظرَت إليه مارجريت مترددةً مرةً أو اثنتين، وكانت ترى جانبَ وجهه الوسيم وعينًا ناعسةً واحدة، بحاجبها النَّحيل المستقيم وجَفْنها المتثاقل المتدلِّي.

بدا الوجه في ضوء القمر جِديًّا بشكلٍ فريد، وذكَّر قلبَها المتألِّمَ بأيام الخِطبة السعيدة، قبل أن يتحول زوجها إلى ذاك المغفَّل الكسول، المتأنق الخامل الذي يبدو أنه يمضي كلَّ حياته في غرف الورق ومآدِب العشاء.

لكنها الآن، في ضوء القمر، لم تستطع أن ترى نظرةَ العينين الزرقاوين النَّاعستين، بل كان بإمكانها فقط أن ترى الحدَّ الخارجي للذقن الجامد، وزاوية فمِه القوي، وشكل جبهته العريض المُحدَّد جيدًا، حقًّا، كانت الطبيعة قد أرادت خيرًا بالسير بيرسي؛ ومن المؤكَّد أنَّ كل عيوبه كانت بسبب والدته المسكينة شِبْه المخبولة ووالده المشتَّت المفطور القلب، اللذَين لم يكترث أيٌّ منهما بالحياة الصغيرة التي كانت تنبت بينهما، والتي ربما كانت لا مبالاتهما نفسها قد بدأت تُحطِّمها بالفعل.

شعرَت مارجريت فجأةً بتعاطُفٍ شديد تجاه زوجها. فالأزمة الأخلاقية التي مرَّت بها للتو جعلَتها تشعر بالتسامح تجاه أخطاء الآخرين وسلوكياتهم المنحرفة.

اكتسحها إدراكٌ بمدى قدرة القدَر على صفع الإنسان وقهره؛ فلو أن أحدًا أخبرها قبل أسبوعٍ بأنها ستنحطُّ إلى حدِّ أن تتجسَّس على أصدقائها، بأنها ستخونُ رجلًا شجاعًا مطمئنًّا وتُسلمه إلى يدَي عدوٍّ لا يعرف الشفَقة، لكانت ستضحك على الفكرة إلى حدِّ الازدراء.

لكنها كانت قد فعلَت تلك الأشياء، ربما ستكون هي المسئولةَ عن موت ذلك الرجل الشجاع، تمامًا مثلما هلَك ماركيز سان قرياقوس قبل ذلك بعامَين بسبب كلماتٍ طائشةٍ من لسانها، لكنها في تلك القضية القديمة كانت بريئةً أخلاقيًّا؛ إذ لم تكن تقصد أيَّ أذًى حقيقي، بل كلُّ ما في الأمر أنَّ القدَر تدخَّل. أمَّا في هذه المرة، فقد فعلت شيئًا خسيسًا بوضوح، فعَلَته عمدًا لدافعٍ قد لا يَلقى تقديرًا حتى من دعاة الأخلاق المتشدِّدين.

وبينما كانت تشعر بذراع زوجها القويةِ بجانبها، خَطر ببالها أيضًا كم سيَكرهُها ويحتقرها إنْ عرَف بما فعلَته الليلة. هكذا يحكم البشرُ على بعضهم البعض، بسطحية، ولا مبالاة، ويحتقر بعضُهم بعضًا بقليلٍ من المنطق وبلا إحسان. كانت تحتقر زوجها لتفاهته واهتماماته المبتذَلة غيرِ الفكرية، وشعرَت بأنه سيحتقرها احتقارًا أشدَّ لأنها لم تكن قويةً بما يكفي لأن تفعل الصواب من أجل الصواب، ولأن تضحي بأخيها لأجل ما يُمليه عليها ضميرُها.

وبينما كانت مارجريت منغمسة في أفكارها، وجدَت أن هذه السَّاعة الليلية الصيفية المنعِشة قصيرةٌ جدًّا؛ وأدركَت فجأة، وسط شعورٍ بإحباطٍ شديد، أن الجياد قد انعطفَت نحو بوَّابةِ منزلها الإنجليزي الجميل الضخمة.

أصبح منزل السير بيرسي بليكني المطلُّ على النهر تاريخيًّا؛ كان فسيحَ الأبعاد، قائمًا وسط حدائقَ متراصَّةٍ بشكلٍ رائعٍ، وله شُرفةُ رِواق بديعةُ المنظر وواجهةٌ مُطلَّة على النهر. كانت جُدرانه قد شُيِّدت في عهد تيودور، وكان طوبها الأحمر القديم يبدو بارزًا وفاتنًا وسط تعريشةٍ خضراء، فيما كان البستان الجميل، بقُرص المِزْوَلة الشمسيَّة القديمة الموجودة فيه، يُضيف لمسةً حقيقيةً من التناغم إلى حديقته الأمامية. كانت الأشجار المُعمَّرة الضخمة تُلقي بظِلالٍ جميلة باردة على الأرض، والآن، في هذه الليلة في أوائل الخريف، تحولت ألوان الأوراق بدرجة طفيفة إلى زعفرانية وذهبية، وكانت الحديقة العتيقة تبدو شاعريةً وهادئة بقدر كبير في ضوء القمر.

وبدقةٍ لا تعرف الخطأ، أوقف السير بيرسي الجيادَ الأربعة مباشرةً أمام بهوِ الدخول المُصمَّم على الطِّراز الإليزابيثي، ومع أنَّ الوقت كان متأخرًا، بدا أن جيشًا من سائسي الخيول قد خرَج من باطن الأرض حرفيًّا عندما توقَّفَت العربة مُدوِّيةً كالرعد، وكانوا يقفون باحترامٍ حولها.

ترجَّل السير بيرسي من العربة بوثبةٍ سريعة، ثم ساعد مارجريت على النزول. ظلَّت واقفةً في الخارج لحظةً بينما كان يُعطي أحدَ رجاله بضعةَ أوامر. طافت المنزل وكانت تمشي على المَرجة بينما كانت تنظر حالمةً إلى المشهد الطبيعي الفِضِّي. بدَت الطبيعة في حالة سكونٍ خلَّاب مقارنةً بالمشاعر الهائجة العنيفة التي كانت قد مرَّت بها؛ إذ كان يمكنها أن تسمع همسًا طفيفًا لخَرير النهر والصوت الخافت لسقوط الأوراق الميتة كالأشباح من الأشجار بين الفينة والأخرى.

كان كلُّ شيءٍ آخَر من حولها هادئًا. سمعَت الجيادَ تتبخترُ بينما اقتِيدَت إلى حظائرها البعيدة، ووقْع أقدام الخدم المُسرعين وهُم يذهبون جميعًا إلى الدَّاخل ليرتاحوا، حتى المنزل أيضًا كان ساكنًا تمامًا. كانت الأضواء لا تزال مشتعلة في جَناحَين منفصلين من الغُرَف فوقَ غرفِ الاستقبال الواسعة للغاية؛ كانت تلك غُرُفَها، وغُرُفَه، التي كانت منفصلةً بعضها عن بعضٍ تمامًا بعرضِ المنزل كلِّه، بقدر ما أصبحت حياة كلٍّ منهما منفصلةً عن الآخر. تنهَّدَت لا إراديًّا، ولم تكن في تلك اللحظة قادرةً على معرفة السبب.

كانت تُعاني وجعًا مفرطًا في قلبها. بألمٍ عميق شعرَت بالأسى على حالها. لم تشعر في حياتها بهذا القدر من الوحدة المثيرة للشفقة، وبهذه الرغبة الشديدة في المواساة والتعاطف. وبتنهيدةٍ أخرى، تَوَلَّت عن النهر باتِّجاه المنزل، متسائلةً بتحيُّر عمَّا إن كانت ستستطيع يومًا أن تجد الرَّاحة والنوم بعد هذه الليلة.

وفجأةً، قبل أن تصل إلى شُرفة المدخل، سمعت صوتَ خطوةٍ ثابتةٍ على الحصى الجاف، ثم ظهرَت هيئةُ زوجها من الظلام في اللحظة التَّالية. كان هو الآخَر قد طاف المنزل وكان يتجوَّل في البستان نحو النهر. كان لا يزال يرتدي معطفَ القيادة الثقيلَ ذا الطيَّات والياقات العديدة الذي كان قد جعله بنفسِه أحدثَ صيحةٍ في الأزياء، لكنه كان مُرجِعًا إياه إلى الوراء دافنًا يدَيه كعادته في الجيوب العميقة لبنطاله المصنوع من السَّاتان؛ كان الزيُّ الأبيض الرَّائع الذي ارتداه في حفل اللورد جرينفل بمنديل العُنق الدانتيل الذي لا يُقدَّر بثمَن؛ يبدو شبَحيًّا بشكلٍ غريبٍ أمام الخلفية القاتمة المتمثِّلة في المنزل.

بدا أنه لم ينتبه لوجودها؛ لأنه، بعدما توقَّف بِضع لحظات، سرعان ما استدار عائدًا نحو المنزل وصعد مباشرةً نحو الشرفة.

«سير بيرسي!»

كانت إحدى قدمَيه على الدرجة السُّفلى من درجات الشرفة، ولكن عندما سمع صوتها، جفل بارتجافةٍ طفيفة وتوقَّف، ثم نظر باحثًا وسط الظِّلال التي نادته منها.

تقدَّمَت بسرعةٍ إلى ضوء القمر، وحالما رآها، قال بتلك الملاطفة المتقَنة التي يتصنَّعُها دائمًا عندما يتحدث إليها:

«في خدمتك، سيدتي!»

لكن قدمه كانت لا تزال على درجة الشرفة، وكان في سلوكه ككلٍّ إيحاءٌ غيرُ مباشر، واضحٌ لها بلا ريب، بأنه كان يرغب في الذَّهاب، ولم تكن لديه رغبةٌ في محادثةٍ ثنائية بعد مُنتصف الليل.

قالت: «الهواء منعشٌ لذيذ، والقمر شاعريٌّ وهادئ، والحديقة جذَّابة. ألا تبقى بعضَ الوقت؛ فالسَّاعة ليست متأخرةً جدًّا، أم أن رفقتي بغيضةٌ جدًّا لك، لدرجة أنَّك تتعجل لتخليص نفسك منها؟»

ردَّ بهدوءٍ بارد: «لا، يا سيدتي، بل العكس هو الصحيح، وأضمن لكِ أنكِ ستجدين القمرَ أكثرَ شاعريةً دون رفقتي؛ فلا ريبَ من أنني كلما أسرعت في إزالة العائق، كان ذلك أفضلَ لسيادتكِ.»

استدار مجددًا ليُغادر.

قالت بسرعة: «أعتقد أنك مخطئٌ بشأني يا سير بيرسي»، وأضافت وهي تدنو منه قليلًا: «فالقطيعة التي حدَثَت بيننا — مع الأسف! — لم تكن من صُنعي، تذكَّر.»

اعترَض ببرود: «حقًّا! لا بد أن تعذريني هنا سيدتي! فدائمًا ما كانت ذاكرتي ضعيفةً للغاية.»

نظر إلى عينَيها مباشرةً بتلك النظرةِ اللامبالية الناعسة التي اعتادها حتى صارت متأصِّلةً فيه. ردَّت إليه تلك النظرةَ المُحدِّقة للحظة، ثم لانت عيناها بينما اقتربَت منه عند أسفل درجات الشرفة.

«ضعيفة للغاية يا سير بيرسي؟ ربَّاه! كم تغيَّرتْ ذاكرتك حتمًا! هل كان ذلك قبل ثلاث سنواتٍ أم أربع عندما رأيتَني في باريس ساعةً واحدة في طريقك إلى الشرق؟ فعندما عُدتَ بعدها بسنتين، لم تكن قد نسيتني.»

بدَت جميلةً جمالًا ربانيًّا وهي واقفةٌ في ضوء القمر، ومعطف الفراء ينزلقُ من فوق كتفَيها الجميلتَين، والتطريز الذهبي على فستانها يتلألأ حولها، وعيناها الزرقاوان الطفوليَّتان تُحدِّقان فيه بكامل اتساعِهما.

وقفَ للحظةٍ جامدًا وساكنًا ما عدا يده التي قبضَت على الدرابزين الحجري للشرفة.

قال ببرودٍ جليدي: «لقد رغِبتِ في وجودي، يا سيدتي. وأفترض أن ذلك لم يكن بهدف الانغماس في ذكرياتٍ لطيفة.»

لا ريب في أن صوته كان باردًا عنيدًا؛ وكان سلوكُه أمامها جامدًا لا يَلين. كانت الكرامة الأنثوية ستقترح أن تُبادله البرودَ بالبرود، وأن تتجاوزَه دون كلمةٍ أخرى سوى إيماءةٍ مهذَّبةٍ من رأسها، لكن الحَدْس الأنثويَّ اقترح أنه يتوجَّب عليها البقاء، تلك الحاسة الحادَّة التي تجعل المرأة الجميلة مُدرِكةً لمدى قدرتها على جلب الرجل الوحيد الذي لا يحترمها عند ركبتَيها. مدَّت يدها نحوه.

«كلا يا سير بيرسي، لِمَ لا؟ الحاضر ليس رائعًا جدًّا للدرجة التي تجعلُني لا أتمنى الخوضَ في الماضي قليلًا.»

أحنى قامته الطويلة، وأخذ بأطراف الأنامل التي ما زالت تَمدُّها إليه وقبَّلها برسمية.

قال: «فعلًا، يا سيدتي، إذن ستعذرينني إن كانت قُدراتي العقلية البليدة لا تستطيع مُرافقتَك إلى هناك.»

همَّ بالمغادرة مرةً أخرى، لكنها نادته مجددًا بصوتها الطفولي العَذْب الذي كاد أن يكون حَنونًا.

«سير بيرسي.»

«خادمك، يا سيدتي.»

قالت بحدَّةٍ مفاجئة غيرِ عقلانية: «هل يمكن أن يموت الحُب؟ كنتُ أظن أن العشق الذي كنت تحمله لي في الماضي سيدوم طوال العمر. ألم يبقَ شيءٌ من ذاك الحب يا بيرسي … شيء قد يساعدك … على جَبْرِ هذه القطيعةِ المحزنة؟»

بدا أن قامته الضخمة ازدادَت تصلُّبًا بينما كانت تتحدث إليه هكذا، وتيبَّس الفمُ القوي، وتسللت نظرةُ عنادٍ مُتعنِّتٍ إلى عينيه الزرقاوين اللتين كانتا ناعستين كالعادة.

سأل ببرود: «معذرة، لأيِّ غرضٍ سيدتي؟»

«لا أفهمك.»

قال بمرارةٍ مفاجئة بدا أنها تندفع حرفيًّا عبر كلماته، مع أنه كان يبذل جهدًا واضحًا لكبحِها: «مع أنَّ الأمر بسيطٌ بما يكفي، أطرحُ عليكِ السؤال بتواضع؛ لأن عقلي البليدَ غيرُ قادرٍ على فهم الغرض من هذا، أعني مزاج سيادتكِ الجديد المفاجئ. هل تقصدين أنكِ تشتهين أن تُعيدي تسليتَكِ الشيطانية التي مارَستِها بنجاحٍ العامَ الماضي؟ هل ترغبين في رؤيتي متيَّمًا مستجْدِيًا عند قدَمَيكِ مرةً أخرى، حتى تستمتعي برَكْلي جانبًا ككلبٍ صغيرٍ مزعجٍ مجددًا؟»

كانت قد نجحَت في استفزازه حاليًّا، ونظرَت إليه مباشرةً مرةً أخرى؛ لأنها تذكَّرَت أنه كان هكذا منذ عامٍ مضى.

همسَت: «بيرسي! أتوسل إليك! ألا يُمكننا دفنُ الماضي؟»

«اعذريني يا سيدتي، لكنني فهمتُ من كلامكِ أنك ترغبين في الخوض فيه.»

قالت، بينما تسلَّلَت نبرةٌ حانيةٌ إلى صوتها: «لا! لم أكن أقصد «ذلك» الماضيَ يا بيرسي! بل كنتُ أقصد الوقت الذي كنت لا تزال تُحبني فيه! وأنا … أوه! كنتُ مغرورةً وطائشة؛ غرَّتْني ثروتك ومكانتك، فتزوَّجتُك آملةً في قرارةِ قلبي أنَّ حُبَّك العظيم لي سيُنبِتُ داخلي حبًّا لك … لكن، وا أسَفاه! …»

كان القمر قد غاص خلف كومةٍ من الغيوم. ومن الشرق بدأ ضوءٌ يزيح عباءةَ الليل الثقيلة. لم يكن بإمكانه الآن أن يرى سوى الحدودِ الخارجية لقامتها الرشيقة، والرأسِ الملَكي الصغير، وتموُّجات شعرها الذهبية المحمرَّة الغزيرة، والجواهر اللامعة التي تُشكِّل الزهرة النجمية الحمراء الصغيرة التي كانت ترتديها إكليلًا في شعرها.

«بعد أربعٍ وعشرين ساعة من زواجنا يا سيدتي، هلَك ماركيز سان قرياقوس وجميعُ عائلته تحت المقصلة، ووصلتْ إليَّ الشَّائعة المنتشرة بأن زوجة السير بيرسي بليكني هي مَن ساعدَت في إرسالهم إليها.»

«لا! أخبرتُك بنفسي بحقيقةِ تلك القصة الشَّائنة.»

«لم تفعلي ذلك إلا بعدما قُصَّت عليَّ بواسطة غرباء، بكل تفاصيلها المروعة.»

قالت بحدةٍ شديدة: «وأنت صدَّقتَهم في التوِّ واللحظة، بلا دليلٍ ولا تحقُّق؛ صدقتَ أنني، أنا التي أخذتَ على نفسك عهدًا بأن تُحبَّها أكثر من حياتك، ومَن اعترفتَ بأنك تعشقها، يُمكن أن أفعل شيئًا حقيرًا جدًّا كالذي حكاه أولئك «الغرباء». ظننتَ أنني تعمَّدتُ خِداعَك بشأن المسألة كلِّها؛ صحيحٌ أنني كان يجب أن أفصح عن الأمر قبل أن أتزوَّجَك، ولكن، لو أنك أصغيتَ إليَّ، كنتُ سأخبرك بأنني حتى ذاك الصباح الذي أُخذ فيه سان قرياقوس إلى المقصلة، كنتُ أبذل كلَّ ما بوُسعي مستخدِمةً كلَّ نفوذٍ لديَّ لإنقاذه هو وعائلته. لكن كبريائي أجبرتني على أن أطبق شَفَتي، عندما بدا أنَّ حبك قد مات، وكأنه هَلَك تحت سكِّين تلك المقصلة ذاتها. ومع ذلك كنتُ سأخبرك كيف خُدِعت! أجل! أنا التي منَحَتْني تلك الشَّائعاتُ المنتشرةُ نفسُها لقبَ أذكى عقولِ فرنسا! استُدرِجْتُ إلى فعل ذلك بحيلةٍ خادعة، من رجالٍ عرَفوا كيف يتلاعبون بي مُستغلِّين مَحبَّتي لأخي الوحيد ورغبتي في الانتقام. هل كان هذا غيرَ طبيعي؟»

صار صوتها مختنقًا بالدموع. سكتَت لحظةً أو اثنتين، محاوِلةً استعادةَ شيءٍ من رِباطة الجأش. نظرَت إليه باستعطافٍ وكأنه قاضٍ سيُقرِّر مَصيرها. كان قد تركها تتحدَّث بطريقتها المحتدَّة الجيَّاشة دون أن يُعلق، ولو بكلمةِ تعاطف، والآن بعدما سكتَت محِاولةً كبح الدموع السَّاخنة التي تدفَّقَت من عينيها، انتظر، جامدًا وساكنًا. بدا أن الضوء الرماديَّ الخافت للفجر الباكر جعله أطولَ وأشدَّ جمودًا. بدا الوجه الكسول الودود متغيرًا بشكلٍ غريب. استطاعت مارجريت، مع أنها كانت منفعلةً، أن ترى أنَّ العينَين لم تعودا مسترخيتَين فاترتين، وأن الفم لم يَعُد مبتهجًا وأبلَه. وبدا أن نظرةً غريبةً مفعمة بالعاطفة الشديدة تشعُّ من أسفل جَفنَيه المتثاقلين المتدلِّيَين، فيما كان الفمُ مغلقًا بإحكام والشفتان مضغوطتين كما لو أن قوة الإرادة وحدها هي من تكبح تلك العاطفة الجيَّاشة.

كانت مارجريت بليكني، قبل كل شيء، امرأة، امرأةً بكل نواقص النساء الجذَّابة، وكل خَطاياهن المحبَّبة. أدركَت فورًا أنها كانت مُخطئةً طَوال الأشهر القليلة الماضية، وأنَّ الرجل الذي كان واقفًا أمامها، باردًا كالتمثال، أحَبَّها عندما وقع صوتُها المنغَّمُ في أذنه بقدرِ ما كان يُحبها قبل عام، وأنَّ عاطفته ربما تكون في سُبات، لكنها موجودة، قويةٌ وعارمة وطاغية، بقدرِ ما كانت في المرة الأولى التي التقَت شَفتاها بشفتَيه في قُبلةٍ واحدة طويلة جنونية.

كانت الكبرياءُ قد صدَّته عنها، وكدأبِ النساء، كانت تنوي استعادة ذلك الحُبِّ الذي كان لها من قبل. وفجأةً بدا لها أن السعادة الوحيدة التي يُمكن أن تحملَها لها الحياةُ مرةً أخرى ستكون في الشعور بقُبلة هذا الرجل مرةً أخرى على شفتَيها.

قالت بصوتها الذي صار الآن خافتًا عذبًا حانيًا بلا حدود: «استمِع إلى القصة يا سير بيرسي. أرماند كان كلَّ شيءٍ لي! لم يكن لنا والدان، وربَّى كلٌّ منَّا الآخَر. كان هو أبي الصغير، وكنتُ أنا أمَّه الصغيرة، أحبَّ كلٌّ منا الآخَر كثيرًا. ثم في يومٍ ما؛ هل تسمح لي يا سير بيرسي؟ أمَر ماركيز سان قرياقوس بجلدِ أخي، جلَدَه رجالُه؛ ذاك الأخ الذي كان أحبَّ عندي من الدنيا كلِّها! وما هي تُهمته؟ أنه تجرَّأ، وهو من عامة الشعب، على أن يُحبَّ ابنة ذاك الأرستقراطي؛ لهذا نُصِب له فخٌّ وهوجِم بغتةً وجُلِد … جُلِد ككلبٍ حتى كان بينه وبين الموت شبرٌ واحد! أوه، كم عانَيت! الإهانة التي تلقَّاها كانت تأكلُ روحي نفسَها! وعندما حانت الفرصةُ وكنت قادرةً على الانتقام، انتهَزتُها. لكنني كنتُ أفكر في تكبيد الماركيز الفَخورِ بعضَ المضايقة والإهانة ليس إلَّا. كان يتآمرُ مع النمسا ضدَّ بلاده. عرَفتُ المعلومة بمحض الصدفة، وأفصحت عنها، لكنني لم أكن أعلم … كيف كان لي أن أُخمِّن؟ … لقد نصَبوا لي فَخًّا وخدَعوني. وعندما أدركتُ ما فعلته، كان السيف قد سبق العذل.»

قال السير بيرسي بعد لحظةٍ من الصمت بينهما: «ربما من الصعب قليلًا أن تسترجعي أحداثَ الماضي يا سيدتي. صحيحٌ أنني أقررتُ لك بأن ذاكرتي سريعةُ النسيان، لكن تلك الذكرى بقيَت في ذهني بالتأكيد، ففي وقتِ موت الماركيز، طلبتُ منك شرحًا لتلك الشَّائعات الكريهة المنتشِرة. وإذا كانت تلك الذَّاكرة نفسها لا تخونني حتى الآن، فإني أتصوَّر أنكِ رفَضتِ تقديمَ «أيِّ» تفسيرٍ لي حينها، وطلبتِ من حُبِّي ولاءً مُهينًا لم أكن مُستعدًّا لتقديمه.»

«أردتُ أن أمتحنَ حُبَّك لي، ولم ينجح في الامتحان. كنتَ تقول لي دومًا إنك لم تكن تتنفَّسُ أنفاس الحياة إلا لأجلي ولأجل حُبِّي.»

قال بينما بدأ جمودُه يختفي تدريجيًّا، وبدأتْ صَلابتُه تلين: «ولتمتَحِني ذاك الحب، طلبتِ أن أُفرِّط في شرفي، أن أقبَل بلا تذمُّرٍ ولا سؤال، مثل عبدٍ أحمقَ ذليل، كلَّ فعلٍ يصدر من سيدتي. ولأنَّ قلبي كان يَفيض بالحب والعشق، لم أطلب منك تفسيرًا؛ بل كنتُ أنتظر أن تُقدِّميه من تلقاء نفسكِ، ولم أشك؛ بل كنتُ أرجو فقط. لو أنكِ قلتِ ولو كلمةً واحدة فقط، كنت سأقبل أيَّ تفسيرٍ منكِ وأُصدِّقُه. لكنكِ ترَكتِني بلا أي كلمة سوى اعترافٍ سافرٍ بالتفاصيل البشعة الفعلية، وعُدتِ بكبرياء وفخر إلى منزل أخيكِ، وتركتِني وحدي … أسابيع … ولم أكن أعرفُ مَن أصدِّق آنذاك؛ لأن الضريح المقدَّس، الذي كان يحوي وهمي الأوحد، كان حُطامًا مفتتًا على الأرض عند قدمي.»

لم تكن بحاجةٍ الآن إلى التذمُّر بشأن بروده وسلبيَّته؛ فصوتُه نفسه كان يرتجف بعاطفةٍ قوية، مع أنه كان يبذل جهودًا خارقةً لكبحِها.

قالت بحزن: «أجل! جُنون كبريائي! حالما ذهبتُ إلى هناك، ندمتُ بالفعل. ولكن عندما عدت، أوه، وجدتُك متغيرًا جدًّا! ترتدي ذاك القناعَ النَّاعس غيرَ المبالي بالفعل ولم تُنحِّه جانبًا قطُّ حتى … حتى الآن.»

كانت قريبةً منه جدًّا لدرجة أن شعرها النَّاعم الطليق كان يتطايرُ ملامسًا خدَّه؛ وأصابتْه عيناها، اللتان كانتا تلمعان بالدموع، بالجنون، وأشعلتْ أنغامُ صوتها النيرانَ في شرايينِه. لكنه قرَّر ألَّا يُذعن للسحر الفاتن لهذه المرأة التي عَشِقها بشدَّة، والتي عانت كبرياؤه مرارةً شديدة على يدَيها. أغلق عينَيه ليحجبَ عنهما المنظرَ البهيَّ لهذا الوجه العذب، لهذا العُنقِ الأبيض كالثلج والقوام الرشيق، الذي كان الضوء الزهريُّ الخافت للفجر قد بدأ يحوم حوله ويلاعبه.

قال ببرودٍ شديد: «لا يا سيدتي، ليس قناعًا؛ أقسمتُ لك … مرةً، أن حياتي كانت مِلكَكِ. طوالَ الأشهر الماضية كانت ألعوبةً في يدَيكِ … لقد أدَّت غرضها.»

لكنها الآن كانت تعرف أنَّ هذا البرود الشديد مجردُ قناع. وفجأة، عاودَها التفكيرُ في الهَمِّ والحزن اللذَين مرَّت بهما الليلةَ الماضية، لكن من دون الإحساس بالمرارة هذه المرةَ، بل بشعورٍ بأن هذا الرجل الذي أحَبَّها سيُساعدها في تحمُّل العبء.

قالت باندفاع: «سير بيرسي، الربُّ يعلم أنك حاولتَ جاهدًا أن تجعل المهمة التي كلَّفتُ بها نفسي صعبةً للغاية. تحدَّثتَ للتو عن مزاجي، حسنًا! سنُسميه هكذا إن أردت. كنتُ أريد التحدُّث معك … لأن … لأنني كنتُ في مشكلة … وكنت بحاجةٍ … إلى تعاطُفِك.»

«أنا في أمرك سيدتي.»

تنهَّدَت قائلة: «يا لبرودك! ربَّاه! لا أصدق أنَّك أنت الشخصُ الذي، قبل بضعة أشهرٍ فقط، كانت دمعةٌ واحدة من عيني، كانت تجعلك شبهَ مجنون. الآن آتي إليك … بقلبٍ شبهِ منفطر … و… و…»

قال بينما كان صوته يرتجفُ بقدر ارتجاف صوتها: «أرجوكِ سيدتي، كيف يمكنني مساعدتُكِ؟»

«بيرسي! أرماند في خطرٍ قاتل. لقد وقعَت إحدى رسائله … رسالة طائشة ومندفعة ككلِّ أفعاله، ومُرسَلة إلى السير أندرو فولكس، في يد شخصٍ متعصِّب. لقد فُضِح أمر أرماند بلا رَجعة … غدًا، ربما يعتقلونه … وبعد ذلك المقصلة … إلا إذا … إلَّا إذا …» ثم أضافت بنحيبٍ مُعذَّبٍ مفاجئ وهي تستعيد أحداث الليلة الماضية في عقلها بسرعة: «أوه! هذا فظيع! فظيع! … وأنت لا تفهم … لا يمكنك … وأنا ليس لديَّ أحدٌ ألجأ إليه … للمساعدة … أو حتى للتعاطف. …»

كانت دموعُها الآن تأبى أن تُكبَح. اجتاحها كلُّ ضيقها ومعاناتها، وقلقها الرهيب بشأن مصير أرماند. ترنَّحَت وكادت تسقط، فاستندَت إلى الدرابزين الحجري، ثم دفَنَت وجهها بين كفَّيها وبكت بمرارة.

حالما ذكَرَت اسم أرماند سان جوست والخطر المحدِق به، كان لونُ وجه السير بيرسي قد صار أشدَّ شحوبًا، وبَدَت نظرةُ الإصرار والعزم أشدَّ بروزًا من أي وقتٍ مضى في عينَيه. لكنه لم يقُلْ شيئًا في الوقت الرَّاهن، بل راقبَها بينما كان جسدها الجميل يهتزُّ بالنشيج، راقبها حتى لانت قَسَماتُ وجهه بلا وعيٍ منه، وبدا أنَّ عينَيه تلمعان كما لو كانتا على وشك أن تدمعا.

قال بسخريةٍ مريرة: «وهكذا فكلبُ الثورة القاتل انقلَب على نفس الأيدي التي أطعمَتْه؟ …» وأضاف بلطفٍ بالغ بينما استمرَّت مارجريت بالبكاء الهستيري: «يا إلهي، سيدتي، هلا جفَّفتِ دموعَك؟ … لا يمكنني أبدًا أن أتحمل رؤيةَ امرأةٍ جميلةٍ تبكي، وأنا …»

مدَّ ذراعيه غريزيًّا وبعاطفةٍ مسيطرة مفاجئة، عندما رأى انعدامَ حيلتها وحزنَها، ثم كان سيأخذها ويحتضنها، كان سيحميها من كلِّ شرٍّ بروحِه نفسِها، بدماء قلبه نفسها … لكن الكبرياء انتصَرت في هذا الصراع مجددًا، تمالَك نفسَه بجهدٍ هائل من إرادته، وقال بنبرةٍ باردة، مع أنها كانت لا تزال مهذبةً جدًّا:

«ألن تَستعيني بي يا سيدتي، وتُخبريني كيف أنالُ شرف خدمتكِ؟»

بذلَت مجهودًا عنيفًا لتتمالك نفسها، ثم أدارت وجهها الملطَّخ بالدموع نحوه، ومدَّت أناملها إليه مرةً أخرى وقبَّلَها بنفس المُلاطفة الدقيقة، لكن أصابع مارجريت بقيت في يده هذه المرةَ ثانيةً أو اثنتين أطولَ ممَّا كان لازمًا بكلِّ تأكيد، وهذا لأنها شعرت بأنَّ يدَه ترتعش ارتعاشًا محسوسًا وتحترقُ بحرارة، بينما كانت شفتاه باردتَين كالرخام.

قالت بعذوبةٍ وبساطة: «هل يمكنك فعلُ أيِّ شيءٍ لأجل أرماند؟ لك نفوذٌ كبير في القصر الملكي … والكثير من الأصدقاء …»

«لا سيدتي، ألا ينبغي أن تستعيني بدلًا من ذلك بنفوذِ صديقك الفرنسي، السيد شوفلان؟ فعلاقاته، إن لم أكن مخطئًا، تصلُ إلى حدِّ الحكومة الفرنسية الجمهورية.»

«لا يمكنُني أن أطلب منه ذلك يا بيرسي … أوه! ليتني كنتُ أجرؤ على إخبارك … لكن … لكن … لكنه وضع ثمنًا لرأس أخي، وهذا الثمن هو …»

كانت مستعدةً للتخلي عن كل ما تملك مقابل أن تتحلَّى بالشجاعة حينها لإخباره بكل شيء … كل ما فعلته في تلك الليلة … كيف عانت وكيف أُجبِرَت وأُمسك بها من الذراع التي تؤلمُها. لكنها لم تجرؤ على الاستسلام لذلك الدَّافع … ليس الآن، ليس في الوقت الذي بدأتْ تشعر فيه للتوِّ بأنه ما زال يُحبها، في الوقت الذي عاودها فيه الأملُ في أنها تستطيع الظفَر بحبِّه مجددًا. لم تجرؤ على الاعتراف بشيءٍ آخَر له. ففي النهاية، ربما لن يفهم، ربما لن يتعاطف مع معاناتها وما تعرضت له من إغراءات. فحبُّه لها الذي لا يزال في سُباتٍ، قد يرقد رقاد الموت.

لعله تكهَّن بما كان يجول في خاطرها. فحالتُه كلها كانت تشير إلى توقٍ شديد، تضرُّعٍ حقيقي لِنَيلِ هذه الثقة التي حجَبتها عنه كبرياؤها الغبية. وعندما بقيَت صامتةً تنهَّد، وقال ببرودٍ واضح:

«ربَّاه يا سيدتي، بما أن الأمر يُضايقك، فلن نتحدثَ عنه. أمَّا بخصوص أرماند، فأرجو ألَّا تخافي. أعدُكِ بأنه سيكون بخير. الآن، هل تأذنين لي بالذهاب؟ الوقت بدأ يتأخَّر و…»

اقتربت منه أكثرَ، وهي تتكلم برقةٍ حقيقية، قائلةً: «هل ستقبل امتناني على الأقل؟»

هَمَّ سريعًا وباندفاعٍ شبهِ تلقائيٍّ بأن يأخذها بين ذراعَيه؛ لأن عينيها كانتا تَسبَحان في بحر من الدموع، فكان متشوقًا لتقبيلها لإيقاف بكائها؛ لكنها كانت قد أغْرَته مرةً من قبل، هكذا بالضبط، ثم نحَّتْه جانبًا ووضعَته على الرفِّ كقفَّازٍ غيرِ مناسب. ظنَّ أنَّ هذه حالةٌ مزاجية مؤقَّتة، نزوة، وكان أشدَّ كبرياء من أن يُسلم نفسه مرةً أخرى.

قال بهدوء: «ما زال هذا باكرًا يا سيدتي! لم أفعل شيئًا بعد. السَّاعة متأخرةٌ ولا بد أنك مرهَقة. ستكون وصيفاتُكِ بانتظاركِ في الأعلى.»

تنحَّى جانبًا ليسمح لها بالمرور. أطلقَت تنهيدةً خائبةً سريعة. كان كبرياؤه وجمالها في صراعٍ مباشر، وظلَّت كبرياؤه منتصرةً. ربما تكون مخدوعةً الآن رغم كل شيء؛ إذ ربما يكون ما حسبَته وهجَ الحب في عينيه مجردَ اتقادٍ للكبرياء أو، مَن يعلم، ربما يكون كرهًا وليس حُبًّا. وقفَت تنظر لحظةً أو اثنتين. بدا مجددًا أنه كان جامدًا وفاترَ المشاعر كالسَّابق. لقد انتصَرت كبرياؤه، ولم يُبدِ أيَّ اهتمام بها. كان ضوء الفجر الرمادي يُذعن تدريجيًّا لضوء الشمس المشرقة الوردي. بدأت الطيورُ تُغرد، واستيقظت الطبيعة مبتسمةً بسعادةٍ لدفءِ هذا الصباح الرائع في أكتوبر. لم يكن يوجد بين هذين الفؤادَين سوى حاجزٍ قويٍّ منيع، مُشيَّدٍ من الكبرياء على كلتا النَّاحيتَين، ولم يكن أيٌّ منهما يريد أن يكون أولَ من يهدمه.

أحنى قامتَه الطويلة انحناءةً رسميةً طويلة منخفضة، بينما بدأت أخيرًا تصعد درجات الشرفة بتنهيدةٍ صغيرة مريرة أخرى.

كان ذيلُ ثوبها الطويل المطرَّز بالذهب يكنس الأوراق الميتة عن الدرجات، مُصدِرًا حفيفًا خافتًا متناغمًا، وهي تصعد بانسيابية، مسنِدةً إحدى يدَيها إلى الدرابزين الحجري، فيما كان ضوء الفجر الورديُّ يُشَكِّل هالةً ذهبية حول شعرها، ويجعل الياقوتَ الذي يُزين رأسها ومعصمَيها يتلألأ. وصلت إلى الباب الزجاجي الطويل المؤدي إلى داخل المنزل. وقبل أن تدخل، توقفَت مرةً أخرى لتنظر إليه، على أمل أن ترى ذراعَيه ممدودتَين إليها، وتسمع صوته يُناديها لتعود. لكنه لم يتحرَّك؛ بدَت قامتُه الطويلة الضخمة تجسيدًا تامًّا لكبرياء لا تلين وعنادٍ شرس.

تدفَّقَت دموعٌ ساخنةٌ إلى عينيها مجددًا، ولأنها لم تكن تريد أن تدَعَه يراها، استدارت سريعًا للدَّاخل، وركضت بأسرع ما يمكنها إلى غرفها.

ولو أنها عادت بعدئذٍ، ونظرَت مجددًا إلى الحديقة المضاءة باللون الوردي، كانت سترى ما كان سيجعل معاناتها الثقيلة تبدو خفيفةً وسهلة التحمُّل؛ إذ كانت سترى رجلًا قويًّا غلبته عاطفته ويأسه. كانت الكبرياء قد تراجعَت أخيرًا، وذهب العناد، وصارت الإرادة بلا قوة. لم يكن سوى رجلٍ واقعٍ في الحبِّ بجنون، بشوقٍ أعمى، بوَجْد. وحالما تلاشى صوتُ خطواتها الخفيفة داخل المنزل، جثا على ركبتيه منحنيًا على درجات الشُّرفة، وفي غمرة جنون حبه، قبَّل المواضعَ التي داستها قدَماها الصغيرتان على الدرَجات موضعًا موضعًا، وقبَّل الدرابزين الحجريَّ عند آخِر موضعٍ كانت يدُها الصغيرة مُستنِدةً إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤