الفصل التاسع عشر

سكارليت بيمبرنيل

لم تستطع مارجريت نفسُها لاحقًا أن تُحدد اللحظة التي تسلَّل فيها الشكُّ الغريب إلى عقلها. ركَضَت خارجةً من الغرفة وهي تقبض على الخاتَم بقوةٍ في يدها ونزلَت الدَّرَج ومنه إلى الحديقة في الخارج، حيث استطاعت، في خلوة تامة، وحيدةً مع الزهور والنهر والطيور، أن تنظر إلى الخاتَم مجددًا وتتفحص الشعار عن قرب.

كانت جالسةً الآن تحت ظلِّ شجرة جميز متدليةٍ وهي تنظر ببلاهةٍ وبلادة إلى الرأس الذهبي المسطَّح المنقوش عليه شكل الزهرة النجمية.

عجبًا! كان هذا سخيفًا! كانت تحلم! كانت أعصابها مجهَدةً ورأت علاماتٍ وأسرارًا في أبسط الصُّدف. ألم يكن جميعُ مَن في البلدة يتعمَّدون مؤخرًا تقليدَ شعار سكارليت بيمبرنيل البطولي الغامض؟

ألم ترتدِه هي نفسُها مُطرَّزًا على ثوبها؟ ووضَعَته في شعرها ممثَّلًا بمجوهراتٍ وحُليٍّ زجاجية لامعة؟ فما وجه الغرابة في أن يكون السير بيرسي قد اختار استخدام الشعار كخاتم ختم؟ من الممكن أن يكون ببساطة قد فعل ذلك … أجل … بكل بساطة … و… فوق ذلك … أيُّ صلةٍ يمكن أن تكون بين زوجها المتغندر المتأنِّق، بثيابه الغالية وسلوكه الكَسول المهذَّب، وذاك المخطِّط الجريء الذي أنقذ ضحايا فرنسيين على مرأًى من قادة الثورة المتعطشة للدماء؟

كانت أفكارها تموج كدوَّامة، وكان عقلها فارغًا … لم تكن تفهم أيَّ شيءٍ يحصل من حولها، وانتفضَت مفزوعةً تمامًا عندما ناداها صوتٌ شابٌّ عذبٌ عبر الحديقة.

«عزيزتي! عزيزتي! أين أنتِ؟» وجاءت سوزان الصغيرة راكضةً عبر البستان، نضرةً كبرعم زهرة، بعينين تتراقصان سرورًا، وشعرٍ بتموُّجات بُنيةٍ تُرفرف مع نسيم الصباح العليل.

مَضَت تُثرثر ببهجة: «أخبَروني بأنكِ في الحديقة»، ثم رمت بنفسها باندفاعٍ بناتي مُبهج إلى ذراعَي مارجريت، مُضيفةً: «لذا ركضتُ لأفاجئَكِ. لم تتوقَّعي وصولي بهذه السرعة، أليس كذلك يا عزيزتي الصغيرة مارجو؟»

أخفت مارجريت الخاتمَ في ثنايا منديلها، وحاولت أن تتجاوب بمرحٍ وخلو بالٍ مع اندفاع الفتاة الصغيرة.

قالت بابتسامة: «بالتأكيد يا حلوتي، مبهِج أن تكوني لي وحدي، وليومٍ كاملٍ طويلٍ جميل … ألن تشعري بالملل؟»

«أوه! الملل! مارجو، كيف يُمكنك أن تقولي شيئًا سخيفًا كهذا. عجبًا! عندما كنا في الدير القديم العزيز معًا، دائمًا ما كنا نشعر بالسعادة عندما كان يُسمَح لنا بالبقاء معًا.»

«وتبادل الأسرار.»

تأبَّطت كِلتا الفتاتين ذراعَ الأخرى وبدأتا تتجولان في الحديقة.

قالت سوزان الصغيرة بحماس: «أوه! كم هو جميلٌ منزلكِ يا حبيبتي مارجو، وكم أنكِ سعيدةٌ بالتأكيد!»

قالت مارجريت بتنهيدةٍ ممزوجة بالحُزن والحنين: «أجل، بالتأكيد! من المفترض أن أكون سعيدة، أليس كذلك يا حلوتي؟»

«تقولين هذا بحزنٍ شديد يا عزيزتي. آه، حسنًا، أفترض أنه بعدما أصبحتِ امرأةً متزوجةً لن تعودي مهتمةً بتبادُل الأسرار معي. أوه! كم كان لدينا الكثيرُ والكثيرُ من الأسرار في المدرسة! هل تتذكَّرين؟ حتى إننا أخفينا بعضَها عن الأخت تيريزا من أكاديمية «هولي إنجلز»؛ مع أنها كانت لطيفةً جدًّا.»

قالت مارجريت بمرح: «والآن لديكِ سِرٌّ مهم جدًّا، هه أيتها الصغيرة؟ وستعترفين به لي حالًا.» وأضافت عندما رأت أن وجهَ سوزان الجميل الصغيرَ احمرَّ من الخجل: «لا، لا داعي إلى الاحمرار خجلًا يا عزيزتي. ربَّاه، لا يوجد ما تخجَلين منه! إنه رجلٌ حقيقي نبيل، وجديرٌ بأن تفخَري به حبيبًا و… زوجًا.»

ردَّت سوزان بنبرةٍ خافتة: «بالتأكيد يا عزيزتي لستُ خجلة، وأشعر بفخرٍ شديد جدًّا جدًّا لأنك تمدَحينه.» وأضافت مُفكِّرةً: «أظن أن أمي ستُوافق، وسأكون — أوه! — سعيدةً جدًّا، لكني بالطبع لن أفكر في شيءٍ حتى يُصبح والدي سالمًا …»

اقشعرَّت مارجريت. والد سوزان! كونت تورناي! أحد أولئك الذين ستُصبح حياتهم في خطرٍ إن نجح شوفلان في كشفِ هُوية سكارليت بيمبرنيل.

كانت قد فهمت طَوال الوقت، من كلام الكونتيسة وكذلك من واحدٍ أو اثنين من أعضاء العصبة، أن قائدهم الغامضَ قد تعهَّد بشرفه بإحضار كونت تورناي الطريد سالمًا من فرنسا. وبينما واصلَت الصغيرة سوزان — التي لم تكن واعيةً بأيِّ شيء، سوى سرِّها الصغير المهم للغاية — ثرثرتَها، عادت أفكارُ مارجريت إلى أحداث الليلة الماضية.

الخطر المحدق بأرماند، تهديدات شوفلان، خياره القاسي الذي قبِلَته بعد تخييرها بين أمرَين أحلاهما مُر.

وبعد ذلك دورها هي في المسألة، الذي كان يفترض أن يُتوَّج في السَّاعة الواحدة صباحًا في غرفة عشاء اللورد جرينفل عندما كان موفَدُ الحكومة الفرنسية الوحشي سيتمكَّن أخيرًا من معرفة هُوية سكارليت بيمبرنيل، الذي تحدَّى جيشًا من الجواسيس علانيةً وانضمَّ بجُرأةٍ شديدة، وبدافع التسلية ليس إلَّا، إلى صفِّ أعداء فرنسا.

منذ ذلك الوقت لم تكن قد سمعت شيئًا من شوفلان. واستنتجَت أنه فشل، ومع ذلك لم تكن تشعر بالقلق على أرماند؛ لأن زوجها وعَدها بأنه سيكون سالمًا.

لكن الآن، وبينما كانت سوزان تُثرثر بمرح، هبط عليها رعبٌ فظيع فجأةً بشأن ما فعَلَته. صحيحٌ أنَّ شوفلان لم يُخبرها بأي شيء، لكنها تذكَّرَت كم كان ساخرًا وشريرًا عندما ودَّعَته بعد الحفل. هل كان قد اكتشف شيئًا حينَها؟ هل كان واضعًا خُططَه بالفعل للإمساك بذاك المخطِّط الجريء متلبسًا بالجُرم المشهود في فرنسا، وإرساله إلى المقصلة بلا ترددٍ ولا تأخير؟

شعرَت مارجريت بغثيان من شدة الرعب، وقبضَت يدها بتشنُّج على الخاتم في فستانها.

توقفت سوزان عن سرد حكايتها الطويلة الشائقة، وقالت لها مؤنِّبة إيَّاها: «أنتِ لا تُصغين إليَّ يا عزيزتي.»

قالت مارجريت بجُهدٍ وهي تجبر نفسها على الابتسام: «لا، لا يا عزيزتي؛ أُصغي إليك بالتأكيد. أحبُّ سَماعك تتحدَّثين … وسعادتكِ تجعلني مسرورةً جدًّا. لا تخافي إطلاقًا، سنجد طريقةً لإقناع أمِّكِ. السير أندرو فولكس إنجليزيٌّ نبيل؛ لديه المال والجاه، لن ترفض الكونتيسة منْحَ موافقتها. لكن … الآن يا صغيرتي … أخبريني … ما آخِر أخبار والدكِ؟»

قالت سوزان بسعادةٍ شديدة: «أوه! أفضل ما يمكن أن نسمعه. جاء اللورد هاستينجز لزيارة أمي باكرًا صباح اليوم. قال إنَّ كل شئون أبي العزيز تسير على ما يُرام، ويمكننا أن نتوقع بثقةٍ وصولَه إلى إنجلترا في أقلَّ من أربعة أيَّام».

قالت مارجريت: «أجل»، بينما كانت مُحدِّقة بكلِّ اهتمام إلى شفتَي سوزان التي أضافت قائلةً ببهجة:

«أوه! ليس لدينا أيُّ قلق الآن! أنت لا تعلمين، يا عزيزتي، أن سكارليت بيمبرنيل العظيمَ النبيل ذاك قد ذهب بنفسه ليُنقذ أبي.» وأضافت سوزان متحمسة: «لقد ذهب يا عزيزتي … ذهب بالفعل. كان في لندن صباح اليوم، وسيكون في كاليه ربما بحلول الغد … حيث سيلتقي بأبي … وحينها … وحينها …»

وقعَت الصدمة. كانت تتوقَّع ذلك طَوال الوقت، مع أنها حاولت طوال نصفِ الساعة الأخيرِ أن توهِم نفسها وتُضلل مخاوفَها. لقد ذهب إلى كاليه، وكان في لندن صباح اليوم … هو … سكارليت بيمبرنيل … بيرسي بليكني … زوجها … الذي وشَتْ به إلى شوفلان الليلة الماضية.

بيرسي … بيرسي … زوجها … هو سكارليت بيمبرنيل. أوه! كيف كانت عمياءَ إلى هذا الحد؟ فهمَت كلَّ شيءٍ الآن؛ كل شيءٍ دفعةً واحدة … ذاك الدَّور المصطنَع الذي كان يُمثِّله، القناع الذي كان يرتديه … ليخدع الجميع.

وكلُّ هذا من أجل التسلية والمشاغبة فقط! إنقاذ الرجال والنساء والأطفال من الموت، مثلَما يَفتِكُ رجالٌ آخَرون بالحيوانات ويقتلونها من أجل الإثارة وحبًّا في الفعل نفسِه ليس أكثر. لقد أراد الرجل العاطلُ الغنيُّ هدفًا لحياته؛ فتسلَّى، هو والمغامرون الشبابُ الذين انضمُّوا إليه تحت رايته، أشهُرًا، بالمخاطرة بحياتهم من أجل قلةٍ بريئة.

ربما كان ينوي أن يُخبرها في بداية زواجهما، ثم وصلت قصةُ ماركيز سان قرياقوس إلى مسامعه، فأعرضَ عنها فجأةً مُعتقدًا، بلا شك، أنها قد تخونه يومًا ما هو ورفاقه الذين أقسَموا على اتباعه؛ ولذا خدَعَها، كما خدع الجميع، بينما يَدين المئاتُ بحياتهم له الآن، وتَدين له عائلاتٌ كثيرة بالحياة والسعادة.

كان قناعُ المتأنِّق التَّافه جيدًا، وقد أتقن تمثيلَ الدور. لا عجب أن جواسيس شوفلان فَشِلوا في اكتشاف أنَّ ذاك الشخص الذي يبدو مغفلًا أبلهَ هو نفسه الرجل الذي حيَّر أذكى الجواسيس الفرنسيين، سواءٌ في فرنسا أو إنجلترا، بجُرأته المتهورة وبراعته الواسعة الحيلة. حتى في الليلة الماضية، عندما ذهب شوفلان إلى غرفة عشاء اللورد جرينفل للبحث عن سكارليت بيمبرنيل الجريء ذاك، لم يرَ سوى السير بيرسي بليكني الأبلَه التافه ذاك نائمًا بعُمق في ركن الأريكة.

هل استطاع عقلُه الداهية الفَطِن أن يُخمن السرَّ عندئذٍ؟ هنا يكمن كلُّ اللغز المُحيِّر الفظيع المروِّع. هل أرسلتْ مارجريت بليكني زوجَها إلى حتفه، عندما وَشَت بغريبٍ مجهولِ الاسم إلى مصيره لتُنقذ حياةَ أخيها؟

لا! لا! لا! وألف لا! بالتأكيد لا يُمكن أن يُوجِّه القدَر ضربةً كهذه؛ الطبيعة نفسُها ستتمرَّد، بالتأكيد كانت يدُها ستُشَلَّ عندما كانت ممسكةً بتلك القصاصة الورقية الصغيرة قبل ارتكابِ عملٍ مريعٍ وفظيعٍ جدًّا كهذا.

قالت سوزان، التي صارت تشعر بفزعٍ حقيقي؛ لأن لون مارجريت أصبح باهتًا وشاحبًا: «لكن ما هذا يا عزيزتي؟ هل أنتِ مريضةٌ يا مارجريت؟ ما الخطب؟»

تمتمَت كما لو كانت في حلم: «لا شيء، لا شيء يا طفلتي. انتظري لحظة … دعيني أفكِّر … أفكر! … قلتِ إنَّ سكارليت بيمبرنيل قد ذهب اليوم …؟»

«مارجريت، عزيزتي ما الخطب؟ أنت تُخيفينني. …»

«قلتُ لك يا صغيرتي لا شيء … لا شيء. لا بد أن أبقى وحدي دقيقة، و… يا عزيزتي … قد أُضطرُّ إلى تقليصِ وقتنا معًا اليومَ. ربما أُضطر إلى الذهاب … هل ستتفهَّمين؟»

«أفهم أن شيئًا ما قد حدث يا عزيزتي، وأنك تُريدين البقاءَ وحدكِ. لن أعيقكِ، لا تَشغَلي بالكِ بي. فخادمتي لوسيل لم تذهب بعد … سنعود معًا … لا تشغلي بالكِ بي.»

طَوَّقَت مارجريت بذراعيها باندفاعٍ. فمع أنها كانت صغيرة، شعرَت بحُزنِ صديقتها المؤلم، وباللباقة اللامتناهية لحنانها البناتي، لم تُحاول أن تتطفَّلَ على الموضوع، بل كانت مستعدَّةً للانسحاب من تِلْقاء نفسِها.

قبَّلَت مارجريت مِرارًا، ثم مشَت حزينةً عائدةً عَبر المَرجة. لم تتحرَّك مارجريت، بقيَت هناك تُفكِّر … متسائلةً عمَّا ينبغي فعلُه.

وحالما كانت سوزان الصغيرة على وشك صعود درَجات الشُّرفة، وصل راكضًا سائسٌ من عند ناصية المنزل نحو سيدتِه. كان يحمل في يده رسالةً مختومةً بالشمع. استدارَت سوزان غريزيًا؛ إذ أخبرها قلبُها بأن الرسالة تحوي أخبارًا سيئة أخرى لصديقتها، شعرت بأن مارجو المسكينة لم تكن في حالةٍ تسمح لها بتحمُّل المزيد.

وقف السَّائس باحترامٍ بجانب سيدته، ثم سلمَها الرسالة المغلقة.

سألت مارجريت: «ما هذه؟»

«أوصلها ساعٍ للتو يا سيدتي.»

أخذت مارجريت الرسالةَ بتلقائيةٍ آليَّة، وقلَّبَتها بين أصابعها المرتجفة.

قالت: «مَن أرسلها؟»

أجاب السَّائس: «قال السَّاعي يا سيدتي إنَّ الأوامر التي تلقَّاها كانت تقضي بإيصال هذه، وإنَّ سيادتكِ ستفهمين ممَّن جاءت.»

مزَّقَت مارجريت الظرفَ فاتحةً إيَّاه. كان حَدسُها قد أخبرها بالفعل بمحتوى الرسالة، ولم تُلقِ عليها سوى نظرةٍ خاطفة بطريقة آلية.

كانت تلك رسالةً من أرماند سان جوست إلى السير أندرو فولكس؛ الرسالة التي سرَقها جواسيسُ شوفلان في «استراحة صيَّاد السمك» والتي كان شوفلان يُهدِّدها بها؛ لإجبارها على طاعته.

الآن كان قد أوفى بوعدِه؛ أعاد إليها الرسالةَ التي تَفضح سانت جوست … لأنه أصبح يسير في درب سكارليت بيمبرنيل.

تهاوَت حواسُّ مارجريت، شعرت بأن روحها تُغادر جسدها؛ ترنَّحَت وكانت ستسقط لولا ذراعُ سوزان التي أحاطت بخصرها. وبمجهودٍ جبَّار، تمالكَت نفسها مرة؛ فما زال يوجد الكثير الذي يتعيَّن فعله.

قالت للخادم بهدوءٍ شديد: «أحضِرْ ذاك السَّاعيَ إليَّ، لم يُغادر بعد؟»

«نعم، سيدتي.»

ذهب السَّائس والتفتَت مارجريت إلى سوزان.

«وأنتِ يا صغيرتي، اركُضي إلى الدَّاخل. أخبري لوسيل بأن تستعد. فأنا مع الأسف مضطرةٌ إلى إعادتكِ إلى البيت يا طفلتي. و… انتظري، أخبري إحدى الخادمات بأن تُجهز لي ثوبَ سفرٍ وعباءةً.»

لم تردَّ سوزان. قبَّلتْ مارجريت بحنانٍ وأطاعتها بلا كلمة؛ إذ كان لسانُ الصغيرة مُلجَمًا من هول البؤس الذي لا يوصَف الذي اعتلى وجْهَ صديقتها.

بعد دقيقة عاد السَّائس، ووراءه السَّاعي الذي كان قد أحضر الرسالة.

سألت مارجريت: «مَن أعطاك هذا الظرف؟»

أجاب الرجل: «سيدٌ نبيل مهذَّب يا سيدتي، في نُزل «الوردة والشوكة» مقابلَ محطة «تشارينج كروس». قال إنَّكِ ستفهمين.»

«في «الوردة والشوكة»؟ ماذا كان يفعل؟»

«كان في انتظار العربة التي قد أمَر بإحضارها يا سيدتي.»

«العرَبة؟»

«أجل يا سيدتي، أمر بإحضار عربةٍ خاصة. فهمتُ من تابعه أنه متوجهٌ مباشرةً إلى دوفر.»

«هذا يكفي، يمكنك الذَّهاب.» ثم التفتت نحو السَّائس قائلة: «جَهِّز عربتي وأسرَعَ أربعِ خيولٍ في الحظيرة حالًا.»

ذهب السَّائس والسَّاعي مسرِعَين للتنفيذ. وبقيَت مارجريت وحيدةً تمامًا واقفةً على المَرجة للحظةٍ. كان قوامُها الرشيق متصلبًا كتمثال، وعيناها ثابتتَين ويداها معقودتَين على صدرها بقوة، فيما كانت شفتاها تتحرَّكان مُتمتِمتَين بإلحاحٍ مثير للشفقة وفاطرٍ للقلب:

«ما العمل؟ ما العمل؟ أين أجدُه؟ أوه يا إلهي! امنحني البصيرة.»

لكن هذه لم تكن لحظةً مناسبةً للندم واليأس. لقد ارتكبَت — عن غير قصد — فعلةً رهيبة شنيعة؛ أبشع جريمة ارتكبتها امرأةٌ على الإطلاق في رأيها، كانت تراها بكلِّ ما فيها من رعب. بدا لها الآن أنَّ الغِشاوة التي كانت على بصيرتها، والتي منعتها من أن تَحزُر سرَّ زوجها، كانت بمثابة خطيئةٍ قاتلة أخرى. كان يجب أن تعرف! كان يجب أن تعرف!

كيف تخيَّلتْ أنَّ رجلًا أحبَّ بقوةٍ شديدةٍ كالتي أحبَّها بها بيرسي بليكني منذ البداية؛ كيف لرجلٍ كهذا أن يكون حقًّا بالحماقةِ والبلاهة اللتين اختار أن يتظاهرَ بهما؟ كان يجب أن تعرف هي على الأقلِّ أنه كان يرتدي قِناعًا، وبمعرفتها لذلك، كان ينبغي أن تخلعه عن وجهه متى كانا وحدهما.

كان حبُّها له ضئيلًا وهَشًّا، وتحطَّم بسهولةٍ بفعل كبريائها، وهي أيضًا كانت ترتدي قناعًا في تظاهُرِها بأنها تحتقرُه، في حين أنها في الحقيقة كانت قد أساءت فَهْمه تمامًا.

لكن لا وقتَ الآن لاسترجاع الماضي. لقد ارتكبَت خطيئةً بعَمى بصيرتها، والآن لا بد أن تُصلح ما أفسدَته، ليس بالندم الفارغ، بل بتصرُّفٍ فعليٍّ فوري ومفيد.

كان بيرسي قد انطلق إلى كاليه، غيرَ مدركٍ إطلاقًا أنَّ ألدَّ أعدائه يتعقَّبه. كان قد أبحرَ في وقتٍ باكر من صباح ذاك اليوم من جسر لندن. وإذا كانت الرياح مواتية، فمن المؤكد أنه سيكون في فرنسا خلالَ أربعٍ وعشرين ساعة؛ ولا شك أنه قد أخذ الرياح في حُسبانه واختار هذا الطريق.

أمَّا شوفلان، فسيُسافر مسرعًا إلى دوفر ويستأجر مركبًا هناك، وسيصل بالتأكيد إلى كاليه في الوقت نفسِه تقريبًا. وفي كاليه، من المُنتظر أن يلتقيَ بيرسي بكل أولئك المتلهِّفين الذين ينتظرون سكارليت بيمبرنيل النبيلَ الجريء، الذي جاء لإنقاذهم من الموت الفظيع غير المُستحَق. ولكن في ظلِّ مراقبة شوفلان لكل تحركاته الآن، فإنَّ بيرسي لن يُعرِّض حياته هو فقط للخطر، بل حياة والد سوزان، كونت تورناي، وحياة أولئك المطارَدين الآخرين الذين ينتظرونه ويثقون به. وكذلك كان يوجد أرماند، الذي ذهب للقاء تورناي، مطمئنًّا بمعرفة أن سكارليت بيمبرنيل يعتني بسلامته.

كانت مصائرُ كل أولئك الناس، ومصيرُ زوجها، في يدِ مارجريت؛ لا بد أن تُنقذهم، إن كان من الممكن إتمامُ هذه المهمة بعزمٍ وبراعة بشَريَّين.

ولكن مع الأسف، لا تستطيع فعل كلِّ هذا وحدها. فعند وصولها إلى كاليه، لن تكون على درايةٍ بمكان زوجها، في حين أنَّ شوفلان، بسرقَته الأوراقَ في دوفر، كان قد حصل على خطِّ سير الرحلة كلها. أرادت أن تُحذر بيرسي أولًا وقبل كل شيء.

صارت تعرفه الآن بما يكفي لتفهمَ أنه لن يتخلَّى عمَّن وثقوا به، ولن يهرب من الخطر ويترك كونت تورناي يقع في أيدي المتعطِّشين للدماء الذين لا يعرفون الرحمة. ولكن إن حُذِّر، فيمكنه أن يضع خُطةً جديدةً ويكون أكثرَ حذرًا وتأنيًا. ربما يقع في فخٍّ ماكرٍ إذا كان غافلًا مطمئنًّا؛ ولكن حالما يتلقى تحذيرًا، فربما قد ينجح.

وإذا فشل؛ إذا تبيَّن في الحقيقة أنَّ القدر، وشوفلان، بكل بما لديه من مواردَ وإمكاناتٍ تحت تصرُّفه، أقوى من المُخطط الجريء رغم كل شيء؛ فعلى الأقل ستكون هناك بجانبه عندئذٍ لتُواسيَه وتُعبِّر عن حبِّها له واعتزازها به، لتخدع الموتَ في النهاية بجعله يبدو حلوًا، إذا ماتا معًا، وهما متعانقان بحرارة، ومُفعَمان بالسعادة المطلقة بمعرفة أن العاطفة استجابَت للعاطفة، وأن سوء الفهم كله انتهى.

صار جسدها كله صُلبًا كأنما امتلأ بعزمٍ هائلٍ راسخ. هذا ما ستفعله إن أعطاها الربُّ الحيلة والقدرة. زالت النظرة الشاخصة من عينيها، وتوهَّجَتا بنارٍ داخليةٍ لمجرد التفكير في أنها ستلقاه مجددًا عمَّا قريب جدًّا، وسط أشدِّ الأخطار المميتة فتكًا، ولمعتا ببهجةِ مُشاطرته هذه الأخطارَ — ببهجة مساعدته ربما — وأنها ستكون معه في النهاية، إن فشلت.

أصبح الوجهُ الطفولي الحلو جامدًا وعازمًا، وأغلقت فمها المنحنيَ بإحكامٍ على أسنانها المطبقة. عقَدَت العزم على تحقيق غايتها أو الموت دونها، معه أو من أجله. وظهرَت بين حاجبيها المستقيمَين تقطيبةٌ تنمُّ عن إرادةٍ حديديةٍ وعزمٍ لا يَلين؛ إذ كانت قد وضَعَت خُططَها بالفعل. ستذهب لإيجاد السير أندرو فولكس أولًا؛ فهو صديقُ بيرسي المقرَّب، وتذكَّرَت مارجريت بقُشَعريرةٍ في جسدها تلك الحماسة العمياء التي كان الشَّابُّ يتحدَّث بها دائمًا عن قائده الغامض.

سيُساعدها حيثما تحتاج إلى مساعدته؛ كانت عربتها جاهزة. ستُغيِّر ثيابها وتودِّع سوزان الصغيرة، ثم يمكنها أن تنطلق في طريقها.

وهكذا سارت بهدوءٍ إلى داخل المنزل، بلا استعجالٍ، ولكن بلا تردد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤