الفصل الثاني

«استراحة صيَّاد السمك»

كانت سالي مشغولةً جدًّا في المطبخ؛ فالقُدور والمقالي كانت متراصَّةً في صفوفٍ على الموقد الضَّخم، وكان قِدْر الحساء الضَّخمُ موضوعًا عند إحدى الزوايا، فيما كان سيخ اللَّحم يدور بتأنٍّ بطيئًا، مقدِّمًا كلَّ جانبٍ من لحم الخاصرة البقريِّ الممتاز لوهج النَّار بالتَّناوب. وكانت خادِمتا المطبخ الصغيرتان تُهرَعان في الأرجاء متلهِّفتَين للمساعدة، وهما تلهثان من الحر، وكانت أكمامُهما القُطنيَّة مطويَّةً جيدًا فوق المرافق، فيما كانتا تضحكان على نِكاتٍ سرِّية من تأليفهما كلَّما أدارت الآنسة سالي ظهرَها لحظة. وظلَّت جمايما العجوز، التي كانت متبلدة الحس وصُلبة الجسد، منهمِكةً في تذمُّرٍ طويلٍ خافتٍ وهي تُقلِّب قِدْر الحساء بتروٍّ منهجيٍّ فوق النَّار.

«يا سالي!» جاء هذا النداءُ مبتهجًا، وإنْ لم يكن بنبرةٍ رقيقةٍ، من غرفة القهوة المجاورة.

فصاحت سالي متعجبةً بضحكةٍ وَدودة: «بارِكْ روحي يا رب! تُرَى ما الذي يريدونه الآن!»

قالت جمايما متذمِّرة: «جِعَة بالطَّبع، لا تتوقَّعين أنَّ جيمي بيتكين سيكتفي بقدحٍ واحد، أليس كذلك؟»

وقالت مارثا، إحدى خادمتَي المطبخ الصَّغيرتَين مبتسمةً: «كذلك السيِّد آري، بدا عطشانَ جدًّا على غير العادة». ولمعَت عيناها السوداوان الخَرَزيَّتان حالما الْتقَتا بعينَي رفيقتها، وانخرَطَت كِلتاهما في موجةِ قهقهةٍ قصيرة مكبوتة.

بدَت سالي غاضبةً ومنزعجة لحظة، وحَكَّت يدَيها بوَرِكَيها الرَّشيقتَين مُمعِنةً في التفكير؛ إذ كان واضحًا أن كفَّيها تتشوَّقان لصفع وجنتَي مارثا الورديَّتَين، لكنَّ سماحتها الودودة المتأصِّلة سادَت في النهاية، فاكتفت بضمِّ شفتَيها وهزِّ كتفيها ووجَّهَت انتباهها إلى البطاطس المقليَّة.

«أيا سالي! هيه يا سالي!»

كانت تلك الصيحات المناديةُ على ابنة المضيف، ذاتِ القوام الممشوق المستدير والنهدَين المكتنزَين، مصحوبةً بجوقةٍ من أصوات الأقداح القصديريَّة التي كانت تُضرَب بنفادِ صبرٍ على طاولات خشب البلُّوط في غرفة القهوة.

صاح صوتٌ أكثرُ إصرارًا: «سالي! هل ستُمضين اللَّيلة كلَّها في تحضير تلك الجِعة؟»

تمتمَت سالي قائلة: «أظن حقًّا أنَّ أبي ربما سيأخذ الجِعَة إليهم؛ فهو يعرف أننا مشغولات جدًّا هنا.» بينما أخذت جمايما إبريقَين مُكلَّلَين بالرغوة من الرفِّ، ببرودٍ ودون تعليق، وبدأت تملأ عددًا من الأقداح القصديرية بالجعَة المُخمَّرة منزليًّا التي كانت «استراحةُ صيَّاد السمك» تشتهر بها منذ عهد الملك تشارلز.

تذمَّرَت جمايما، قائلةً همسًا في نفسها: «والدكِ مشغولٌ جدًّا بمناقشة الشئون السياسية مع السيِّد هيمبسيد، لدرجة أنه لن يَشغل بالَه بك وبالمطبخ.»

كانت سالي قد ذهبَت إلى المرآة الصَّغيرة التي كانت معلَّقةً في أحد أركان المطبخ، وكانت تُسَوِّي شعرها متعجِّلة، وتضبط قبَّعتَها المزركشة بأنسبِ وضعيةٍ على خُصل شعرها الدَّاكن المجعَّد، ثم تناولَت أقداح الجِعَة من مَقابضها، حاملةً ثلاثةً في كلِّ يدٍ من يدَيها البُنِّيتَين القويَّتين، وأخذتها إلى غرفة القهوة وهي تضحك وتتذمَّر وتحمرُّ خجلًا.

وبالطبع لم يظهر هناك، في غرفة القهوة، أيُّ علامةٍ للاستعجال والنشاط اللذَين كانا يُبقِيان أربعَ نساءٍ مشغولاتٍ في المطبخ المتوهِّج في الخلف.

أصبحَت غرفةُ قهوة «استراحة صيَّاد السمك» مَعْلَمًا الآن في بداية القرن العشرين. وصحيحٌ أنها في نهاية القرن الثامنَ عشر، وبالتحديد في سنة ١٧٩٢ الميلادية، لم تكن قد اكتسَبَت السُّمعة السيئة والأهمِّية اللتين أضْفَتهما عليها مائة عامٍ أخرى وصرعة العصر منذ ذلك الحين. لكنها كانت مكانًا قديمًا، حتى في ذاك الوقت؛ لأنَّ دعامات السَّقف المائلةَ والعوارض المصنوعة من خشب البلوط كانت مسودَّةً بالفعل من شدةِ القِدَم، مثلها مثل المقاعد المكسوَّة بالألواح الخشبية ذاتِ الظُّهور المرتفعة، والطَّاولات الطويلة المصقولة بينها، التي كان سطحها يحمل أنماطًا رائعةً من حلقاتٍ ذات أحجام عديدة مختلفة ترَكَتها فوقها أقداحٌ قصديرية لا تُعَدُّ ولا تُحصى. وكان عند النافذة العالية ذات القضبان الرصاصية صفٌّ من أوعية زهور الجيرانيوم القرمزية وزهور العائق الزَّرقاء أعطى بارقةً من اللون وسط الخلفية المعتمة المتجسدة في خشب البلُّوط.

كان واضحًا بالطبع لأيِّ شخصٍ يرى السيِّد جيليباند، مالك «استراحة صيَّاد السمك» في دوفر، أنه رجل موسِر. فالقصدير الموجود على الخزائن العتيقة الممتازة، والنُّحاسُ الذي يعلو المدفأة الضَّخمة كانا يلمعان كالذَّهب والفِضَّة، والأرضية المُبلَّطة بالبلاط الأحمر كانت ساطعةً كزهور الجيرانيوم الموضوعة على رفِّ النَّافذة؛ مما يعني أنَّ خُدَّامه كانوا أكْفَاء وكثيرين، وأنَّ الزبائن يتوافدون باستمرار، وأنهم من مَرتبةٍ معيَّنة استلزمَت الحفاظ على مستوًى عالٍ من الأناقة والتَّنظيم في غرفة القهوة.

بينما دخلَت سالي، مُبديةً ضحكةً خلال قَسَماتها العابسة، وصفًّا من الأسنان البيضاء المتلألئة، استُقبِلَت بصيحاتٍ وتصفيقٍ جَماعي.

«عجبًا، ها هي سالي!» «أيا سالي!» «مَرْحى للجميلة سالي!»

تمتم جيمي بيتكين قائلًا وهو يمسح شفتَيه شديدتَي الجفاف بظهرِ يده: «ظننتُ بأنَّكِ أُصبتِ بالصَّمَم في مطبخكِ ذاك.»

قالت سالي ضاحكةً وهي تضع الأقداح المملوءةَ حديثًا على الطَّاولات: «حسنًا! حسنًا! عجبًا! يا له من استعجالٍ شديد! هل جَدَّتُك تحتضر وتريد الذَّهاب لرؤية المسكينة قبل رحيلها! لم أرَ استعجالًا شديدًا كهذا من قبل.»

استُقبِل هذا التعليق الساخر الطريف بضَحِك مرح جَماعي، وظلَّت رفقة الحاضرين تستخرج منه نكاتٍ عديدةً وقتًا طويلًا بعضَ الشيء. بدَت سالي الآن أقلَّ تعجُّلًا للعودة إلى قُدورها ومقاليها. إذ استحوذ شابٌّ ذو شعرٍ أشقر مجعَّدٍ وعينَين زرقاوين متحمستَين على جُلِّ انتباهها وكلِّ وقتها بينما كانت النِّكاتُ الكثيرة عن جَدَّة جيمي بيتكين الخياليَّة تنتقلُ من فمٍ إلى فمٍ، مصحوبةً بنفخاتٍ مُحمَّلة بدُخَان التَّبغ اللَّاذع الخانق.

كان المضيف نفسه، السيد جيليباند الفاضل، واقفًا، مواجهًا للمِدْفأة، مُباعدًا بين ساقَيه وواضعًا غليونًا فخَّاريًّا طويلًا في فمه، وكان يملك «استراحة صيَّاد السمك» إرثًا عن أبيه من قبله، وعن جدِّه أيضًا وعن والد جده كذلك. ولأنَّ السيد جيليباند كان بدينَ البِنْية، ومرِحَ المحيا، وأصلعَ الرأس قليلًا؛ كان نموذجًا لشخصية «جون بُل» الريفيَّة في تلك الأيام، الأيام التي بلغ فيها انطواؤنا المتحيِّزُ ذروته، والتي كان فيها الرجل الإنجليزيُّ، سواءٌ أكان لوردًا أم خادمًا أم فلاحًا، يرى قارة أوروبا وكرًا للفساد الأخلاقيِّ، وبقيَّة العالم أرضًا غير مستغَلَّةٍ يسكنها المتوحِّشون وأكَلَةُ لحوم البشر.

كان المضيف الفاضل واقفًا هناك، ببُنيانه الثابت الصُّلب، مدخِّنًا غليونه الطَّويل، وغيرَ مُبالٍ بأيِّ أحد في البيت، ومحتقرًا كلَّ من هم خارجه. كان يرتدي الثيابَ النموذجية التي كان يتميز بها كلُّ مالكِ نُزُلٍ محترم آنذاك؛ إذ كان يرتدي الصِّدارَ القرمزيَّ، ذا الأزرار النحاسية اللامعة، وبنطالًا قصيرًا ذا نسيجٍ مضلَّع، وجواربَ صوفيةً رماديَّة، وحذاءً أنيقًا ذا أبازيم؛ وبينما كانت سالي الجميلةُ اليتيمة الأم تحتاج إلى أربعةِ أزواجٍ من الأيدي البنِّية لأداء كل العمل الواقع على كتفَيها المتناسقتَين، كان جيليباند الفاضلُ يُناقش شئون الأمم مع ضيوفه المتميزين للغاية.

في الواقع، كانت غرفة القهوة، المضاءةُ بمِصباحَين ملمَّعَين جيدًا ومتدلِّيَين من السقف ذي الدعامات المائلة، تبدو مبهجةً ومريحة للغاية. ومن خلال سُحب التَّبغ الكثيفة التي كانت تطفو في أرجاء كلِّ ركن، بدَتْ وجوهُ زبائن السيِّد جيليباند محمرَّةً ومبهجة، وبدا أنهم متصالحون مع بعضهم ومضيفهم والعالم أجمع؛ إذ تصاعَدَت قهقهاتٌ عالية من كلِّ ركن مُصاحبة لمحادثةٍ مُمتعة، إن لم تكن فكرية جدًّا؛ بينما كانت قهقهاتُ سالي المتكرِّرة شاهدًا على حُسن استغلال السَّيد هاري ويت للوقت القصير الذي بدا أنَّها كانت تميل إلى تخصيصه له.

كان أغلبُ مَن يتردَّدون على غرفة قهوة السيِّد جيليباند صيَّادي سمك، لكنَّ صيَّادي السمك معروفون بأنَّهم أشخاصٌ شديدو الظمَأ؛ فالملح الذي يستنشقونه وهُم في البحر، يُسبب جفافَ حناجرهم وهُم على البر. لكنَّ «استراحة صيَّاد السمك» كانت أكثرَ من مجرد مُلتقًى لهؤلاء القوم المتواضعين. فالعربات المتجهةُ إلى لندن ودوفر كانت تنطلق من النُّزل يوميًّا، والمسافرون الذين جاءوا عبر القنال، وأولئك الذين بدَءوا «الرِّحلة الكُبرى»، جميعهم أصبَحوا يعرفون السيِّد جيليباند ونبيذَه الفرنسيَّ وجِعَته المخمَّرة منزليًّا.

كان الوقت آنَذاك قريبًا من نهاية سبتمبر ١٧٩٢، وكان الطقس الذي ظل مشرقًا وحارًّا طوال الشهر قد تبدد فجأة؛ فعلى مرِّ اليومَين المنصرمين، غمَرَت سُيولٌ من الأمطار جنوبَ إنجلترا، باذلةً كلَّ ما بوُسعها لتدمير آخِر فرص التُّفاح والكُمَّثرى والبرقوق المتأخِّرة في أن تُصبح فاكهةً ناضجة مُعتَبرة. وحتَّى في تلك اللحظة، كانت لا تزال تضربُ النَّوافذ ذات القضبان الرَّصاصية، وتتساقط عبر المدخنة، جاعلةً نيرانَ الحطب المبهجة تُهسهس في المدفأة.

سأل السيِّد هيمبسيد: «يا ربِّي! هل مرَّ عليك سبتمبر مطيرٌ كهذا من قبل يا سيِّد جيليباند؟»

كان هيمبسيد جالسًا في مواجهة المدفأة؛ لأنه كان صاحبَ نفوذٍ وشخصيةٍ بارزة، ليس فقط في «استراحة صيَّاد السمك»، حيث كان السيد جيليباند يختارُه دائمًا بالأخصِّ لدحضِ الحُجج السياسية، بل في الحيِّ كذلك، حيث كانت معرفتُه، ولا سيما إلمامه بنصوص الإنجيل المقدَّسة، محاطة بهالةٍ من الرهبة والاحترام العميقَين. كان جالسًا هناك وقد دَسَّ إحدى يدَيه في الجيب الواسع لبنطاله المضلَّع القصير أسفلَ سُترته المصنوعة بإتقانٍ التي تَظهر عليها علاماتُ كثرة الاستخدام، وممسكًا غليونه الفخَّاريَّ الطويل بيده الأخرى، ناظرًا باكتئابٍ عبر الغرفة إلى نُهير قطرات البَلل الذي كان يَسيل على النَّافذة.

أجاب السيد جيليباند باقتضاب: «لا، لا أعرف ما إن كنتُ قد شهدتُ هذا من قبلُ يا سيد هيمبسيد. وأنا أعيش في هذه المنطقة منذ نحوِ ستِّين عامًا.»

فقاطعه السيد هيمبسيد بهدوء، قائلًا: «نعم! لن تتذكرَ أول ثلاث سنواتٍ من الستِّين يا سيد جيليباند. لا أدري إن كنتُ قد رأيتُ على الإطلاق طفلًا ينتبهُ كثيرًا إلى حال الطقس، على الأقل ليس في هذه المنطقة، وأنا أعيش هنا منذ نحوِ خَمسةٍ وسبعين عامًا يا سيد جيليباند.»

كان تَفوُّقُ هذه الحكمة لا جدال فيه، لدرجة أن السيد جيليباند لم يكن جاهزًا في تلك اللحظة بسيل حُججِه المعتاد.

تابع السيد هيمبسيد بحُزنٍ، فيما انهمرَ وابلٌ من قطرات المطر على النَّار مُحدِثًا طَشِيشًا: «يبدو هذا أشبهَ بطقسِ أبريل من طقس سبتمبر، أليس كذلك؟»

وافق المُضيف الفاضل قائلًا: «بلى! إنه يبدو كذلك، ولكن على كل حال، ماذا يمكن أن تنتظر يا سيد هيمبسيد، أقصد في ظل وجود حكومةٍ كالَّتي لدينا؟»

هزَّ السيد هيمبسيد رأسه بحِكمةٍ لا متناهيةٍ، يُلَطِّفها شعور متجذر بانعدام الثقة في الطقس والحكومة البريطانية.

قال: «لا أنتظر أيَّ شيءٍ يا سيد جيليباند. المساكينُ أمثالُنا ليس لهم قيمةٌ هناك في لندن، أعرف هذا، ولستُ أتشكَّى كثيرًا. ولكن عندما تتعلَّق المسألة بجوٍّ رطبٍ كهذا في سبتمبر، وكل فاكهتي تتعفَّن أو تموت كضربة موت كل بكر في أرض مصر في زمن موسى، وتصير مثل هؤلاء المساكين بلا نفع، إلا للكثير من اليهود والباعة الجائلين ومن على شاكلتهم، ببرتقالهم ومثله من هذه الفواكه الأجنبية الشريرة، التي لن يشتريَها أحدٌ لو كان التفاح والكمَّثْرى البريطانية قد استويا كما ينبغي. ومثلما يقول الكتاب المقدَّس …»

وافقه السيد جيليباند قائلًا: «هذا صحيحٌ تمامًا يا سيد هيمبسيد، وكما أقول، ماذا يمكن أن تنتظر؟ كلُّ أولئك الشياطين الفرنسيين هناك على الجانب الآخر من القنال، يقتلون ملكَهم ونبلاءهم، والسيد بِيت والسيد فوكس والسيد بيرك يتشاجرون ويتخاصمون فيما بينهم بخصوص ما إذا كان ينبغي لنا نحن الإنجليزَ أن نسمح لهم بمواصلة السَّير في طريقهم الشرير. يقول السيد بيت: «دَعْهم يَقتُلون!» ويقول السيد بيرك: «لِنوقِفْهم!».»

قال السيد هيمبسيد بنبرةٍ قاطعة: «وأنا أقول دَعْهم يَقتُلون، ولْتحُلَّ عليهم اللَّعنة»؛ وذلك لأنه لم يكن مُعجبًا جدًّا بحُجج صديقه جيليباند السياسية، التي دائمًا ما كان يتجاوز فيها حدودَ معرفته، ولأنَّه لم يكن يحظى إلَّا بفرصةٍ ضئيلةٍ لعرض تلك الدُّرر من الحكمة التي أكسبَتْه سُمعةً مرموقةً جدًّا في الحي، وكثيرًا من أقداح الجِعَة المجَّانية في «استراحة صيَّاد السمك».

كرَّر مجددًا: «دعهم يَقتُلون، لكن لا تدَعْ أمطارًا كهذه تهطل في سبتمبر؛ لأن هذا يُخالف القانون والكتاب المقدَّس الذي يقول …»

«يا إلهي! كم أفزعتَني يا سيد هاري!»

كان من سوء حظِّ سالي ومُغازلتها العابرة أن تعليقها هذا قِيلَ في هذه اللحظة بالذَّات، عندما كان السيد هيمبسيد يستجمعُ أنفاسَه ليُلقِيَ بواحدةً من مقولات الكتاب المقدَّس تلك التي جعَلَت منه مشهورًا؛ لأنَّ هذا التعليقَ صبَّ جام غضبِ والدها على رأسها الجميل.

قال وهو يُحاول إجبار وجهه المرح على العُبوس: «كفاكِ يا فتاتي سالي، كفاكِ! كُفِّي عن العبث مع هؤلاء الشبَّان الوقحين وتابعي العمل.»

«العمل يسير على أحسنِ وجهٍ يا أبي.»

لكن السيد جيليباند كان آمِرًا متحكِّمًا. كان يحمل رؤًى أخرى لمستقبلِ ابنته الناهدة، طفلته الوحيدة التي ستُصبح في الوقت المناسب بمشيئة الربِّ مالكةً ﻟ «استراحة صيَّاد السمك»، بدلًا من رؤيتها متزوجةً أحدَ هؤلاء الشبَّان، الذين لا يكسبون سِوى رزقٍ غير ثابت بشِبَاك صيدهم.

قال بتلك النبرة الهادئة التي لم يكن أحدٌ داخلَ النزل يجرؤ على معارضتها: «هل سمعتِ ما قلتُه يا فتاتي؟ واصِلي تحضيرَ عشاء اللورد توني، وإذا لم يكن أفضل ما يمكننا تحضيره، ولم يكن راضيًا عنه، فستَرَين ما سينالكِ، انتهى كلامي.»

أطاعته سالي على مضض.

سأله جيمي بيتكين محاولًا بإخلاصٍ أن يصرف انتباهَ مضيفه عن الملابسات المرتبطة بخروج سالي من الغرفة: «هل تنتظر ضيفًا مميزًا الليلةَ يا سيد جيليباند؟»

فأجاب السيد جيليباند: «أجل! هذا صحيح، أصدقاء للورد توني نفسه. دوقاتٌ من النساءِ والرجال من الجانب الآخَر من القنال ساعدَهم السيدُ الشَّاب وصديقه السير أندرو فولكس ونبلاءُ شبَّان آخرون في الإفلات من قبضات أولئك الشياطين القتَلة.»

لكن هذا كان كثيرًا على فلسفة السيد هيمبسيد النكدة الشكَّاءة.

قال: «يا إلهي! لماذا يفعلون ذلك يا تُرى؟ لستُ مؤيدًا للتدخل في شئون الآخَرين. فكما يقول الكتاب المقدس …»

قاطعه السيد جيليباند بسخريةٍ لاذعة: «ربما يا سيد هيمبسيد، لأنك صديقٌ شخصي للسيد بيت، ولأنك تتَّفق مع ما قاله السيد فوكس؛ إذ تقول: «دَعْهم يَقتُلون!».»

اعترض السيد هيمبسيد بنبرةٍ واهنة قائلًا: «معذرةً يا سيد جيليباند، لستُ متيقنًا من أنني قلتُ ذلك إطلاقًا.»

لكن السيد جيليباند كان قد نجح أخيرًا في ركوب حِصان هوايته المفضَّلة، ولم يكن ينوي النزولَ عنه سريعًا.

فأضاف: «أو ربما صادقتَ بعضَ الشباب الفرنسيين الذين يقولون إنهم جاءوا إلى هنا؛ ليجعَلونا نحن الإنجليزَ نُوافق على انتهاجهم سُبُلَ القتل.»

قال السيد هيمبسيد: «لا أدري ماذا تقصد يا سيد جيليباند، كل ما أعرفه أنَّ …»

فقال المضيف بنبرةٍ قاطعة عالية: «كلُّ ما أعرفه أنا أنَّ صديقي بيبركورن الذي يملك حانةَ «الخنزير ذو الوجه الأزرق»، وهو رجلٌ إنجليزي حقيقي ومخلص كأيِّ رجلٍ آخَر في البلاد، كان طبيعيًّا تمامًا. وانظر إلى حاله الآن؛ لقد صادَقَ بعضَ أولئك الفرنسيين الحقيرين، عاشَرهم كما لو كانوا إنجليز، وليسوا مجردَ مجموعةٍ من الجواسيس الأجانب الملاعين العديمي الأخلاق. حسنًا! وماذا حدث؟ يروج بيبركورن الآن للثورات والحرية والتخلُّص من الأرستقراطيِّين، تمامًا كالسيد هيمبسيد هنا!»

اعترض السيد هيمبسيد بنبرةٍ واهنة مجددًا: «معذرةً يا سيد جيليباند، لستُ متيقنًا من أنني قلتُ ذلك إطلاقًا …»

كان السيد جيليباند قد حاز انتباهَ أغلب الحاضرين، الذين كانوا يستمعون برهبةٍ وأفواهٍ فاغرةٍ لقصة السيد بيبركورن. وكان زَبونان على إحدى الطاولات — يبدو من ملابسهما أنهما سيدان فاضلان — قد توقَّفا عن لعب الدومينو في منتصف الدورِ، وكانا يستمعان منذ بعض الوقت لآراء السيد جيليباند الدولية بقدرٍ كبيرٍ من الاستمتاع الواضح عليهما. تحرَّك أحدُهما الآن بابتسامةٍ هادئة وساخرة لا تزال مستترةً في ثنايا فمِه نحو وسط الغرفة، حيث كان السيد جيليباند واقفًا.

وقال بهدوء: «يبدو أنك يا صديقي الفاضل ترى أن هؤلاء الفَرنسيِّين — الذين أظن أنك وصفتَهم بالجواسيس — رجالٌ أذكياء جدًّا لأنهم «فرَموا» آراء صديقك السيد بيبركورن، إنْ جاز القول. تُرى كيف نجَحوا في ذلك، برأيك؟»

«يا إلهي! أظن أنهم أقنَعوه يا سيدي؛ فلقد سمعتُ أنَّ هؤلاء الفرنسيِّين قد وُهِبُوا البلاغة، والسيد هيمبسيد هنا سيُخبركم كيف أنهم يستطيعون أن يجعلوا بعضَ النَّاس كخواتِمَ حول أصابعهم الصغيرة.»

رد الغريب بأدبٍ: «عجبًا، وهل هذا صحيح يا سيد هيمبسيد؟»

أجاب السيد هيمبسيد بانزعاجٍ شديد: «لا يا سيدي! لستُ متيقنًا من أنني أعرف المعلومة التي تستفسرُ عنها.»

قال الغريب: «ربَّاه، إذنْ، لنأمُلْ يا مضيفي الفاضل ألا يتمكَّن هؤلاء الجواسيسُ البارعون من تغيير آرائك المخلصة للغاية.»

لكن هذا كان كثيرًا على ما يتحلَّى به السيد جيليباند من اتزانٍ دَمث، فانفجر في نَوبةٍ صاخبةٍ من الضحك سرعان ما كرَّرها أولئك الذين تصادَف أنهم مَدِينُون له.

«هاهاها! هيهيهي! هوهوهو!» هكذا ضحك المضيف الفاضل بكلِّ النبرات، وظل يضحك حتى آلمه جانباه وسالت دموعُه. «أنا! أَصْغُوا إلى هذا! هل سمعتموه يقول إنهم سيُغيرون آرائي؟ هه؟ لِيُحبِبْك الربُّ يا سيدي، لكنك تقول أشياء غريبة.»

قال السيد هيمبسيد واعظًا: «حسنًا يا سيد جيليباند، أنت تعرف ماذا يقول الكتاب المقدَّس: «مَن يظن أنه قائم، فلْينظُر ألَّا يَسْقط».»

ردَّ عليه جيليباند بحُجةٍ مُعاكسةٍ وهو ما زال يُمسك بجانبَيه من شدة الضحك: «على كل حالٍ أصغِ إليَّ يا سيد هيمبسيد، الكتاب المقدَّس لم يَعرفني. عجبًا، إنني حتى لن أشربَ كأسَ جِعَةٍ مع أحدِ أولئك القتَلة الفرنسيين، ولا شيء سيجعلُني أغيِّر رأيي. عجبًا! سمعت بأن آكِلي الضفادع أولئك لا يُمكنهم التحدثُ بإنجليزيةِ الملك حتى؛ لذا فبالتأكيد لو حاول أحدُهم التحدثَ إليَّ بلُغتِهم الملعونة، فسأميزهم فورًا، أتفهمُني! وقد أعذَرَ مَن أنذَر؛ كما يقول المثل.»

وافقه الغريبُ مبتهجًا: «أجل! يا صديقي الفاضل، أرى أنك ذكيٌّ جدًّا وأذكى من أيِّ عشرين فرنسيًّا، وها هو نخب صحتك الجيدة جدًّا يا مضيفي الفاضل، إذا كنتَ ستُشرفني بإنهاء زجاجتي هذه معي.»

قال السيد جيليباند وهو يمسح عينيه اللتَين كانتا لا تزالان تدمعان من شدة الضحك: «أنا متأكد من أنك مهذبٌ جدًّا يا سيدي، ولا أمانع ذلك.»

ملأ الغريبُ قدحَين بالنبيذ ثم قدَّم أحدَهما إلى المضيف وأخذ الآخَر لنفسه.

وقال بينما كانت تلك الابتسامةُ السَّاخرة نفسُها توشك أن تظهَر على فمِه: «مع أننا كلنا رجالٌ إنجليز مخلصون؛ مع أننا مخلصون، فعلينا أنْ نعترفَ بأن هذا على الأقل شيءٌ واحدٌ جيدٌ يأتي إلينا من فرنسا.»

وافق المضيف: «أجل! لنْ يُنكر أحدٌ منَّا هذا يا سيدي.»

قال الغريب بنبرةِ صوتٍ عالية: «وهذا نخبُ صحةِ أفضل مضيفٍ في إنجلترا، مضيفنا الفاضل السيد جيليباند.»

ردَّ الحاضرون كلُّهم: «مرحى، تحيَّاتنا!» ثم علا صوتُ تصفيقٍ وأحدَثَت الأكوابُ والأقداحُ قعقعةً شبهَ موسيقيةٍ على الطَّاولات مُصاحبةً لقهقهاتٍ عاليةٍ ليس لها سببٌ محدد، ولهتاف السيد جيليباند الذي تمتمَ به قائلًا:

«تخيَّلوا فقط أن يتحدَّث إليَّ أحدُ أولئك الأجانب الملاعين! — ماذا؟ — ليُحبِبْك الرب يا سيدي، لكنك تقول أشياءَ غريبة.»

وافق الغريبُ بحرارةٍ على هذه الحقيقة الجليَّة. إذ كان من غير المعقول بالتأكيد أن أيَّ أحدٍ يستطيع على الإطلاق أن يُغير آراء السيد جيليباند الرَّاسخة عن أنَّ سكَّان قارة أوروبا كلِّها ليس لهم أيُّ قيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤