الفصل الثاني والعشرون

كاليه

إنَّ أشدَّ الليالي مَللًا وإرهاقًا وأطولَ الأيام لا بد أن تنتهيَ حتمًا، عاجلًا أم آجِلًا.

كانت مارجريت قد أمضَت خمسَ عشْرةَ ساعةً في هذا العذاب الذهني الحادِّ حتى كادت تُجن. وبعد ليلةٍ بلا نوم، نهضَت مبكرًا، مفعمةً بحماس جامح، متلهفةً لبدايةِ رحلتها، هَلِعة من خشية أن تكون عقبات أخرى كامنةً في طريقها. نهضَت قبل أن يستيقظ أيُّ أحدٍ في المنزل، خائفة بشدة، خشية أن تفوتها الفرصةُ الذهبية الوحيدة للانطلاق.

عندما نزلَت إلى الطابق السُّفلي، وجدَت السير أندرو جالسًا في غرفة القهوة. كان قد نهض من فراشه قبلها بنصف الساعة، وقد ذهب إلى رصيف إدارة الشئون البحرية، ليجدَ أنَّه لا القارب الفرنسي ولا أي مركبٍ خاصٍّ مستأجَرٍ استطاع الخروجَ من دوفر بعد. كانت العاصفة حينها في ذروتها، وكان المدُّ يتحول، وإن لم تهدأ الريحُ أو يتغيَّر اتجاهُها، فقد يتعيَّن عليهما الانتظارُ مُجبرين عشر ساعات أو اثنتَي عشرة ساعةً أخرى حتى الارتفاع التالي للمد، قبل أن يستطيعا الانطلاق. ولم تكن العاصفة قد هدأت ولم يكن اتجاه الريح قد تغيَّر، وكان المد ينحسر بسرعة.

شعَرَت مارجريت بغثيانٍ من شدة اليأس عندما سمعَت الأخبار الكئيبة. ولولا شدة رسوخ عزيمتها، لانهارت تمامًا، وأجَّجَت قلقَ الشاب، الذي بدا بوضوح أنه كان قد صار منفعلًا جدًّا.

فمع أنه حاول إخفاء قلقِه، استطاعت مارجريت أن ترى أن السير أندرو كان قلقًا ومتلهفًا مِثلها تمامًا للوصول إلى رفيقه وصديقه. كان هذا التعطُّل الإجباري مريعًا على كِلَيهما.

لم تستطع مارجريت قَط لاحقًا أن تعرف كيف أمضَيا ذلك اليوم المُقلق في دوفر. كانت مرتعبةً من إظهار نفسها خشيةَ أن يكون أحدُ جواسيس شوفلان في الجوار؛ لذا أخذَت غرفةَ جلوسٍ خاصةً، وقعدَت فيها هي والسير أندرو ساعةً تلو الأخرى، مُحاوِلَين، على أوقاتٍ متباعدة، أن يتناولا بعضَ الوجبات الروتينية التي كانت سالي الصغيرةُ تجلبها إليهما، دون أن يفعلا شيئًا سوى التفكيرِ والتخمين، ولِمامًا فقط التمنِّي.

هدأَت العاصفة بعد فوات الأوان؛ إذ كان المدُّ حينئذٍ أشدَّ انحسارًا من أن يستطيع أيُّ مركبٍ الإبحار. كانت الريح قد تغيرت وأخذت تستقرُّ حتى صارت نسيمًا شماليًّا غربيًّا، هبةٌ حقيقية من الربِّ لعبورٍ سريعٍ إلى فرنسا.

وبقي هذان الاثنان منتظرَين، وهما يتساءلان عمَّا إن كانت السَّاعة التي سينطلقان فيها أخيرًا، ستأتي أصلًا. لم يكن في هذا اليوم المملِّ سوى فترةٍ واحدة سعيدة، وذلك عندما ذهب السير أندرو إلى الرصيف مجددًا وعاد توًّا ليُخبر مارجريت بأنه قد استأجر مركبًا سريعًا ذا ربَّان مستعدٍّ للإبحار حالما يُصبح المدُّ مواتيًا.

ومن تلك اللحظة، بدَت السَّاعات أقلَّ مللًا، وصار الانتظار أقلَّ يأسًا، وأخيرًا، في السَّاعة الخامسة مساءً، وصلت مارجريت إلى الرصيف، متَّشحةً بحجابٍ مُحكَمٍ على وجهها، ويتبعها السير أندرو فولكس، الذي كان، متنكِّرًا على أنه خادمُها، يحمل عددًا من الأمتعة.

وحالما صعدَت على متن المركب، الذي كان يُسمَّى «فوم كريست»، أنعشَها هواءُ البحر النقيُّ اللاذع، وكان النسيم قويًّا كفايةً لأن ينفخ أشرعة المركب بينما كان يشقُّ طريقه بخفة نحو عُرض البحر.

كان غروب الشمس رائعًا بعد العاصفة، وبينما كانت مارجريت تراقب جرُوفَ دوفر البيضاءَ تختفي شيئًا فشيئًا عن الأنظار، صارت روحها أهدأَ، وعاد إليها ما يشبه التفاؤلُ.

كان السير أندرو يَفيض بالاهتمام اللطيف، وشعرَت بأنها محظوظةٌ جدًّا لأنها تحظى بصحبته في محنتها العظيمة هذه.

وشيئًا فشيئًا بدأ شاطئُ فرنسا الرمادي يظهر من خلال ضباب المساء الآخذ في التجمع سريعًا. كان يمكن رؤيةُ بضعة أضواءٍ وامضة، وبرز العديد من قمم الكنائس المستدقَّة وسط الضباب المحيط بها.

وبعد نصف ساعة، رسا المركب، وعلى متنه مارجريت، على الشاطئ الفرنسي. عادت إلى ذلك البلد حيث كان الرجالُ في نفس هذه اللحظة عاكفين على ذبح المئات من إخوتهم البشر، وإرسال النساء والأطفال بالآلاف إلى القالَب الحجريِّ المخصص لقطع الرءوس.

كان منظر البلد نفسه ومنظر شعبه، حتى في هذه البلدة الشَّاطئية البعيدة، يُعبِّر عن تلك الثورة المتأججة، على بُعد ثلاثمائة ميل في باريس الجميلة، التي أصبحَت الآن بشعةً جراء التدفُّق المستمر لدماء أبنائها النبلاء، ونحيبِ الأرامل وبكاء الأطفال اليتامى.

كان جميعُ الرجال يرتدون قُبعاتٍ حمراء — بمستوياتٍ مختلفةٍ من النظافة — لكنهم كلَّهم كانوا يحملون الشارةَ الدائرية الثلاثية الألوان مُثبَّتةً على جانبهم الأيسر. ولاحظَت مارجريت بقُشَعريرةٍ أن وجوه أبناء بلادها لم تَعُد بَشوشة كالمعتاد، بل صارت تعلوها نظرةُ ارتيابٍ خبيثةٌ باستمرار.

كان كلُّ رجلٍ في هذه الأيَّام جاسوسًا على رفاقه؛ فحتى أبسط كلمة تُقال على سبيل المزاح يمكن في أي وقت أن تُقدَّم دليلًا على الميول الأرستقراطية أو على التآمر على الشعب. حتى النساء كنَّ يتجوَّلْن في الأنحاء بنظراتٍ فضولية مرتعبةٍ، وكراهيةٍ متربصةٍ في عيونهن البنية؛ ونظر الجميع إلى مارجريت عندما وطِئَت الشَّاطئ، متبوعةً بالسير أندرو، وهمسوا عند مرورها بجانبهم: «أرستقراطيون ملاعين!» أو «إنجليز ملاعين!»

عدا هذا، لم يُثِر وجودهما أيَّ تعليقٍ آخر. كانت كاليه، حتى في تلك الأيَّام، على اتصالٍ دائم بإنجلترا من أجل الأعمال التجارية، وكثيرًا ما كان التجارُ الإنجليز يُرَوْن على هذا الساحل. كان من المعروف، في ظل رسوم الجمارك الباهظة في إنجلترا، أنَّ كميات كبيرةً من النبيذ والبراندي الفرنسيَّين تُهرَّب عبر القنال. وأسعدَ هذا كثيرًا البورجوازيين الفرنسيين؛ لأنهم كانوا يُحبون أن يروا الحكومة الإنجليزية والملك الإنجليزي، اللذَين كانوا يكرهونهما، يُحرَمان بهذه الحيل الملتويةِ من إيراداتهما المشروعة؛ ودائمًا ما كان أيُّ مُهرِّب إنجليزي ضيفًا مرحَّبًا به في حانات كاليه وبولوني.

لذا ففي حين كان السير أندرو يقود مارجريت رويدًا رويدًا عبر شوارع كاليه المتعرِّجة، ربما ظنَّ كثيرٌ من السكَّان، الذين كانوا يلتفتون بحدَّةٍ لينظروا إلى الغريبَين المتشحَين بالثياب الإنجليزية، أنهما كانا عازمَين على شراء بضائع خاضعة للرسوم الجمركية لبلادهم المكسوة بالضباب، واكتفوا بنظرةٍ عابرة إليهما.

لكنَّ مارجريت تساءلَت كيف كان زوجها ذو القامة الطويلة الضخمة يستطيع المرورَ من كاليه دون أن يُلاحظه أحد، وتعجَّبَت متسائلةً أيُّ تنكرٍ هذا الذي كان يتخذه ليُؤدِّيَ عمله النبيل دون أن يثير كثيرًا من الانتباه.

كان السير أندرو يقودها عبر البلدة، دون أن يتبادلا أكثرَ من بضع كلمات، إلى الجهة الأخرى المقابلة للجانب الذي رسا بهما المركب عنده، وعلى الطريق المؤدِّي إلى «رأس جريس نيز». كانت الشوارع ضيقةً ومتعرجةً تفوح منها رائحةٌ بشعة جدًّا؛ مزيجٌ من روائح السمك المتعفِّن والأقْبِيَة الرطْبة. كانت السماء قد أمطرَت بغزارةٍ هنا خلال العاصفة يوم أمس، وأحيانًا كانت قدمُ مارجريت تغوص في الوحل حتى الكاحل؛ لأن الطرق لم تكن مُضاءةً باستثناء بضعِ ومضات عابرةٍ من حين إلى آخر من المصابيح الموجودة داخل المنازل.

لكنها لم تحفل بأيٍّ من هذه المشَاقِّ التَّافهة؛ إذ كان السير أندرو قد قال عندما رسا المركب بهما: «ربما نلتقي ببليكني في نُزُل «القط الرمادي»»، فكانت تمشي كأنها على سجَّادةٍ من بتلات الورد؛ لأنها كانت ستلتقي بزوجها قريبًا.

أخيرًا وصَلا إلى وجهتِهما. كان من الواضح أن السير أندرو يعرف المكان؛ لأنه سارَ في الظلام بلا أخطاء ولم يسأل أحدًا عن الطريق. كان المكان عندئذٍ أشدَّ ظلامًا من أن تستطيع مارجريت ملاحظةَ واجهة هذا المنزل. كان «القط الرمادي»، كما سمَّاه السير أندرو، نُزلًا صغيرًا على جانب الطريق عند ضواحي كاليه وعلى الطريق المؤدِّي إلى رأس جريس نيز. وكان يقع على مسافةٍ كبيرة من السَّاحل، لأن صوتَ البحر كان يبدو قادمًا من بعيد.

طرَقَ السير أندرو الباب بمقبض عصاه، فسمعَت مارجريت صوتًا أشبهَ بنخرةٍ منزعجة وعددًا من اللعنات من الداخل. طرَق السير أندرو البابَ مجددًا بطريقةٍ أشدَّ إلزامًا، فسُمِعَت المزيدُ من اللعنات، ثم بدا أنَّ أحدًا يقترب من الباب بخطواتٍ متثاقلةٍ وهو يُجرجر قدميه. بعد قليل فُتِح الباب، ووجدَت مارجريت نفسَها أمام أقذر الغرف التي رأتها في حياتها وأكثرِها تهالكًا.

كان ورقُ الجدران، في حالته الرديئة التي كان عليها، يتدلَّى من الحوائط في شرائط؛ ولم تكن توجد قطعةُ أثاثٍ واحدة في الغرفة يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يُطلق عليها «سليمة». فأغلب الكراسيِّ كانت مكسورةَ الظهر أو بلا مقاعد، فيما كانت إحدى زوايا الطَّاولة مسنودةً بحُزمةٍ من العِصيِّ لأن ساقها الرَّابعة كانت مكسورة.

كان يوجد موقدٌ ضخم في أحد أركان الغرفة، وكان يتدلَّى فوقه قِدرٌ تتصاعد منه رائحةُ حساء ساخن ليست كريهةً جدًّا. وفي أحد جوانب الغرفة، على ارتفاعٍ عالٍ في الجدار، كان يوجد مكانٌ أشبه بغرفة عُلوية، مُعلَّقة أمامها ستارةٌ ممزقةٌ ذات مربَّعاتٍ بيضاءَ وزرقاء. وكان يوجد أسفلها دَرَج متهالك يؤدي إليها.

وعلى الحوائط العارية الكبيرة التي كانت كلُّها، بورقها العديم اللون، ملطَّخةً بقذاراتٍ متنوِّعة، كان مكتوبًا بالطبشور بحروفٍ عريضة كبيرة على مسافاتٍ متباعدة: «الحرية – المساواة – الإخاء».

وكان كلُّ هذا المسكن القذر مُضاءً بضوءٍ خافتٍ من مصباحٍ زيتيٍّ كريهِ الرائحة، يتدلَّى من عوارض السقف المتهالكة. كان المسكن كلُّه يبدو متَّسخًا وقذرًا ومُنفِّرًا إلى حدٍّ فظيع، لدرجة أنَّ مارجريت لم تكَدْ تجرؤ على تجاوُز العتبة.

غير أنَّ السير أندرو كان قد تقدَّم إلى الدَّاخل بلا تردُّد.

قال بجُرأةٍ متحدثًا بالفرنسية: «مسافرون إنجليز أيها المواطن!»

كان الشخص الذي جاء إلى الباب ردًّا على طَرْق السير أندرو، والذي يُفترض على الأرجح أنه صاحبُ هذا المسكن القذر، شيخًا قرَويًّا متينَ البُنيان، وكان مكتسيًا بقميصٍ أزرق متَّسِخ، ومنتعِلًا نعلًا ثقيلًا كانت عيدانُ القش بارزةً من كل جوانبه، ومرتديًا بنطالًا أزرقَ مهترئًا، والقبَّعة الحمراء الحتمية ذات الشارة الدائرية الثلاثية الألوان، التي كانت تُعبر عن آرائه السياسية الحاليَّة. كان يحمل غليونًا خشَبيًّا قصيرًا تنبعث منه رائحةُ تبغٍ قويةٌ كريهة. نظر إلى المسافِرَين بارتيابٍ وقدرٍ كبيرٍ من الازدراء، وتمتمَ قائلًا: «إنجليز مَلاعيييين!» وبصَق على الأرض ليُظهر مزيدًا من استقلاليةِ روحه، لكنه مع ذلك تنحَّى جانبًا ليسمح لهما بالدخول؛ إذ كان يعي جيدًا بلا شكٍّ أن هؤلاء «الإنجليز الملاعيييين» أنفسَهم دائمًا ما يحملون محفظاتٍ مَلْأى بالنقود.

قالت مارجريت وهي تدخل الغرفة واضعةً مِنديلَها على أنفها الدقيق: «أوه يا ربي! يا له من مكان خَرِبٍ مُريع! متأكدٌ أن هذا هو المكان؟»

ردَّ الشَّاب وهو ينفض، بمنديله العصريِّ الأنيق المحاط بحافاتٍ من الدَّانتيل، الغبارَ عن كرسيٍّ لتجلس عليه مارجريت: «أجل! إنه المكان بالتأكيد؛ لكني أُقسم أنني لم أرَ مكانًا أحقر منه في حياتي.»

قالت وهي تنظر حولها ببعض الفضول وبكثيرٍ من الرعب نحو الحوائط المهترئة، والكراسيِّ المحطمة، والطَّاولة المتداعية: «ربَّاه! لا يبدو جذابًا بالتأكيد.»

لم يُبدِ صاحبُ «القط الرمادي» — واسمه بروجار — مزيدًا من الاهتمام بضيفَيه؛ إذ استنتج أنهما سيطلبان العشاءَ الآن، وإبان تلك المدَّة الزمنية، لم يكن يمكن لمواطنٍ حُر أن يُظهر إذعانًا مُبجِّلًا، ولا حتى سلوكًا مهذَّبًا، لأحدٍ مهما كان مَلبسُه أنيقًا.

كان يجلس أمام الموقد جسدٌ مكوَّم يبدو مكتسيًا بثيابٍ أغلبُها أسمالٌ بالية، وكان جسدَ امرأةٍ على ما يبدو، مع أنه كان من الصعب تمييزُ ذلك، لولا القبعةُ التي كانت بيضاءَ يومًا ما، والثوب الذي يُشبه الملابس النسائية. كانت جالسةً تُغمغم لنفسها وتقلب الحساء في القدر من وقتٍ إلى آخر.

قال السير أندرو أخيرًا: «اسمع، يا صديقي! نريد بعض العشاء …» وأضاف مشيرًا إلى صُرَّة الأسمال المتكوِّمة بجوار الموقد: «أنا متيقنٌ من أن تلك المواطنة هناك تُحضِّر حساءً لذيذًا، وسيدتي لم تذُق الطعام منذ عدة ساعات.»

استغرق بروجار عدة لحظات قبل أن يُبدِيَ اكتراثًا بطلبه. فالمواطن الحرُّ لا يستجيب بسهولةٍ بالغةٍ لرغبات أولئك الذين يتصادف أن يطلبوا شيئًا منه.

تمتمَ قائلًا: «أرستقراطيون مَلاعين!» وبصق على الأرض مرةً أخرى.

ثم توجَّه ببُطءٍ شديدٍ نحو خِزانةٍ موجودة في أحد أركان الغرفة، وأخذ منها سلطانيةَ حساءٍ قديمةً مصنوعة من البيوتر، ثم سلَّمَها، ببطءٍ ودون كلمة، إلى زوجته التي بدأت، بالصمت نفسِه، تملأ السلطانية بالحساء من قِدْر المرق.

راقبَت مارجريت كلَّ هذه التحضيرات برعبٍ تام، ولولا جدِّيةُ مقصدها، لَهُرِعَت هاربةً من هذا المسكن القذر ذي الرَّائحة الكريهة.

قال السير أندرو وقد رأى نظرةَ الرعب على وجه مارجريت: «ربَّاه! مضيفنا ومضيفتنا ليسا بَشوشَين. كنت أتمنى أن أقدم لكِ وجبةً أشهى طعمًا وأكثرَ إشباعًا … لكني أظن أنك ستجدين الحساء مقبولًا والنبيذَ جيدًا، فهؤلاء النَّاس مُمرَّغون في القذارة لكنهم عادةً ما يعيشون عيشةً جيدة.»

قالت بلُطف: «لا، أرجوك يا سير أندرو، لا تَشغل بالك بي. فعقلي ليس ميَّالًا إلى التفكير في العشاء إطلاقًا.»

كان بروجار مُستمرًّا ببُطءٍ في تحضيراته المروعة؛ إذ وضع زوجَين من الملاعق وكأسَين على الطَّاولة، وقد مسح السير أندرو الملاعقَ والكئوسَ جيدًا على سبيل الاحتياط.

وكان بروجار قد أخرج أيضًا زجاجةً من النبيذ وبعض الخبز، وبذلتْ مارجريت جهدًا في سحب كرسيِّها إلى المائدة والتظاهر بأنها تأكل. أما السير أندرو، فوقف خلف كرسيِّها متقمصًا دورَه كخادم.

وبعدما رأى أن مارجريت غيرُ قادرةٍ على الأكل إطلاقًا، قال: «لا، يا سيدتي أرجوكِ، أتوسَّل إليكِ أن تُحاولي ابتلاعَ بعض الطعام؛ تذكَّري أنكِ تحتاجين إلى قوَّتِك كلِّها.»

من المؤكد أن الحساء لم يكن سيئًا، فطعمُه ورائحته كانا جيدَين. ربما كانت مارجريت ستتلذَّذ به لولا فظاعةُ المكان المحيط بها. لكنها، على أي حال، كسرَت الخبز وشربَت بعض النبيذ.

قالت: «لا، يا سير أندرو، لا أحبُّ أن أراك واقفًا. إنك تحتاج إلى الطعام بقدرِ ما أحتاج إليه. إذا جلستَ بجواري وشاركتَني العشاء، فلن يخطر ببال هذا المخلوق شيءٌ سوى أنني امرأةٌ إنجليزية منحرفة تهرب مع خادمها الذي تعشقه.»

وفي الحقيقة، فإنَّ بروجار، بعدما اكتفى بوضع الضروريات اللازمة على المائدة، بدا أنه لا يولي ضيفَيه أي قدر آخر من الاهتمام. كانت السيدة بروجار قد خرَجَت بهدوءٍ من الغرفة بأقدام متثاقلة، فيما وقف الرجل وظلَّ يتلكَّأ في أرجاء الغرفة مُدخِّنًا غليونَه ذا الرَّائحة الكريهة، أمام أنف مارجريت بالضبط في بعض الأحيان، كما يحقُّ لأي مواطن حُرٍّ متساوٍ مع أي شخص أن يفعل.

قال السير أندرو بانفعالٍ بريطاني أصيل: «اللعنة على هذا البهيم!» بينما كان بروجار يتَّكئ على الطَّاولة وهو يُدخن ويُحدق بتعالٍ نحو الأسفل إلى ذَينِك الإنجليزيَّين الملعونين.

رأتْ مارجريت أن السير أندرو، بطبيعته البريطانية المتأصِّلة، يقبض يدَيه بشكلٍ مُنذرٍ بسوء، فسارعت وقالت مُحذِّرة: «أستحلفك باسم الربِّ يا رجل، تذكَّرْ أنك في فرنسا، وأن هذا هو مِزاج الناس في هذه السنة.»

تمتمَ السير أندرو بشراسة: «أود أن أخنق هذا البهيم!»

كان قد أخذ بنصيحة مارجريت وجلس بجوارها إلى المائدة، وكان كِلاهما يبذل جهودًا نبيلةً لخداع الآخَر، بادِّعاء الأكل والشرب.

قالت مارجريت: «أرجوك، لا تُعكر مِزاجَ هذا المخلوق، حتى يُجيب عن الأسئلة التي يجب أن نطرحها عليه.»

«سأفعل ما بوُسعي، لكن يا إلهي! أُفضِّل أن أخنقَه على أن أسأله.» ثم أضاف السير أندرو بالفرنسية وبنبرةٍ دمثة، مُربِّتًا بلُطف على كتف بروجار: «هاي! يا صديقي، هل ترى عادةً أشخاصًا كثيرين مثلنا في هذه الأنحاء؟ أقصد، كثيرًا من المسافرين الإنجليز؟»

التفتَ بروجار ناظرًا إليه من فوق كتفه القريبة، وظلَّ ينفخُ غليونه بضع لحظات لأنه لم يكن مستعجلًا، ثم تمتم قائلًا:

«ها! … أحيانًا!»

قال السير أندرو بلا مبالاةٍ: «آه! المسافرون الإنجليز يعرفون دائمًا أين يمكنهم الحصولُ على نبيذٍ جيد، صحيح! يا صديقي؟ الآن أخبرني، تتساءل سيدتي عمَّا إن كنتَ قد رأيتَ أحدَ أصدقائها المقربين بالصُّدفة؛ سيدٌ إنجليزي يأتي إلى كاليه من أجل العمل؛ إنه طويل القامة، وكان في طريقه إلى باريس مؤخرًا … كانت سيدتي تأمُل في أن تلتقيَ به في كاليه.»

حاولتْ مارجريت ألَّا تنظر إلى بروجار؛ خشية أن تُفتَضَح لهفتها الملتهبة التي ترقبت بها إجابته. لكن المواطن الفرنسي الحر لا يتعجَّل الإجابة على الأسئلة أبدًا، أخذ بروجار وقته، ثم قال ببطء:

«رجلٌ إنجليزيٌّ طويل؟ … اليوم! … أجل.»

سأله السير أندرو بلا مبالاة: «رأيتَه؟»

تمتم بروجار متجهمًا: «أجل، اليوم.» ثم أخذ قبعة السير أندرو بهدوءٍ من فوق كرسيٍّ قريب، واعتمرها على رأسه، وشدَّ قميصه الأزرق المتَّسِخ، وحاول بوجهٍ عام أن يشرح إيمائيًّا أن ذاك الشخص كان يرتدي ثيابًا أنيقةً جدًّا. وتمتم قائلًا: «أرستقراطيٌّ لعين! ذاك الإنجليزي الطويل!»

كتمَت مارجريت صرخةً بصعوبة.

وغمغمَت: «إنه السير بيرسي بالتأكيد، وليس متنكرًا حتى!»

ابتسمَت، وسط كلِّ القلق الذي كانت تشعر به ومن بين دموعها المتجمعة، من فكرة أن «الطبع غلاب»، وأن السير بيرسي يخوض أشدَّ الأخطار فتكًا وجنونًا، بمعطف مصمَّمٍ على أحدثِ طِراز على ظهره، ومنديلِ عنق ذي أطراف ممدودةٍ من الدانتيل.

تنهَّدَت قائلة: «أوه! يا لذاك التهوُّر! أسرِع يا سير أندرو! اسأله متى غادر.»

قال السير أندرو مخاطبًا بروجار باللامبالاة المصطنَعة نفسِها: «آه، أجل يا صديقي، سيدي دائمًا ما يرتدي ملابسَ جميلة؛ من المؤكد أنَّ الرجل الإنجليزي الطويل الذي رأيته هو صديق سيدتي. وقلتَ إنه غادَر؟»

«غادَر … أجل … لكنه سيعود … إلى هنا؛ لقد طلب عشاءً …»

وضع السير أندرو يده على ذراع مارجريت محذرًا إيَّاها بسرعة؛ وكان ذلك في آخرِ لحظة قبل فوات الأوان؛ لأن فرحتها الجامحة المجنونة في اللحظة التَّالية كادت تفضحها. فالسير بيرسي سالمٌ وبخير، وسيعود إلى هنا عاجلًا، وربما تتمكَّن من رؤيته بعد لحظاتٍ قليلة … أوه! بدا أنَّ جُموح سعادتها يكاد يفوق قدرتها على أن تتحمَّل.

قالت لبروجار الذي بدا أنه قد تحول فجأةً في عينيها إلى أحدِ رُسُل السعادة المُنزَلين من السماء: «اسمع! اسمع! … هل قلتَ إنَّ الرجل الإنجليزي سيعود إلى هنا؟»

بصق رسول السعادة المُنزَل من السماء على الأرض ليُظهِر ازدراءه لكل أرستقراطي اختار التردُّد إلى نزل «القط الرمادي».

غمغمَ قائلًا: «أأآه! لقد طلب عشاءً؛ سيعود …» وأضاف: «الإنجليزي اللعين!» على سبيل التذمُّر من إحداث كل هذه الضجة لأجل مجرد رجلٍ إنجليزي.

سألته بلهفةٍ وهي تضع يدها البيضاء الرقيقة على كُمِّ قميصه الأزرق المتَّسِخ: «لكن أين هو الآن؟ هل تعرف؟»

قال بروجار باقتضابٍ وبإيماءة عابسة نافضًا عن ذراعه تلك اليدَ الجميلة التي يفتخر أمراءُ بتقبيلها: «ذهب لإحضار حصان وعربة.»

«في أيِّ وقتٍ ذهب؟»

لكن كان واضحًا أنَّ بروجار كان قد اكتفى من هذه الاستجوابات. فلم يكن يرى أن من اللائق لمواطن — مُتساوٍ مع الجميع — أن يُستجوَب هكذا بأسئلةٍ متتالية من أرستقراطيِّين مَلاعين، حتى وإن كانوا إنجليزًا أثرياء. بل كان الأنسب لكرامته الوليدة، بالتأكيد، أن يكون فظًّا قدر الإمكان؛ فالردُّ بوُدٍّ على أسئلةٍ مهذبة يُعَد علامةَ خنوعٍ بالتأكيد.

قال بفظاظةٍ غاضبة: «لا أعرف. لقد قلتُ ما يكفي، كفاكم أيها الأرستقراطيون الملاعين! … لقد جاء اليوم. طلب عشاءً. خرج. سيعود. هذا كل شيء!»

وبهذا التأكيد الفارق على حقوقه كمواطنٍ ورجلٍ حرٍّ في أن يكون فظًّا بقدرِ ما يشاء، خرج بروجار من الغرفة متثاقلًا وصفق الباب خلفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤