الفصل الثامن والعشرون

كوخ الأب بلانشار

تابعَت مارجريت اللَّحاق بهم كأنها في حلم؛ كان الخناق يزداد ضيقًا في كل لحظةٍ على حياة حبيبها التي صارت أعزَّ لديها من أيِّ حياةٍ أخرى. وأصبح هدفها الوحيد أن ترى زوجها مجددًا، لتُخبره كم عانت، وكم أخطأت، وكم أساءت فَهمه. لقد تخلَّت عن أي أملٍ في إنقاذه؛ إذ رأته يُطوَّق تدريجيًّا من جميع الاتجاهات، وكانت تُحدِّق يائسةً في الظلام من حولها، وتساءلتْ من أين سيأتي عما قريب، ليقع في الفخِّ المميت الذي نصَبه له عدوُّه المجرد من الشفقة.

جعلها هديرُ الأمواج البعيد ترتعش الآن؛ وكانت صيحاتُ البوم أو النوارس الكئيبة بين الفَينة والأخرى تملؤها برعبٍ لا يوصَف. فكَّرَت في الوحوش المفترسة — المخلوقة في هيئةٍ بشرية — التي تتربَّص بفريستها وتقضي عليها بلا رحمة كأي ذئبٍ جائع، لإرضاء شهوة الكراهية لديها. لم تكن مارجريت خائفةً من الظلام، فلم تكن تخشى سوى ذاك الرجل، الموجود في المقدمة، الجالس في قعر عربةٍ خشبيةٍ متهالكة، ويحمل أفكارًا انتقامية من شأنها أن تجعل شياطينَ الجحيم أنفسهم يضحكون من السعادة.

كانت قدَماها تؤلمانها، وكانت رُكبتاها ترتجفان من شدة التعب الجسدي الهائل. لقد عاشت في اضطرابٍ جامح من الانفعال طوال الأيام الماضية؛ ولم تنَل أيَّ قسطٍ من النوم طَوال ثلاث ليال؛ والآن، كانت قد مشَت على طريقٍ زلقٍ طَوال ساعتَين، ولكن لم يتزعزع عزمُها إطلاقًا ولو لحظةً واحدة. سترى زوجها وستُخبره بكل شيء، وإن كان مُستعدًّا لغُفران الجريمة التي ارتكبتها بجهلها الأعمى، فربما ستنال سعادةَ الموت بجواره.

من المؤكَّد أنها كانت تسير شِبه فاقدةٍ للوعي، وكانت غريزتها فقط هي التي تُبقيها مستيقظةً وتُرشدها إلى الطريق في أعقابِ عدوِّها، عندما أوحَت إليها أذناها المرهفتان المنتبهتان إلى أخْفَتِ صوت، فجأة، بالغريزة العمياء نفسِها، بأن العربة قد توقفَت وأن الجنود وصلوا إلى وجهتهم. ولا شك أن الممشى الذي يقود إلى حافَة الجرف وإلى الكوخ كان يقع في مكانٍ قريب أمامها على اليمين.

تسلَّلتْ غيرَ عابئةٍ بأي مخاطر، واقتربَت بشدةٍ من حيث كان شوفلان واقفًا، محاطًا بكتيبته الصغيرة، كان قد نزل من العربة وكان يُملي بعضَ الأوامر على الرجال. هذا ما أرادت سَماعه؛ فالفرصة الضئيلة التي ما زالت لديها لتُقدِّم نفعًا لبيرسي كانت تعتمد على سَماعها لكلِّ كلمةٍ عن خطط عدوه.

لا بد أن البقعة التي توقَّفت فيها المجموعة كانت تبعد نحوَ ثمانمائة مترٍ عن الساحل؛ فصوت البحر كان يأتي خافتًا جدًّا كما لو كان آتيًا من بعيد. انعطف شوفلان وديجا متبوعَين بالجنود فجأةً نحو يَمْنة الطريق، إلى الممشى الذي يقود إلى الجرف على ما يبدو، وبقيَ اليهودي على الطريق بعربته وحصانه.

وبحذرٍ لا متناهٍ، زحفَت مارجريت حرفيًّا على ركبتَيها ويدَيها، وانعطفَت نحو اليمين أيضًا؛ ومن أجل ذلك، اضطُرَّت إلى التسلُّل عبر الشجيرات المنخفضة الخشنة، محاوِلةً إحداث أقلِّ ضجيجٍ ممكن وهي تَمضي قُدمًا، جارحةً وجهَها ويدَيها من الاحتكاك بالأغصان الجافة، وعازمةً فقط على السمع دون أن يراها أو يسمعَها أحد. ومن حُسن الحظ أن الممشى — كما هو معتادٌ في هذه المناطق من فرنسا — كان يحدُّه سياجٌ شجريٌّ خشنٌ منخفض، خلفه قناةٌ جافَّةٌ مليئةٌ بالعُشب الكثيف الكبير السيقان. وهكذا استطاعَت مارجريت أن تجدَ في ذلك مأوًى لها؛ إذ كانت مَخفيَّةً تمامًا عن الأنظار، لكنَّها مع ذلك تمكنَت من الوصول إلى نطاق ثلاث ياردات من المكان الذي كان شوفلان يقف فيه وهو يُملي الأوامرَ على رجاله.

كان يتكلم بهمس خافتٍ آمر: «حسنًا، أين كوخ الأبِ بلانشار؟»

قال الجنديُّ الذي كان مؤخرًا يُرشد المجموعة: «على بُعد ثَمانمائة مترٍ من هنا بمحاذاة الممشى، وفي منتصف المسافة نحو أسفل الجرف.»

«جيدٌ جدًّا. سوف تسبقنا. فقبل أن نبدأ نزول الجرف، ستتسلَّل نحو الكوخ بالأسفل بلا ضجيجٍ قدر الإمكان، وتتيقَّن مما إن كان الملَكيُّون الخونة هناك؟ فهمت؟»

«فهمتُ أيها المواطن.»

تابع شوفلان كلامه بطريقةٍ مؤثرةٍ مخاطبًا الجنودَ بشكلٍ جماعي: «الآن، أصغوا إليَّ جميعًا بانتباهٍ شديد؛ لأننا قد لا نتمكَّن من تبادل أيِّ كلمةٍ أخرى بعدئذٍ؛ لذا تذكروا كلَّ حرفٍ أنطق به كما لو كانت حياتكم نفسها تعتمد على ذاكرتكم.» وأضاف بواقعيةٍ جامدة: «فربما تكون كذلك بالفعل.»

قال ديجا: «نحن نُصغي أيها المواطن، وجندي الجمهورية لا ينسى أوامره أبدًا.»

«أنت، الذي كنتَ قد تسللت إلى الكوخ، ستحاول استراقَ النظر داخله. إن كان يوجد رجلٌ إنجليزي هناك مع أولئك الخونة، رجلٌ طوله خارق، أو يحدب نفسه متعمدًا كما لو أنه يريد إخفاءَ طوله، عندئذٍ أطلِق صافرةً حادةً سريعة إشارةً لرفاقِك.» وأضاف متحدثًا إلى الجنود بصيغة الجمع مجددًا: «جميعكم عندئذٍ ستُحاصرون الكوخ وتقتحمونه سريعًا، وسيُمسك كلٌّ منكم بواحدٍ منهم قبل أن يتَسنَّى لهم إشهارُ أسلحتهم النارية؛ إن قاوم أحدٌ منهم، فأطلِقوا النار على ساقِه أو ذراعِه، لكن لا تقتلوا الرجل الطويل تحت أي ظرف. أفهمتم؟»

«فهمنا أيها المواطن.»

«الرجل ذو الطول الخارق من المرجَّح أن يكون ذا قوةٍ خارقة أيضًا؛ سيحتاج التغلبُ عليه إلى أربعةٍ أو خمسة منكم.»

خيَّم سكوتٌ لحظي قصير، ثم تابع شوفلان:

«إن كان الخونة الملَكيُّون لا يزالون وحدهم، وهذا هو الاحتمال الأرجح، فعندئذٍ حذِّر رفاقك المتربصين هناك، ولتتسلَّلوا كلكم وتختبئوا خلف الصخور والجلاميد المحيطة بالكوخ، وانتظروا هناك، في صمتٍ تام، ريثما يصل الإنجليزي الطويل، وعندها فقط، اقتحموا الكوخ، عندما يُصبح الرجل مستقرًّا تمامًا داخل أبوابه. لكن تذكروا أنكم يجب أن تكونوا صامتين كذئابٍ تتجوَّل ليلًا حول الحظائر. لا أريد لأولئك الملَكيِّين أن ينتبهوا ويتأهَّبوا؛ فأي طلقة من مسدس أو صرخة رعب أو صيحة نداء منهم ربما تكون كافيةً لتحذير الشخص الطويل وتنبيهه إلى الابتعاد عن الجروف والكوخ، و…» أضاف مشددًا: «مهمتكم الليلةَ هي الإمساك بالإنجليزي الطويل.»

«سمعًا وطاعةً أيها المواطن.»

«إذن انطلِقوا بلا ضجيج بقدر الإمكان، وسألحق بكم.»

سأله ديجا بينما بدأ الجنود يتسلَّلون بصمتٍ كالظلال واحدًا تلو الآخر على طول الممشى الوعر الضيق: «ماذا عن اليهوديِّ أيها المواطن؟»

قال شوفلان: «آه، أجل؛ لقد نسيتُ أمر اليهودي»، والتفتَ نحو اليهودي وناداه آمرًا.

قال للرجل المسن الذي كان واقفًا بهدوءٍ بجانب حصانه الهزيل، بعيدًا عن الجنود قدر الإمكان: «اسمع، أنت … هارون، أو موسى، أو إبراهيم أو أيًّا كان اسمك اللعين.»

أجاب بتواضع: «بنيامين روزنباوم، إن كان ذلك يُرضي سيادتك.»

«لا يُرضيني سَماع صوتك، لكن يُرضيني أن أعطيَك بعض الأوامر، ومن الحكمة أن تطيعها.»

«إن كان ذلك يُرضي سيادتك …»

«أمسك عليك لسانَك اللعين. ستبقى هنا، هل تسمع؟ مع حصانك وعربتك حتى عودتِنا، لا تنطق بأدنى صوت تحت أي ظرف، ولا تتنفَّس حتى بصوتٍ أعلى مما يَلزم، ولا تترك مكانك هذا لأيِّ سبب مهما كان، إلى أن أُعطيَك أوامرَ بذلك، هل تفهم؟»

اعترض اليهودي بنبرة مثيرة للشفقة: «لكن سيادتك …»

قال شوفلان بنبرةٍ جعَلَت الرجل المسن الجبان يرتجف من رأسه إلى قدميه: «لا يوجد «لكن» ولا أيُّ جدال. إن عدتُ ولم أجدك هنا، أؤكِّد لك بكل صدق أنني سأعثر عليك أينما حاولتَ الاختباء، وأن العقاب السريع، المؤكَّد والفظيع، سيُدركك عاجلًا أو آجلًا. هل تسمعني؟»

«لكن يا صاحب الفخامة …»

«قلت هل تسمعني؟»

كان كلُّ الجنود قد تسلَّلوا بعيدًا؛ وبقيَ الرجال الثلاثة واقفين معًا وحدهم في الطريق المظلم المنعزل، فيما كانت مارجريت جاثمةً هناك خلف السياج الشجري، تستمتع لأوامر شوفلان كما لو كانت تستمع لحكم إعدامها.

اعترض اليهوديُّ مجددًا بينما كان يحاول الاقتراب من شوفلان: «سمعت سيادتك، وأقسم بإبراهيم وإسحاق ويعقوب أنني سأطيعُ أوامر سيادتك بكل تأكيد، وأنني لن أتحرَّك من هذا المكان إلى أن تتفضَّل سيادتك مرةً أخرى وتُلقي بنور وجهك على خادمك المتواضع؛ ولكن تذكَّرْ سيادتك، أنني رجل مسن مسكين؛ أعصابي ليست بقوةِ أعصاب الجنود الشبان. إن أتى لصوصُ منتصف الليل يجوسون هذا الطريق المنعزل المهجور، فقد أصرخ أو أركض بسبب خوفي! وهذه حياتي التي سأخسرها، فهل يُصَبُّ عقابٌ قاسٍ كهذا على رأسي المسن المسكين بسبب شيء لا أستطيع تجنُّبَه؟»

بدا على اليهودي كربٌ صادق؛ إذ كان يرتجف من رأسه حتى أخمص قدمَيه. ومن الواضح أنه لم يكن من نوعية الرجال الذين يمكن أن يُترَكوا وحدهم في هذا الطريق المنعزل. كان كلام الرجل صحيحًا؛ فقد يُطلق بلا قصد، من شدةِ ذعره، صيحةً قد تكون بمثابة تحذيرٍ لسكارليت بيمبرنيل الماكر.

فكَّر شوفلان لحظة.

ثم سأله بفظاظة: «هل تظن أن حِصانك وعربتك سيكونان في مأمن وحدهما هنا؟»

هنا تدخل ديجا قائلًا: «أتصور أيها المواطن أنهما بدون ذاك اليهودي القذِر الجبان سيكونان آمَنَ مما لو بقيا معه. يبدو من المؤكد أنه، إذا خاف، إما سيُحاول الهرب أو سيصرخ بأعلى صوته.»

«لكن ماذا سأفعل بذاك الجلف؟»

«هل ستُرسله عائدًا إلى كاليه، أيها المواطن؟»

قال شوفلان بدلالةٍ متشائمة: «لا، لأننا قد نحتاج إليه ليقود العربة عائدًا بالجَرْحى عمَّا قريب.»

ساد سكوتٌ لحظي مجددًا؛ إذ كان ديجا ينتظر قرار قائده فيما كان العجوز اليهودي يئنُّ بجوار حصانه الهزيل.

قال شوفلان أخيرًا: «حسنًا، أنت أيها الكسول الجبان المسن المتثاقل، من الأفضل أن تأتيَ خلفنا بقدمَيك الثقيلتَين. اسمع أيها المواطن ديجا، كمِّم فمَ ذاك الرجل بهذا المنديل بإحكام.»

سلَّم شوفلان منديلًا لديجا، الذي بدأ يلفُّه بكل جديةٍ حول فم اليهودي. لم يُبدِ بنيامين روزنباوم أيَّ مقاومة وتركه يُكمِّمه بخضوع تام؛ فمن الواضح أنه كان يُفضل هذا الوضع المتعب على أن يُترك وحيدًا على طريق سان مارتين المظلم. ثم وقف الثلاثةُ مصطفِّين.

قال شوفلان بنفادِ صبر: «بسرعة! لقد أضعنا الكثيرَ من الوقت الثمين بالفعل.»

وسرعان ما اختفى صوتُ خطوات شوفلان وديجا الثابتة ووَقْع أقدام اليهودي العجوز المتثاقلة على الممشى.

لم تَفُت مارجريت كلمةٌ واحدة من أوامر شوفلان. بذلت كلَّ ما بوُسعِها لتستوعب الموقفَ تمامًا أولًا، ثم تستعين مرةً أخيرة بذكائها الذي وُصف مرارًا بأنه الأفضل في أوروبا، والذي هو وحده ربما يكون مفيدًا الآن.

بالتأكيد كان الموقف في هذه اللحظة ميئوسًا منه تمامًا: عُصبةٌ صغيرة من الرجال الغافلين المطمئنِّين ينتظرون في هدوءٍ وصولَ منقذِهم، الذي كان غافلًا مثلهم عن الفخ الذي نُصِب لهم جميعًا. بدَت فظيعةً جدًّا هذه الشبَكة وهي تضيق من كل الجهات، في سكوٍ منعزل مهجور، حول قلةٍ من الرجال العُزل؛ عُزل لأنهم كانوا مخدوعين وغافلين عن الخطر المحدق بهم؛ أحدهم هو الزوج الذي تعشقه، وآخَرُ هو أخوها الحبيب. وتساءلتْ متحيرةً عن هُوية الآخرين، الذين كانوا هم أيضًا ينتظرون سكارليت بيمبرنيل، بينما كان الموت يتربص بهم خلف كلِّ جلمودٍ في الجرف.

لم يكن باستطاعتها فعلُ أيِّ شيءٍ في اللحظة الحاليَّة، عدا أن تتبعَ الجنود وشوفلان. خشيَت أن تضلَّ الطريق، وإلا كانت ستندفع وحدها إلى الأمام وتجد ذاك الكوخَ الخشبي، وربما كانت ستصل إليه في الوقت المناسب لتحذير الهاربين ومُنقِذهم الشجاع.

خطر ببالها لثانيةٍ أن تُطلق الصرخة الحادة، التي بدا أن شوفلان يخشاها، لعلها تكون تحذيرًا لسكارليت بيمبرنيل وأصدقائه، على أملِ أن يسمعوا، ويكون لديهم وقتٌ للهرب قبل أن يفوت الأوان. لكنها لم تكن تعرف مدى بُعد حافة الجرف عنها، ولم تكن متيقنةً من أن صرخاتها ستصل إلى مسامع الرجال ذوي المصير المحتوم. وكذلك ربما ستكون هذه المحاولة سابقةً لأوانها، ولن يسمح لها ببذلِ محاولةٍ أخرى غيرها. إذ ربما يُكمِّمون فمَها بإحكامٍ كفمِ اليهودي، وتصبح سجينةً عاجزة في يدَي رجال شوفلان.

تسلَّلت خلسةً بسرعةٍ كالشبح خلف ذاك السياج دون إصدار أيِّ صوت؛ إذ كانت قد خلعَت حذاءها، وتمزَّقَت جواربها عن قدمَيها بحلول هذا الوقت. لم تكن تشعر بأيِّ ألم أو قلق؛ فرغبتها التي لا تُقهر في الوصول إلى زوجها، رغم المصير الوخيم والعدوِّ الماكر، قتلَت كلَّ ألم جسدي داخلها، وشحَذَت غرائزها أضعافًا مضاعفة.

لم تسمع شيئًا سوى خطواتِ أعداء بيرسي الخافتة المنتظمة في المقدمة، ولم ترَ شيئًا — في مخيِّلتها — سوى ذاك الكوخ الخشبي، وهو، زوجها، يمشي غافلًا إلى هلاكِه المحتوم.

وفجأةً، جعلتْها تلك الغرائزُ الحادة الكامنةُ داخلها تتوقَّف في استعجالها الجنوني، وتزداد انكماشًا في ظل السياج. فالقمر، الذي كان قد أثبتَ أنه صديقٌ لها ببقائه متواريًا خلف كومة الغيوم، ظهر الآن بكلِّ بهائه المتألِّق المعتاد في ليلةٍ خريفيةٍ مبكرة، وفي لحظة غمر المنظرَ الطبيعي الغريب المهجور بدفقةٍ من الضوء الساطع.

كانت حافَةُ الجرف أمامها على بُعد أقلَّ من مائتي متر، وكان البحر يمتدُّ من أسفل الحافة بعيدًا إلى إنجلترا الحرَّة السعيدة متماوجًا بسلاسةٍ وسلام. استقر نظر مارجريت لحظةً على المياه الفِضِّية الساطعة، وبينما كانت تنظر، بدا أن قلبها الذي كان مُخدرًا بالألم طَوال هذه الساعات كان يلين ويتضخم، وامتلأت عيناها بدموع حارة؛ فعلى بُعد أقلَّ من ثلاثة أميال، كان مركبٌ شراعيٌّ رشيق بأشرعةٍ بيضاء ممدودة يقف منتظرًا.

لم تستطع مارجريت تمييزَ هُويته بيقين، لكنها خمَّنتْها. كان ذلك «داي دريم» مركب بيرسي المفضَّل، وعلى متنه بريجز العجوز، أميرُ الرَّبابنة ذاك، وكل طاقمه المكوَّن من بحَّارةٍ إنجليز؛ وبدا أن أشرعته البيضاء، التي كانت تتلألأ في نور القمر، تحمل رسالةَ سعادةٍ وأملٍ إلى مارجريت، لكنها كانت تخشى ألَّا يتحقَّق هذا الأمل أبدًا. كان المركب ينتظر هناك، في عُرض البحر، ينتظر سيدَه، كطائرٍ أبيضَ جميل مستعدٍّ للطيران، في حين أن سيده لن يتمكَّن من الوصول إليه، ولا رؤية سطحه الأملس مجددًا، ولا التحديق مرةً أخرى أبدًا في الجروف البيضاء لإنجلترا، أرض الحرية والأمل.

بدا أن منظر المركب الشراعي قد بثَّ في المرأة المسكينة المرهقة قوةَ اليأس الخارقة. فحافة الجرف كانت هناك، وفي مكانٍ ما أسفلها كان يوجد الكوخ، حيث عمَّا قريب، سيُلاقي زوجها حتفَه. لكن القمر كان بازغًا، وصارت قادرةً الآن على رؤية طريقها؛ سترى الكوخ من مسافةٍ بعيدة، وستجري إليه وتُنبِّهُهم جميعًا، وتُحذرهم بأي حال من الأحوال ليكونوا مستعدِّين للمقاومة وإلحاق الضرر بعدوهم قبل الموت، بدلًا من الإمساك بهم كجرذان في حفرة.

واصلَت المضيَّ متعثرةً خلف السياج في العشب الكثيف المنخفض في القناة الجافة. ولا بد أنها ركضَت بسرعةٍ كبيرة وتجاوزت شوفلان وديجا؛ لأنها سرعان ما وصلت إلى حافة الجرف، وسمعَت خطواتهم بوضوح من خلفها. لكنهم كانوا على بُعد بضع ياردات فقط، والآن كان ضوء القمر يغمرها بالكامل، ومن المؤكد أن هيئتها كانت تظهر مُظَلَّلَةً بوضوح وسط خلفية البحر الفضية.

لكن ذلك استمرَّ لحظةً فقط؛ لأنها في اللحظة التالية جثمت منكمشةً كحيوان منطوٍ على نفسه. استرقَت نظرةً خاطفة إلى أسفل الجروف الوعرة الشاهقة، وارتأتْ أن النزول سيكون سهلًا بما يكفي؛ لأنها لم تكن شديدةَ الانحدار، ولأن الجلاميد الكبيرة كانت تُتيح متسَعًا كافيًا لموطئ القدم. وفجأةً، بينما كانت تنظر، رأت على مسافة قليلة إلى يسارها، وفي وسط المسافة المؤدية إلى سفح الجرف، بناءً خشبيًّا غيرَ مكتمل، ولمحت عبر الجدار ضوءًا أحمر ضئيلًا يرتعش خافتًا كضوء منارة. بدا أن قلبها نفسه قد توقَّف، ولهفة الفرح كانت كبيرة جدًّا لدرجة أنها شعرت بألمٍ رهيب.

لم يكن بإمكانها أن تقيس المسافة التي يبعدها الكوخ، لكنها بدأَت تنزل المنحدر دون تردُّد، منسلَّةً من جُلْمود إلى آخَر، غيرَ عابئةٍ بالعدوِّ في الخلف، أو الجنود الذين من الواضح أنهم كلهم كانوا مختبئين لأن الرجل الإنجليزيَّ الطويل لم يكن قد ظهر بعد.

واصلَت التقدُّم، ناسيةً العدوَّ القاتل في إثرها، وظلَّت تركض وتتعثَّر وهي متألمةُ القدمَين وشبه دائخة، لكنها واصلَت التقدم … وفجأة، سقطَت أرضًا بعنفٍ بعد تعثُّرها بشقٍّ أو حجرٍ أو صخرة زلقة. بجهد جهيد عاودت الوقوف على قدمَيها، وبدأت تركض مجددًا نحو الأمام لتُحذِّرهم قبل فوات الأوان، وتتوسَّل إليهم أن يهربوا قبل أن يأتي، وأن يخبروه بأن يبقى بعيدًا، بعيدًا عن هذا الفخ المميت، بعيدًا عن هذا المصير البشع. لكنها الآن أدركَت أن خطواتٍ أخرى من ورائها، أسرع من خطواتها، قد تقترب بالفعل في عقبِها. وفي اللحظة التالية، أمسكت يدٌ بتنورتها وشَدَّتها، فوجدت نفسها على ركبتيها مجددًا، بينما لُفَّ شيءٌ ما حول فمها ليمنعها من الصراخ.

نظرَت حولها بعجزٍ تام وهي مرتبكةٌ وشبه مهتاجة من مرارةِ خيبة الأمل، ومن خلال الضباب الذي بدا أنه يتجمع حولها، رأت وجهًا ينحني نحو الأسفل إلى مقربةٍ شديدة منها، وعينَين خبيثتَين حادَّتَين بدتا لعقلها المنفعل كأنَّهما تشعان ضوءًا أخضر غريبًا خارقًا للطبيعة.

كانت مُمدَّدةً في ظل جُلمود عملاق؛ فلم يستطع شوفلان رؤية ملامحها لكنه مرَّر أصابعه البيضاء النحيلة على وجهها.

همس قائلًا: «امرأة! بحق جميع القديسين.»

تمتم لنفسه: «لا يمكننا أن نتركها طليقة، هذا مؤكَّد. أتساءل الآن …»

سكتَ فجأة، وبعد بضع ثوانٍ من الصمت المطبق، أطلق ضحكة مكتومة طويلة ومنخفضة وغريبة، بينما شعرت مارجريت مجددًا، وجسدها يقشعرُّ من الرعب، بأصابعه النحيلة تتجول على وجهها.

همس بملاطفة مصطنَعة: «يا إلهي! يا إلهي! إنها لَمفاجأةٌ سارةٌ بالتأكيد»، وشعرت مارجريت بيدها الهامدة العاجزة عن المقاومة تُرفع إلى شفتَيْ شوفلان النحيلتَين الساخرتَين.

كان الوضع هزْليًّا وغريبًا بالتأكيد، وفي الوقت نفسه كان مأساويًّا إلى حدٍّ رهيب جدًّا؛ فالمرأة المسكينة المنهكة، المنكسرة الروح، وشبه المهتاجة من مرارة خيبة الأمل، تتلقَّى وهي منبطحةٌ على الأرض ملاطَفاتٍ مبتذلةً من عدوها القاتل.

كانت تفقد وعيها شيئًا فشيئًا؛ إذ كانت شبه مختنقةٍ من الربطة المحكَمة حول فمها، ولم تكن لديها قوةٌ لتتحرَّك أو تنطق بأي صوت. بدا أن الانفعال الذي كان يُبقي جسدها الرقيق مستيقِظًا قد خمد فجأة، وأن الشعور باليأس التامِّ قد شلَّ دماغها وأعصابها تمامًا.

كانت ذاهلةً لدرجةٍ أعجزتها عن السمع، ولكن لا بد من أن شوفلان قد أعطى بعضَ الأوامر؛ لأنها شعرَت بأنها قد حُمِلَت عن الأرض، وبأن اللثام على فمها قد أصبح أشدَّ إحكامًا، وبأن ذراعَين قويتَين كانتا تحملانها إلى الأمام نحو ذاك الضوء الأحمر الضئيل، الذي كانت قبل قليلٍ تعتبره منارةً وآخِرَ بصيصٍ خافت من الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤