الفصل الحادي والثلاثون

الهروب

مع أنَّ مارجريت كانت شبهَ فاقدةٍ للوعي، استمعَت لوقع أقدام الرجال الأربعة الثابتة وهم يبتعدون سريعًا.

كانت الطبيعة كلُّها ساكنةً جدًّا لدرجة أن مارجريت استطاعت، وهي ممدَّدةٌ وأذنها قريبةٌ من الأرض، أن تتتبَّع خطواتهم وهم ينعطفون أخيرًا إلى الطريق، وسرعان ما أخبرها الصدى الخافتُ لقعقعة عجَلات العربة القديمة، والمشية العَرجاء للحصان الهزيل بأن عدوَّها صار على بُعد ربع فرسخٍ منها. لم تعرف كم مضى عليها وهي مُمدَّدةٌ هناك. كانت قد فقدَت إحساسها بالوقت، ورفعت نظرها بشكلٍ حالمٍ إلى السماء المضاءة بالقمر، واستمعَت إلى صوت الأمواج الرتيب.

كانت رائحة البحر المنعِشةُ رحيقًا لجسدها المنهَك، وكان الفضاء الفسيح للجروف المنعزلة صامتًا وخياليًّا كالحلم. لم يكن عقلُها واعيًا إلا بعذابه المتواصِل بعدم اليقين الذي لا يُطاق.

لم تكن تدري! …

لم تكن تدري ما إن كان بيرسي الآن، في هذه اللحظة بالضبط، واقعًا في قبضة جنود الجمهورية يُكابد تهكُّمَ عدوِّه اللدود وسخريتَه، كما كابدَتْهما هي. ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن تدري ما إن كانت جثةُ أرماند الهامدةُ ممدَّدةً هناك، في الكوخ، في حين أن بيرسي قد هرَب، فقط ليسمع أن يدَي زوجته قد وجَّهَتا كلابَ التَّعَقُّب البشرية إلى قتل أرماند وأصدقائه.

كان الألم الجسديُّ الناتجُ عن هذا الإرهاق التامِّ شديدًا جدًّا، لدرجة أنها تمنَّت من أعماق قلبها أن ينام جسدُها المتعَب إلى الأبد، بعد كل تلك الاضطرابات والانفعالات والمَكايد في الأيام القليلة الأخيرة؛ هنا تحت تلك السماء الصافية، بين ثنايا صوت البحر، ونسيمُ الخريف العليل يهمس لها تهويدةً أخيرة. كان المكان كلُّه خاويًا جدًّا، وصامتًا جدًّا، مثل أرض الأحلام. حتى آخِر صدًى خافتٍ للعربة البعيدة كان قد تلاشى منذ وقتٍ طويل.

وفجأةً … كُسِر الصمتُ الكئيب المخيِّم على الشاطئ بصوت … أغرب صوتٍ سمِعَته هذه الجروف المنعزلة في فرنسا على الإطلاق بلا ريب.

صوتٌ غريبٌ جدًّا لدرجة أن النسيم الرقيق توقَّف عن الهمهمة، والحصى الصغير توقفَ عن التدحرج أسفل المنحدر! غريبٌ جدًّا لدرجة أن مارجريت، مع أنها كانت منهَكةً ومجهدة، ظنَّت أن حالةَ فقدان الوعي المفيدة التي تسبق الموتَ كانت تُخادع حواسَّها شبهَ النائمة بحيلةٍ غريبة محيرة.

كان صوتًا قال «اللعنة!» بنطقٍ سليم مُتَمَاسِك وإنجليزيٍّ تمامًا.

استيقظَت النَّوارس في أعشاشها ونظرَت حولها بدهشة؛ وأطلقَت بومةٌ بعيدةٌ وحيدةٌ نَعيقًا في منتصف الليل، وعبَسَت الجروفُ الشاهقة بعظمةٍ مَهيبة تجاه هذا اللفظِ النابي الغريب الذي يُدنِّس حرمتَها لأول مرَّة.

لم تَثِق مارجريت بأذنَيها. رفَعَت جسدها قليلًا بالاتِّكاء على يدَيها، ثم بذلَت كلَّ ما بوُسعها لترى أو تسمع، لتعرف معنى هذا الصوتِ الدُّنيوي جدًّا.

كان كل شيء ساكنًا مجددًا لمدة ثوانٍ قليلة، وعاد الصمتُ نفسُه يُخيِّم مجددًا على البراح الشاسع الخاوي.

كانت مارجريت قد سمعت ذلك الصوتَ كما لو كانت شبه فاقدةٍ للوعي، وشعرت بأنها تحلم تحت تأثير ضوء القمر المغناطيسيِّ البارد في الأعلى، ثم سمعَت الصوتَ مجددًا، وهذه المرة توقَّف قلبها، ونظرت حولها بعينَين كبيرتَين متَّسِعتَين وهي لا تجرؤ على الثقة بحواسِّها الأخرى.

«سحقًا! يا ليت هذَين الرجلَين اللعينَين لم يضربا بكلِّ تلك القوة العنيفة!»

كان الصوتُ هذه المرةَ واضحًا تمامًا بما لا يدعُ مجالًا للخطأ في معرفة هُويَّة صاحبه؛ إذ لا توجد سوى شفتَين بريطانيتَين للغاية تستطيعان أن تنطقا هذه الكلمات، بنبرةٍ ناعسةٍ متباطئةٍ متكلَّفة.

كرَّرَت هاتان الشفَتان البريطانيَّتان أنفسُهما بنبرةٍ مشدَّدة: «اللعنة! سحقًا! لكني ضعيفٌ كجرذ!»

هبَّت مارجريت واقفةً على قدَمَيها فورًا.

هل كانت تحلم؟ هل كانت تلك الجروفُ الصخرية الشاهقة هي أبوابَ الجنة؟ هل نتَجَت رائحةُ النسيم العطرة فجأةً من رفرفة أجنحة الملائكة التي جاءت حاملةً معها بُشرى بأفراحٍ سَماوية بعد كلِّ معاناتها، أم أن فقدان وعيها وتعبها جعَلاها فريسةً للهذَيان؟

أنصتَت مجددًا، ومرةً أخرى سمعت ذاك الصوتَ الدنيوي الذي ينطق بلكنةٍ إنجليزية سليمة أصيلة، ليست شبيهةً إطلاقًا بهمساتٍ من الجنة أو رفرفةِ أجنحة الملائكة.

نظرَت حولها بلهفةٍ إلى الجروف الشاهقة، والكوخ المهجور، والساحل الصخريِّ الواسع الممتد. ففي مكانٍ ما هناك، في الأعلى أو الأسفل، خلف صخرةٍ أو داخلَ حفرة، لا بد أن يوجد صاحبُ ذاك الصوت الذي كان يُزعجها في الماضي، لكنه الآن سيجعلها أسعدَ امرأةٍ في أوروبا لو استطاعَت تحديد مكانه فقط، لكنه ما زال خفيًّا عن عينَيها المشتاقتَين المنفعلتَين.

صرَخَت بهستيريا معذَّبةٍ بين الشك والأمل: «بيرسي! بيرسي! أنا هنا! تعالَ إليَّ! أين أنت؟ بيرسي! بيرسي! …»

قال الصوت الناعس المتباطئ نفسُه: «من السهل جدًّا أن تُناديني يا عزيزتي! ولكن سحقًا، لا يمكنني المجيءُ إليكِ، فهذان الفرَنسيان اللعينان قد أوثقاني كإوزَّةٍ على سيخ، وأنا ضعيفٌ كفأر … لا يُمكنني أن أفلت.»

لم تفهم مارجريت بعد. وظلَّت هكذا نحو عَشْر ثوانٍ أخرى إلى أن أدركَت مصدر ذلك الصوت، المتباطئ جدًّا، والعزيزِ عليها جدًّا، لكنه — مع الأسف! — كان ممزوجًا بلهجةٍ غريبة تنمُّ على الضعف والمعاناة. لم يكن يوجد أحدٌ في نِطاق بصرها … ما عدا ذاك الموجود بجانب تلك الصخرة … يا رباه! … اليهودي! … هل جُنَّت أم أنها كانت تحلم؟

كان ظهره مواجهًا لنورِ القمر الباهت، وكان شِبهَ منبطحٍ على الأرض، يُحاول عبثًا أن يرفع نفسَه على ذِراعَيه الموثقتَين بإحكام. ركضَت مارجريت إليه، وأخذت رأسَه بين يدَيها الاثنتَين … ونظرَت مباشرةً إلى عينيه الزرقاوين الوُدِّيتَين، بل والمستمِعتَين قليلًا، وهما تلمَعان من خلال قناع اليهودي الغريب المشوَّه.

قالت لاهثةً وهي تكاد تفقدُ وعيها من شدةِ الفرح: «بيرسي! … بيرسي! … زوجي! أشكر للرب! أشكر للرب!»

ردَّ مازحًا: «عجبًا يا عزيزتي! كلانا سيفعل هذا حالًا، إذا كنتِ تظنِّين أنكِ تستطيعين فكَّ هذه الحبال اللعينة، وتخليصي من وضعيتي غيرِ اللطيفة.»

لم تكن تملكُ سكينًا، وكانت أصابعُها خدرةً وضعيفة، لكنها استخدمَت أسنانها، بينما سالت دموعُ الترحيب الشديد من عينَيها على تلك اليدَين المسكينتين المربوطتين.

وبعد جهودٍ مَحمومةٍ منها، بدا أنَّ الحبال تنقطع أخيرًا، وعندئذٍ قال: «سحقًا! أتساءل عمَّا إذا كان أيُّ سيدٍ إنجليزيٍّ قد سمَح من قبل لأجنبيٍّ لَعين بأن يضربَه، دون أن يبذل أيَّ محاولةٍ لردِّ الصاع بمثله.»

كان من الواضح جدًّا أنه كان مُنهَكًا من الألم الجسديِّ الشديد، وعندما انقطع الحبل أخيرًا، تكوَّم مستندًا إلى الصخرة.

نظرَت مارجريت حولها بعجز.

صاحَت في عذابٍ وهي ترى أنه على وشك أن يفقد وعيَه مجددًا: «أوه! يا ليتني أجدُ قطرة، قطرةَ ماءٍ على هذا الشاطئ الفظيع!»

تمتمَ وهو يبتسمُ مازحًا: «لا يا عزيزتي، أنا شخصيًّا أُفضِّل قطرةً من البراندي الفرنسي! إن وضعتِ يدَكِ في جيب هذا الثوب القديم القذر، فستجدين قنِّينتي. فأنا لا أستطيع التحرُّك إطلاقًا.»

عندما شرب بعض البراندي، أجبر مارجريت على فِعل المثل.

قال وهو يتنهَّد برِضًا: «رباه! الوضع أفضلُ الآن! أليس كذلك! أيتها السيدة الصغيرة؟ وا أسَفاه! هذه ثيابٌ شاذة على السير البارون بيرسي بليكني … ولا يليق به أن تجده زوجتُه، بنفسها، وهو مُرتدٍ إياها.» أضاف وهو يُمرر يده على ذقنه: «يا إلهي! لم أحلق منذ نحوِ عشرين ساعة، لا بد أنني أبدو كشيءٍ مقرف. أما هذه الخصلات المتموجة …»

وخلع، ضاحكًا، الشعر المستعار والخصلات المتموجة التي كانت تُشوِّه شكله الحقيقيَّ، ومدَّد أطرافه الطويلة التي كانت مُتشنِّجةَ العضلات من تأثير تحدُّبِه المتعمَّد طوال ساعات. ثم انحنى إلى الأمام وحدَّق طويلًا إلى عينَي زوجته الزرقاوين.

همسَت بينما تورَّدَت وجنتاها الرقيقتان ورقبتها الجميلة تورُّدًا عميقًا: «بيرسي، ليتك تعرف …»

قال بلطفٍ بالغ: «أعرف يا عزيزتي … كل شيء.»

«وهل يمكن أن تغفر؟»

«لا يوجد ما أغفره يا حبيبتي؛ فشَجاعتُكِ وإخلاصكِ — اللذان لا أستحقُّهما مع الأسف! — كفَّرا عن الحادثة المؤسفة في الحفل وزيادة.»

همَسَت قائلةً: «إذن فقد كنتَ تعرف؟ … طَوال الوقت …»

أجاب بلُطف: «أجل! كنت أعرف … طَوال الوقت. لكن، يا إلهي! لو أنني كنتُ أعرف حقيقةَ قلبِكِ النبيل، يا مارجو يا حبيبتي، كنتُ سأثق بكِ بقدرِ ما تستحقِّين، وما كنتِ لتعيشي المآسيَ الفظيعة التي مرَرتِ بها في الساعات القليلة الماضية، لِتُهرَعي خلف زوجٍ ارتكب الكثيرَ مما يستدعي الغفران.»

كانا يجلسان متجاوِرَين مستنِدَين إلى صخرة، وقد أراح هو رأسَه المتألم على كتفها. من المؤكد أنها الآن كانت تستحقُّ لقب «أسعد امرأةٍ في أوروبا».

قال بابتسامته المازحة المعهودة: «إننا بمنزلةِ شخصٍ أعمى يُساعد شخصًا أعرَج، أليس كذلك يا حبيبتي؟ سحقًا! لا أدري أيُّهما الأشدُّ تألُّمًا؛ كتفاي أم قدماكِ الصغيرتان.»

انحنى إلى الأمام ليُقبِّلَهما لأنَّهما ظهَرَتا من خلال جواربها الممزقة، وكانتا شاهِدتَين بشكلٍ مثيرٍ للشفقة على تحمُّلِها وإخلاصها.

قالت برعبٍ وندم مفاجئَين: «لكن أرماند …» كما لو أنها، في خِضَمِّ سعادتها، قد رأت في مخيلتِها الآن صورة الأخ المحبوب الذي ارتكبَت إثمًا فادحًا من أجله.

قال برقَّة: «أوه! لا تقلقي إطلاقًا على أرماند يا حبيبتي، ألم أتعهَّدْ لكِ بشرفي أنه سيكون بخير؟ إنه مع تورناي والبقية على متن «داي دريم» الآن بالفعل.»

قالت شاهقةً: «لكن كيف؟ لا أفهم.»

قال بضحكته المميزة التي تمزج بين الخجَل والبلاهة: «لكن الأمر بسيطٌ جدًّا يا عزيزتي. اسمعي! عندما عرَفتُ أن ذاك البهيم شوفلان ينوي الالتصاقَ بي كعلَقةٍ، ارتأيتُ أن أفضل تصرفٍ ممكن، بما أنني لا أستطيع التخلص منه، هو أن آخُذَه معي. كان عليَّ أن أصلَ إلى أرماند والبقيةِ بطريقةٍ ما، وكل الطرق كانت تحت الحراسة، والجميع يبحثون عن خادمِكِ المتواضع. كنتُ متيقنًا عندما انسللتُ من بينِ أصابع شوفلان في نزل «القط الرمادي»، من أنه سيبقى بانتظاري هنا أيًّا ما كان الطريق الذي أسلُكه. أردتُ أن أراقبه وأراقب أفعاله، والرأس الإنجليزي بارعٌ بقدر الفرنسي دائمًا.»

بل ثبتَ أنه أفضل بقدر لا متناهٍ، وكان قلبُ مارجريت مفعمًا بالفرح والإعجاب، بينما واصل بيرسي سرْدَ الطريقة الجريئة التي انتشل بها المطارَدين وأنقذَهم أمام عينَي شوفلان نفسه.

قال مبتهجًا: «تنكَّرتُ في هيئة اليهودي المسن القذر؛ لأنني كنتُ أعرف أنني يجب أن أُخفِيَ هُويَّتي. كنت قد التقيتُ بروبن جولدشتاين في كاليه باكرًا هذا المساء. ومقابلَ بِضع قطعٍ ذهبيَّة، أعطاني هذا اللباس، وتعهَّدَ بإبعاد نفسه عن أنظار الجميع، بينما أعارني عرَبته وحصانه الهزيل.»

قالت لاهثةً بحماس: «لكن لو أن شوفلان كان قد اكتشفَك … صحيحٌ أن تنكُّرَك كان متقنًا … لكنه ذكيٌّ جدًّا.»

ردَّ بهدوء: «سحقًا! كانت اللعبة ستنتهي عندئذٍ بالتأكيد. لم يكن بوسعي سوى المخاطرة. صرتُ أعرف الطبيعة البشرية جيدًا الآن»، وأضاف بنبرةِ حزنٍ تتخلَّلُ صوتَه المبتهج الشاب: «وأعرف هؤلاء الفَرنسيِّين تمام المعرفة. سيشمئزُّون من رجلٍ يهودي اشمئزازًا شديدًا جدًّا، لدرجة أنهم لن يقتربوا منه أبدًا أكثرَ من بِضْع ياردات، ويا إلهي! أتصور أنني تمكَّنتُ من جَعْل مظهري مُنفِّرًا بأقصى قدرٍ يمكن تخيلُه.»

سألَت بلهفة: «أجل! … وبعد؟»

«تبًّا! … بعدها بدأتُ تنفيذ خُطتي الصغيرة؛ وهذا يعني أنني في البداية كنتُ عازمًا على ترك كلِّ شيءٍ للصدفة، لكنني عندما سمعت شوفلان يُملي الأوامر على الجنود، ارتأيتُ أنني أنا والقدر سنتعاون معًا في النهاية. اعتمدتُ على الطاعة العمياء لدى الجنود. فشوفلان هدَّدَهم بالقتل إن تحركوا قبل أن يأتيَ الإنجليزي الطويل. كان ديجا قد رمى بي مُكوَّمًا على مقربة شديدة من الكوخ، لم ينتبه الجنودُ إلى اليهوديِّ الذي أوصل المواطن شوفلان إلى هذا المكان. استطعتُ تحريرَ يديَّ من الحبال التي قيَّدني بها ذاك البهيم؛ ودائمًا ما أحمل معي قلمَ رصاصٍ وورقةً أينما أذهب، فكتبتُ بِضعة تعليمات مهمة على قصاصة ورقية في عُجالة، ثم نظرتُ حولي. زحفتُ إلى الكوخ تحت أنظار الجنود، الذين انتظروا مختبئين بلا حركةٍ كما أمرهم شوفلان، ثم رميتُ ورقتي الصغيرة في الكوخ من خلال صدع في الجدار، وانتظرتُ. في تلك القصاصة أخبرتُ المطارَدين بأن يخرجوا من الكوخ بهدوء وينزلوا الجروف، ويلزموا الجانب الأيسرَ حتى يصلوا إلى أول خليجٍ ثم يُطلِقوا إشارةً معينة، حينها سيأتي مركب «داي دريم» الذي كان ينتظرهم على مسافةٍ غير بعيدة في البحر ليأخذهم. أطاعوا التعليماتِ بحذافيرها، من حُسن حظهم وحظي. وكذلك فالجنود الذين رأَوْهم كانوا مُطيعين بالقدر نفسِه لأوامر شوفلان. لم يتزحزحوا قِيدَ أَنمُلة! انتظرتُ نحوَ نصف الساعة، وحين عرَفتُ أن المطارَدين صاروا في مأمن، أعطيتُ الإشارة التي سبَّبَت الكثيرَ من الاضطراب.»

وتلك هي القصة كلها. بدت بسيطةً جدًّا! ولم يسَعْ مارجريت سوى أن تتعجبَ من العبقرية المذهلة، والجسارة والجُرأة اللامحدودتَين اللتَين تطوَّرتا وساعدَتا في تنفيذ هذه الخطة الجريئة.

قالت، وهي تشهق برعبٍ، عندما تذكَّرَت الإذلال المخيف: «لكن هذين المتوحشَين ضرباك!»

قال بلُطف: «حسنًا، لم يكن من الممكن تجنبُ ذلك؛ ففي حين أن مصير زوجتي الصغيرة لم يكن واضحًا، كان عليَّ أن أبقى هنا إلى جوارها.» وأضاف بمرحٍ: «سحقًا! لا تقلقي أبدًا! سينال شوفلان ما يستحقه، أعِدُك بهذا! انتظري حتى ألتقيَه عندما يعود إلى إنجلترا! … رباه! سيدفع ثمنَ الضربات التي أعطاني إياها بفائدةٍ مضاعفة، أعِدُكِ.»

ضحِكَت مارجريت. كان من الرائع جدًّا أن تكون إلى جواره، أن تسمع صوته المبتهج، أن تُشاهد ذاك الالتماع الجذل في عينَيه الزرقاوين، وهو يمدُّ ذراعَيه القويتين شوقًا لذلك العدو وترقبًا لعقابه المستحَق.

لكنها انتفضَت فجأة؛ وزال الاحمرارُ السعيد عن وجنتيها، وانطفأ نورُ البهجة في عينيها؛ إذ سمعت وقْعَ أقدام تقترب خلسةً من الأعلى، وتدحرجَ حجر صغير من فوق الجرف إلى الشاطئ في الأسفل.

همسَت برعبٍ وارتياع: «ما كان ذلك؟»

تمتم بضحكةٍ جذلة: «أوه، إنه لا شيء يا عزيزتي. مجرد شخصٍ تافه تصادف أنكِ نسيتِه … صديقي فولكس …»

قالت بشهقةٍ: «السير أندرو!»

بالفعل، كانت قد نسيَت تمامًا الصديقَ والرفيق المخلص، الذي وثق بها ووقَف إلى جانبها خلال كلِّ تلك الساعات من القلق والعذاب. تذكَّرَته الآن متأخرًا وبغُصةٍ من تأنيب الضمير.

قال السير بيرسي بمرح: «أجل! لقد نسيتِه، أليس كذلك يا عزيزتي؟ من حُسن الحظ أنني التقيتُ به غيرَ بعيدٍ عن «القط الرمادي»، قبل أن أحظى بمأدُبةِ العشاء الشائقة مع صديقي شوفلان. سحقًا! لدي دَينٌ سأسوِّيه مع ذاك الشاب المتهور! لكن إلى أن يحينَ ذلك، أخبرتُه عن طريقٍ طويل جدًّا ومُلتوٍ جدًّا، لن يَشكَّ به رجال شوفلان أبدًا، سيُحضِره إلى هنا بحلول الوقت الذي نكون فيه مستعدِّين له، أليس كذلك، أيتها الصغيرة؟»

سألت مارجريت باندهاشٍ تام: «وأطاع؟»

«بلا كلمةٍ أو سؤال. انظري، ها هو قادم. لم يقف في طريقي عندما لم أكن أحتاجُ إليه، والآن وصَل في الوقت المناسب بالضبط. آه! سيكون زوجًا رائعًا ومنظمًا جدًّا لسوزان الصغيرة الجميلة.»

في هذه الأثناء، كان السير أندرو فولكس قد شقَّ طريقه بحذرٍ إلى أسفل الجروف، توقفَ بضع مرات منصتًا للهمسات التي من شأنها أن تُرشِدَه إلى مخبأ بليكني.

وأخيرًا تجرأ على أن يقول بحذر: «بليكني! بليكني! أنتَ هناك؟»

وفي اللحظة التالية أتى من حول الصخرة التي كان السير بيرسي ومارجريت يستندان إليها، وعندما رأى الهيئةَ الغريبة ما زالت مكسوَّةً بالسترة اليهودية الطويلة، توقفَ فجأةً في حيرةٍ تامة.

لكن بليكني كان قد وقف على قدَمَيه بصعوبة.

قال بضحكته البلهاء المميزة: «ها أنا يا صديقي، ما زلتُ حيًّا! مع أنني أبدو كفزَّاعةٍ بشعة في هذه الأسمال اللعينة.»

أطلق السير أندرو شتيمةً من شدة اندهاشه عندما تعرَّف قائده: «اللعنة! من بين كل اﻟ…»

رأى الشابُّ مارجريت، فابتهج وكبحَ الألفاظ النابيةَ التي صعدت إلى شفتَيه عند رؤية السير بيرسي المتأنِّقِ المتغندِر مكتسيًا بزيِّه الغريب المتَّسخ.

قال السير بليكني بهدوء: «أجل! من بين كل اﻟ… إحم! … يا صديقي! لم يُتَح لي من قبلُ أن أسألك عمَّا تفعله في فرنسا، بينما أمرتُك بالبقاء في لندن؟ تمرَّدتَ؟ أليس كذلك؟ انتظر حتى يخفَّ ألمُ كتفي وأقسم بالرب أنك سترى العقابَ الذي ستناله.»

قال السير أندرو بضحكةٍ مسرورة: «سحقًا! سأتحمَّله؛ لأنك حيٌّ تمنحُني إياه. هل كنتَ ستسمح لي بأن أترك الليدي بليكني تخوض الرحلةَ وحدها؟ لكن بحقِّ السماء يا رجل، من أين جئتَ بهذه الملابس العجيبة؟»

ضحك السير بيرسي بمرح قائلًا: «يا إلهي! إنها قديمةٌ وطريفة قليلًا، أليس كذلك؟» وأضاف بجِدِّية مفاجئةٍ ونبرة سلطوية: «لكن سحقًا! الآن بما أنك قد جئت يا فولكس، يجب ألَّا نُضيع المزيد من الوقت؛ فذاك البهيم المتوحش شوفلان قد يُرسل أحدًا للبحث عنا.»

كانت مارجريت سعيدةً للغاية، كان بإمكانها البقاءُ هنا إلى الأبد؛ تسمع صوته، وتطرح مائة سؤال. ولكن عندما ذُكر اسمُ شوفلان، انتفضَت سريعًا بذُعر، خوفًا على الحياة الغالية التي كانت مستعدَّةً للموت من أجل إنقاذها.

قالت شاهقة: «لكن كيف يمكننا أن نعود؟ الطرق مليئةٌ بالجنود بيننا وكاليه، و…»

قال: «لن نعود إلى كاليه يا حبيبتي. ولكن إلى الجانب الآخر من رأس جريس نيز، يبعد أقلَّ من نصفِ فرسخٍ عن هنا. مركب «داي دريم» سيُلاقينا هناك.»

«مركب «داي دريم»؟»

قال بضحكةٍ مرحة: «أجل! حيلةٌ بسيطةٌ أخرى من حِيَلي. كان ينبغي أن أُخبرَكِ سلفًا بأنني، عندما دسستُ تلك الرسالة في الكوخ، أضفتُ واحدة أخرى لأرماند، وأخبرتُه بأن يتركها خلفه، وهذه هي التي أرسلَت شوفلان ورجاله عائدين إلى نزل «القط الرمادي» خلفي، لكن الرسالة الأولى كانت تحوي توجيهاتي الحقيقية، من بينِها تلك الموجَّهة إلى بريجز العجوز. لديه أوامر مني بأن يبتعدَ في البحر، ثم يتوجَّه نحو الغرب. وعندما يختفي تمامًا عن أنظار كاليه، سيُرسل القادس إلى خليجٍ صغير نعرفه أنا وهو، على الجانب الآخَر من رأس جريس نيز مباشرة. سيترقَّب الرجال وصولي، لدينا إشارةٌ متفَقٌ عليها سلفًا، وسنكون جميعًا على سطحه آمِنين، بينما شوفلان ورجاله عاكفون بكل جديةٍ على مُراقبة الخليج «المقابل مباشرة ﻟ «القط الرمادي»».»

«الجانب الآخَر من رأس جريس نيز؟ لكن أنا … لا أستطيع المشي يا بيرسي»، تأوَّهَت بعَجزٍ وهي تُحاول الوقوف على قدمَيها بصعوبة، ووجدَت أنها غيرُ قادرة على الوقوف حتى.

قال ببساطة: «أنا سأحملك يا عزيزتي؛ الأعمى يقود الأعرج، كما تعرفين.»

كان السير أندرو مُستعدًّا، هو الآخر، للمساعدة في حمل هذا الحمل الثمين، لكن السير بيرسي ما كان لِيَعهَد بحبيبته إلى ذراعين غيرِ ذراعَيه.

قال لرفيقه الشاب: «عندما تكون أنت وهي آمِنَين على متن «حلم اليقظة»، وأشعر بأن عينَي الآنسة سوزان لن تستقبلَني في إنجلترا بنظراتٍ مؤنِّبة، فسيَحينُ دَوري للراحة.»

وبذراعيه، اللتين كانتا لا تزالان قويَّتَين رغم الألم والمعاناة، طَوَّقَ جسد مارجريت المسكين المرهق، ورفعَها بلُطفٍ كما لو كانت ريشة.

ثم ابتعد السير أندرو عنهما لئلا يَسمع ما يقولانه في لفتةٍ تنم على حَصافته ومُراعاته للآخَرين، وهنا تبادَلا الكثير من الكلمات — أو بالأحرى الهمسات — التي لم يسمَعْها حتى نسيمُ الخريف؛ لأنه كان قد سكَن.

نسي بيرسي كلَّ تعبه، صحيحٌ أن كتِفَيه كانتا تؤلمانه جدًّا؛ لأن الجنديَّين ضرَباه بشدة، لكن عضلات الرجل بدَت مصنوعةً من حديد، ومقدرته كادت تكون غيرَ طبيعية. كانت رحلةً شاقَّة ومرهِقة على الأقدام، نصف فرسخٍ على طول الجانب الصخري من الجروف، لكنَّ عزمه لم يَلِنْ ولو لحظة، ولم تُذعِن عضَلاتُه للإرهاق. واصل المشيَ بخطواتٍ ثابتة، محتضِنًا الحِمْل الثمين بذِراعَيه، و… كانت مارجريت مستلقيةً في هدوءٍ وسعادة، وكانت تُهدهِد أحيانًا إلى أن يغلبها نُعاسٌ مؤقَّت، وأحيانًا أخرى كانت تتأمَّلُ الوجه الجذَّاب ذا العينَين الزرقاوَين الناعستَين المتراخيتَين المرحتَين دائمًا، والمشرقتَين دومًا بابتسامةٍ ودودة، خلال ضوءِ الفجر المتجمِّع ببُطء، ومن المؤكد أنها في تلك الأثناء همسَت له بالكثير من الأشياء، التي ساعدَت في تقصير الطريق المرهِق، وهدأَت أوتاره المتألمة كالبلسم.

كان ضوء الفجر بألوانه العديدة يبزغ في الشرق، عندما وصَلوا أخيرًا إلى الخليج الواقع خلفَ رأس جريس نيز. كان القادس في الانتظار، واقترب منهم استجابةً لإشارةٍ من السير بيرسي، وتشرَّف بحَّاران إنجليزيان قويان بأن يحملا السيدة إلى متن القارب.

وبعد ذلك بنصف ساعةٍ، كانوا على متن «داي دريم». لم يُفاجَأ أفرادُ الطاقم، الذين كانوا يعرفون أسرارَ سيدهم حتمًا، والذين كانوا مخلِصين له قلبًا وروحًا، برؤيته يصلُ متنكرًا في هذه الهيئة العجيبة جدًّا.

كان أرماند سان جوست وبقية المطاردين متلهِّفين لقدوم مُنقذِهم الشجاع، الذي لم يبقَ لسماع عبارات امتنانهم، بل ذهب إلى مقصورته الخاصة بأسرعِ ما يمكن، تاركًا مارجريت سعيدةً جدًّا بين ذراعَي أخيها.

كان كلُّ شيء على متن «داي دريم» مجهزًا بتلك الفخامة الممتازة المحبَّبة جدًّا إلى قلب السير بيرسي بليكني، وبحلول الوقت الذي هبَطوا فيه جميعًا في دوفر، كان قد وجد متَّسَعًا من الوقت لارتداء بعضِ الملابس الفخمة التي كان يُحبُّها، ويحتفظ بمؤنةٍ منها على متن مركبه دائمًا.

غيرَ أن الصعوبة كانت تكمن في توفير حذاءٍ لمارجريت، وكانت فرحةُ ضابط الصف البحريِّ الصغير عظيمةً عندما وجَدَت السيدة أنها يمكن أن تطأ بقدمها الشاطئَ الإنجليزي مرتديةً أفضل حذاءٍ لديه.

أما بقية الأحداث، فكانت صمتًا! … صمتًا وفرحًا لدى أولئك الذين تحمَّلوا الكثيرَ من العذاب، لكنهم وجَدوا أخيرًا سعادةً عظيمةً دائمة.

لكن من المشهود به أن أجمل امرأة في الحفل المتألق الذي شهد زفافَ السير البارون أندرو فولكس والآنسة سوزان تورناي دي باسيريف، والذي حضَره صاحبُ السمو أمير ويلز وكلُّ نخبة المجتمع الأنيق العصري، كانت بلا شك هي الليدي بليكني، بينما كانت ملابسُ السير بيرسي بليكني حديثَ شبَّان لندن المتأنِّقين الأثرياء عدةَ أيام.

ومن الحقائق الثابتة أيضًا أن السيد شوفلان، موفد حكومة الجمهورية الفرنسية المعتمَد، لم يكن حاضرًا في تلك المناسبة، أو أيِّ مناسبةٍ اجتماعية في لندن بعد تلك الأمسية التي لا تُنسى في حفل اللورد جرينفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤