الفصل السادس

اجتماع نابوليون بكورفيزار

إنَّ اجتياز جبل سان برنارد سنة ١٨٠٠ كان حادثًا عظيمًا في التاريخ، ولا نُحاوِل هنا إعادةَ ما قيل، ولا نقْل المعروف عن كتب التاريخ، بل نتَلَمَّس الحقيقة كعادتنا في مظانِّها الحقيرة الصادِقة، فنروي للقُرَّاء ما عثَرْنا عليه ممَّا لا يزال أكثَرُه مجهولًا، فقد جاء في مذكرات الدليل الذي رافَقَ البطلَ في هذه الحملة ما يأتي: الفرقُ عظيمٌ بين الجنرال فيكتور والقنصل، فالأوَّلُ كان شديدًا عاتيًا قليلَ الصبر، لم أَجِدْ في رفقتِه إلَّا الخوف، فكلَّما عثر بغلي تحته كان «يهوِّل» عليَّ بالكرباج أو بالسيف، على أنَّه كان جميلَ الطَّلْعة، حسَنَ الهندام، أمَّا بونابرت فكان هزيلًا شاحبًا، وبياضُ عينيه كقشرة الليمون (ملاحظةٌ خليقةٌ بطبيب!) وكان قليلَ الكلام، حزينَ النفس، يُكثِر من التلُّفت وراءَه ليتحقَّق من تقدُّم الجيش الزاحِف.

وذكر إنكليزي رآه بعد سنتين من هذا التاريخ وهو يستعرض الجيشَ في التويلري: إنَّ ملامِحَه كانتْ تدلُّ على التَّعَب والسوداء قال: «ما كادتِ المركبات تصطَفُّ في أماكِنِها وتَقِفُ فِرَقُ الخيَّالة والمشاة أمام القصر، حتى أُطْلِق المدفعُ فشاهَدْنا رجلًا صغيرًا يَقْفِزُ بخِفَّةٍ لا مَثِيلَ لها فوقَ جوادٍ أبيض، ويَنطَلِق مسرعًا بين الصفوف يتْبَعه القُوَّاد والضباط، أمَّا الجوادُ فكان اسمه مارانكو، وأمَّا الراكب فنابوليون بونابرت القنصل الأول.»

figure
الإمبراطورة ماري لويز.

وكان مُرْتَدِيًا سترةً زرقاءَ ذاتَ حواشٍ بيضاء، ولابسًا قبعةً صغيرةً عليها شريطٌ مثلَّثُ الألوان.

أمَّا وجهه فلا ريشةُ المصوِّر ولا قلمُ الكاتِب يقدران أنْ يأتِيا بالحقيقة عنه، فإنَّ لونَه كان أصفرَ قاتِمًا، وعيناه غائرتَيْن في رأسِه، ولهما زُرقةٌ ضاربةٌ إلى السواد، ونَظَرٌ أحدُّ من السهام.

وكانتْ شفتاه جميلتين تعلوهما من آنٍ لآنٍ ابتسامةٌ حُلوةٌ ساحرةٌ، إلَّا أنَّها نادرةٌ وكثيرًا ما خلَفَتْها عبوسةٌ مُخيفةٌ لأدنى سببٍ؛ لأنَّ نابوليون لم يكن يُطِيق المُعارَضة.

وكان يطعن في الأطباء ويستهزئ بهم إلى أنْ أصابَه داءٌ في صدْرِه، فشفاه كورفيزار وجعلَه يُغيِّر اعتقادَه، فصار كما يقول هو نفسُه: يَثِقُ بالطبيب دون الطب. وهذه عبارةٌ لا معنى لها؛ لأنَّ الطبيب هو بطِبِّه قبل كل شيء، ولكنَّها من تناقضات نابوليون الكثيرة.

ومِن تناقُضاته أيضًا في مسائل الطب والفسيولوجيا تعريفُه الموتَ بأنَّه فُقْدان الإرادة، وكان يقدِّم بُرْهانًا على صحة رأيِه الحادثةَ الآتية:

جمحَ به مرةً جوادُ المركبة في سان كلود، فوَقَعَ منها على صخرٍ وأصابتِ الصدمةُ معدتَه، فآلَمَتْه كثيرًا، فلمَّا كان الغدُ وقد استَرْجَع قواه قال لِمَن حولَه: «أمسِ أتْمَمْتُ اختباري عن الإرادة، فإنَّ الضربةَ التي أصابَتْني في معدتي كانتْ شديدةً، حتى خُيِّل لي أنَّ الحياةَ أخذتْ تُفارِقني، ولكنْ بقِيَ لي مُتَّسَعٌ من الوقت لأفتكر وأقول: لا أُرِيدُ أنْ أموت، ففُزْتُ وبقيتُ حيًّا، ولو كان سواي في مكاني لَمَا عاشَ بعدَها.»

وسواء أكان صادقًا فيما رواه عن نفسِه أم غير صادق، فإنَّه لم يُظْهِرْ مثلَ هذه الشجاعةِ في أحوالٍ غيرِها كانتْ تتطلَّبها، فقد قيل إنَّه كان يتنزَّه مرةً في النهر مع بعضِ حاشِيَتِه، فانقَلَبَ بهم القاربُ وسقَطَ الجنرال برنيار في الماء، فأخذَ منه الرعبُ مأخذَه وأُغْمِيَ عليه، ولم يُذَعْ هذا النبأُ، بل بقِيَ سِرًّا من أسرار الدولة.

وكان في بروكسل سنة ١٨٠٣ يومَ أصابتْه علَّةُ الصدْر وبصَقَ دمًا، فبَعَثَ في الحال مَن جاءه بكورفيزار الذي لم تَخْفَ على ذكائِه أسبابُ الداء، ولكنَّه أبَى أن يُخِيفَ مَرِيضَه بذِكْر تشخيصِه، واكْتَفَى بالقول: إنَّه فسادٌ في الدم يمكنُ إخراجُه بوضْع محرقة على الصدر، وقدِ استفادَ نابوليون من علاج الطبيب فوقَفَ بصْقُ الدم، وخفَّ السُّعال، وزالَ ضِيقُ الصدر، فصارَ كورفيزار منذ ذلك الحين طبيبَه الخاصَّ، وموضِعَ ثقتِه المغمورَ بالمكافآت.

وقد أحجم كثيرًا قبلَ دعوة كورفيزار، ولولا إلحاحُ كاتِمِ سِرِّه لَمَا فعل، وقد قصَّ هذا الأخيرُ كيف تمَّ ذلك، فإنَّه كان في مالميزون يشتغل إلى جانب بونابرت فلاحَظَ غير مرةٍ أنَّ سيِّدَه كان يصفَرُّ فجأة عند انتصاف الليل، ويَنْحَنِي على الكرسيِّ ويَفُكُّ أزرارَ صدرتِه ويتنَهَّد تنهُّدًا أليمًا، فيقوم ويرافِقُه إلى غرفة النوم وهو مُسْتَنِدٌ إلى ذِراعِه، وقد مضى ستة أشهر على هذه الحالة، وكلَّما فاتَحَ سكرتيرَه بأمْر التداوي ومَن يختار طبيبًا كان الجواب كورفيزار.

ومِن تأبين ديبواترن الذي لفظه على قبر زميله نرى أنَّ الصفات التي فَتَحَتْ لكورفيزار طريقًا إلى قلب نابوليون كانتْ سرعةَ الخاطر، والتدقيقَ، وحريةَ الفكر، وقد استطاع الطبيبُ أن يحفظَ كرامتَه أمام الرجل الذي لم يَتْرُك لأحدٍ كرامتَه، وقد قيل إنَّه وهو سائرٌ إلى مالميزون كان يُردِّد في نفسِه: «لا أعلَمُ أيَّ ربحٍ أجْنِيه من هذه الزيارة، ولكنِّي متأكِّدٌ أنَّنِي سأخسَرُ حريتي»، ولقد أخطأ ظنه؛ فإنَّه لم يكن أبدًا عبدًا لذلك السيِّدِ الذي كان يُسامِحُه على الكثير إكرامًا لعِلْمِه وإخلاصِه.

والذي وافَقَ نابوليون بوجْهٍ خاصٍّ أنَّ كورفيزار كان يتَّكِلُ على الطبيعة أكثر ممَّا يتَّكِل على الأدوية، ولا سيَّما لأنَّ الطبَّ في نظر نابوليون كان علمَ احتياطٍ لا علمَ تدقيقٍ، وكان يعترف بفائدةِ الهيجين أي علم الصحة، وله فيه آراء خاصة.

وكان يستيقظ مبكِّرًا فيأمر حالًا بتجديد هواء الغرفة، ثم يتناول كأسًا من الشاي أو ماء زهر الليمون ويُسرِع بالحلاقة لنفسِه، وقد اضطُرَّ إلى هذه العادة لأنَّه لم يَجِدْ بين الْمُزَيِّنين مَن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة نظرًا لِمَا كان عليه من ضِيقِ الصدْر وقِلَّةِ الصَّبْر، فكانتْ تُساوِرُه حركاتٌ عصبيةٌ لا يَأْمَن معَها المُزَيِّن من أن يَجْرَحَه مِرارًا، ومن الغريب أنَّه لم يكن يستعمل إلَّا صابونًا إنكليزيًّا وموسى إنكليزية، ويتعجَّب من إمكان الحلاقة بغيرهما، وقد اشتُهر بالصرامة في مُعاقَبة التهريب حتى إنَّه كان يَحْرِق كلَّ سنة ما يساوي الألوف من البضائع الإنكليزية المُهرَّبة، ولكنَّه رضِيَ لنفسِه بالشذوذ حتى إنَّه كان يَدْفَع ثمنَ الموسى جنيهَيْن وهي تساوي ربع القيمة.

وكان مملوكُه رستم يُمْسِك له المرآةَ أثناء الحلاقة، حتى إذا انتهى وآنَ أوانُ الاستحمام بالماء الساخن، لبِثَ في الحمَّام زمنًا طويلًا يسمع في خلالِه من سكرتيره قراءةَ الجرائد والتلغرافات، وقد يطول الوقت نحو الساعتين غير مبالٍ بإذْن الطبيب فاتحًا حنفيةَ الماء الساخن إلى أن يتصاعَدَ البخار ويملأ الغرفة، ويَحُول دون القراءة، فيُضطَرُّ السكرتير إلى فتْح الباب، وكان وَلَعُه بالاستحمام شديدًا إلى درجة أنَّه يستيقظ أحيانًا في نصْفِ اللَّيْل فينهض حالًا إلى الماء، ومِن أجل هذا كان يُعَدُّ له الحمَّام أين ذهب دون نظر للمكان ولا الزمان، ولمَّا وَلَدَتْ ماري لويز جاءتْه البُشْرى وهو في الحمَّام.

وكان من نتائج هذه المغاطس الساخِنة المتكرِّرة أنْ سَمِنَ بدنُه شيئًا فشيئًا، ولكنَّ ذلك لم يمنَعْه عن المثابَرة عليها لاعتقاده أنَّها تخفِّف عنه عُسْر البول الذي شعر به لأول مرة في حملة إيطاليا، وما بَرِح يزدادُ حتى اشتدَّتْ عليه النوبة سنة ١٨١٢، كما أنَّها تَقِيهِ شرَّ الإمساك المزمن الذي رافَقَه منذ الصِّغَر.

وبعد خروجِه من الماء كان يَفرُك بدنَه بفرشاةٍ قاسيةٍ، ثم يسكب عليه ماء الكولونيا بغزارة، وقد استفاد عادةَ الفَرْك هذه من الشَّرْق، ولها عنده منافع جُلَّى.

وكان يدَّعِي أنَّ السِّرَّ في صحته ومقدرته على احتمال التَّعَب هو إفراطُه من آنٍ إلى آنٍ في عكْسِ ما تعوَّدَ عليه، فكان مثلًا يستريح ٢٤ ساعة، أو يمشي ستين ميلًا، أو يركض على جوادِه طول النهار، كما كان يفعل في جزيرة ألب، كأنَّ التَّعَبَ ضروريٌّ لبنْيَتِه ولهذا كان يرجع من فتوحاته وحروبه وهو أوْفَر سِمنًا وأقوى صحةً.

ولا يخْفَى على الناقِد البصير ما في قوله هذا من الحقيقة، فإنَّ الرياضة البدنية تساعد على إفراز الغدد الجلدية وإخراج الفضلات والسموم، ولا سيَّما في الأجسام المصابة بالأرترتيسم، ذلك ما كان يحمل نابوليون على القول وهو في جزيرة القدِّيسة هيلانة قبلَ موتِه بثلاثة أشهر: «آهٍ! لو كان في الإمكان أنْ أعرَقَ! وأنْ ينفَتِح جرحي! فشفائي من وراء ذلك.»

هذه الرياضة وهذا التَّعَب جعلاه يتمتَّع بالصحة والعافية أربع سنين متعاقِبة، أي من سنة ١٨٠٢ إلى ١٨٠٦، كما يَظهَر من رسائله الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤