الفصل الرابع

١

أزحتُ مقعدي إلى الخلف ونهضتُ واقفًا. دُرتُ حول الطاولة واقتربتُ من النافذة. عاد البرد فجأةً اليوم وانتشرَت السحب، وبدا شارع فريدريش شتراسه رماديًّا كئيبًا، وقد تناثرَت في جنباته عدة سيارات فارتبورج وترابانت وسكودا وواحدة فرنسية قديمة، وظهر وجهي مُقطَّبًا واجمًا في المرآة الصغيرة المعلَّقة إلى يسار النافذة.
استدرتُ معطيًا ظهري للنافذة وعيناي على مدخل القاعة. انتظرتُ أن تمر أولريكا في طريقها إلى التواليت. ظهرت إنجمار فجأة. بدت طويلةً أنيقة وعيناها واسعتان جميلتان بتأثير الكحل. همسَت لي: جوتن تاج، طاب يومك. واختفت في الطرقة المؤدية إلى التواليت ومكتب مدير التحرير.

لم نكن قد تبادلنا الحديث منذ أيام. ظلَلتُ أفكِّر في عينيها وتذكَّرتُ عندما أزالت الكحل قبل النوم وبدت حوافهما في بياضٍ شاهق مثل شفاه الفئران. قالت يومها إن لها صديقة لا تجرؤ على لقاء حبيبها بالليل دون كحل ومكياج.

عُدتُ إلى مقعدي متحاشيًا النظر إلى فخري. كان قد تجنَّبني تمامًا منذ يوم الكوافيرة، وحِرتُ في تفسير مسلكه: هل غضِب من تأخُّري في صُحبتها واعتبَره إخلالًا بالاتفاق المعقود بيننا؟ أم ظنَّه تعبيرًا عن فحولةٍ ما أثارت غَيْرته؟
جاءني من خلف الجدار الخشبي الذي يفصلنا عن القسم الإنجليزي صوت أولريكا الخافت. التقطتُ البطاقة البريدية التي وصلَتني في الصباح من هايدي. أَعدتُ قراءة كلماتها الوجيزة: «أنا أُحبُّك يا صادق. خطابكَ وصل. سأراكَ قريبًا». وضعتُ البطاقة جانبًا وعبثتُ بقلم رصاصٍ فوق ورقة. شكَّلَت الخطوط العَفْوية دودة ثم شكلًا يُشبِه المحار ثم شيئا آخر أقرب إلى سمكةٍ منتفخة.
رسمتُ خطَّين متوازيَين عموديَّين ثم أوصلتُ بينهما بخطٍّ مقوَّسٍ على شكل نصف دائرة. أضفتُ خطًّا جديدًا وفكَّرتُ في وصل الخطوط. لمحتُ إيزابيلَّا تقترب مني فحاولتُ طمس ما رسمتُه والذي بدا كمنفرجِ فخذَين. قالت إنها ذاهبة إلى أم كعكة التي يقع مكتبها بجوار التواليت مباشرة.
كانت فراو نادل، سكرتيرة المدير الخمسينية البدينة، تُصفِّف شعرها الطويل دائمًا على شكل كعكةٍ فوق رأسها فجلَب لها الاسم الذي اشتُهرَت به.

سألتُها: ماذا هناك؟

قالت: نسيتَ أن تُسجِّل لي يوم الإجازة الشهري المقرَّر للمرأة العاملة.

– إجازة لماذا؟

أجابت وقد بدا عليها انشغال البال: للقيام بالعمل المنزلي.

وتذكَّرتُ أني لم أَرَ إيزولدا في الصباح.
اتجهتُ إلى مكتبي وخاطبَني ماجد وهو يمد إليَّ ترجمة لأقوال الصحف الغربية: الأمريكان يريدون إسقاط عبد الناصر قبل نهاية العام.
استَأنفَت آلات التليبرينتر العمل. وناولني نبيل أولى ترجماته. بدا أن اليوم سيكون مخصصًا لقرب الاحتفال بالذكرى الثلاثين لبدء الحرب العالمية الثانية، وقرب الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقالت مجلة نيوزويك الأمريكية بهذه المناسبة إنه على الرغم من المنجزات الاقتصادية المدهشة في ألمانيا الغربية فإن سُدس سكانها يعيشون على حافة الفقر. وعلَّقَت نويس دويتشلاند على ذلك، وأضافت أن ألمانيا الغربية قدَّمَت إلى تل أبيب مليارين ونصف مليار دولار قروضًا، منها نصف مليار دولار منحة لتغطية الاحتياجات الحربية الإسرائيلية.
ظهر نويمان مندفعًا في حماس وهو يبتسم في سعادة وزهو. أعطى كلًّا منا مظروفًا. فتحتُه فوجدتُ رسالةً من المدير العام للوكالة، فراو ديبي فيلاند، تقول: بمناسبة العيد العشرين لتأسيس ج. أ. د نحب أن نشكرك، ويُسعِدنا أن نُقدِّم إليك مكافأةً مقدارها ٢٠٠ مارك ونتمنَّى لك الصحة والنجاح في عملنا المشترك لبناء السوسياليزموس، الاشتراكية.
انفرجَت أسارير الموجودين واحتل نويمان مقعده. انكبَبْنا على العمل. وبعد حوالي الساعة توقفَت آلات التليبرينتر. ولم يعُد لدينا ما نعمله. تطلَّعنا جميعًا إلى ساعاتنا. فتحتُ رواية نورمان ميلر وبدأتُ القراءة. وانشغل الآخرون بوسيلة لقضاء الوقت حتى يحين موعد الانصراف بعد ساعة ونصف.
قال قادر فجأة: سيأتي اليوم الذي يعمل فيه المرء أربعَ ساعاتٍ فقط في الأسبوع، ويستمتع بالوقت الباقي، وتقوم الآلات بكل شيء.
كان في تمام وعيه وقدَّرتُ إنه في مرحلة التوقُّف عن الشراب والابتعاد عن زوجته. تبادَل الباقون الابتسامات، وأبرزَت كاتيا، عاملة التليبرينتر ذات الشعر الأسود، علبة اليانصيب والمقص.
اليانصيب تُجريه صحيفة نويس دويتشلاند كل سنة ويوزِّعه أعضاء الحزب. فيشتري الواحد ورقةً مطويةً مرقمة تحتوي على كيسٍ من الفلفل الأسود مقابل ماركٍ واحد وقد يربح بين مارك ومائة أو أكثر، ثم يدخل رقم الورقة في سحبٍ يُجرى في الصيف على سيارةٍ وجوائزَ أخرى.
أخذ ماجد واحدة فلم يكسب شيئًا. وضع الجزء الذي يحمل الرقم في حافظته، وأخذ نبيل واحدة فكسب ماركًا اشترى به ورقةً جديدة كسبَت ماركين. كرَّر الأمر فكسب ماركًا. أودَع الأوراق حافظته. سحبتُ ورقة فلم أكسب شيئًا. سحبتُ ورقةً ثانية. النتيجة نفسها.
تجمَّع الجميع حول نبيل الذي أخذ يشتري ويقص ويكسب، ثم يشتري بالمكسب. وقال فخري إنه كسب مرةً ثلاثة ماركات في يانصيب ﺑ برلين الغربية.
استأنف قادر إشراقات لحظات اليقظة التامة: البشرية لن تتقدَّم إلا إذا اختفت النقود.
انسحب فخري قائلًا إنه مضطرٌّ للانصراف لأن زوجته تنتظره في محطة المترو.
قال ماجد وهو يمر بيده على شعره الناعم المفروق من الجانب: فخري محبَط بعد أخبار توقُّف صحيفة النور البغدادية الناطقة باسم حزب الطالباني.

سألتُه: هل يفتح هذا المجال لتوحيد الحزبَين؟

هزَّ رأسه في حزم: البرزاني لا يمكن أن يتفق مع الطالباني الذي كان من أقرب الناس إليه. الطالبانية لعبوا دورًا بشعًا فقد أدى انشقاقهم إلى اقتتال الأكراد.
سألتُه: هل تنوي العودة إلى العراق؟
تأمَّل أوراق اليانصيب برهةً ثم أجاب: بودِّي أن أعمل في ليبيا.
حان موعد الانصراف فغادرنا المبنى. اتجهتُ على مهل إلى فندق أونتر دين ليندن وأنا أتحاشى الاصطدام بالمسرعين إلى الأوبان والمنازل. وجدتُ البار شبه خال من الرواد عدا شابًّا وفتاةً جلسا متقاربَين ويدها فوق فخذه. اخترتُ مكانًا ملاصقًا للواجهة الزجاجية. طلبتُ كوبًا من البيرة احتسيتُه وأنا أتأمَّل الناحية الأخرى من الشارع.

تابعتُ حركة المارَّة على رصيفٍ واحد في اتجاهَين متقابلَين عندما يلتقون في نقطةٍ واحدة ثم يفترقون في ثانية.

تردَّد خلفي صوت بالإنجليزية: وجدتُكَ!

التفتُّ لأجد سوكارنو في معطف المطر الثمين والحافظة الجلدية الفاخرة: كنتَ تبحثُ عني؟

– توقَّعتُ أن أجدكَ هنا. هل أُزعجكَ؟

أشرتُ إلى المقعد المقابل قائلًا: أبدًا. تفضَّل. ماذا تشرب؟

خلع معطفه وعلَّقه في المشجب، ثم انضم إليَّ وطلب كأسًا من البراندي الروماني. استراح في مقعده وهو يتفحَّصني بإمعان.

سألني: هل كتبتَ شيئًا؟

أجبتُ: لا. أنا مشغول بالتصوير.

سألَني في تردُّد: شاهدتَ إنجمار أخيرًا؟

قلتُ: هذا الصباح.

قال: وكيف كانت؟

– لا بأس. لماذا تسأل؟

ارتشف من كأسه، ثم حرَّك شفتَيه الشهوانيتَين مستمتعًا وقال: إنها تعيسةُ للغاية، وتبكي طوال الوقت.

تذكَّرتُ اللقاء الذي أعلمتُها فيه بإنهاء علاقتنا، وأعدتُ لها المفتاح الحديدي الثقيل شاعرًا بالارتياح، وكيف أطرقَت في استكانة وقالت إنها ألِفَت هذا الموقف.

استطرد: أنا وزيجريد نعتَز بصداقتها. وبصداقتكَ أيضًا.

لم أعلِّق.

قال: إنها تشعُر بالحرج الشديد أمام معارفها وزملائها في العمل. وتظُن أنهم يعتقدون بعجزها عن الاحتفاظ برجل.

وجدتُ لساني أخيرًا فقلتُ: التفاهُم بيننا صعب بسبب اللغة. أنا أدرسها جيدًا لكن أمامي سنوات قبل أن أجيدها.

– أنتما تتخاطبان بالإنجليزية.

– ولو. عندما أتحدَّث بلغةٍ غير العربية أفقد نصفَ ما أريد قولَه.

– وماذا في ذلك؟ يحدُث هذا لي أيضًا عندما أتحدَّث بلُغتي.

اندفعتُ مفضفضًا: وجدتُ نفسي أصبحتُ ««هرًّا» محترمًا» بالقبَّعة والمعطف والمظلَّة، والاستيقاظ في السادسة والنصف أو السابعة إلا ربعًا والإسراع إلى العمل، وبعد تسع ساعاتٍ الخروج منهكًا وشراء أشياءَ منزلية، ثم الإسراع إلى المنزل والاغتسال وإعداد العَشاء ثم استحمام ابنها ودفعه إلى الفراش، وتكون الساعة قد أصبحَت التاسعة، ولا بد أن ننام لنستيقظ مبكِّرين. وفي الويك إند الذهاب إلى المسرح كالبورجوازيين المحترمين واستقبال الضيوف على إبريق قهوة.

تأمَّلَني بإشفاق ثم قال مُهدهِدًا كأنما يتحدَّث إلى طفل: هذه هي الحياة. على المرء أن يتحمَّل أشياءَ كثيرةً في سبيل تحقيق هدفه. هل تعرف أنها ترجمَت بعضَ قصصي إلى الألمانية دون مقابل؟ إنها شخصٌ يمكن الاعتماد على مساعدته.

سألتُه بغتة: هل قرأتَ رواية «القلعة» ﻟ كافكا؟

قال: أجل. ما شأنُها؟

– هل تذكُر كيف قال المسئولون عن القلعة لبطل الرواية في التليفون إنهم لا ينتظرون ماسح الأرض فصرخ فيهم: إذن من أكون أنا؟

مد يده إلى حافظته واستعد للنهوض ثم قال: أنت في حاجةٍ إلى تغيير الجو. اسمع. سأذهب إلى براغ قريبًا لألتقي أحد الناشرين. ما رأيُكَ في أن تأتي معي ليومَين أو ثلاثة؟ براغ مدينة ساحرة.

نهضتُ واقفًا بدوري وأنا أقول: سأفكِّر.

٢

صرخ عدنان: المنافقون!
كنا نشاهد تقريرًا في التليفزيون الغربي عن قرب محاكمة أحد النازيين الذي قُبض عليه في البرازيل منذ عامَين. وذكر أن فرانتس شتانجل (٦٢ سنة) كان قائدًا لمعسكر الإبادة النازي في تريبلينكابولندا حيث تمَّ قتل ٧٠٠ ألف يهودي. ويتعرَّض الآن للحكم عليه في ألمانيا الغربية بالسجن مدى الحياة، بينما تنتظره محاكمةٌ أخرى في وطنه النمسا عن دوره أثناء الحرب فيما يُسمَّى مركز قتل العاجزين عقليًّا.
وقال التقرير إن شتانجل الذي لقَّبه المعتقلون بالرجل الأنيق ذي السوط يزعم بأنه لم يقُم إلا بواجبه وهو الإشراف على مصادرة الأشياء الثمينة من اليهود القادمين من الاتحاد السوفييتي وفرنسا وبلجيكا واليونان وبلغاريا ويوغوسلافيا والنمسا وألمانيا، فضلًا عن بولندا نفسها.
انفجر عدنان وهو يغادر مقعده مقتربًا من جهاز التليفزيون كأنما ليُحطِّمه: يحاكمونه على قتل عدة آلاف بينما يسلِّحون اليهود ليقتلوا شعبًا بأكمله.
تطلَّعَت إليه هيلدا في انزعاجٍ دون أن تفهم سبَب ثورته. استطرد مستهزئًا: الرجل الأنيق ذو السوط! ألم يقل بن جوريون إن السوط هو الطريق الوحيد للحديث مع أي عربي؟
طالبَتْه هيلدا بالصمت كي تشهد تقريرًا عن انتشار ظاهرة الأمهات الصغيرات غير المتزوجات، وتابعنا حواراتٍ مع بنات في سن المراهقة يحملن أطفالهن ويتحدَّثن عن الصعوبات التي يواجهنها. وتلا ذلك نقاشٌ عن ضياع الشباب وانتشار المخدِّرات وتأثير مخدِّر إل إس دي على إبداع الرسَّامين.
تركناها أمام التليفزيون وانتقلنا إلى المطبخ لنُعِد طعام العشاء. وأقبل عدنان بحماسٍ على تقطيع القرنبيط وتحميره بينما تولَّيتُ طَهْو الأُرز.
ظهر نبيل على باب المطبخ متسائلًا: هل أُساعد؟

أجبتُ في اقتضاب: السلَطة.

تجمَّعنا أخيرًا حول طاولة غرفة المعيشة. وأحضر عدنان بصلةً مشقوقةً فاعترض نبيل: لا أنصحك. عندنا حفلة هذا المساء.
كان قد تعرَّف إلى عددٍ من الشباب في ميدان ألكسندر بلاتز أثناء جولات الصيد التي يقوم بها أسبوعيًّا ودعاهم لزيارتنا.
انصاع عدنان كارهًا وانتهينا بسرعة من الطعام، فحملنا أطباقنا إلى المطبخ، بينما ظلَّت هيلدا أمام طبقها الفارغ وقد اضطجَعت إلى الوراء تستمتع بسيجارتها.
لجأتُ إلى غرفتي، فلحق بي نبيل حاملًا كرَّاسةً تضُم أشعارًا كتبَها وهو في السادسة عشرة. قرأها عليَّ وأنا أدخِّن وأتأمَّل شعره البني الناعم الذي انسدَل على جبهته ونظَّارته الطبية ذات الإطار العريض.

سألتُه: رأيتُكَ أمسِ مع واحدة من القسم الفرنسي. ما اسمها؟

أجاب: القصيرة السمينة ذات الشعر الأسود القصير والبشرة الخوخية؟ كارول.

– هي. هل نمتَ معها؟

قال في زهو: أجل. مرةً واحدة. تحتفظ بمفكِّرة عن كلِّ من نامت معهم. كم عددُهم في ظنك؟ مع العلم أنها في السابعة والعشرين.

قلتُ: خمسة مثلًا.

– لا. ١٢٢ واحدًا!

قلت مُقلِّدًا يوسف وهبي: يا لَلهَول!

قال: لم تقل رأيَكَ في قصائدي. أعجبَتكَ؟ عندي أيضًا بضعة أزجال. سأُحضِرها.

مضى إلى غرفته وسمعتُ دقَّ جرسِ الباب. مضيتُ إليه وفتحتُ لمجموعةٍ من الشباب؛ ثلاث فتيات وشابان. قدَّم أحدُهما نفسه: فولفجانج.
كان طويل القامة ويبدو أكبرهم سنًّا. وتقدَّم الثاني مني وهو قصير، أشقر الشعر يميل إلى السمنة قائلًا: بوركارد.
رحَّبتُ بهم مناديًا على نبيل. تتابعوا داخلين بينما عارضَت إحدى الفتيات وتراجعَت تريد الانصراف.
أمسكَت بها إحدى زميلاتها قائلة: بترا، مم تخافين؟ نحن معك.
استسلمَت بترا ودخلَت. كانت سوداءَ الشعر عسليةَ العينَين حلوتهما، ممتلئة قليلًا، في جينزٍ أزرق وبلوفر أحمر وتُحيط رقبتَها بوشاحٍ أخضر اللون.
ولج الشبَّان غرفة المعيشة واحتلَّت الفتيات الثلاث الأريكة. وبدا لي أن إحداهن صديقةٌ حميمة ﻟ فولفجانج. كانت دقيقة الحجم ذات وجهٍ مليح. وكانت تبتسم لي في مودَّة. أما الثالثة فكانت شقراءَ طويلةَ الشعر رفيعةَ الشفتَين بيدَين كبيرتَي الحجم.

تعارفنا وقلن إنهن يدرُسن الإلكترونيات. وفهمتُ أنها دراسة تؤهِّلُهن ليُصبِحن بائعات.

سألهم نبيل عما يشربون فقال فولفجانج: أنا لا أدخن ولا أشرب. ممكن كولا.
وقال زميله الأشقر إنه لا يشرب البيرة، ووضع يده على كَرشِه كأنما يعلن السبب. عرضتُ عليه فودكا فوافق، ورفضت الفتيات الفودكا وطلبن بيرة.
انهمكتُ مع عدنان في إحضار المشروبات بينما بسط نبيل طبقَين صغيرَين للمقرمشات والمكسرات وطبقًا من شرائح الجزر والمخللات المسكَّرة.
سمعتُ الفتيات ينعَين عجزهن عن قيادة السيارات. سألتُ عن السبب فقالت يوتا، صديقة فولفجانج: لأننا لم نبلُغ بعد الثامنة عشرة.
أحضَر نبيل من غرفته أسطوانةً رفعها في الهواء مزهوًّا وهو يقول: موسيقى غربية.
أخرجها من غلافها، ووضعها فوق البيك أب. تناولتُ الغِلاف وتأمَّلتُه. كان يحمل صورة فتاةٍ برداءٍ قصيرٍ لا يبلغ منتصف فخذَيها ويدها فوق ثديها الأيمن العاري كأنما على وشك مداعبة حلمَته. قلَّبتُه وقرأتُ محتويات الأسطوانة: كان على كل وجهٍ ست أغانٍ. تعرَّفتُ على بعضها مثل شيربي شيربي شييب شييب ولاف ستوري Chirpy-chirpy cheep cheep, love story.
تردَّدَت الموسيقى الراقصة ودبَّت الحيوية في الجلسة، ودار حديثٌ عن مقارنة الرجل الألماني بالعربي. قالت جابي، صاحبة اليدَين الكبيرتَين، في جرأة: الرجل الألماني خجول وغير مقتحم.

سألتُها: لماذا؟ غير مهتم بالجنس؟

قالت برصانة المفكِّرين: المسألة أنه يشرب كثيرًا من البيرة فيكوِّن كَرشًا كبيرًا.

ضحكنا وقال فولفجانج وهو يتطلَّع إلى فتاته: أعتقد أنه فاقدٌ ثقته نتيجة التاريخ، أو هو متحضر يقترب من المرأة في أدب ويُصدِّع رأسها بالكلام حتى تفقد صبرها. هذا هو سر نجاح العرب والأتراك والأكراد مع النساء، فهم بدائيون في عواطفهم.

تلعثَم فجأةً وقد احمرَّ وجهُه وتطلَّع إلينا معتذرًا وقد أدركَ أنه بين هؤلاء البدائيين. وأنقذ جرسُ الباب الموقف.

فتحتُ الباب لأجد هايدي أمامي.

احتضنتُها مُرحِّبًا واقتدتُها إلى حجرتي. أشعلتُ النور وأغلقتُ الباب. أشرتُ لها بالجلوس فوق الفِراش وجلستُ أمامها فوق كرسي المكتب.

ألقت بحقيبة يدها فوق الفِراش وخلعت سترتها الصوفية كاشفةً عن ذراعَيها البضَّتَين العاريتَين من الكتف. جلسَت ووضعَت ساقًا فوق ساق، فانحسرَت جوبتُها القصيرة عن فخذَيها الرائعتَين، وتأمَّلَتني باسمة.

تطلَّعتُ إلى وجهها الشاحب بلا مكياجٍ وشفتها السفلى القرمزية ولاحظتُ بها شيئًا مختلفًا عن فتاة تامباخ ديتار تجلَّى في طريقة حديثها وهيئتها العامة.
تلعثمتُ وأنا أكرِّر: أهلا بكِ. ثم سألتُها: إلى متى ستبقين في برلين؟

قالت: لا أعرف. تشاجرتُ مع أبي.

– وأين تقيمين؟

– مع صديقةٍ لي.

– والمدرسة؟

قالت: ملَلتُها. ما زالت أمامي سنتان حتى أحصل على الأبيتور، الثانوية العامة. أريد أن أعمل وأستقل بحياتي.
– هل اتَّصلتِ ﺑ هانز؟

ضحكَت: الميكانيكي؟ لأ طبعًا.

– هل لديكِ صديق. حبيب؟

تأمَّلَتني بنظرةٍ عابثة: ليس بعدُ.

ساد بيننا الصمت. ولم أجد ما أقولُه فعرضتُ عليها أن ننتقل إلى غرفة المعيشة.

– تعالَي أُعرِّفكِ بأصدقائي.

نهضَت في حركةٍ سريعة وتبعَتْني إلى غرفة المعيشة. عرَّفتُها بالآخرين وسألتُها عما تُحب أن تشرب فقالت: نبيذ.

قلتُ: للأسف لا يُوجد غير الفودكا والبيرة.
اختارت الفودكا وجلسَت إلى جوار الفتيات. طلب عدنان فتاة فولفجانج للرقص فقامت معه، مما أثار امتعاض هيلدا. طلبها فولفجانج فاعتذرَت.

مِلتُ عليها وهمستُ: لماذا لا ترقصين؟

أجابت في اعتزاز: عدنان لا يُحب أن أرقص مع غيره.
ملأتُ لنفسي كوبًا من البيرة، وطلب نبيل هايدي للرقص. تابعتُه يرقُص معها ببراعة وهي ملتصقة به. وتذكَّرتُ رقصها مع الشاب ذي الشعر الطويل في تامباخ ديتار.

انتهت الرقصة فجلسا متلاصقَين.

رقص عدنان من جديد مع فتاة «فولفجانج». ووقفَت هيلدا فجأةً معلنةً رغبتها في الانسحاب. وانضم إليها عدنان مُكرهًا. واستأنف نبيل وهايدي الرقص على أنغام لاف ستوري. وبعد جولة رقصٍ أخرى أعلن الشبَّان رغبتهم في الانصراف.
رافقتُهم حتى باب المنزل الخارجي وعندما عُدتُ لم أجد هايدي ونبيل. خرجتُ إلى الصالة فوجدتُهما خارجَين من غرفته وهي تسوِّي شعرها وملابسها.

قالت: يجب أن أنصرف الآن.

تطلَّع إلى ساعته وقال: الأوبان على وشك التوقُّف. نامي هنا.

رمقَتني بنظرة سريعة وقالت: شكرًا. يجب أن أذهب.

قال: سأرافقكِ إذن.

غادرا المسكن، وانهمكتُ في نقل مخلَّفات الحفل إلى المطبخ، ثم أطفأتُ الأنوار ومضيتُ إلى حجرتي. خلعتُ ملابسي واندسستُ في الفِراش. تقلَّبَت عدة مرات وأنا أُنصِت للأصوات عَبْر الجدران الرقيقة. أتَتني أصواتُ تأوهاتٍ من غرفة عدنان. وضعتُ الوسادة فوق رأسي وبعد قليلٍ ضقتُ بها فرفعتُها. سمعتُ صوتَ مفتاح نور الحمَّام، وبعد لحظةٍ صوت إغلاق بابه، ثم صوت الباب الخارجي، وتلاه صوت باب غرفة نبيل، ثم ساد السكون التام.

٣

أوشكتُ أن أصطدم بشابٍّ وفتاةٍ من العاملين في أحد أركان المبنى، يلجانه بذراعَين متشابكتَين. كنتُ أُشاهدهما في الكافيتريا عند التحاقي بالعمل دون أن تبدو أية علاقة بينهما. ومنذ أيام بدآ يظهران سويًّا ولا يفترقان طوال اليوم. وفكَّرتُ: إلى متى سيستمر ذلك؟

أبرزتُ بطاقتي للحارس فأطرق برأسه سامحًا بالدخول. اتجهت إلى الدرَج ولمحتُ فتاةً في ميني جوب كشف عن ساقَين جميلتَين تُعلِّق يافطةً كبيرة فوق باب المِصعَد كُتب فوقها «أصواتنا لمرشَّحي الجبهة الوطنية».

أدركتُ على الفور محتوى أخبار اليوم. وصدق حدْسي؛ فقد توالت تعليقات الصحف وتصريحات الشخصيات البارزة تتحدث عن الديمقراطية الاشتراكية ودور الجبهة الوطنية (المؤلَّفة من عدة أحزابٍ على رأسها بالطبع الحزب «القائد») في إرسائها عن طريق البرلمانات المحلية.

انتهزتُ فرصة توقُّف ورود الأخبار وتفوَّهتُ بسؤالٍ لغير أحدٍ محدَّد: كيف تُجرى هذه الانتخابات؟

تبرَّع قادر بالإجابة: يجتمع قاطنو كل مجموعة من المساكن ليختاروا أنشط العناصر التي يتم ترشيحها.

أضاف موضِّحًا: أكثرية الناس لا تهتم. يَرونَ في المنزل إعلانًا عن الاجتماع فيعتقدون أنه اجتماعٌ سياسي ولا يذهبون. لهذا لا يشترك عددٌ كبير من الناس في هذه الانتخابات، وعندما تنتهي يقولون إنها غيرُ ديمقراطيةٍ لأنها تمَّت بمعزلٍ عنهم.

قلتُ: إذن ليس لديهم ثقة في جدواها.

تدخَّلَت كاتيا وهي تقضم تفَّاحة: هم المخطئون لأنهم لا يذهبون.

سألتُها: هل اشتركتِ في اجتماعات منطقتكِ؟

قالت: أجل.

قلتُ: كم كان عدد الحضور؟

– مائتان أو ثلاثمائة.

واصلتُ السؤال: وكم عدد سكان المنطقة؟

قالت: عدة آلاف.

تابع نويمان الحوار في اهتمام وقد ضاقت عيناه الصفراوان. وتوقَّف الحوار مع استئناف ورود الأخبار: خطابٌ جديد ﻟ عبد الناصر يطالب الاتحاد الاشتراكي بأن ينشَط بين الجماهير. استمرار هجمات فرق الكوماندوز المصرية على جبهة القناة.
قرأتُ بصوتٍ مرتفع تصريحًا لعميد جامعة روستوك بمناسبة مرور ٥٥ عامًا على إنشائها. قال إن التناقُض بين الفكر والسلطة الذي يُعتبَر من خصائص النظام الرأسمالي يختفي في المجتمع الاشتراكي.
هزَزتُ رأسي ممتعضًا ورمقَني نويمان بنظرةٍ حادةٍ.

قلتُ: هذا التناقُض لا يختفي، وعلى العكس استمراره مفيد لأنه أساس للتقدُّم.

قطَّب نويمان حاجبَيه.

واصلتُ قراءة تصريح العميد بصوتٍ مرتفع: العلم يلعب في ظل الاشتراكية دوره كوسيلةٍ للتقدُّم الاجتماعي.

علَّقتُ: وفي الرأسمالية أيضًا.

قال نويمان: يبدو لي أنكَ من نوع المثقَّفين ذوي الأفكار المشوَّشة الذين لا يعجبهم العجَب.
ولجَ القسم حلمي عبد العليم، المراسل الجديد لجريدة الجمهورية القاهرية. كان طويل القامة، أسمر البشرة، أبيض الشعر، في الخمسينيات من عمره. تبادلنا تحيةً باردة وسارع نويمان بتقديم نشرة الأخبار إليه.
كنتُ قد تعرَّفتُ به في مقهى بريس كافيه، ولم يكن بالتعارُف الموفَّق؛ فقد كان يحمل صحيفة دي فيلت الألمانية الغربية وشَرع في بسط صفحاتها، فتفذلَكتُ ونصحتُه ألَّا يفعل حتى لا يستفزَّ الجالسين؛ لأنهم لا يستطيعون الحصول عليها مثله؛ مما يثير أشجانهم ويُضخِّم تصوُّراتهم عن الامتيازات التي يتمتَّع بها الأجانب. فطوى الصحيفة على مضَض وتجاهلَني كُلية.
قدَّم إلى نويمان مجموعة أعداد من صحيفته تحمل إحداها نبأً عن القسم العربي بالوكالة، تتصدُّره صورة ﻟ نويمان وهو يُريني، في حُنوٍّ أَبَوي، الصفحة الأولى من جريدةٍ ألمانية. أعطانا نويمان الصحف وصحبه لمقابلة المدير العام. توزَّعَت بيننا وتصفَّحتُ عناوينها بسرعة، وكانت جلُّها عن العمليات التي تقوم بها القوات المسلَّحة المصرية على الحدود الشرقية لإرهاق الجيش الإسرائيلي.

عثَرتُ على نبأٍ عن تعيين رئيس تحرير الوكالة المصرية للأنباء رئيسًا لمجلس إدارتها. زمَمتُ شفتيَّ استياءً. كان معروفًا عنه عدم اهتمامه بأداء الوكالة، وأنه يقضي جلَّ وقته ممسكًا بسمَّاعة التليفون المتصلة بأجهزة الأمن.

صاح فخري فجأة وهو يتصفَّح أحد الأعداد: اسمعوا هذه النكتة ﻟ إسماعيل يس. اشترى الزوج بوتاجازًا وعندما عاد من عمله بعد الظهر كان البوتاجاز قد وصل إلى المنزل واستلمَتْه الزوجة فعلًا. وفي منتهى السعادة قال لزوجته: هيه … عجبك البوتاجاز؟ قالت: هايل. بس من ساعة ما جه بالعب في الزراير ومش راضي يجيب البرنامج الموسيقي!
تصاعدَت الضحكات من سذاجة المصريِّين واتجهَت الأبصار إليَّ، ثم أعاد فخري رواية النكتة باللغة الألمانية فلم يستوعب رفاقنا الألمان مغزاها إلا بعد شرحٍ تفصيلي منه.
أراني ماجد كُتيبًا صغيرًا من منشورات الدعاية السياحية عن مدينة «درسدن». قال إنها تتميَّز بجمال فتياتها وإنه سيقضي بها عطلة نهاية الأسبوع، واقترح أن أُرافقه. تصفَّحتُ الكُتيِّب وطالعتُ صور الدمار الذي ألحقته الطائرات الأمريكية بالمدينة في غارةٍ لم يكن لها مُبرِّر بعد انتهاء الحرب، ثم صُوَر التعمير الذي قامت به السلطات الشيوعية وخاصة مركز المدينة الجديد.

أعدتُ الكُتيِّب لصاحبه فتطلَّع إلى ساعته. كنا مُوشِكين على فسحة الغَداء. قال: ما رأيك في أكلة سمك؟

قلتُ متلهفًا: أين؟

– هناك مطعمٌ قريب للأسماك.

قلتُ في حماس: لنذهب.

انضم إلينا عدنان وانطلقنا في فريدريش شتراسه في اتجاه شِك شارلي بوينت. عبَرنا تقاطُع أونتر دين ليندن، وبعد تقاطُعَين انحرفنا في الشارع الذي يقع به المطعم.

ولجنا قاعةً فسيحة انتشرَت فيها الموائد الخالية فيما عدا واحدةً أحاط بها ثلاثة روَّاد بدَوا لي من الأقاليم، وعبق المكان برائحة القلي.

اخترنا مائدةً قرب الباب وأحضر لنا نادلٌ متجهِّم قائمة الطعام التي احتوت على أكثر من سبعين طبقًا متنوعًا، وكانت بالألمانية فقط.

انكَبَّ عدنان على نسخته. كان متقدمًا عني في إتقان اللغة بفضلِ علاقته ﺑ هيلدا التي لا تتحدَّث غيرها.
سألَني ماجد وهو يتصفَّح نُسختَه: ماذا تريد؟

قلتٌ: سمكًا مقليًّا.

استعرض الأطباق؛ سمك الهلبوت مع الشمر والزيتون الأخضر. خليط حيوانات البحر مع المقدونس. محار. جمبري مع الجنزبيل والفلفل الأحمر. إسكارجوت مع السبانخ وكريمة الثوم. شرائح القاروس. تروت وهو السالمون المرقَّط مع البازلاء الخضراء. جناح سكات مع الزبد. هو سمكٌ مفلطَح طويلُ الذيل له جناحان عريضان.
جاءنا النادل بعد مدة فطلب عدنان حيوانات البحر.

هزَّ النادل رأسه: غير موجودة.

– إذن الهلبوت.

– أيضًا غير موجودة.

تبيَّن أن نوعًا واحدًا من السبعين هو المتوافر، وهو شرائح القاروس مع القرنبيط وليس السبانخ. استسلمنا للأمر الواقع.

قلتُ: أشتهي سمك البياض المقلي الذي يُنقع في الدقيق قبل قليه. أو المشوي الذي يُتبَّل ثم يُغمَس في ردَّة القمح قبل أن يُوضَع على الفحم أو مشواة الغاز.

أكلنا بلا شهية وعدنا أدراجنا إلى الوكالة في غير حماس، ووجدتُ في انتظاري رسالةً تليفونية من حازم النجدي بأنه ينتظرني في مقهى ليندن كورسو.
ذهبتُ إليه بعد انتهاء العمل. طلبتُ بيرة وشعرتُ باستهجانه. قلتُ ونحن نجلس: الشيء الذي أفتقده في برلين هو بار ريجال. تعرفه؟

قال: لا. أنا لا أَقربُ الخمر مطلقًا.

– في شارع الألفي. بارٌ صغير تُغطِّي نشارة الخشب أرضه باستمرار. يأتي لنا النادل ببيرة «ستلا» الفخيمة ومعها الفول المسلوق بالتوابل يتصاعد منه البخار ومعه نصف ليمونة وصحن ترمس، وأحيانًا نطلب لحمة رأسٍ من مسمطٍ مجاور. الله!
قال حازم إنه قادم من برلين الغربية حيث كان يشتري سيارةً مستعملة لأخيه، ثم انتقل إلى أخبار مصر.
قال: أستاذي الألماني عاد من زيارةٍ قصيرة ﻟ مصر وقال لنا إن سكان القاهرة مزعجون لا يعملون، وإن أمامنا مائة سنة قبل أن نُحقِّق الاشتراكية.
لم أعلِّق فاستطرد: الأوضاع سيئة، وتنحدر من سيئ إلى أسوأ. هل سمعتَ عن مظاهرات الإسكندرية وما صحبها من عنف وتخريب؟ الجيش اضطُر للتدخُّل وقمع المتظاهرين. أخي يقول إن هناك مطالباتٍ بإباحة السلع المستوردة في الأسواق. وإن المتعلِّمات يُقبِلن الآن على الزار بينما تتحوَّل الأميات إلى الطب النفسي. تعرف رءوف علي؟

قلتُ مندهشًا: طبعًا.

– كان يعمل في جريدة الأخبار مقابل ٦٠ جنيهًا في الشهر، ثم انتُدب ﻟ «الاتحاد الاشتراكي» فأصبحَت الستون تسعينًا، وعمل في نفس الوقت سكرتيرًا لتحرير مجلةٍ شهرية بستين أخرى، ثم ظهرَت عليه أعراض السينما فحصل على منحةٍ دراسية في براغ، وهو هناك الآن ومرتَّبه مستمر في القاهرة.

خفض صوتَه رغم أن أحدًا حولنا لم يكن يعرف العربية: لم يعُد الحكم القائم قادرًا على حل مشاكل البلاد. أريد أن أنضَم إلى الشيوعيين.

قلتُ: الألمان؟

– لأ. المصريون طبعًا.

– لكنهم حلَّوا حزبهم؟

مال ناحيتي وابتسَم ابتسامةً ملتوية: هل يصدِّق أحد؟ لا بد أن لهم خلايا سريةً في كل مكان.

شَعرتُ بالخطر. ولم تكُن أوَّل مرة أتعرَّض فيها لموقفٍ مماثل.

قلتُ: لم يكن الحل مناورة. أدركوا ألَّا جدوى من استمرارهم منفردين، وهم يؤمنون بضرورة وحدة العناصر الاشتراكية بقيادة عبد الناصر. هم صادقون في موقفهم فلم يكونوا أبدًا من أصحاب الوجهَين.

بدا عليه القنوط: على العموم لو تعرَّفتَ على أحدٍ منهم هنا صلني به.

قلتُ صادقًا: سأفعل.

ران علينا الصمت ثم خطرَت لي فكرة. سألتُه: هل تعرف المراسل الجديد لجريدة الجمهورية؛ حلمي عبد العليم؟

فُوجئ بالسؤال. قال: لأ. ثم ابتسَم وقال: غالبًا من رجال المخابرات.

– أغلب المراسلين كذلك.

نهض واقفًا وقال: سأنصرف الآن. هل أنت ذاهب إلى فريدريش فيلده؟ نركب سويًّا.

قلتُ دون أن أتحرَّك من مكاني: ليس الآن. سأبقى قليلًا.

وشيَّعتُه ببصري وهو يتجه إلى الخارج.

٤

انتهيتُ من مراجعة درس اللغة، ولاحظتُ لأول مرة التماثل بين خاصَّتَي المفعول به والمضاف إليه في اللغتَين الألمانية والعربية. تناولتُ الصور التي التقطتُها ﻟ هايدي في دار العطلات وانتهيتُ من تحميضها وطباعتها. تأمَّلتُ وجهها الشاحب وصدرها الصغير وفخذَيها الرائعتَين. وضعتُ الصور جانبًا وجذَبتُ خطاب كمال الأخير. أعدتُ قراءته:

«… ربما كنا على حدِّ قولكَ نحمل مشاكلنا داخلنا. على كلٍّ ما زلت عند فكرتي. أن أسافر وأعمل وأستمتع. أريدُ أن أعطي نفسي فرصةً جديدة. في الحقيقة أريد فرصةً أولى. لم تكن هناك فرصةٌ أولى بالنسبة لي. أريد أن تعمل وظائف عقلي وجسدي بشكلٍ طبيعي. أن أفكِّر دون خوفٍ من عقاب. أن أُراقب وأنتقل بغير هدف. قد يبدو هذا شيئًا رومانتيكيًّا في عصر الجليد هذا. لكن ما العمل. ربما كان قليلٌ من الرومانتيكية هو الذي يُبقي لنا توازننا. سألتَني ماذا أريد أن أعمل بالضبط. أجيبُكَ مرة أخرى: لا أشغل نفسي الآن بالمستقبل البعيد. ما أريد أن أفعله لسنةٍ قادمة هو أن أرحل. أتجوَّل. أعرف.

… أعيش في حالة من انعدام الوزن. أتكلَّم مع نفسي كثيرًا (عادة قديمة لكنها زادت بشكلٍ مزعج) وأعتقد أني بدأتُ أتدهور نفسيًّا إلى حالةٍ من المناخوليا. لا أحد يفهم أو يحاول أن يفهم. حتى «…» تبدو غبيةً جدًّا وهي تأخذ شكل المدافِعة عن كل شيءٍ هنا. بل وتأخذ شكل المناضِلة الوطنية. أُحِس هنا أني مخدَّر وغير مُجدٍ (لنفسي بالطبع فلستُ أهتم بالآخرين) لم أُضف شيئًا جديدًا لنفسي. كل الأشياء هنا معادة وكئيبة ولا تُطاق. أسوأ من ذي قبل.

لا أكتُب شيئًا الآن. أقرأ فقط للتسلية وتضييع الوقت. أدخل السينما كثيرًا. أعمل في الصباح في هيئة الثقافة الجماهيرية باليومية! تصوَّر! ستون قرشًا في اليوم ولا تُحسَب أيام الجمع والأعياد. هذا هو العمل الوحيد الذي استطعتُ الحصول عليه بعد سنة من التعطُّل (منذ خروجي من الاعتقال). وقد سعى فيه ناسٌ كبار. عرفتُ لماذا ينتحر الناس.»

وضعتُ الخطاب في دُرج المكتب وغادرتُ الغرفة بحثًا عن عدنان. كانت غرفته مفتوحةً وخالية. ورأيتُ المصابيح مضاءة في غرفة المعيشة فولجتُها. وجدتُ هايدي في بلوزةٍ ضيقة وبنطلونٍ جينز قديم تُشاهِد التليفزيون. حيَّيتُها متسائلًا: متى جئتِ؟
قالت: من نصفِ ساعة. مع نبيل.

– وأين هو؟

قالت: ذهب ليُحضِر حقيبتي من أماناتِ محطة أوستبانهوف.

كان قد ذكر لنا في الصباح أنها تشاجرَت مع صديقتها وستنتقل للإقامة معه.

– هل رأيتِ عدنان؟
قالت: خرج مع هيلدا للبحث عن أريكة لحجرته.

ارتميتُ إلى جوارها على الأريكة وسألتُها: كيف حالك؟ هل وجدتِ عملًا؟

قالت: أجل. سكرتيرة في مجلة الشباب يونجه فيلت. أقرأ رسائل القُراء وأقوم بتلخيصها وتوزيعها على الجهات المختصَّة. العملية مثيرة فالرسائل تتناول كل مشاكل الشباب في الدراسة والحب ومع والديهم.
– ضمنتِ البقاء في برلين بعض الوقت إذن.
بدأ التليفزيون يعرض فيلمًا سوفييتيًّا جديدًا اسمه تفاريش برلين، الرفيق برلين! لمخرج الأفلام التسجيلية السوفييتي الشهير رومان كارن. تابعناه في اهتمام بعض الوقت حتى تبيَّنتُ سذاجته؛ فلم يختلف عن الفِقرات التي تُذيعها الوكالة إلا في الألوان الرائعة للناس والمباني الجديدة.
أعربَت هايدي عن تقزُّزها وأغلقَت التليفزيون. أدارت أسطوانة ﻟ أدامو، ثم عادت إلى مكانها بجواري. ترجمتُ لها كلمات الأغنية الفرنسية إلى الإنجليزية وكنتُ أحفظُها: أنت لن تأتي هذه الليلة. قلبي حزين للغاية وأبكي بأسًى، الثلج يتساقط ببطء، كل شيءٍ أبيض من القنوط. البرودة هي غيابك.

تطلَّعَت إلى باب الشرفة الزجاجي المغلَق. كانت الستائر مزاحة جانبًا كاشفةً عن ظلمة الغروب. قالت: قريبًا سيتحوَّل الصقيع إلى مياهٍ وسخةٍ تذهب إلى المزاريب والبلاعات، وتتغطَّى المدينة بالسحب وتطول ساعات الظلام، ويرتدي الجنود معاطف طويلة حتى العقبَين.

ضحكَت وأضافت: وأربط غطاءَ رأسٍ بلاستيكيًّا فوق شعري لحمايته من الثلج.

– ماذا كنتِ تفعلين لو أنتِ الآن في موطنكِ؟

قلبَت شفتَها في استهجان: أعمل مع أبي وأخي في الحديقة. نقوم بتغطية أشجار الفاكهة وتقليمها، ونغطِّي الورود لحمايتها من البرد القادم، ونقلِّب أكوام الروث والعشب والأوراق الجافة لنستخدمها في تسميد الأرض عندما يحلُّ الربيع، ونُشارِك عائلات الجوار في التحطيب من الغابة.

غادرَت مكانها ومضت إلى المطبخ ثم عادت بزجاجةِ بيرة مفتوحةٍ وكوبَين. صبَّت لي ولنفسها ثم سألَتني: ألا تحنُّ لبلدك؟

ضحكتُ: ليس عندنا صقيع أو ثلج أو غابات.

نهضتُ ومضيتُ إلى غرفتي. أحضرتُ الكاميرا ومقياسَ الضوء. أضأتُ المصباح الأرضي المُجاوِر للأريكة.

وقفتُ في منتصف الحجرة ووجَّهتُ مقياس الضوء إلى وجهها. ضغطتُ على زِرِّه الأسود وفي نفس الوقت على الصمام الأسفل في جانبه. انتظرتُ أن يتحرَّك المؤشِّر إلى منتصف مربَّعٍ أبيض.

كنتُ أعرف من الإرشادات المرفَقة بالجهاز أن الطريقة العادية في القياس هي من مكان الهدف نحو الكاميرا. لكنَّ تعرُّض وجهها لأضواء مصابيح السقف والمصباح الأرضي بجوارها ألقى عليه بعددٍ من الظلال المتباينة، وفي هذه الحالة يكون الأوفق هو القياس من موقع الكاميرا.

انتهيتُ من القياس وحسابه وضبطتُ عدسة الكاميرا ثم صوَّبتُها نحو وجهها وجعلتُه في الدائرة الداخلية لفتحة العدسة.

التقطتُ صورة لها وهي تتطلَّع إليَّ باسمةً في خجل، وطلبتُ منها أن تُحوِّل وجهها ناحية باب الشرفة، وانتظرتُ حتى اختفت الابتسامة فتحرَّكتُ من مكاني محافظًا على نفس المسافة، وواصلتُ التقاط الصور. كنت أبحثُ عن نظرة الطفلة الشقية التي عهدتُها في تامباخ ديتار.
قالت فجأة: بعد أسابيع يحل الفايناختين، الكريسماس.

سألتُها دون أن أرفع عيني عن العدسة: هل تنوين الذهاب إلى موطنكِ؟

علت وجهها مسحةٌ من الحزن: لا. سيحتفلون بالعيد وحدَهم هذا العام.

التقطتُ المزيد من الصور.

قارب الفيلم على الانتهاء فنحَّيتُ الكاميرا جانبًا، وقامت هي واقفةً ومضت إلى باب الشرفة ممسكةً بكوبها، وواصلَت حديث الكريسماس: عملية مملَّة. ننهمك في تزيين الشجرة ويتساقط الثلج بالساعات، ويتصاعد الدخان من مداخن المنازل. نُشعِل الشموع ويُغنِّي الجميع وتبكي النساء ويفد الأقارب من الغرب محمَّلين بالموز والسجائر والبن والشكولاتة، وبعد أن ينتهي تبادُل الهدايا بالقبلات والأحضان نأكل الأَوِزَّة ثم تدور الأحاديث حول إجراءات الحدود بين الشرق والغرب وزيادات المعاشات وخطَط عطلات الصيف والوقت الذي كان فيه نوعٌ من الحلوى بمائتَي فينيج وكأس شنابس بعشرة، وتُعقد المقارنات بين الأجور في الشرقية وبينها في الغربية.
سمعتُ صوتَ فتح باب الشقة، وظهر نبيل في مدخل الغرفة حاملًا حقيبةً ضخمة في مثل حجمه. وتوقَّف حديث الشجون.

٥

فتحتُ عيني بسبب الضوء على ما أعتقد؛ إذ لم أُسدِل ستارة النافذة قبل النوم. تطلَّعتُ إلى ساعة يدي فوجدتُها السابعة وحاولتُ أن أتذكَّر متى نمت. كانت ساعة المحطة عندما وصل «الأوبان» إليها الحادية عشرة والنصف. لا بد إذن أني نمتُ في الثانية عشرة. اليوم الأحد وأحتاج إذن إلى ساعة أو ساعتَين من النوم الإضافي.

استدرتُ في السرير وجذبتُ اللحاف فوقي ليتلاشى الضوء وأغمضتُ عيني في محاولةٍ لاستئناف النوم. لكنِّي تذكَّرتُ الفيلم الذي رأيتُه في برلين الغربية؛ مور أو المزيد. عن شاب يرتحل إلى المغرب ويقوم بمغامراتٍ عدة مع النساء والمخدِّرات وشعاره دائمًا: المزيد.
كانت الوسادة في وضعٍ غير مريح فعدلتُها ورفعتُ رأسي وأنصتُّ لأصوات الشقة. توقَّعتُ تأوُّهات هايدي العالية كعادتها صباح كل أحد، لكن السكون كان مطبقًا؛ لا أصوات من الغرف أو المطبخ أو الحمَّام. لا بد أن حيوية الأحد الألمانية دفعَت بهم إلى الخارج. ظلَلتُ أتقلَّب دون أن يأتيني نوم، وأخيرًا غادرتُ الفِراش.

وجدتُ الشقة خاليةً تمامًا كما توقَّعتُ. اغتسلتُ وأعدَدتُ إفطاري؛ بيضة نصف مسلوقة وزبدًا وجبنًا ومُربَّى وكوبًا من الشاي. حملتُه في صينية إلى غرفة المعيشة وجلستُ على الأريكة.

أكلتُ في بطء وأنا أفكِّر في خطَّتي لليوم. وعندما انتهيتُ حملتُ الصينية إلى المطبخ وغسلتُ أطباقها ثم أويتُ إلى غرفتي. وقفتُ في مدخلها أفكِّر؛ أحمِّض الأفلام التي تجمَّعَت لديَّ وأطبعُها أو أسمعُ موسيقى، أم أقرأ في رواية بول باولز الأولى التي بدأتُها منذ يومَين، أم أحاول الكتابة؟
عُدتُ إلى غرفة المعيشة والتقطتُ أسطوانتي المفضَّلة لعازفة البيانو السوفييتية ماريا جرينبرج، وتضم السيمفونية الوحيدة ﻟ سيزار فرانك والكونشرتو الخامس للبيانو والأوركسترا ﻟ باخ والكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا ﻟ شوستاكوفتش. أعدتُها مكانها ووضعتُ السيمفونية الثانية ﻟ برامز فوق البيك أب. حرَّكتُ الإبرة حتى استقرَّت عند بداية الحركة الأخيرة، ثم أوقفتُها وأغلقتُ الجهاز وأعدتُ الأسطوانة إلى غلافها وموضعها.
مضيتُ إلى حجرتي وجلستُ إلى المكتب. كنتُ قد فكَّرتُ في كتابة قصةٍ بوليسية حسب نصيحة سوكارنو. واخترتُ لها جريمةً تقع في ألمانيا الشرقية، كما اخترتُ للضحية شخصية نويمان، وقرَّرتُ أن أكتُبها باللغة العربية وأعهد إلى قادر بترجمتها. لكني لم أتحمَّس للبدء. تخيَّلتُ أني نجَحتُ في كتابة قصةٍ جيدةٍ وأنها وجدَت ناشرًا وأتبعتُها بقصصٍ أخرى، ثم تحرَّرتُ من العمل في الوكالة وحقَّقتُ أحلامي في الترحال؛ إلى منابع النيل وجبال الهيمالايا وسهول سيبريا.
أخرجتُ الكرَّاسة التي خصَّصتُها للمشروع البوليسي. تأمَّلتُها برهةً ثم أعدتُها إلى الدُّرج وأمسكتُ بورقة وقلم. كتبتُ إلى أولريكا رسالةً لا معنى لها ثم مزَّقتُها، وشرعتُ في كتابة رسالة إلى كمال، ثم توقَّفتُ وألقيتُ بالقلم جانبًا وقرَّرتُ الخروج.

تطلَّعتُ إلى النافذة: لا شمس. ارتديتُ ملابسي وحملتُ مظلَّتي. تناولتُ الكاميرا ومقياس الضوء ثم ألقيتُ بهما في تأفُّف فوق الفِراش وغادرتُ المنزل.

لم يكن هناك أثَر لإنسان، والستائر مُسدَلة على أغلب النوافذ. وخلف البعض ظهرَت سيداتٌ انهمكن في تنظيف زجاجها؛ واجبات يوم الأحد.

دُرتُ عند نهاية الشارع في اتجاه محطة الأوبان. ومررتُ بعجوزتَين فوق أريكةٍ حجرية. حيَّيتُهما قائلًا: جوتن مورجن. وتجاوزتُهما.

نادَتني إحداهما: أيها الشاب!

توقَّفتُ وعُدتُ إليهما.

قالت: كم تظُن عمرنا؟

قلتُ: سبعين؟

قالت بزهوٍ: أكملنا التسعينَ أمسِ. يا … يا …

قلتُ: شطَّار.

استأنفتُ الطريق إلى المحطة وتذكَّرتُ الأرملة المرحة وعجوز حديقة الحيوانات، والعجوزتَين جيلزر، وفكَّرت أنَّ إنجمار يمكن أن تعيش حتى الثمانين والتسعين، وأنَّ أفظع شيءٍ هنا هو حياة الناس الطويلة في ظل الوحدة. وربما كان هذا السبب وراء انتشار ظاهرة انتحار العجائز باستنشاق غاز البوتاجاز.
ولجتُ المحطة الخالية من الركاب. ذرعتُها جيئةً وذهابًا ثم توقَّفتُ أمام لوحة دُور السينما. استعرضتُ الأفلام المعروضة في أماكنَ أعرف الطريق إليها. بحثتُ عن فيلمٍ غير ألماني. وجدتُ فيلم السيد وهو تاريخي، إنتاجٌ مشترك مع فرنسا وإسبانيا. كنتُ قد رأيتُه مرتَين، ولم أجد رغبة في مشاهدته مرةً ثالثة.

جلستُ فوق أريكة وانتظرتُ حتى وفَد القطار. لم يغادره أحد، وبعد عشر دقائق استعد لرحلة العودة.

تردَّد صوتُ مساعدِ السائق في أرجاء المحطة الخالية؛ أينشتايجن بيته. ثم تور شليسن. صعدتُ إلى العربة الفارغة وجلستُ بجوار الباب. وفي المحطة التالية انضمَّت لي امرأةٌ خمسينية بأنفٍ حادٍّ ومعطفِ مطرٍ رخيص، قدَّرتُ أنها عاملة أو موظَّفةٌ بسيطة. وفي المحطة التي بعدها صعد رجلٌ منتفخ الأوداج محتقنها بذقنٍ مزدوجة، خِلتُه مدير متجر أو جزَّارًا. وتبعه شابٌّ في معطفٍ جلدي حتى العقبَين، لعله شرطي في ملابسَ مدنية.
غادرتُ القطار في محطة ألكسندر بلاتز، وبدلًا من أن أستقل ال إس بان إلى فريدريش شتراسه كالعادة قرَّرتُ الخروج إلى الساحة. وتبعتُ شابًّا وفتاة يسيران متعانقَين.
طُفتُ بأرجاء الميدان الخالي من المارة والمتسكِّعين. ولجتُ أول مقهَى صادفَني. خلعتُ معطفي وعلَّقتُه وجلستُ بالقرب من رجلٍ أربعيني ممتعض الملامح بالبيريه بصحبة شقراءَ بشعرٍ مصبوغ في سترةٍ جلدية. وحول المائدة المجاورة لهما جلس ثلاثة شبَّانٍ يرتدي أحدهم قميصًا أحمر اللون ويجمع شعر رأسه في نصفِ دائرة مقسَّم إلى خصلتَين على جانبَي جبهته ملتصقتَين بالرأس، والثاني في سترةٍ أنيقة بدون ياقة. وفي طرف القاعة لمحتُ هنديًّا سبق أن رأيتُه ساخطًا متأففًا في مطعم صوفيا وبار أونتردين ليندن.

شربتُ كوبًا من البيرة ثم ارتدَيتُ معطفي وغادرتُ المكان ومشيتُ على غير هدًى. توقَّفتُ أمام كشكٍ للتليفون. وبدأ المطر يهطل في غزارة فبسطتُ مظلَّتي. كان الكشك محتلًا بشابٍّ ألماني واجهنَي ممسكًا بسماعة التليفون ومستندًا بمرفقه إلى حافةٍ خشبية وأخذ يتحدَّث على مهَل وهو يتأمَّلني.

أشحتُ بوجهي كي لا أُحرجه، وبعد دقائقَ تطلَّعتُ إليه في تجهُّمٍ لكنه واصل الحديث وتجاهلَني، وبعد ربع ساعةٍ لم ينقطع المطر خلالها يئستُ فانصرفتُ.

ولجتُ مقهَى. خلعتُ معطفي من جديد وجلستُ إلى مائدة بمقعدَين إلى جوار المدخل وطلبتُ شايًا. رأيتُ إحدى نادلات ليندن كورسو تجلس إلى مائدةٍ من أربعة مقاعد مع أجنبيٍّ طويل شديد السمرة يرتدي بلوفر أحمر اللون برقبة أسفل بزَّةٍ رمادية. كان له وجه البلطجية الذين لا يُفيقون من الحشيش والكراك، وقدَّرتُ أنه عربي أو تركي.
دخلَت فتاةٌ شقراء ودارت بالمكان ثم وقفَت تتأمل الموائد. بدت لي ملامحُها مألوفة. تذكَّرتُ أني رأيتُها من قبل في أونتر دين ليندن عقب مباراة كرة مع فريقٍ هولندي. ليلتَها امتلأ البار بأجسامهم العملاقة وقباقيبهم الخشبية، وظهرَت في صالة الفندق ووقفَت تتأمَّل الجالسين بنفس الطريقة وحقيبةُ يدها تحت إبطها، ثم خلعَت معطفها وعلقَته وجلسَت بالقرب مني، ثم انضم إليها هولنديٌّ ضخم كالمصارعين، وبعد قليل كانت تُبادِله القبلات. واليوم أيضًا وقع نظرها عليَّ، ثم على المائدة المجاورة التي تجلس إليها النادلة مع الأجنبي. وكان بمفرده الآن لأن الفتاة ذهبت إلى التواليت فيما يبدو، فاقتربَت من مائدته وسألَته إذا كان أحد المقاعد خاليًا. أجاب بالإيجاب، فوضعَت حقيبة يدها عليه ومضت إلى المدخل فعلَّقَت معطفها ثم عادت وجلسَت وطلبت قهوة. لكن الفيلم لم يكتمل — أو هكذا ظننتُ — إذ عادت رفيقة الأجنبي.
أنهيتُ كوبي ودفعتُ حسابي مع البقشيش وغادرتُ المقهى. اتجهت إلى مبنى البلدية القديم، وهبطتُ إلى المطعم الذي يحتل طابقًا تحت الأرض. ولجتُ قاعةً هائلة الاتساع شبه ممتلئة، في طرفها فريق من الموسيقيين بالقبَّعات الخضراء لأبناء التيرول وسراويلهم الجلدية يعزفون نغماتٍ مرحة بقيادة عازف أكورديون عجوز. وحول عدة موائدَ طويلة انعقدَت مجموعات من مختلف الأعمار تمرح في صخب، بينما فتاة في ملابسَ ريفية تشُق طريقها بصعوبةٍ بينهم حاملة أكواب البيرة الضخمة.
اتجهتُ إلى مكان التواليت، وعند عودتي وجدتُ مجموعة من السياح الأوروبيين يحتلُّون المقاعد الخالية ومرشدهم يُحصيهم أثناء جلوسهم. واصلتُ طريقي إلى الدرَج الذي قادني إلى ساحة ألكسندر بلاتز.

وقفتُ مترددًا تحت المطر. تذكَّرتُ عبارة في إحدى الروايات تقول إن أصعب فترات السجن هي بعد ظهر أيام الآحاد. نظرتُ نحو المجمع الحديث الذي يضُم عدة مطاعمَ للمشويَّات على شكلٍ دائري بحيث يُعِد الطاهي ما يطلُبه الجالسون حوله مباشرة. انتظرتُ حتى توقَّف المطر فمضيتُ إليه.

٦

أحكمتُ غطاء رأسي ومشيتُ في حذر فوق الثلج الذي تساقط بالليل. وكانت الحركة قد بدأَت في الطرقات رغم أن الساعة لم تتجاوز الخامسة صباحًا.

استخدمتُ بطاقة المترو وعبَرتُ الحاجز، ثم وقفتُ أنتظر فوق الرصيف. وضعتُ حقيبتي إلى جواري والكاميرا فوقها ثم فكَكتُ الوشاح الذي أحطتُ به عنقي.

أخرجتُ برتقالة وقشرتُها ثم بحثتُ عن سلَّة فضلات حتى وجدتُها فألقيتُ القشرة فيها، وجاء المترو فركبتُ وجلستُ بالصدفة في العربة المخصَّصة لمن معهم درَّاجات أو كلاب أو عربات أطفال.

نزلتُ في محطة ﻟ أوست كرويتز التي تلتقي عندها أغلب خطوط المترو. وهبطتُ إلى الطابق الأرضي حيث أخذتُ القطار العلوي المؤدي إلى محطة ﻟ أوستبانهوف.
وقفتُ بجوار باب العربة وأزلتُ بيدي المقفَّزة البخارَ الذي تجمَّع على الزجاج لأتبيَّن ما يجري. تابعتُ مداخن المصانع والمجمَّعات السكنية الحديثة التي بدَت معالمها رغم الظلام السائد. أبطأ القطار تدريجيًّا، وأدركتُ أننا وصلنا محطة أوستبانهوف من ضخامة الأرصفة التي أشرفنا عليها، فحملتُ حقيبتي إلى الخارج.
وجدتُ ماجد في انتظاري على الرصيف في معطفٍ أنيق من الصوف. قال: سيتأخر قطارنا ثمانين دقيقة. لنجلس في المتروبا، مقهى المحطة.

كان يتألَّف من طابقَين، ووجدنا الطابق العلوي الذي نقف في مدخله مزدحمًا بالجالسين. أما الطابق الأرضي فكان خاليًا تمامًا. تقدمنا من الدرَج المؤدي إليه، وإذ بنا نصطدم بصفٍّ من المقاعد التي وُضعَت بحيث تسُد الطريق.

قفز ماجد فوق المقاعد واختار مائدة. وضع حقيبته على الأرض، وأشار إليَّ كي ألحق به.
ظهر النادل فجأةً وصاح ﺑ ماجد كي يعود إلى الطابق الأعلى لأنه لا تُوجد خدمة في السفلي. صاح ماجد بدوره: لا يُوجد هناك مكانٌ خالٍ.

هزَّ النادل كتفه وانصرف.

قلتُ وأنا أضع الكاميرا فوق المائدة برفق ثم أجلس: انتهت معركتُنا الأولى اليوم بنجاح.

قال ماجد: في الغالب سيُعاقِبوننا بعدم خِدمتنا.

سمعنا صوتًا رصينًا من الإذاعة الداخلية يُعلِن أن قطارنا سيتأخر ثمانين دقيقة.

سألتُ: ألن نتأخَّر على الفتاتَين؟

قال: لا يهم. هما أختان وسنُتلفِن لهما بمجرَّد وصولنا.

– احكِ لي عنهما.

– الصغرى طالبة في كلية الفنون وتعرَّفتُ بها عن طريق زوجتي التي تُدرِّس لها، وعندما عرضتُ عليها أن أزورها في درسدن اشترطت أن آتي معي بصديقٍ لأختها. تقطنان شقةً كبيرة يمكن أن نبيت بها.

وضح أننا كسرنا الحظر؛ فقد شغل المائدة المجاورة رجلٌ وامرأة يخاطبان بعضهما البعض بصيغة الاحترام. واحتل شابَّان مائدةً أخرى مجاورة. ولاحظتُ أنهما ينصتان لما يدور من حديث بين الرجل والمرأة.

اقتَرب منا نادلٌ عجوز يحمل صينية عليها أكوابٌ فارغة وأواني القهوة. سألَنا عما نريد فقلنا في صوتٍ واحد: شاي.

هزَّ رأسه قائلًا: لا يوجد الآن إلا القهوة، وصبَّ لنا كوبَين.

قلتُ: لعل مزاج المدير العام للمترو ليس على ما يُرام، فقرَّر أن يشرب جميع الزبائن اليوم قهوة.

قال ماجد: في الغالب لا يُوجد عددٌ كافٍ من العمال.
شربنا القهوة ثم سمعنا الميكروفون يعلن وصول قطارنا. جمعنا حاجياتنا وصعدنا إلى رصيف القطار. وفي الناحية الأخرى كان هناك قطارٌ متجه إلى روستوك وفي نافذته فتاتان ابتسمتا ﻟ ماجد.
حدَث تدافُعٌ شديد أمام أبواب القطار، وسقطت فتاة تحت الأقدام وهي تصيح: هيلفه، النجدة. فحملتُ لها حقيبتها حتى تمكَّنَت من الصعود.

وجدنا مقعدَين في أول قمرة. جلسنا أمام فتاةٍ حلوة أخرجَت أوراقًا وأخذَت تضع خطوطًا حمراء تحت بعض الكلمات، وبدا لي من حجم الكلمات المكتوبة بعناية أنه امتحانٌ لفصل في مدرسةٍ ابتدائية. وبعد قليل أسندَت رأسها إلى المقعد واستغرقَت في النوم.

كان هناك عددٌ من الشبان يقفون في ممر العربة يتبادلون الحديث بصوتٍ مرتفع في لغةٍ غريبة، وبدَت ملابسهم جديدة ومن نوعيةٍ رخيصة، وظهرَت على أياديهم التي حملَت زجاجات البيرة آثارُ العمل اليدوي. وعندما أفرغوا محتويات الزجاجات ألقَوا بها من النوافذ، فعلَت وجوهَ الألمان نظراتُ الاستنكار.

علَّق ماجد قائلًا إنهم من اليوغوسلاف العاملين في برلين الغربية، عائدين إلى بلادهم، إذ كان القطار يذهب إلى براغ ثم بودابست وبلغراد قبل أن تنتهي رحلته في فيينا.
وقف شابٌّ سلافي الملامح لسيدةٍ عجوز بينما لم يتحرَّك شابَّان ألمانيان. وسألَني ماجد: لاحظتُ أن الجو متوتِّر بينكَ وبين عدنان. هل هناك شيءٌ يتعلَّق بالعمل؟

كانت علاقتنا قد توطَّدَت في الآونة الأخيرة مما سمح له بالسؤال.

قلتُ في تردُّد: قصةٌ سخيفة. أنت تعرف أن صديقته هيلدا تقيم معنا. وفي الأسبوع الماضي سافر إلى مدينة لايبزيج ليبحث إمكانية الالتحاق بجامعتها. وفي نفس اليوم جاءني صديقٌ لأحد أصدقائي — مصري — وقال إنه تأخر في اللحاق بطائرة مصر للطيران ويريد مكانًا يبيت فيه ليلته. أخذتُه إلى المنزل، وتعشَّينا وشربنا، وجلسَت معنا هيلدا بعض الوقت ثم لجأت إلى غرفتها. كان شخصًا طريفًا للغاية. شديد الحيوية بطريقةٍ غير طبيعية ولا يفكِّر في غير النساء. سهرنا سويًّا وهو يحكي لي مغامراته ونضحك على المواقف الغريبة التي تعرَّض لها، ثم أعددتُ له فِراشًا في غرفة المعيشة، وتركتُه لينام ولجأتُ إلى غرفتي. وبعد أن استغرقتُ في النوم استيقظتُ على صراخ. اندفعتُ إلى الردهة فوجدتُ باب هيلدا مفتوحًا وضيفي يقف في منتصف غرفتها في ملابسه الداخلية وهي تصرخ في هستيرية. هدَّأتُ من رُوعِها واقتدتُه خارج الغرفة، وظلَلتُ إلى جواره حتى استغرق في النوم. وفي الصباح لم يتذكَّر شيئًا مما حدث وسافر في نفس اليوم.
– وحمَّلكَ عدنان مسئولية ما حدث؟
– ليت الأمر اقتصر على ذلك. فقد صوَّرَت له هيلدا أنني اتفَقتُ معه على اقتحام غرفتها. وقالت ﻟ عدنان إننا كنا نضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ طوال الوقت!
قال ماجد بلهجة الخبير بمكائد النساء: لعلها أرادت أن تُثير غَيرته.

قلتُ: ربما. على العموم ليس هناك ودٌّ كثير بيني وبينها. علَّقتُ ذات يومٍ على تجاعيدَ في جلد بطنها متسائلًا في سذاجةٍ عما إذا كانت قد حملَت يومًا ما، فنفت ذلك بشكلٍ قاطع وكرهَتني من يومها.

اقتربنا من درسدن بعد ساعتَين ونصف ساعة، وأظلم القطار، وظل مظلمًا حتى ولجنا المحطة الرئيسية للمدينة.
تلفَن ماجد لفتاته فلم يجدها. أخذنا الترام الذي انطلَق في شوارعَ خالية مرصوفة بمربعاتٍ حجرية تقافز فوقها. وكان الجو دافئًا، وسقط مطرٌ خفيف ثم توقَّف.
نزلنا في مركز المدينة الحديث، وولجنا حانوت تسفينجر الضخم الذي تُطِل جدرانه الزجاجية على شارعَين. حصل كلٌّ منا على بطاقة، قدَّمناهما للبائعة عند الكاونتر. أخذنا قهوةً وكعكةً فثقبَت كل بطاقة أمام الثمن.
قال ماجد ونحن نحتسي قهوتنا: هل تعرف أن الساكسون سكان هذه الأنحاء هم أوَّل من أدخلوا تقليدَ تناوُل الكعك مع شرب القهوة في العالم؟
كان التدخين فيربوتين، ممنوعًا. فنزلتُ إلى التواليت ودخَّنتُ هناك.
تلفَن ماجد من جديد. وفي هذه المرة وجد الفتاة، وقالت له إن أمها في زيارةٍ مفاجئة وتريد أن تأخذها إلى القرية، ثم إنها تريد أن تغسل شعرها. واقترحَت أن نتجوَّل قليلًا ثم نتصل بها بعد ساعة.
استشار ماجد الكُتيِّب السياحي وذهبنا إلى المتحف القديم. تنقَّلنا بين لوحات شهداء القديسين وصور ضحايا الحرب العالمية. ووقفتُ أمام لَوحة روبنز الشهيرة ليديا والبجعة» التي ضمَّت فيها الفتاة البجعة بين فخذَيها وقرَّبَت رأسَها من فمها. ثم قضيتُ وقتًا طويلًا أمام طفل رامبرانت المذعور الذي سال البول من قضيبه عندما حملَه العُقاب في الهواء.

صوَّرتُ اللوحتَين، وإن راودني الشك في النتيجة بسبب الضوء الضعيف. أسِفتُ لأني لا أملك «فلاشًا» ثم استرحتُ عندما لمحتُ تحذيرًا من استخدام الفلاش في التصوير.

تلفَن ماجد للفتاة فلم ترُد. تجوَّلنا طويلًا ثم ولجنا مطعمًا حديثًا. رأينا في جانب منه تجمعًا لأكثر من عشرة أشخاص يحملون شارات الحزب فوق ياقات ستراتهم أحاطوا برجلٍ قصير باسم الوجه ذي كَرشٍ متوسط. استفسر ماجد من النادلة عنهم فقالت إنهم أعضاء لجنةٍ حزبية، واستعرضَت لنا الأطباق المحلية حسب طلبنا، فاختار ماجد كُرات البطاطس وقطعةً من لحم الدب البري مع سوس وكرنب أحمر. وطلبتُ أنا قطعة من اللحم البقري المدمَّس (المطهو ببطء في قِدرٍ مغلَقة) والمنقوع في الملح والخل مع بيرة رادبرجر الشهيرة.
قال لي ماجد مبتسمًا وهو يشير إلى الجمع الحزبي: اللجنة كلها هنا بالتأكيد ولم يتغيَّب أحد؛ لأن الطعام مكفول. فرصة لك لعمل مقابلةٍ صحفية.

قلتُ: كيف؟

قال: سترى.

استدعى النادلة وتحدَّث معها. فمضت إلى القصير ذي الكَرش ومالت على أُذنه ثم انصرفَت، وتطلَّع الرجل إلينا وأخذ يدرُسنا بدقة.

قام بعد قليلٍ واقترب منا. وقفنا له فقدَّم بطاقته ﻟ ماجد الذي وضعها في جيبه بحرص وقدَّم بطاقته بدوره. تأمَّلَها الرجل بدقة ثم قال إنه ليس السكرتير الأول وإنما الثاني وإن الأول غير موجود. لكنه على استعدادٍ للإجابة عن أسئلتنا.
جلس في مقعد أمامي وقال إنه يريد معرفة كافَّة الأسئلة قبل أن يُجيب. سألتُه عن تأثر عمال المدينة بأحداث تشيكوسلوفاكيا قائلًا إنني أعرف بالطبع أن الوضع هنا مختلف ومستوى المعيشة أعلى. أنصَتُّ في جمود. وعندما أخرجتُ جهاز قياس الضوء وفتحتُ عدسة الكاميرا بدا عليه الاهتمام، وتضاعفَ وقاره وأخذ يحرِّك أصابعه اليسرى بطريقة تُوحي باتخاذ القرارات.

التقطتُ صورة ليده وعلامة الحزب على سُترته ثم لوجهه عندما تكلَّم وبدأ يستعرض طبيعة المنطقة ومستقبلها الصناعي ومستوى معيشتها المرتفع. وأشار بيده إلى جماعته قائلًا: نحن نبحث الاستعدادات للاحتفال القريب بالعيد العشرين لجمهوريتنا.

عندما انتهينا وعاد إلى مقعده قال ماجد: لم تقُم بالحركات المعتادة للمصورين الصحفيين. تنحني فوق ركبتكَ مثلًا وتقف فوق مقعد.

قلتُ: إنه السكرتير الثاني فقط.

أكملنا طعامنا، وعاود ماجد الاتصال بالفتاة دون مجيب. دخلَت فتاةٌ طويلة في جينز وبوت وانتحت جانبًا. حاول ماجد التقرُّب منها بالنظرات فلم تُعِره اهتمامًا. فغازل النادلة التي استجابت له في البداية ثم ذكرَت أنها على موعد مع صديقها في الليل.
غادرنا المطعم وواصلنا التجوال، واتصل ماجد مرة أخرى بفتاته من كشك في الطريق. وقال لي محبطًا: لا فائدة. دعنا نعود.

واتجهنا إلى محطة القطار.

٧

استيقظتُ مبكرًا كما أصبحَت عادتي المؤلمة كل أحد. وذهبتُ إلى الحمَّام فوجدتُ المياه تُبلِّل الأرض حول الحوض والبانيو. عُدتُ إلى حجرتي. سمعتُ حركة باب الغرفة المجاورة ففتحتُ بابي. كانت هايدي في روبٍ سماوي اللون، ونبيل في الفانلَّة والكيلوت في طريقهما إلى الحمَّام. أشرتُ لهما أن يلجا حجرتي.

قلتُ بلهجةٍ صارمة: الحمَّام مبلَّل. نحن اتفقنا ألا يتركه أحدٌ منا كذلك بعد استخدامه.

قالت: عدنان وهيلدا استحما في الثالثة صباحًا.
اتجهَت هايدي إلى فراشي واستلقت فوقه على بطنها. وانزاح طرف الروب كاشفًا عن فخذَيها. تحوَّل نبيل منصرفًا إلى الحمَّام فنهضَت وتَبِعَته.
بعد قليلٍ سمعتُهما يعودان من الحمَّام فمضيتُ إليه. وجدتُ الأرض جافَّة فاغتسلتُ، ثم انتقلتُ إلى المطبخ، وشرعتُ في إعداد الإفطار. سلَقتُ عدة بيضات وفتحتُ علبة رنجةٍ محفوظة، ووضعتُ مربَّى وزبدًا وقطعة جبنٍ بيضاء (برنزا) اشتريتُها من حانوت السلع البلغارية، وهو المكان الوحيد التي يتوافر فيه الجبن المصنوع من لبن البقر مثل الجبن المصري.

جاءتني في المطبخ وقالت إنها نظَّفَت الحمَّام فاحتضنتُها وقبَّلتُ رأسها. استكانت في حضني لحظة وهي تضحك، ووجدتُها بعد قليل في غرفة المعيشة عاكفة على تنظيفها، فقلتُ لها إنها تستحق جائزة.

قالت: بنطلون جينز من الغرب ثمنه ٢٧ ماركًا غربيًّا.
أشرتُ إلى نبيل قائلا: الأسهل أن يُحضِر لكِ من سوريا جملًا.
اجتمعنا حول الطاولة دون عدنان وهيلدا اللذَين لم يستيقظا بعدُ، وتناولنا الإفطار. ثم دخلَت هايدي الحمَّام واستحمَّت وخرجَت إلى غرفتها وهي تُنادي على نبيل كي يتبعَها. تنقَّلتُ بين التليفزيونين الشرقي والغربي حتى ضقتُ ببرامج صباح الأحد المملَّة. مضيتُ إلى غرفتي ومررتُ بغرفة نبيل المغلقة. ناديتُه فقال إنه قادم. دخلتُ غرفتي ووقفتُ وسطها حائرًا ثم جلستُ إلى المكتب وجذبتُ سطحه. كتبتُ خطابًا لصديقي كمال وقرأتُ قليلًا في رواية بول باولز، ثم نهضتُ وخرجتُ إلى غرفة المعيشة فوجدتُ عدنان وهيلدا في ملابس الخروج. صاحا مُناديَين نبيل وهايدي، وجاء نبيل بعد قليلٍ شاحب الوجه. واقترحت هيلدا أن نخرج جميعًا ونقضي اليوم في الخارج.
ذهب نبيل ليرتدي ملابسه، وأعلنتُ رغبتي في البقاء بالمنزل، ثم جاء نبيل معلنًا أن هايدي متعَبة ولا تُريد الخروج، وغادر الثلاثة معًا.

التقطتُ أسطواناتي المفضَّلة ومضيتُ إلى غرفتي فجذبتُ سطح المكتب ووضعتُها فوقه. عُدتُ إلى غرفة المعيشة فحملتُ جهاز البيك أب وأخذتُه إلى حجرتي فوضعتُه على المكتب وأوصلتُه بالكهرباء.

أغلقتُ باب الغرفة وشغَّلت اسطوانة ماريا جرينبرج واتخذتُ وضعي المفضَّل في الفِراش مضطجعًا بالعرض ورأسي مرتفعٌ مستندٌ إلى الحائط.
استمعتُ إلى كونشرتو باخ، وقبل أن تبدأ سيمفونية سيزار فرانك التي أعشقها سمعتُ نقرًا خفيفًا على باب الحجرة.
رفعت إبرة البيك أب عن الأسطوانة وفتحت الباب. واجهتني هايدي في روبها السماوي اللون، وكانت هناك سلسلةٌ فضيةٌ حول عنقها.

فكَّت زرار الروب العلوي فظهر أعلى ثديَيها العاريَين، وجذبَت السلسلة لتُريني طرفها السفلي الذي تدلَّى منه مفتاح الحياة الفرعوني.

قالت: ما رأيك؟ حلوة؟

قلتُ: من أين جئتِ بها؟

قالت في خجل: أعطاها لي صحفيٌّ مصري. اسمه صعب في النطق. هلمي على ما أظُن.
سألتُها مذهولًا: حلمي عبد العليم؟
– أجل هلمي أليم. هو. تعرفه؟

كان حرفا الحاء واﻟ «ع» في العربية عسيرَين في النطق على الألمان.

قلتُ: قابلتُه مرة.

اندفعَت بعد التعبير الذي ظهر على وجهي: هو شخصٌ لطيفٌ وحنون، وهو يرغب في زيارتي هنا والالتقاء بكم.

عُدتُ أسألها: كيف تعرَّفتِ به؟

– جاء إلى المجلة لمقابلة رئيس التحرير ثم التقينا في مقهى ليندن كورسو.

– و…؟

– دعاني إلى شقته فذهبتُ. كان الوقت متأخرًا فنمتُ عنده.

هززتُ رأسي يمنةً ويسرةً عدة مرات.

– متي حدث هذا؟

– قبل انتقالي هنا مباشرة.

تركَت السلسلة تتدلَّى بين ثديَيها فاحتجَب مفتاح الحياة عن ناظري، ثم فكَّت الزرار التالي للروب وأمسكَت بطرفَيه من الجانبَين وأزاحتهما بعيدًا فانفرجا عن المفتاح كامنًا بين ثديَيها العاريين. كانا في عُرْيهما الكامل وهما يعلوان صدرها في شموخ أكبر حجمًا مما تصوَّرتُهما.

شعرتُ بالتأثير على جسدي فأبعدتُ عيني في صعوبة، وجلستُ على مقعد المكتب. وظلت هي واقفة ممسكةً بطرفَي الروب كاشفةً عن ثديَيها.

قالت: ما رأيُكَ في أن تصوِّرني هكذا.

ابتلعتُ ريقي وقلتُ: للأسف لم تعُد لديَّ أفلام. غدًا أشتري واحدًا.

ظهر القُنوط على وجهها وضمَّت جانبَي الروب في بطء وزرَّرَته وتحوَّلَت خارجة، ثم توقَّفَت والتفتَت نحوي قائلة: طلب مني نبيل أن أُعِد أرزًا بالطريقة السورية. أعدَدتُ البازلاء والثوم واليوغورت — الزبادي — وتبقَّى الأرز. شرح لي طريقةً معقَّدة لإعداده. هل تساعدني؟

نهضتُ واقفًا وأنا أقول: طبعًا.

٨

خلَّفنا مدينة درسدن ومررنا بقرًى صغيرة ثم توقَّفنا في باد شانداو على الحدود. انتهزتُ الفرصة لأفتح النافذة فشعرتُ بلسعة برد. أشرفتُ على منحَدرٍ يؤدي إلى قريةٍ هادئة، وتابعتُ مجموعة من الأطفال الصغار في سُتراتٍ ملوَّنة بالأحمر والأزرق حتى اختفَوا واحدًا بعد الآخر.
تحرَّك القطار بعد نصف ساعة فأغلقتُ النافذة، وغادرتُ مقعدي، وانتقلتُ إلى عربة البوفيه. ابتعتُ قطعة فورست وزجاجة بيرة تشيكية تحمل نفس الاسم الألماني بلسنر، وعُدتُ إلى مكاني. جلستُ بجوار شابَّين متقابلَين استغرق أحدهما في قراءة كتاب، ودفَن الثاني رأسه في صحيفة برلينر تسايتونج.

واجهَني في المقعد المقابل عجوزٌ نحيف للغاية ذو عينَين صافيتَين في قميصٍ داكن اللون وبلوفرٍ أبيض تحت بزَّةٍ جديدة تُزيِّن صدرها شارة الحزب وميداليةٌ مثلَّثةٌ حمراء، وإلى يساره عجوزٌ قصيرة بنظارة ذات عدساتٍ مقعَّرة، في رداءٍ أسود وصديريةٍ بيضاء بكرانيش مثل أردية الراهبات. وإلى يمينه امرأةٌ ضخمة، خمسينية لا تكُف عن الكلام وإبداء التعليقات. هكذا عرفتُ أنها عملَت عشر سنوات في أحد المستشفَيات.

دار حديثُ الثلاثة عن شباب اليوم وكيف يتطلَّعون إلى الغرب والأشياء الحديثة والربح. ابتسم الشابَّان الجالسان إلى جواري في سخرية، وأشعل أحدهما غَلْيونًا. والتقطتُ في كلام العواجيز لكنةً غريبة كالتي تظهر عندما يتكلم الألمان اللغة الإنجليزية؛ فأدركتُ أنهم سكسونيُّون، من الجنوب الألماني.

سمعتُ العجوز يقول وهو يتراجع إلى الوراء واضعًا يده على ركبته كأنه سيُصلي أو يتجشَّأ، إنه لا يعرف على وجه الدقة ما هو الصحيح. وأمَّنَت جارتُه ثم فتحَت حقيبة يدها وأخذَت تعبثُ بمحتوياتها، ثم أخرجَت بسكوتةً ناولَتها لرفيقها فأخذَها، وأكلَت هي واحدةً ثم ثانيةً، وعرضَت عليه الثالثة فرفضها فالتهمَتها.

مضت ساعتان قبل أن نقترب من براغ. كان القطار خلالها يدور كل لحظة حول انحناءة نهر تمتَد خلفها الغابات والجبال التي تسيل من أعلاها المياه، وعلى الجانب الآخر تظهر أسطحُ منازل يتصاعد من مداخنها دخانٌ أبيضُ أو أصفر أو برتقالي. ثم ظهرَت قباب براغ، ودار القطار دورةً كبيرة مع النهر وتوقَّف على مسافة مائتَي متر من المحطة وأخيرًا ولجها.
غادرتُ القطار وتلفَّتُّ حولي بحثًا عن سوكارنو. وتملَّكَني الهاجس الذي راودَني في الأيام الأخيرة بأني تحت المراقبة، فتمعَّنتُ في القلائل الذين ضمَّتهم المحطة شبه الخالية. مضيتُ إلى المدخل على مهلٍ فرأيتُه قادمًا نحوي. تصافحنا وكانت رائحة الخمر تفوح منه، وأصَر على أن يحمل حقيبتي. غادرنا المحطة إلى شارعٍ ضيق ومزدحم. ووقفنا ننتظر الترام.

أقبل ترامٌ حديث لا يُحدث ضوضاء. صعدنا في مقدِّمته واشترى بطاقتَين من مُحصِّلةٍ جالسة.

قال إن كل خطَطه ارتبكَت عندما غيَّرتُ موعد سفري واضطُر لإلغاء حجز غرفتي.

كان يتكلَّم بالإنجليزية في صوتٍ مرتفع. وتطلَّع إلينا الركَّاب في فضول.

سألتُ في قلق: والعمل؟

قال: ستُشاركني غرفتي. انها تتكلَّف ٦٠ كورونة في اليوم؛ أي عشرين «ماركًا» شرقيًّا.
قلتُ له إن زيجريد أرسلَت إليه معي ثلاثين كورونة.

ضحك: ذكرتُ لها في التليفون أنني مُفلس، وأن نقود الناشر سيتأخر تسلُّمها.

نزلنا بعد عدة محطات، ودلفنا إلى شارعٍ هادئ يكاد يختفي تحت أغصان الأشجار. ولجنا منزلًا قديمًا متين البناء، وارتقينا مِصعدًا إلى الطابق الثاني.

وقفنا في طرقةٍ رحبة وطرقنا بابًا ثقيلًا من خشب الزان. فتحَت لنا سيدةٌ خمسينية لطيفة الوجه. رحَّبَت بنا بالإنجليزية فولجنا صالةً واسعة تُشرِف عليها الأبواب المغلَقة لعدة غرف، جُلِّل أحدها بقفلٍ صغير. قالت: الشقة مقسَّمة حسب القانون إلى اثنتَين منفصلتَين، ولي فيها حجرتان.

قادتنا إلى غرفة في عمق الشقة تضُم فِراشًا عريضًا ومقعدَين وثيرَين وخزانةً خشبية بمرآةٍ ثقيلة وثلاثة مصابيحَ جانبية فوق حوامل.

أخرجتُ من حقيبتي زجاجة فودكا ودعاها سوكارنو لتشرب معنا، فأحضرَت ثلاث كئوسٍ صغيرة، وقالت إنها كانت تملكُ المنزل قبل سنة ٤٥؛ أي قبل الاشتراكية، وإن المنازل والحوانيت وكل شيء مؤمَّم.
قلتُ: في برلين متاجر ومؤسساتٌ خاصة.
هزَّت رأسها: هنا كل شيء ملكٌ الدولة. أدفع إيجارًا قدره ٣٠٠ كورونة.
لم ندعُها للجلوس. لكنها تشجَّعَت وجلسَت من تلقاء نفسها. وقالت: ثَمن زجاجة الفودكا الروسية هنا ٧٤ كورونة؛ أي ٢٥ ماركًا.
قلتُ: وثمنها في برلين ١١ ماركًا. شرقيًّا بالطبع.

أتينا على ربع الزجاجة وخرجنا منتشيَيْن. ركبنا الترام وغادرناه قرب محطة القطار. وقادني إلى مطعمٍ صغير بالغ الأناقة رغم تواضُعه، يتألَّف من موائدَ ومقاعدَ خشبية.

وجدنا صعوبة في التعرُّف على قائمة الطعام التي كانت بالتشيكية، وبعد محاولاتٍ مع نادل يعرف بضع كلماتٍ ألمانية حصلنا على طبق الجولاش التشيكي التقليدي وبطاطسَ مهروسة ولفائفِ الدقيق والدجاج. وربع زجاجة فودكا بالطبع.
قال سوكارنو وهو يجرع كأسه: أشعر بوحدةٍ شديدة بعد أن انتهيتُ من الكتابة. ولا أجد من أتحدَّث معه.

جاملتُه قائلًا: كل الكُتاب الكبار يعانون مثلك.

قال: لا بد أن تعود إلى إنجمار. على الأقل كي تُترجم لكَ ما تكتُبه.
لم ينتظر تعقيبًا مني، وإنما انطلق يتحدث عن زيجريد وكيف أنها أشبعَت كل رغباته.

قال وعيناه تلمعان: مرةً طلبتُ منها أن نجرِّب من الخلف، فقالت في حماس: أجل، لا بد من تجربة ذلك. لم يكن بيننا تكلُّف أو مجاملة. عندما لا أريدها أدفعُها بيدي، وهي أيضًا.

جاريتُه في الفضفضة: إنجمار خجولة، وغير واثقة من نفسها، ولا تُيسِّر لها ضخامة جسمها سهولة الحركة، فضلًا عن ضيق الأسرَّة التي نستخدمها. مرةً طلبتُ منها أن تنحني وهي واقفة، واحتضنتُها من الخلف، فاحمرَّ وجهها، وقالت إنها لا تستطيع ذلك.

توقَّفتُ ثم أضفتُ: عندما أسير إلى جوارها أشعُر بضآلتي.

لزمنا الصمت حتى انتهينا من الطعام، وعندما غادرنا المطعم قلتُ إني أريد استعمال التليفون.

قال ضاحكًا: نكلِّم نساءً فقط.

أعطاني ربع كورونة ومضينا إلى مكتب البريد الرئيسي. ولجتُ إحدى قمرات التليفون، وأخرجتُ مفكِّرتي. بحثتُ عن رقم مارينا. كانت قد أعطته لي في آخر لقاءٍ لنا ﺑ القاهرة. أدرتُ الرقم وردَّ عليَّ رجل. سألتُ عنها بالإنجليزية وعما إذا كنتُ أستطيع الحديث إليها ذاكرًا اسمي. قال: لحظة من فضلكَ.
أعطاها السمَّاعة فهتفَت: أنتَ في براغ؟

قلتُ: أجل.

– أين تقيم؟

قلتُ: وسط المدينة.

– إلى متى ستبقى؟

قلتُ: سأغادر بعد غدٍ، الأحد.

أعطتني رقم تليفونِ مكتبها لأتصل بها في الصباح. وضعتُ السماعة وطلبتُ من سوكارنو ربع كورونة آخر. اتصلتُ ﺑ ناتاليا ذات العينَين اللوزيتَين الساحرتَين. ظل التليفون يدُق دون أن يرُد أحد.
غادرتُ القمرة فاندفع إليها سوكارنو وأغلق بابها الزجاجي بإحكام. ثم تناول سمَّاعة التليفون وأودَع في صندوقه عدة قطعٍ معدنية. وفكَّرتُ أن المكالمة التي سيُجريها ليست محلية.

ابتعدتُ إلى مدخل المبنى ووقفتُ أرقبه. كان يتحدَّث بانفعالٍ ويضيف قطعةً معدنية كل بضعِ لحظات.

وضَع السماعة أخيرًا، وغادر القمرة وهو ما زال منفعلًا. عُدنا أدراجنا إلى المنزل سيرًا على الأقدام وهو صامت. ثم استعاد هدوءه وقال: زيجريد تُبلغكَ تحيَّاتها.

كانت الشقة غارقةً في الظلام. فتسلَّلنا إلى حجرتنا في حرصٍ كي لا نُزعج صاحبتها. حملتُ بيجامتي إلى حمَّامٍ بالغ النظافة. اغتسلتُ ثم ارتديتُ منامتي، وعُدتُ إلى الغرفة لأجده قد استبدل ملابسه بأخرى رياضية.

وقفتُ مترددًا أمام الفراش الذي سيجمعنا. قال: سأنام على الحافة لأني أستيقظ مبكرًا.

تكوَّمتُ قرب الحائط، وقضيتُ الليل أتقلَّب في قلَق. وغفَوتُ قبل الفجر، ثم استيقظت في الصباح لأجده واقفًا فوق رأسه في منتصف الغرفة. تابعتُه في تمريناته الرياضية حتى أتمَّها بعد ربع ساعة، ثم اغتسلنا وخرجنا إلى الشارع. أفطرنا في مقهًى صغير، وقال إنه سيذهب إلى إحدى المجلات ويترك لي الفرصة لأُدبِّر أمري مع صديقتي.

تلفنتُ ﻟ مارينا وأعطيتُها العنوان، ثم عُدتُ بسرعة فرتَّبتُ الغرفة، وجرعتُ كأسَين من الفودكا. وعندما دَقَّ جرس الباب سبقتُ صاحبة الشقة إليه. فتحتُ ووجدتُها أمامي برفقة رجلٍ قالت إنه سائق السيارة التي أقلَّتها.

كانت ترتدي معطفًا قديمًا، ويبدو عليها عدم الاعتناء بمظهرها أو شعرها. رحَّبتُ بهما ودعوتُهما للدخول. قالت إن السائق لا يعرف الإنجليزية. واقترحَت أن أرافقهما في السيارة لأشاهد معالم المدينة. أحضرتُ معطفي والكاميرا وتبعتُهما إلى الخارج.

قالت: لديَّ ساعتا فراغٍ يمكن استغلالهما في التجوال.

أقلَّتنا سيارة تترا إلى وسط المدينة وتركْنا السائق في السيارة، ثم قادتني خلال شوارعَ ضيقةٍ للغاية إلى الحي القديم. أشارت إلى ساعةٍ تعلو برجًا أعلى مبنى مجلس المدينة، وقالت إنها تدُق كل ساعةٍ فيخرج منها اثنا عشرًا من الرسل ليُعلنوا الوقت.

التقطتُ عدة صور للبرج وساعته، ولها بالمثل، وقمنا بجولة ثم جلسنا في مقهًى. لم يكن به غير عدد من الأفارقة المتناثرين يحتسون البيرة وهم يقشرون حبَّات الفول السوداني.

قالت: أحنُّ دائمًا إلى شمس القاهرة.

قلتُ إني ما زلتُ أذكر ابتسامتها الحلوة وجمال ركبتَيها.

ابتسمَت في بساطة وقالت: أنتَ كريمٌ.

شربنا قهوة فيينا التي تتميز بطبقة الكريمة التي تعلوها، ثم غادرنا المقهى وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة. مشَينا قليلًا وسمعنا ساعة مجلس المدينة تدُق فقالت: أَسرِع لنرى الرسُل.
وصلنا متأخرين بعد أن عادوا إلى مخبئهم. فقادَتني إلى ميدان فنسلاسكي ناميزي ووقفنا في طرفه. أشارت إلى الطرف الآخر حيث يواجهنا المتحف القومي وتمثال فنسلاسكي.

قالت: أترى الدمار الذي أصاب المتحف؟ أحدثَته الدبَّابات الروسية. كان جنودها يبكون وهم يُطلِقون النار.

التقطتُ بضعَ صورٍ للميدان والتمثال وواجهة المتحف. وسمعتُها تهمس في أسًى: نحن أمةٌ تعيسة. عدنا أدراجنا على مهَل. قالت: لن نتمكن من الالتقاء مرةً أخرى؛ لأني مسافرة غدًا إلى القرية مع أُسرتي. اكتمل بناء منزلنا هناك، ونحن نشتري له الأثاث الآن.

– ستتركون العاصمة إذن؟

– لا. نحن نعيش في منزلٍ حديث لكنه صغير وضيق. منزل القرية دبَّرناه من حصيلة أسفارنا.

سألتُ: هل أموركِ على ما يُرام؟

كانت قد ذكرَت لي في القاهرة عندما تعرَّفتُ بها في وكالة الأنباء التشيكية «وسحَرتْني ابتسامتها الدائمة» أنها في الثامنة والثلاثين وأن الزمن يجري. وأذكر قولها: تصوَّر أن لي ١٨ سنةً متزوجة؟ وكان ذلك عندما احتضنَتني وقبَّلَتني قبل أن تدخل علينا طفلتاها فجأة.

تحسَّستْ طرف معطفها ثم قالت: أعمل من السابعة حتى الرابعة، ثم أُنظِّف المنزل وأستعد لعودة زوجي كي لا يشكو من شيء. أنا أعمل على راحته رغم أني أعرف أن له صديقات. لكنه يُساعِدني كثيرًا في القيام بأعباء المنزل.

تطلَّعَت إلى ساعتها وقالت: لا بد أن أعود الآن إلى مكتبي.

سألتُ: لديكِ عملٌ كثير؟

ضحكَت: أبدًا. لا أحد يعمل. نقضي الوقت كله في الثرثرة. أو شرب القهوة.

أوصلَتني إلى حيث ينتظرني سوكارنو في مقهى بالاس. وودَّعَتني بقبلةٍ على كل وجنة. ظلَلتُ واقفًا على الرصيف حتى اختفت سيارتها ثم ولجتُ المقهى. جذبتُ مقعدًا إلى جوار سوكارنو. سألني بمجرد جلوسي عما فعلتُ.

قلتُ: لا شيء. ما أخبارك أنتَ؟

أجاب مستاءً: تغيَّرتِ الأحوال بالطبع. قال لي الناشر إن البُعد الاجتماعي غائبٌ في قصصي.

طيَّبتُ خاطره، وتناولنا الغداء، ثم ذهبنا إلى مكتب السكن لنبحث عن غرفةٍ ينتقل إليها بعد سفري. استخدمتُ تليفون المكتب لأُعاوِد الاتصال ﺑ ناتاليا. وفي هذه المرة وجدتها. عرضتُ عليها أن نلتقي. اعتذرَت بأنها وعدَت ابنها بمرافقته إلى السينما.

سألني في ابتسامةٍ خبيثة ونحن نتجه إلى المنزل: نفس السيدة أم واحدة غيرها؟

قلتُ: غيرها. قابلتُها صدفة في القاهرة عند أصدقاء وأعطَتني تليفونها.

•••

انتظرنا في رستورانشي، محطة القطار ساعتَين. لم يتوقَّف سوكارنو عن الحديث حول كتابه، بينما كنتُ أُنصِت لموسيقى رافيل بوليرو، المنبعثة من راديو صغيرٍ مثبَّت في الحائط. ثم بدأ يُوصيني بما أفعله عندما أَصِل برلين. أنصَتُّ إليه شاردًا وأنا أُرهف السمع للنغمة الساحرة التي تُكرِّرها آلات النفخ المختلفة، بينما يتصاعد خلفها دقُّ الطبول الرتيب.

٩

جذبتُ سطح المكتب وفضَضتُ الرسالة التي جاءتني في الصباح من إنجمار. تنقلَت عيناي بين سطورها المكتوبة بالإنجليزية: «أعددتُ هذه الكلمات بعد عودتكَ من براغ … أتمنَّى ألا تكون شاعرًا بما أشعر به … أفتقدكَ بشدة في كل شيء. وتعيسةٌ جدًّا. إذا شعرت مرة بنفس الشعور — لا أعني الآن — يمكنكَ دائمًا أن تعتمد عليَّ.»
سمعتُ مفتاح حجرة نبيل يدور وبابها يُفتَح. وظهرَت هايدي على باب حجرتي وقد ارتدَت قميصًا رجاليًّا خفيفًا بلا أزرارٍ ضمَّت طرفَيه فوق ثديَيها بيد، بينما أمسكَت بالأخرى منشفةً لفَّتها حول أعلى فخذَيها. وبدا لي أنها كانت عاريةً تحت هذا كله.
سألَتني عن مرادف بالإنجليزية لكلمة بجريفين.

أجبتُ ساخرًا: ربما نوع من الملابس.

جرت خجلةً إلى غرفتها. تناولتُ القاموس الألماني-الإنجليزي وخرجتُ إلى الردهة. ناديتُها فجاءت بنفس القميص بعد أن شبكَت فتحته بدبوس، واستبدلَت المنشفة ببنطلون.

مضينا إلى غرفة المعيشة وأضأنا نورها. جلسنا متجاورَين على الأريكة، وأضأت المصباح الأرضي. بحثنا سويًّا عن الكلمة. كان معناها: يدرك، يفهم، يستوعب، يلمس، يقلب شيئًا بإصبعه، يمسك. وسجَّلَت المعاني بالقلم في ورقة. كانت تتدرَّب على الترجمة في الآونة الأخيرة.

ألقت بالقلم جانبًا، وقالت: أوف. أريدك أن تُساعدَني في كتابة شيء.

– بالإنجليزية؟

– لا. الألمانية.

ضحكتُ: ولكنكِ تعرفينها أحسن مني.

قالت في جدِّية: لكني لا أعرف ماذا أكتب. أنا في مأزق.

تطلَّعتُ إليها في حَيرة. تناولَت القلم وقرَّبَته من فمها فتحسَّسَت طرفَه بشفتها السفلى. ثم أبعدَته عن فمها، ونقرَت به على ركبتها عدة مرات كأنها حزمَت أمرها.

قالت: سأحكي لكَ الأمر من البداية. لكن عِدني ألا تقول لأحد أو ﻟ نبيل.

– أعدُكِ. لكن أين هو؟

– يغطُّ في النوم. لن يستيقظ قبل الصباح.

عبثَت بأطراف بلوزتها فكشفَت بطنها العاري. قالت: في كارل ماركس شتات تعرَّف بي رجلٌ متزوج، جارٌ لصديقة لي. وصار يُقدِّم إليَّ خدماتٍ مختلفة؛ يُوصلني بسيارته إلى المدرسة أو عند عودتي إلى المنزل. وفي يومٍ أخذَني إلى منزله. لم تكن زوجته موجودة. وتكرَّر الأمر بعد ذلك.

يبدو أن تعبير وجهي دفعَها إلى الضحك.

قالت: لم … أقصد أنه كان …

احمرَّ وجهُها وأطرقَت برأسها وهي تُضيف: كان يستخدم إصبعه فقط.

رفعَت عينَيها إليَّ وقالت: عندما قرَّرتُ المجيء إلى برلين أعطاني عنوان صديقٍ له هو الذي ساعدني في الالتحاق بالمجلة.

– دون مقابل؟

تجاهلَت ما أعنيه وقالت: لم يطلب مني أيَّ شيءٍ، ثم بدأ يُبدي اهتمامًا بخطاباتِ القُراء التي أفضُّها، ويرغب في الاطِّلاع على محتواها. لم أجد ضررًا في ذلك. ثم بدأ يطلُب مني معلوماتٍ عن المحرِّرين.

– ماذا يعمل؟

– قال إنه في إدارة تُعنى بالأحوال الاجتماعية للشباب. لكني أظن الآن أنه في ستازي.

– جهاز الأمن؟ ما الذي أوحى لكِ بهذا الظن؟

– ذكرتُ له عرَضًا أني تعرَّفتُ بصحفيٍّ مصريٍّ، واهتم بشدة عندما عرف أنه المراسل الدائم لصحيفةٍ يومية، وطلب مني صراحةً أن أُبلغَه بما يدور في أحاديثنا، وأن أدوِّن ذلك كتابةً.

– هل عرض عليك نقودًا؟

قطَّبَت حاجبَيها في استياء وقالت: أبدًا. وتردَّدَت لحظة ثم أضافت: مرةً ذكر استعداده لدفع ثمن مواصلاتي.

قلتُ: أوكي. ما هي المشكلة؟

– المشكلة أن هلمي من النوع الصامت. لا يتكلم كثيرًا، ولا يذكر شيئًا ذا بال. لا أعرف ماذا أكتب.
– إذن قولي لصاحبكِ إنه لا يُوجد شيءٌ يستحق الكتابة. أو اقطعي علاقتكِ به. أو اقطعي علاقتكِ ﺑ هلمي.
– لا أستطيع. إذا قطعتُ علاقتي ﺑ ويلفريد فربما يتخلَّصون مني في المجلة. أشعر أنهم غير مرتاحين لوجودي. أما هلمي فلا أستطيع أن أجرح مشاعره. إنه متعلِّق بي ويريدني أن أنتقل للإقامة معه، ويقول إنه مستعد أن يتزوَّجني. بوسعكم في الإسلام الزواج بأكثر من امرأة. صح؟

أطرقت بأسًى. قالت: لا أعرف ماذا أكتب.

تأمَّلتُها طويلًا وأنا أُحاوِل استيعاب موقفها. ثم خطرَت لي فكرة وابتسمتُ.

قلتُ: أوكي. لنكتُب سويًّا.

صفَّقَت بيدها ومالت عليَّ فانكشَف ثدياها كلية بحلمتَيهما الدقيقتَين. قبَّلَتني في وجنتي هاتفةً: فعلًا؟ رائع.

اضطجعتُ إلى الخلف وقلتُ: اكتبي.

فكَّرت قليلًا، ثم بدأتُ وأنا أختار كلماتي بإنجليزيةٍ بسيطة: لا بد أولًا من الحديث عن ألمانيا الديمقراطية. اكتبي: كرَّر هلمي إعجابه بما حقَّقَته ألمانيا الديمقراطية من إنجازاتٍ في ميادين الصناعة والعدالة الاجتماعية والتعليم. كما أشاد بدور الحزب، وبإمكانية استفادة مصر من نظام التعاونيَّات الزراعية والتخطيط العلمي.

توقَّفتُ ثم استطردتُ: هنا يجب أن تُظهري ما يُفترض أنك تتمتعين به من ذكاء. اكتبي: مع ذلك اشتممتُ من تعليقاته تحفُّظَه على رتابة التليفزيون والصحف، واعتقاده بأن الصحف المصرية تقدِّم تغطيةً خبريةً أفضل من مثيلتها الألمانية.

اكتبي أيضًا: أشار أيضًا أكثر من مرة لما يشعر به ناصر والقوى التقدُّمية من تقديرٍ لمساعدات ألمانيا الديمقراطيةمصر في الوقت الذي تُسانِد فيه ألمانيا الغربية إسرائيل.
فكرتُ قليلًا ثم قلتُ: لا بُد من أن يذكُر شيئًا عن الوضع الداخلي في مصر. تذكَّرتُ ما قاله حازم. أمليتُها: الأوضاع سيئة وتنحدر من سيئ إلى أسوأ. ومظاهرات الإسكندرية صحبَها عنفٌ وتخريب، واضطُر الجيش للتدخُّل وقمع المتظاهرين، وهناك مطالباتٌ بإباحة السلع المستوردة في الأسواق، والمتعلمات يُقبِلن الآن على الزار بينما تتحوَّل الأميات إلى الطب النفسي. يكفي هذا؟

وضعَت القلم بين شفتَيها وامتصَّت طرفَه. وتعلَّق بصري به وهو ينزلق على شفتها الممتلئة.

قالت: ما رأيُكَ في مزيدٍ من التفاصيل حول الوضع الداخلي؟

فكَّرتُ لحظةً ثم قلتُ: قال هلمي إن هناك عدة مجموعاتٍ متنافسة في السلطة، أهمُّها علي صبري والاتحاد الاشتراكي، وهناك هيكل الذي يتمتَّع بثقة ناصر ويتهِمُه اليساريون بأنه يمثِّل الاتجاه الرجعي الوثيق الصلة بالأمريكان، خصوصًا بعد أن دعا إلى إنهاء الأوضاع الاستثنائية؛ مما فسَّره الكثيرون بأنه دعوةٌ لتصفية الثورة. الأغنياء خائفون من مزيدٍ من التأميم واليسار ضعيف؛ فقد حل الشيوعيون أحزابهم بعد أن سحب ناصر البساط من تحت أقدامهم بإجراءاته الثورية من ناحية، وطاردَهم من ناحية أخرى. لكن على العموم وضعُه مستقر.
أضفتُ بعد تردُّد: هناك بعض التصرُّفات غير المفهومة، مثل تعيين حسن التهامي أمينًا عامًّا للاتحاد الاشتراكي؛ فهي وظيفةٌ غامضة، وهو ضابطٌ قديم تُنسَب إليه تصرفاتٌ شاذة من قبيل الدروشة.

تطلَّعَت إليَّ متسائلة فقلتُ: هل تعرفين معنى درويش؟

هزَّت رأسها نفيًا.

قلتُ: هو شخصٌ أقرب إلى المتصوف، تصدُر عنه تصرفاتٌ غريبة، ويتظاهر بأنه على اتصالٍ بقوًى خفية. وهو في أغلب الأمر ملتاثٌ أو دجَّال.

فكَّرتُ قليلًا ثم استطردتُ: لا بد من سطور عن الاتحاد السوفييتي. اكتبي. ناصر يُعوِّل كثيرًا على مساعدته، لكنه يطلُب أسلحةً متطورة لصد غارات الطيران الإسرائيلي والاتحاد السوفييتي متردِّد في الاستجابة للطلب بعد الأداء المخزي للجيش المصري في ٦٧. وربما لهذا السبب قرَّرَت مصر الاحتفال بمرور ٩٩ عامًا على ميلاد لينين، مما يُثير استياءً خفيًّا بين الأغنياء والمتدينين.
سألَت: هل مصر ستُحارِب؟ سألَني ويلفريد عن ذلك.
قلتُ: عبد الناصر أعلن أن ما أُخذ بالقوة لا يُستَرد إلا بالقوة. وإعداد الجيش يتقدم بخطًى سريعة، لكنه في نفس الوقت لا يُغلِق الباب في وجه المفاوضات.
استوضحَت هايدي بعض التعبيرات وقلتُ: اكتبي أيضًا أنه أغرقكِ بالأسئلة عنا؛ فأصحابكِ لا شكَّ يتصوَّرون أنه يتبع أجهزة الاستخبارات المصرية، وهو كذلك في الغالب.
أضفتُ في خبث: أظن لا بد من بعض التفاصيل الشخصية عن هلمي أليم. مثلًا هل هو متزوِّج؟
قالت: أجل ولدَيه ولدان. الأُسرة كلها في القاهرة وتنوي زيارته في الصيف.

قلتُ: اكتبي هذا. كيف هي علاقتُه بزوجته؟

قالت: صوَّرها في كل مكانٍ في شقته.

قلتُ: اكتبي هذا أيضًا. وربما تُضيفين بعض المعلومات عن أدائه الجنسي، فالاستخبارات تهتم دائمًا بهذا الجانب. لعلَّه يعاني صعوبات في ممارسة الجنس.

احمرَّ وجهها: كيف عرفت؟

قلتُ: عمره وارتباطه بزوجته. أظن يكفي هذا الآن. يمكن أن نتحدَّث أيضًا عن البارزين من رجال النظام، لكن دعينا نؤجل ذلك إلى التقارير القادمة. ستَرينَه بالطبع مرةً أخرى؟

– أجل.

– في شقته؟

لم تُجب.

قلتُ: انتظري. دعينا نكتب شيئًا عن نويمان. اكتبي رأي هلمي فيه: إنه مخلصٌ للحزب ويقوم بالدور المرسوم له في العمل بدقة، ويفتقد روح الإبداع والابتكار. ويحلُم بأن يعيَّن مراسلًا للوكالة في بلدٍ عربي.
– ألن يُسيء هذا ﻟ نويمان؟

قلتُ: بالعكس، سيسعدون بهذا التقييم ويحقِّقون له حُلمه.

نهضَت واقفة، ورأيت وجهَها يتضرج تدريجيًّا حتى اكتسى بحمرةٍ قانية. ليست حمرة الخجل بأي حال.

نهضتُ بدوري ومضيت إلى جهاز البيك أب. رفعتُ غطاءه وقلَّبتُ بين الأسطوانات، ثم التقطتُ أسطوانة الموسيقى العربية. وضعتُها فوق الجهاز.

شعرتُ بها تخطو حتى أصبحَت خلفي، ثم فوجئتُ بها تُقرِّب رأسها من كتفي وتتشمَّم عرقي. حرَّكتُ الإبرة حتى استقرت فوق بداية إحدى المقطوعات القديمة التي يردِّد فيها كورال — من الدراويش في الغالب — كلمة أمان مفخَّمة بالنطق التركي.

استدرتُ إليها وسألتُها: قولي لي. ماذا أعجبكِ في نبيل؟
تراجعَت إلى الخلف، ثم تحوَّلَت عني، واتجهَت إلى باب الغرفة وهي تُجيب: يُجيد الرقص. ويريد أن يتزوَّجني ويأخذني إلى سوريا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤