الفصل الأول

حياة فرانسيس بيكون

لا أستطيع الحياةَ بلا فلسفة.

بيكون
وُلِدَ فرانسيس بيكون بلندن في ٢٢ يناير سنة ١٥٦١م لأبوين ينتميان إلى أسرتين عريقتين. كان والدُه السير نيقولاس بيكون حاملَ الأختام الملكية في عهد الملكة إليزابيث. ويقول ماكولي الكاتب الإنجليزي الشهير: «إن شهرة فرانسيس بيكون قد طَغَت على صيت والده الذي لم يكن شخصًا عاديًّا؛ إذ إن العبقرية ذروة تسير نحوها العائلة عن طريق المواهب.» وكانت أمه الليدي آن كوك — ابنة السير أنتوني كوك الذي كان يومًا معلِّم العائلة الملكية — امرأةً واسعةَ الثقافة تجيد اليونانية واللاتينية إلى جانب الإيطالية والفرنسية، ومعلِّمةً للاهوت وكلفينيةً متشددةً، تولَّت بنفسها تعليم بيكون ولم تدَّخر جهدًا في تربيته وتثقيفه، وسرعان ما ظهرت على الطفل مخايلُ النبوغ والتفوُّق، فكانت الملكة إليزابيث تُعْجَب بذكائه المبكر وسرعة بديهته، وتلقِّبه ﺑ «حامل الأختام الصغير». التحق بيكون بجامعة كمبردج وهو في الثالثة عشرة (١٥٧٣م)، وخرج منها بعد ثلاث سنوات دون أن يحصل على إجازة علمية وفي نفسه ازدراء للمناهج التي تُدرَّس فيها والتي ترتكز على مذهب أرسطو والمَدْرسيين (السكولائيين)، ووَقَرَ في ذهنه منذ هذا العمر المبكر أن الفلسفة السائدة في زمنه هي فلسفةٌ نظريةٌ عقيمةٌ لا تثمر نفعًا عمليًّا، وتَركَّز هدفُه الذي سيكرِّس له حياته في القضاء على سلطة القدماء والدعوة إلى فلسفة جديدة ذات ثمار عملية تعِين الإنسانَ في تحسين حياته وفي السيطرة على الطبيعة، ثم انتقل إلى فرنسا وعمل في السفارة الإنجليزية بباريس قرابة عامين ونصف العام، فاغتنم الفرصة وجعل يتنقل بين المدن الفرنسية ويزور المتاحف والمكتبات ويتابع الأحداث السياسية ويرتاد جلسات المحاكم وحفلات البلاط. وفي عام ١٥٧٩م تُوفِّي والدُه فجأةً دون أن يؤمِّن له إرثًا يكفيه ولا وظيفةً تناسبه، فعاد إلى وطنه ليشقَّ طريقه بنفسه، واضطر إلى الاستدانة لإكمال دراساته القانونية حتى أصبحت الاستدانة عادةً ملازمةً له طوال حياته. انتظم بيكون في سلك المحاماة سنة ١٥٨٢م، وبعد عامين انتُخِبَ عضوًا بالبرلمان وانتزع الإعجاب بفصاحته، فكان خطيبًا مفوَّهًا جَزل العبارة مُحْكَم السبك لا يُشق له غبار، حتى لقد قال عنه بن جونسون — الشاعر الكبير: «لا نجد له نظيرًا في رشاقة العبارة والثقة والرصانة … ولا يملك سامعوه لو سَعَلوا أو حوَّلوا أبصارهم إلا أن يخسروا.» وكان مسموعًا ومُجابًا أينما تكلَّم، مالِكًا عواطف المستمعين بقوة لا يجاريه فيها أحد، وقد بلغ تأثيره الخطابي مبلغًا جعل مستمعيه يخشون أن ينتهي من خطابه.١ وبعد خمس سنوات أخذ يُعَلِّم بمدرسة الحقوق، ثم عينته الملكة إليزابيث مستشارًا فوق العادة للتاج، فتفانى في مَرْضَاتها حتى لقد غدر غدرًا دنيئًا برجلٍ أحسن إليه ووهبه أرضًا، هو الكونت إسكس؛ إذ تغيَّرت عليه الملكةُ واتُّهِمَ بالتآمر عليها، فترافع بيكون ضده طالبًا توقيع الحكم الصارم عليه.٢ وأُدين إسكس وأُعْدِمَ عام ١٦٠١م.

وبعد عامين من إعدام إسكس (١٦٠٣م) تُوفِّيت الملكة إليزابيث، وآلَ العرش إلى جيمس الأوَّل، فتقرَّب إليه بيكون ومالأه في استبداده وقضاء مصالحه ومصالح الأسرة المالكة، فترقَّى في المناصب؛ ففي عام ١٦٠٣م أنعم عليه الملك بلقب «سير» (فارس)، وفي عام ١٦٠٧م تولَّى منصب المدعي العام، وفي عام ١٦١٣م تولَّى منصب المحامي العام، وفي عام ١٦١٦م أصبح مستشارًا خاصًّا للملك، وفي عام ١٦١٧م أصبح حامل الأختام الملكية، وفي عام ١٦١٨م صار الوزير الأوَّل ومُنِحَ لقب «لورد فيرولام»، و«فيكونت أوف سانت ألبان» عام ١٦٢١م، وما كاد بيكون يتسنَّم هذه الذروة العالية حتى تدهورت مكانتُه بسرعة فاتُّهِم في نفس العام بالرشوة وبتقاضي هدايا من المتهمين قبل محاكمتهم وأثناءها، ولم يعترض بيكون على الاتهام، بل اعترف به، ولكنه دافع عن نفسه بقوله إن أحكامه لم تتأثَّر قط بالهدايا. والحق أن أحدًا من خصومه لم يجرؤ على اتهامه في أحكامه ذاتها، لقد كان يتلقَّى الهدايا من طرفَي الخصومة ثم يحكم بالعدل، وكان الحكم الذي أصدره مجلس اللوردات هو تغريمه ٤٠ ألف جنيه وسجنه في برج لندن طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وحرمانه في المستقبل من منصبه السياسي ومقعده في البرلمان. وقد حُرِمَ بالفعل من تولِّي أي منصب في الدولة، ولكن الملك أعفاه من الغرامة ولم يدُمْ سجنه إلا أربعة أيام، ومنذ ذلك الوقت عاش معتكفًا ومتفرِّغًا لبحوثه وكتاباته، وليته عاش حياتَه كلها معتكفًا! لقد كانت الفلسفةُ مرضِعته في طفولته، ورفيقته في منصبه، وسلواه في سجنه وحرمانه.

ظل بيكون مُكِبًّا على العمل والتجريب، ومات في ميدان العمل والتجريب؛ إذ وافته المنية في صباح التاسع من أبريل عام ١٦٢٦م، بعد أن أُصيب ببردٍ شديد وهو يُجري آخر تجاربه لاختبار تأثير البرودة في منع التعفُّن، بدفن دجاجة مذبوحة في الثلج. وعلى فراش الموت قال قولته الشهيرة: «لقد نجحت التجربة» التي أصبحت شعارًا لعصرٍ بأكمله. لقد كان موته مرتبطًا بالهدف الذي كرَّس له حياته، وهو تحويل العِلم إلى مجال التطبيق والثمار العملية، وتسخيره لخدمة الإنسان وللسيطرة على الطبيعة.

١  ول ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، منشورات مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة، بدون تاريخ، ص١٣٩.
٢  اختلف الكُتَّاب في موقفهم من بيكون في هذه المسألة، فمنهم — مثل ماكولي — مَن يرى أن بيكون قد غدر بصديقه غدرًا دنيئًا (وهنا يحضرني قول الشاعر ألكسندر بوب: بيكون هو أحكم البشر وأذكى البشر وأحَط البشر)، ومنهم — مثل جون روبرتسون — مَن يبرئه من هذا الغدر ويَعُد موقفه إخلاصًا للوطن والواجب، انظر في تفصيل قصة الإيرل إسكس، ورؤيتها في نصابها الصحيح، كتاب ول ديورانت السالف الذكر ص١٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤