الفصل الرابع والثلاثون

السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني

وبعدها أرسلوا في طلب مولانا الجديد؛ فحضر إلى سراي طوبقبو وبايعه الحاضرون، ومنها إلى سراي بشكطاش، حيث بايعه جميع من حضر من رؤساء روحانيين وغيرهم.

أما السلطان مراد فتوجه إلى سراي جراغان التي كان بناها المرحوم السلطان عبد العزيز واستشهد بها، ثم أخطرت الولايات وزينت المدينة ثلاثة أيام توالى فيها إطلاق المدافع في الأوقات الخمس من الطوابي والمراكب الحربية.

وفي يوم ١٨ شعبان سنة ١٢٩٣ (الموافق ٦ سبتمبر سنة ١٨٧٦) تقلد مولانا السلطان أعزه الله السيف المنيف في جامع أبي أيوب الأنصاري على ما جرت به العادة، وكان ذهابه إلى هذا الجامع في موكب حافل لم يسبق له مثيل، وزار جلالته أثناء عودته جدث والده المرحوم السلطان الغازي عبد المجيد المدفون بجامع السلطان سليم، ثم زار ضريح السلطان محمد الفاتح رحمه الله، فقبر جدِّه السلطان محمود مبيد الانكشارية طيب الله ثراه، وأخيرًا قبر عمه شهيد الشهداء السلطان عبد العزيز غفر الله له.

وبعد ذلك استلم إدارة الأعمال بهمة ونشاط، وأظهر للوزراء رغبته في إصلاح الأمور في خط همايوني أرسله جلالته إلى الباب العالي إشعارًا بجلوسه مؤرخًا ٢١ شعبان سنة ١٢٩٣ (الموافق ١٠ سبتمبر سنة ١٨٧٦)، وإليك نصه:

وزيري سمير المعالي محمد رشدي باشا

إنه لما اعتزل أخي الأكرم حضرة السلطان مراد الخامس عن مشاغل السلطنة والخلافة وفرغ منها، جلسنا بموجب القانون العثماني على تخت أجدادنا العظام.

وقد وجهنا لعهدتكم مسند الصدارة العظمى ورئاسة مجلس الوكلاء إبقاءً وتجديدًا بناءً على ما لذاتكم من الروية المسلم بها والحمية المجربة، وما لكم من الوقوف والاطلاع على مهام أمور الدولة، وكذلك أقررنا جميع الوكلاء في مناصبهم.

وإنني شديد الاتكال في جميع الأحوال على تسهيلات جناب موفق الأمور وتوفيقاته الصمدانية، وقصارى آمالي ومقاصدي معطوفة بالحصر لتأييد أساس شوكة دولتنا ومكانتها، بحيث تنال صنوف تبعتنا بلا استثناء الحرية، ويتنعَّمون جميعًا بنعمة العدالة والرفاهية، فأؤمل في هذا الأثر ويعاونوننا عليه.

وقد عرف الناس أجمع بأن حال البحران والاغتشاش الملم بدولتنا له جهات وأسباب متنوِّعة وصور وأشكال متعدِّدة، فإذا أمعنَّا النظر في ذلك من أي جهة كانت تجتمع مباديه وأسبابه في نقطة واحدة، وهي عدم جريان القوانين والنظامات المؤسسة على الأحكام الجليلة والشرعية التي هي المسند الأساسي في دولتنا على حقها وتمامها واتباع كل فرد أهواء نفسه في إدارة الأمور. أما اتساع ميدان عدم الانتظام الطارئ على إدارة دولتنا ملكًا ومالًا، وما حصلت عليه أمور ماليتنا من عدم الأمنية في الأفكار العمومية، وتعذر وصول المحاكم إلى الدرجة المتكفلة بتأمين حقوق الناس، وتأخر استفادة مملكتنا حالة كونها قابلة الأنواع وسائل العمران كالحرف والصنائع والتجارة والزراعة، كما هو مسلم، فهو من عدم الثبات الذي وقع على كل ما شرع به من الإجراءات، وكل ما حصل من التشبثات الصادرة عن نية خالصة لمقصد إعمار مملكتنا، ورفاهية حال رعايانا وتبعتنا، وسعادة حالهم ونوالهم بدون استثناء الحرية الشخصية، وكون ذلك بأجمعه صار عرضة لتغييرات متنوِّعة منعت إنتاج المقصد الأصلي، فلا ريب في أنه تولَّد ونشأ عن عدم الثبات باتباع القانون والنظام.

وإذا كان من أهم ما يلزم أن التدابير الواجب وضعها أوَّلًا فأوَّلًا في مطلب قوانين المملكة المقتضى وضعها وتنظيمها في صورة تتكفل بأمنية العموم وثقتهم، ينبغي أن يبتدأ بها من هذه النقطة المهمة، وهي أن يترتب مجلس عمومي تكون أفعاله وآثاره مستوجبة لثقة العموم واعتمادهم، ويكون موافقًا لقابلية مملكتنا وأخلاق أهلها، كافلًا بالتمام تأمين إجراء القوانين حرفًا فحرفًا، سواء كانت القوانين الموجودة أو التي تتأسس من الآن فصاعدًا توفيقًا لأحكام الشرع الشريف المقدَّسة، ولما هو بالحقيقة ضروري ومشروع لمملكتنا وملتنا، وناظرًا في موازنة واردات الدولة ومصاريفها، فليبحث الوكلاء في هذا المطلب ويتذاكروا فيه بتدقيق وتأمل، ويعرضوا قرارهم لدينا ويستأذنوا عنه.

ثم لما كانت مسألة توديع المأموريات إلى غير أهلها من المأمورين وتبدلاتهم المتوالية من غير سبب مشروع هي من جملة الأمور الباعثة على إيقاع جريان القوانين والنظامات كما ينبغي في حيز الإشكال، وهذا مما يأتي بكبير المضرَّة ملكًا ومصلحة؛ فينبغي أن يتعين من الآن فصاعدًا مسلك مخصوص لكل نوع من الخدم والمأموريات، وتتخذ قاعدة ثابتة ليستخدم بمقتضاها في كل عمل من يكون أهلًا له، ولا يعزل أحد أو يبدل من مأموريته بلا موجب على وجه أن تكون كافة الوكلاء ومأموري الدولة كبارًا وصغارًا مسئولين عن الوظائف الموكولة لهم كل بحسب درجته، وكما هو معلوم لدى الخافقين إن ترقيات ملل أوروبا المادية والمعنوية إنما هي حاصلة بقوة الفنون والمعارف، ولما كان استعداد كافة صنوف تبعتنا وما فطروا عليه من الذكاء والحمد لله يؤهلهم من كل وجه للترقيات، وأهم ما لدينا من الأمور الإسراع بتعميم المعارف، فأخص ما نتمناه والحالة هذه أن يحصل الاجتهاد بإبلاغ تخصيصات المعارف إلى الدرجة الكافية حسبما يساعد الإمكان، وأن تستحصل الوسائل الموصلة لتعميم نشر أصول المعارف على الفور، ويبادر عاجلًا لإصلاح الأصول الملكية والمالية والضبط في الولايات بحيث توضع ضمن دائرة الانتظام في صورة مناسبة للقاعدة التي تتخذ في المركز.

وحيث إن الحادثة التي ظهرت في العام الماضي في أطراف هرسك وبوسنة بإغراء أرباب الأغراض قد انضمَّ لها أيضًا مسألة عصيان الصرب، والدم المهرق من الطرفين إنما هو دم أولاد وطن واحد، وكان دوام هذه الحال التي يرثى لها موجبًا لكدرنا وتأثرنا الشديد؛ يلزم التشبث بالتدابير المؤثرة المفضية لاستئصالها، وفيما نؤيد مجددًا كافة أحكام المعاهدات المنعقدة مع الدول المتحابة نؤثر رعايتها على الوجه الحسن، فينبغي المثابرة بالاجتهاد على ازدياد روابط الحب والمسالمة المتبادلين بيننا وبين الدول، ونسأل حضرة الرب المتعال أن يقرن مساعينا جميعًا بتوفيقاته السبحانية في كافة الأحوال، آمين.

في يوم الأحد ٢١ شعبان سنة ١٢٩٣

ثم أصغى لمشورة نبهاء وزرائه الميالين لمنح الدولة العثمانية نظامًا دستوريًّا شوريًّا يحفظ لجميع رعايا الدولة حقوقهم، ويكون بمثابة رابطة بين جميع الشعوب والملل المكوَّنة منها الممالك العثمانية، فيكون الجميع سواءً في الحقوق والواجبات، وتبطل بذلك المنافسات والضغائن الجنسية والدينية؛ لاشتراك الجميع في نظر شئون الدولة ووضع القوانين الملائمة لحالة الأهالي ودرجة ارتقائهم في سلم المدنية والعمران، ويتنبَّه كل منهم إلى الدسائس الأجنبية ولفظ الخائنين من بينهم لفظ النواة.

ولهذه الدواعي أصدر حفظه الله إرادة سنية بموجب قرار سائر الوكلاء (النظار) في ٥ شوَّال سنة ١٢٩٣ (الموافق ٢ نوفمبر سنة ١٨٧٦) بتنظيم مجلس عمومي (برلمان) يكوَّن من مجلسين أحدهما ينتخب الأهالي أعضاءه ويسمى مجلس المبعوثان، والآخر تعين أعضاؤه من طرف الدولة ويسمى مجلس الأعيان.

وقد ازداد تعلق جلالة السلطان الأعظم بتأييد النظامات الجديدة الشورية، ووثق الأهالي ببلوغ أمانيهم ولمِّ شعث الأمم المختلفة، وإيجاد أمة واحدة عثمانية تكون كرجل واحد أمام العدوِّ، وحاجزًا حصينًا ضدَّ تداخل الدول بحجة إصلاح أحوال الشعوب المسيحية، بما أن كل شعب يسن له بمعرفة النوَّاب عن الجميع قوانين تلائم أحواله المذهبية، ويعيش الكل في راحة بال ورغد عيش، ثم لما استعفى محمد رشيد باشا من منصب الصدارة بسبب تقدمه في السن ووهن قواه عن مزاولة الأعمال في هذه الظروف المهمة؛ وجهت الصدارة إلى أحمد مدحت باشا أول القائلين بهذه الإصلاحات في ٤ ذي الحجة سنة ١٢٩٣ (الموافق ٢١ دسمبر سنة ١٨٧٦).

وبعد تعيينه بأربعة أيام صدر إليه فرمان سلطاني مرفق معه القانون الأساسي للدولة مشتمل على مائة وتسع عشرة مادة يأمره بنشر هذا القانون في جميع أنحاء الدولة، ومباشرة العمل بأحكامه من يوم نشره، وأعلن القانون الأساسي بالآستانة، وقرئ في مجمع حافل في يوم ٢٣ دسمبر سنة ١٨٧٦، وأطلقت المدافع من جميع القلاع والمراكب استبشارًا، وهو قانون قد جمع فأوعى، أهمُّ ما به أنه ضمن لجميع رعايا الدولة الحرية والمساواة أمام القانون، وأباح حرية التعليم مع جعله إجباريًّا على جميع العثمانيين، وحرية المطبوعات، وبيَّن اختصاصات مجلسي المبعوثان والأعيان، وكيفية الانتخاب، ومن يجوز أن يَنتخب أو يُنتخب، وأن جميع الرعايا يطلق عليهم اسم عثماني، ومن هو ذاك العثماني، وأن الدين الرسمي هو دين الإسلام واللغة الرسمية اللغة التركية، وأن الدولة جسم واحد لا يمكن تفريقه أو تجزيئه. ومما فيه أيضًا إبطال المصادرة في الأموال على العموم والتعذيب في التحقيق والسخرة على وجه العموم، ووضع ميزانية سنوية تعرض على هيئة المبعوثان ثم الأعيان، وإذا أقرها كلاهما تكون واجبة الإجراء، وعدم جواز عزل القضاة إلا بسبب شرعي، وكيفية نظام الولايات وحدود المأمورين … إلخ مما يطول ذكره هنا. وهاك صورة الخط الشريف الهمايوني الصادر بتنفيذ القانون الأساسي:

وزيري سمير المعالي مدحت باشا

إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوَّة دولتنا العلية قد نشأت من الانحراف عن الطريق المستقيمة في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأ من الغوائل الخارجية، ومن ميل الأسباب الكافلة أمنية التبعة من حكومتهم المتبوعة إلى الانحطاط؛ فلذا كان والدي الماجد المرحوم عبد المجيد خان أعلن مقدِّمة للإصلاحات خط التنظيمات الذي منح فيه للعموم الأمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وناموسهم كما يوافق أحكام الشرع الشريف المقدَّسة، فما عشناه إلى الآن ضمن دائرة الأمن وما وفقنا به اليوم بوضع وإعلان هذا القانون الأساسي الذي هو ثمرة الآراء والأفكار المتداولة بالحرية المستندة على تلك الأمنية ما هو إلا من جملة آثار تلك التنظيمات الخيرية؛ فلذلك أردِّد خاصة في هذا اليوم المسعود اسم المرحوم المشار إليه وموفقيته بعنوان محيي الدولة.

ولا ريب بأنه لو كان الأوان الذي تأسست فيه التنظيمات المذكورة موافقًا لاستعداد زماننا هذا وإلجاءاته، لكان المرحوم المشار إليه أسس إذ ذاك أحكام هذا القانون الأساسي الذي نشرناه الآن وأجراه، ولكن جناب الحق علَّق حصول هذه النتيجة المسعودة الكافلة بإتمام سعادة حال ملتنا لعهد سلطنتنا. فنقدِّم بناءً على هذه الدلالة لجناب الرب الكريم الحمد والشكر العظيم على أن التغييرات التي وقعت بالطبع في أحوال داخلية دولتنا العلية والتوسعات التي حصلت في مناسباتها الخارجية، أوصلت عدم كفاءة شكل إدارة الحكومة لدرجة البداهة، ولما كان أقصى مقاصدنا الخيرية إزالة الأسباب المانعة للآن الاستفادة الواجبة من ثروة ملكنا وملتنا الطبيعية ومن قابليتها الفطرية، وتقدُّم صنوف التبعة في طرق الترقي بالتعاون والاتحاد اقتضى لأجل الوصول إلى هذا المقصد أن تتخذ الحكومة قاعدة سالمة ومنتظمة، وهذا أيضًا يتوقف على تأمين هذه الفوائد وتقريرها، بمعنى أن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة وعلى منع الحركات غير المشروعة؛ أعني بها منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو الأفراد القلائل؛ ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناء، وذلك حق ومنفعة حريان بالهيئة الاجتماعية المدنية.

ولما كان ربط القوانين والمصالح العمومية بقاعدتي المشورة والمشروطية المشروعتين والثابت خيرهما مما تحتاج إليه هذه الأصول؛ أوعزنا في خطنا الذي أَذَعْنَا به جلوسنا لزوم ترتيب مجلس عمومي. وبما أن القانون الأساسي اقتضى بتنظيمه في هذا المطلب قد ترتب بالمذاكرة في الجمعية المخصوصة التي تعينت مركبة من متحيزي الوزراء وصدور العلماء ومن سائر رجال ومأموري دولتنا العلية، وجرى عليه التصديق في مجلس وكلائنا بعد إمعان نظر التدقيق، وكانت المواد المندرجة فيه إنما هي متعلقة بحقوق الخلاقة الإسلامية الكبرى والسلطنة العثمانية العظمى، وحرِّية العثمانيين ومساواتهم، وصلاحية الوكلاء والمأمورين ومسئوليتهم، وبما للمجلس العمومي من حق الوقوف، وباستقلال المحاكم الكامل، وبصحة الموازنة المالية، وبالمحافظة على مركز الحقوق في إدارة الولايات، واتخاذ أصول توسيع المأذونية، وكان جميع ما ذكر مطابقًا لأحكام الشرع الشريف ولاحتياج الملك والملة وقابليتهما في يومنا هذا، وكانت أخص آمالنا في طلب سعادة العامة وترقياتها، مساعدة لهذا الفكر الخيري وموافقة له، فاستنادًا على عون الله وإمداد روحانية جناب رسول الله قد قبلنا هذا القانون الأساسي وأرسلنا به لطرفكم بعد أن صادقنا عليه، فبادروا لإعلانه في جميع أنحاء الممالك العثمانية وأطرافها؛ ليكون دستورًا للعمل إلى ما شاء الله، وباشروا بإجراء أحكامه منذ اليوم، متخذين أسرع التدابير لتنظيم ما تقرَّر فيه، وتسطر من النظامات والقوانين كما هو مطلوبنا القطعي، ونسأل جناب الحق المتعال أن يجعل مساعي المجتهدين في سعادة حال ملكنا وملتنا مظهرًا للتوفيق في كل الأعمال.

تحريرًا في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٣

لكن لم يَرَ أحمد مدحت باشا هذه الهيئة الشورية التي بذل جهده لمنحها البلاد؛ فإنه عزل من منصب الصدارة في ٢١ محرم سنة ١٢٩٤؛ أعني بعد تعيينه بأقل من شهرين، ونفي خارج الممالك المحروسة بناءً على ما ألقي في حقه من الدسائس لدى جلالة السلطان الأعظم من أنه يودُّ إرجاع السلطان مراد إلى عرش الخلافة العظمى، بدعوى أن عزله كان على غير وجه شرعي، وأنه حافظ لقواه العقلية لا يمنعه مانع عن القيام بمهام الدولة، وعزي إليه أيضًا أنه يسعى في فصل السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية؛ أي الخلافة الإسلامية عن السلطنة العثمانية، بحيث لا يكون السلطان خليفة جميع المسلمين في المعمورة، بل يكون سلطانًا على الأمة العثمانية ليس إلا، وبُنِي نفيه بناءً على المادة ١١٣ من القانون الأساسي، التي جاء في آخرها بعد التكلم على إعلان الإدارة العرفية؛ أي تعطيل القوانين والنظامات الملكية مؤقتًا في كل جهة ظهرت فيها أمارات الاختلال والعبث بالأمن العام ما نصه: «ومن ثبت عليهم بتحقيقات إدارة الضابطة الموثوقة أنهم أخلوا بأمنية الحكومة، يكون إخراجهم من الممالك المحروسة وتبعيدهم عنها منحصرًا بيد اقتدار الحضرة السلطانية.» ثم وجهت الصدارة إلى محمد أدهم باشا مع تغيير وتبديل في أغلب الوكلاء وأرباب الوظائف المهمة.

(١) البرلمان العثماني الأول

وفي ٤ ربيع الأوَّل سنة ١٢٩٤ فُتح البرلمان العثماني الأوَّل في سراي بشكطاش، وعند افتتاحه تُلِيَتْ خطبة أنيقة عن لسان جلالة السلطان وبحضوره شرحت فيها جميع الأسباب التي أدَّت إلى انحطاط الدولة وتأخرها سلميًّا وسياسيًّا، وبعد تشخيص الداء بُيِّنَ فيها الدواء وما يلزم للمملكة من الإصلاحات، ونشر التعليم، والمساواة بين الجميع، والعدل في الأحكام، ولأهميتها في بابها وجمعها كل ما يمكن أن يقال في مثل هذا الحال أتينا على درجها هنا، وقد صدق من قال: إن كلام الملوك ملوك الكلام، وها هي:

يا أيها الأعيان والمبعوثان

إنني أبثُّ الممنونية بافتتاح المجلس العمومي الذي اجتمع المرَّة الأولى في دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقي شوكة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بواسطة العدالة، حتى إن ما انتشر في العالم من قوَّة دولتنا العلية وقدرتها في أوائل ظهورها كان من مراعاة العدل في أمر الحكومة ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف التبعة. وقد عرف الناس أجمع تلك المساعدات التي أبداها أحد أجدادنا العظام المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرِّية الدين والمذهب، وكافة أسلافنا العظام أيضًا قد سلكوا على هذا الأثر فلم يقع في هذا المطلب خلل بوقت من الأوقات. وغير منكر أن المحافظة منذ ستمائة عام على ألسنة صنوف تبعتنا ومليتهم ومذاهبهم كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة، والحاصل بينما كانت ثروة الدولة والملة وسعادتهما صاعدتين في درجة الترقي في تلك الأعصار والأزمان بظل حماية العدالة ووقاية القوانين، أخذنا بالانحطاط تدريجيًّا بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف والقوانين الموضوعة، وتبدَّلت تلك القوَّة بالضعف.

وقصارى الأمر أن المرحوم والدي الأكبر السلطان محمود خان أزال عدم الانتظام الذي هو العلة الكبرى للانحطاط الذي طرأ منذ أعصار على دولتنا، ورفع من الوجود عائلة الانكشارية المتولدة منه، وقلع شوك الفساد والاختلال الذي مزَّق جسم الدولة والملة، وكان هو السابق لفتح باب إدخال مدنية أوروبا الحاضرة إلى ملكنا، وهكذا والدي الماجد المرحوم عبد المجيد خان قد اقتفى هذا الأثر، فأعلن أساس التنظيمات الخيرية المتكفلة بالمحافظة على نفوس أهالينا وأموالهم وأعراضهم وناموسهم. ومنذ ذلك اليوم اتسعت تجارة ممالكنا وزراعتها وزادت واردات دولتنا أضعافًا في أمد قليل؛ ومن ثم وضعت القوانين والنظامات التي هي مدار لما يعوزنا من الإصلاحات، وأخذ تحصيل المعارف والفنون بالامتداد. وبينما شبَّ في دولتنا أمل النجاح بناءً على هذه المقدِّمات الحسنة، ولا سيما بناءً على الأمنية الداخلية، ظهرت حرب القريم؛ فكان ظهورها مانعًا لدوام المساعي بتنظيم أحوال الملك والتبعة، ومع أن خزينة دولتنا كانت حتى ذلك الوقت غير مديونة للخارج بقرش واحد اضطررنا للاستقراض الخارجي دفعًا للاحتياج والضرورة، فتعذر والحالة هذه تقابل وارداتنا مع مصاريف الحرب المبرمة، وبهذا السبب فُتِح باب الدين. نعم إنه في هذه المسألة بواسطة اتفاق الدول المفخمة التي صادقت على مشروعية حقوقنا، وبانضمام معاوناتها الكاملة الفعلية التي لا تبرح مدى الدهر زينة لصحائف التواريخ، قد أنتجت الحرب تلك المصالحة التي وضعت تمام ملكية دولتنا واستقلالها تحت ضمان دول أوروبا العهدي، وغلب على الظنِّ أن هذه المصالحة قد مهَّدت لمستقبلنا زمانًا مساعدًا على وضع أعمالنا الداخلية في طريقها وسلوك جادَّة الترقي الحقيقي. إنما الأحوال المتعاقبة ساقتنا بكليتنا إلى عكس ذلك الانتظار، والأمل أن توالي الحوادث الداخلية المتتابعة الظهور بمفاعيل التحريكات والتسويلات لم تخوِّلنا وقتًا للنظر في إصلاحات ملكنا وتنظيماته، بل أوقعت زراعتنا وتجارتنا في وقوف عظيم لاضطرارنا في كل عام لجمع معسكرات فوق العادة في أنحاء مختلفة ووضع الصنف الأكثر نفعًا من أهالينا تحت السلاح.

وأمر مسلم ومعلوم أنه مع كل ما صادفنا من المشاكل والموانع قد قطعنا ماديًّا وأدبيًّا مسافة كلية في سبيل النجاح وتزايد وارداتنا على التوالي منذ عشرين عامًا، دليل على ترقي المملكة وازدياد رفاهية حال الأهالي، ثم وإن كانت المضايقة الحاضرة قد تولدت من الأحوال التي عددناها، فمع هذا كان ممكنًا تخفيف غائلة الضرورة وحفظ الاعتبار المالي لو سلكنا في الإدارة المالية طريقًا قويمًا، بيد أنه كل ما اتخذ من التدبير المالي في صورة الإصلاحات لم يصلح الحال، وإنما زاد العمل إثقالًا، وقد طلبت الاستفادة من الحال قبل التفكر ماذا يكون الاستقبال؛ فدوام هذه الغوائل وتعاقبها من الجهة الواحدة ومداركة وإنشاء الأدوات والأسلحة الجديدة الحربية التي هي أعظم أسباب شوكة دولتنا واقتدارها، وعدم وضع وارداتنا ومصاريفنا تحت موازنة اقتصادية من الجهة الأخرى، أفضتا إلى انتقاض إدارتنا المالية درجة فدرجة؛ فأنتجت ما نحن فيه الآن من المضايقة الخارقة للعادة، وأعقب ذلك ظهور وقوعات هرسك المنبعثة من أثر الفساد والتحريك التي تجسمت أخيرًا، ثم افتتحت بغتة محاربات بلاد الصرب والجبل الأسود، وظهرت في عالم السياسة أيضًا فتن واختلالات كبيرة.

وفي ذلك الزمان الذي فيه تهوَّرت دولتنا في بحران عظيم وقع جلوسنا بإرادة جناب الحق الأزلية على تخت أجدادنا العظام، ولما كانت درجة المخاطر والمشكلات التي حاقت بأحوالنا العمومية غير قابلة القياس مع ما تقدَّمها من الغوائل التي تهوَّرت بها دولتنا حتى الآن قد اضطررت لأجل المحافظة قبل كل شيء على حقوقنا أن أزيد معسكراتنا في جميع الجهات حتى وضعت تحت السلاح نحو ستمائة ألف عسكري؛ لاعتقادي بأن ملاشاة هذه الاختباطات بالكلية واستئصالها بعون الله تعالى والتفتيش على طريقة لإصلاحات مهمة في دولتنا نضع بواسطتها مستقبلنا تحت الأمنية المتمادية إنما هو فرض على ذمتي وأمر واضح بأنه إذا نهجنا في الإدارة سبيلًا حسنًا، فستتقدم بأقرب وقت تقدُّمًا كبيرًا في النجاح بحسب القابلية التي أحسن بها الحق تعالى على ملكنا، وبحسب الاستعداد المتصفة به أهالينا، وأمر محقق أن تأخرنا عن اللحوق والترقيات الحاضرة في عالم المدنية كان لإهمالنا المداومة على الإصلاحات المحتاج ملكنا إليها، ولعدم المثابرة على القوانين والنظامات المتعلقة بها، ومنشأ ذلك ليس هو إلا صدور هذه الأشياء من يد الحكومة الاستبدادية بدون استناد على قاعدة المشورة.

والحال أن ترقي الدول المتمدِّنة ونجاحها وأمنية الممالك وعمرانها إنما هو ثمرة تأسيس مصالحها وقوانينها العمومية بالاتفاق وإجماع الآراء كما هو مسلم، فبناءً عليه رأيت أن تحرِّي أسباب الترقي في هذه الطريق واستناد قوانين المملكة على الآراء العمومية هو ألزم ما لدينا؛ فلذا قد أعلنت القانون الأساسي.

أما مقصدنا من تأسيسه فليس هو عبارة عن دعوة الأهالي للحضور في رؤية المصالح العمومية، وإنما بالأحرى لاعتقادنا القطعي بأن هذه الأصول هي وسيلة مستقلة لإصلاح إدارة ممالكنا ومحو سوء الاستعمالات واستئصال قاعدة الاستبداد، وفضلًا عما في هذا القانون الأساسي من الفوائد الأصلية فهو كذلك مهد لأساس حصول الاتحاد والأخوة بين الأنام، وجامع لمقصد تأسيس أمر الائتلاف والسعادة بين الخاص والعام. أما أجدادنا العظام ففي الفتوحات التي وفقوا إليها قد جمعوا تحت حكومتهم في هذه الدولة الوسيعة الممالك أقوامًا عديدة، فلم يبقَ سوى أمر واحد فقط، وهو ربط هذه الأقوام المختلفة اختلافًا كليًّا في الأديان والأجناس بقانون مفرد وحسن مشترك، وحيث قد تيسَّر الآن هذا الأمر بعون جناب الحق الذي لا نهاية لألطافه ومقدرته الإلهية فيقتضي إذن من الآن فصاعدًا أن تكون كافة تبعتنا أولاد وطن واحد، يعيشون بأجمعهم تحت جناح حماية قانون واحد، وينعتون بالعنوان المخصوص منذ ما ينيف عن ستمائة سنة لأهل بيت سلطنتنا السنية المسطر كثير من آثار شوكتهم في صحف تواريخ البرية، مؤملًا أن الاسم العثماني الذي ما برح حتى الآن علم القوة والاقتدار المشتهر، يكون من بعد الآن شاملًا لدوام المنافع المختلفة الموجودة بين جميع تبعتنا وحفظها.

وحيث إنني بناءً على ما ذكر من الأسباب والمقاصد قد عزمت عزمًا ثابتًا على أن أنهج السبيل الذي سلكته، ولا آلو جهدًا في توطيده وتشييده، فأترقب منكم إذن المعاونة فعلًا وعقلًا؛ للاستفادة من مشروع القانون الأساسي الذي بُنِيَ على قاعدتي العدل والسلامة، والمفروض عليكم إذن القيام بأعباء الوظائف القانونية المحوَّلة لعهدتكم وحميتكم بصداقة واستقامة بدون احتراز من أحد، غير ملتفتين إلى شيء آخر سوى سلامة دولتنا ومملكتنا وسعادتهما؛ لأن ما يعوزنا اليوم من الإصلاحات وما يترقب الجميع اتخاذه في ملكنا من التنظيمات هو في غاية الأهمية والاعتناء.

وبما أن وضع ذلك على الفور في موقع الإجراء مرهون على اتفاقكم بالأفكار والآراء؛ فلذا شورى الدولة مثابر الآن على تنظيم لوائح القوانين اللازمة؛ لكي تتحول في اجتماعكم في هذه السنة إلى مجلسكم لأجل المذاكرة، وهي لائحة نظامات داخلية مجلسكم، ولوائح قانون الانتخاب، وقانون الولايات وإدارة النواحي العمومية، وقانون الدوائر البلدية، وقوانين أصول المحاكمات المدنية وترتيب المحاكم، وصورة ترقي الحكام وتقاعدهم، ووظائف عموم المأمورين وحق تقاعدهم، وقوانين المطبوعات وديوان المحاسبات، ولائحة قانون ميزانية السنة السابقة، فمطلوبنا القطعي والحالة هذه مطالعة هذه القوانين بالتتابع، والمذاكرة عليها، وإعطاء قراراتها. وكما أن النظر عاجلًا في إصلاحات وتنظيمات المحاكم والعساكر الضبطية اللتين هما الواسطة المستقلة لتأمين حقوق العموم من أهمِّ ما يلزم، فوضع ذلك في موقع الإجراء أيضًا متوقف على توسيع مخصصاتهما المقررة وتزييدها، ومن حيث إن إدارتنا المالية قد أمست عرضة للعسر والمشاكل الكثيرة حسبما يتَّضح لديكم من الميزانية المعطاة إلى مجلسكم؛ فأوصيكم أن تسعوا مهتمين بالاتفاق لتعيين التدابير التي تهدينا قبل كل شيء إلى التخلص من هذه المشاكل وإلى وسائل إعادة اعتبار ماليتنا؛ ومن ثم لتعيين تلك التخصيصات التي تخرج هذه الإصلاحات المستعجلة إلى الفعل.

ولما كان ترقي الزراعة والصناعة اللتين هما من أعظم الإصلاحات والاحتياجات في ملكنا وتبعتنا، وإيصال المدنية والثروة إلى درجة الكمال، موقوفًا على قوة المعارف والعلوم؛ فستعطى بمنِّه تعالى إلى مجلسكم في اجتماع السنة الآتية لوائح القوانين المتعلقة بإصلاح المكاتب وبتنظيم درجات التحصيل. وبما أن حصول تأثيرات أحكام القوانين على الوجه الأتمِّ، سواء كانت القوانين المذكورة أعلاه أو القوانين التي توضع من الآن فصاعدًا في موقع الإجراء يتوقف على وضع أقضية انتخاب مأموري الإدارة تحت أهمية عظيمة، فهيئة دولتنا ستمعن نظر التدقيق المخصوص في هذا المطلب، وفي مطلب صورة مكافأة وحماية المأمورين المتصفين بالعفة والاستقامة اللتين ضمنهما القانون الأساسي، وحيث كانت قضية انتخاب المأمورين ذات بال وأهمية لدينا اعتمدنا على تأسيس مكتب مخصوص تكون مصاريفه من خزينتنا الخاصة لمقصد الحصول على مأمورين جديرين بالإدارة العمومية، على وجه أن تلامذته تقبل في مأموريات الإدارة والسياسة حتى الدرجة العليا، ويدخل إليه من كل صنوف تبعتنا بدون استثناء مذهبي، وترقيهم يكون بحسب درجة أهليتهم كما يتضح من نظامه الأساسي المعلن قبلًا.

وقد وقع لدينا موقع التقدير والتحسين في صورة خارقة للعادة ما أبدته عموم تبعتنا الصادقة من آثار الحمية وما تحملته جنودنا من أنواع المتاعب والمشاق المشفوعة بالغيرة والبسالة في أثناء الغوائل الداخلية التي تهوَّرنا بها منذ عامين تقريبًا، ولا سيما في أثناء الحرب مع الصرب والجبل الأسود، على أن تشبثاتنا المجردة لمحافظة حقوقنا في هذه الحوادث قد أنتجت استحصال قرار مصلحة الصرب والمذاكرات الجارية مع الجبل الأسود، وسيتحوَّل لمطالعتكم في اجتماع مجلسكم المرَّة الأولى ما تتخذه من المعاملات بناءً على تلك المذكرات؛ فأوصيكم إذن بتعجيل قراراتها. أما السلوك مع الدول المتحابة بالصداقة والرعاية، لمَّا كان من أهمِّ المعاملات المألوفة والمعتنى بها لدى دولتنا، فلم نزل اليوم حريصين على مراعاة هذه القاعدة الودادية. ولما طلبت إنكلترا منذ بضعة شهور عقد مؤتمر في مقرِّ سعادتنا لأجل المسائل الحاضرة، وروَّجت كافة الدول المعظمة أيضًا أساسات هذا الطلب والاقتراح؛ وافق بابنا العالي على عقده، نعم إنه لم يأت هذا الاجتماع باتفاق قطعي، ولكن ما تأخرنا عن إثبات نوايانا الخالصة وإظهارها بإجراء مأثوراتهم ونصائحهم الموافقة لأحكام معاهدات الدول ولقواعد الملل وحقوقها ولمقتضيات أحوالنا وحقوقنا المبرمة.

أما أسباب عدم الاتفاق فلم تكن في الأساس، وإنما بالأحرى كانت في صور الإجراءات وأشكالها؛ لاستحساننا أساسيًّا لزوم إيصال الترقيات الكلية التي وقعت منذ بداية التنظيمات حتى الآن في أحوال مملكتنا العمومية وفي إدارة كل شعبة من شعب دولتنا إلى حال أكمل، ولم تزل مساعينا حتى اليوم مصروفة لهذا المقصد، على أن وظيفتي التوقي من الأحوال التي تخل بشأن مملكتنا واستقلالها، وقد تركت إثبات صدق نيتي وسلامتها لدى الجميع إلى تمادي الأيام والزمان. أما النتائج التي ولدتها هذه الحال فقد أفضت بي إلى زيادة التأسف، وزوالها سريعًا مما يكفل بكمال ممنونيتي، على أن مقصدنا في جميع الأوقات مقصور على دوام السلوك في منهج المحافظة على استقلالية حقوقنا، وسيكون هذا المسلك مركز النظر في تصرُّفاتنا الآتية، وأؤمل أن مآثر الاعتدال وحسن النية التي أظهرتهما دولتنا قبل انعقاد المؤتمر وبعده تتكفل بمضاعفة حسن المعاشرة والمناسبات الودادية الرابطة سلطنتنا السنية بجمعية الدول الأوروباوية، ونسأل حضرة الحق المتعال أن يجعل مساعينا جميعًا مظهرًا للتوفيق في كافة الأحوال. ا.ﻫ.

(٢) حرب الروسيا وبيان أسباب لائحة الكونت أندراسي١

وفي أوائل سنة ١٨٧٥ هاجت الخواطر في بلاد الهرسك؛ بناءً على تحريض مجاوريها من الصرب وسكان الجبل الأسود طلبًا للاستقلال الإداري مثل الإمارتين المذكورتين، وربما كان للنمسا يد في هذه الفتنة؛ إذ كان مطمح أنظارها الاستيلاء على ولايتي البوسنة والهرسك معًا؛ لمجاورتهما لبلادها، فقدَّم أهالي الهرسك أوَّلًا عريضة للباب العالي يطلبون تخفيض الضرائب الحالية عمومًا، وبدلية العسكرية خصوصًا، وأن يعدهم السلطان وعدًا صريحًا بعدم ترتيب ضرائب جديدة عليهم في المستقبل، وأن يشكل لبلادهم بوليس خصوصي (جندرمه) من أهالي البلاد، فلم يجبهم الباب العالي لطلباتهم، بل عزَّز الحامية. ولما تظاهر الأهالي بالعصيان وأشهروا السلاح ضد عساكر الدولة أصدرت أوامرها بقمعهم فورًا؛ فأخمدت الثورة رغمًا عن مساعدة الصرب والجبليين لهم سرًّا وعلنًا، وتعضيد جمعيات الصقالبة إياهم بالمال والسلاح.

وفي ١٢ دسمبر سنة ١٨٧٥ قضت المراحم السلطانية بتسكين خاطرهم؛ فأصدر فرمانًا بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وتعيين قضاة من الأهالي بطريق الانتخاب، وتوحيد الضرائب والمساواة فيها بين المسيحيين والمسلمين، لكن أبت الدسائس الخارجية وعصب الصقالبة إلا استمرار القتال لاشتغال الدولة في الداخل وإضعاف جيوشها، فلم يذعن الثائرون، بل تمادوا في غيهم، وطلبوا أول كل شيء انجلاء العساكر التركية عن جميع بلادهم كما انجلت عن بلاد الصرب، واستمرَّ القتال بينهم وبين الجنود العثمانية التي كان يقودها دولتلو الغازي مختار باشا إلى النصر، حتى لم يقوَ الثائرون على الوقوف أمامهم. ولما رأت النمسا أن الثورة قد انطفأت أو كادت ولم يعد لها سبيل للتداخل عسكريًّا تنفيذًا لمآربها كما سترى، أوعز الكونت أندراسي وزيرها الأول إلى ألمانيا والروسيا بالاشتراك معها في تحرير لائحة سياسية إلى الباب العالي بتعضيد طلبات الثائرين.

وبعد تبادل المخابرات بين هاته الدول اتفق رأيها على تحرير هذه اللائحة المسماة في كتب السياسة بلائحة الكونت أندراسي، لكن تقرر أن يكون إرسالها للدول الغربية؛ أعني فرنسا وإنكلترا لا للباب العالي، وأرسلت لهما فعلًا مؤرخة ٣٠ دسمبر سنة ١٨٧٥، فطلبت الدولة العلية من إنكلترا تبليغها الصورة المرسلة إليها لترى فيها رأيها، فبلغتها إليها سفارة إنكلترا في الآستانة بصفة غير رسمية.

وأهم ما جاء بها أن الدول ترغب تشكيل قومسيون من أهالي الهرسك يكون نصفه من المسيحيين والآخر من المسلمين لمراقبة تنفيذ ما جاء في الفرمان السلطاني المؤرخ ١٢ دسمبر السابق ذكره، وأن يتعهد السلطان لجميع الدول بإجراء ما ذكر في الفرمان المذكور من الإصلاحات.

وبعد اطلاع أرباب السياسة في الآستانة على هذه اللائحة ارتأى السلطان الموافقة على ما بها حسمًا للنزاع، وحتى لا يكون للدول سبيل للتداخل بصفة أشدَّ. وزيادة على ذلك فقد أصدر الخليفة الأعظم عفوًا عامًّا عن جميع المتهمين والمشتركين في هذه الثورة. ومن الغريب أن أهالي البوسنة والهرسك لم يقبلوا هذا العفو العمومي، بل أصرُّوا على طلب انجلاء الجنود الشاهانية عن بلادهم أو بالأقل يكون احتلالها قاصرًا على بعض قلاع وحصون معينة، وأن يملك ثلث الأراضي للمسيحيين، وأن يعفوا من الضرائب مدَّة ثلاث سنوات، وأن تدفع لهم الحكومة العثمانية تعويضًا عما هدم من البيوت والكنائس أثناء الحرب، بشرط أن يكون دفع هذه التعويضات للجنة أوروباوية.

وعقب ذلك بقليل حدث بمدينة سلانيك حادثة نسبها الأوروبيون إلى تعصب الإسلام الديني، مع أن منشأها تعصب المسيحيين ضدَّ المسلمين وتعرُّضهم للحرية الدينية التي يتظاهرون دائمًا بالدفاع عنها إيهامًا وتغريرًا، لتكون لهم حجة للتداخل في بلاد الشرق وتفريق الكلمة بين الشرقيين؛ فيسهل استيلاؤهم على بلادهم.

(٢-١) حادثة سلانيك ولائحة برلين

وتفصيل هذه الحادثة أن فتاة بلغارية مسيحية اعتنقت الدين الحنيفي الإسلامي طائعة مختارة، وأتت إلى سلانيك في ٥ مايو سنة ١٨٧٦ لإثبات إسلامها شرعًا، فتعرض لها بعض أوباش الأروام في الطريق حين توجهها إلى دار الحكومة، واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوَّة، وأخفوها أوَّلًا في محل قنصلاتو أمريكا ثم في أحد بيوت كبرائهم. ولما اشتهر هذا الخبر بين المسلمين هاجوا وماجوا وتجمعوا في فسحة دار الحكومة طالبين البحث عن البنت وتخليصها من أيدي المخفين لها؛ فوعدهم الوالي بإجراء شئون وظيفته، ثم لما رأى المسلمون عدم نجاح بحث الحكومة تجمعوا ثانيًا في اليوم الثاني في أحد الجوامع مشدِّدين النكير على الحكومة. وفي أثناء هذا الهياج حضر قنصلا فرنسا وألمانيا ويقال إنهما دخلا الجامع، ولتواتر الإشاعة بأن البنت في بيت قنصل ألمانيا ازداد الهياج، وفي أقل من القليل بلغت الحدَّة منتهاها من المجتمعين وتعدَّوا على القنصلين بالقتل.

ولما وصل خبر هذه الحادثة إلى الدول اضطرب وزراؤها، وتبادلوا المخابرات البرقية للاتفاق على اتخاذ سببٍ للتداخل.

وفي ١١ منه اجتمع البرنس غورشاكوف وزير الروسيا، والكونت أندراسي وزير النمسا بالبرنس دي بسمارك بمدينة برلين وأخذوا في المداولة معًا يومي ١١ و١٢ منه، وفي ١٣ منه حرروا لائحة إلى الباب العالي معروفة في كتب السياسة بلائحة برلين، وصدَّقت عليها دولتا إيطاليا وفرنسا، مفادها التشديد على الباب العالي بتنفيذ ما جاء في الفرمان السلطاني المؤرخ ١٢ دسمبر سنة ١٨٧٥، وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذه وإجراء كل ما فيه إصلاح حال المسيحيين في هذه الولايات، وأن تبرم الدولة مع الثائرين هدنة قدرها شهران أو ستة أسابيع على الأقل للوصول إلى اتفاقٍ مرضٍ لهم، وأنه إن لم تتفق مع الثائرين في خلال هذه الهدنة تكون الدول الموقعة عليها مضطرة لاستعمال القوَّة لإجبار الباب العالي على تنفيذ هذه اللائحة، فيرى في ذلك المطالع أن الدول كانت متفقة على محاربة الدولة لتقسيم أملاكها فيما بينهم أو بالأقل سلخ جميع الولايات التي بها مسيحيون؛ إذ إن الدول المسيحية لا يمكنها أن تخفي تألمها من وجود بعض المسيحيين تحت سلطة المسلمين، فالمسألة إذن كما ذكرنا وكرَّرنا سياسية دينية، أو بالحري دينية أكثر منها سياسية.

هذا؛ أما الباب العالي فلم يقبل هذه الطلبات المجحفة بحقوقه على رعاياه، ولم يرعه هذا التهديد والوعيد؛ لعلمه أنه يبعد اتفاق الدول على العمل لاختلاف أطماعها، ولعدم موافقة إنكلترا على هذه اللائحة.

(٣) ثورة البلغار وجواب اللورد دربي

لا يخفى أن كثيرًا من أعيان الروس وأعضاء العائلة الملوكية بها شكَّلوا عدَّة جمعيات لنشر النفوذ الروسي بين الطوائف التي تنسب حقيقة أو قولًا إلى العنصر الصقالبي، ومن أكبر رؤسائها الجنرال أغناتيف الشهير. وقد بذلت هذه الجمعيات المعضدة من نفس الإمبراطور والحكومة مساعيها لإثارة البوسنة والهرسك فنجحت كما رأيت وسترى، وكان لها عدَّة فروع في بلاد البلغار لتوزيع المال والسلاح سرًّا على المسيحيين من سكانها وتحريضهم على عصيان الدولة وطلب الاستقلال، ولها أيضًا مركز مهم في مدينة ويانة عاصمة النمسا كانت ترسل منها الأسلحة وغيرها عن طريق رومانيا؛ مما يثبت أن للنمسا ضلعًا في هذه الحركات العصيانية. وبهذه المساعي الخبيثة الشيطانية كفر البلغاريون نعمة الدولة عليهم التي لم تتصدَّ لهم في بادئ الأمر بتغيير دينهم أو إماتة لغتهم، بل ساعدتهم بعدم تعرضها لهم على حفظ جنسيتهم، وقاموا يطالبون بالاستقلال بناءً على إيعاز أرباب الدسائس من الأجانب.

وحيث كانت الدولة أنزلت ببلاد البلغار بعض عائلات الجركس المهاجرين هربًا من حكومة الروسيا والاحتماء تحت ظل جلالة الخليفة الأعظم، فقد أفهم المهيجون البلغاريين أن الدولة تبغي إقطاع أراضيهم لهؤلاء الجراكسة واستعباد المسيحيين لهم؛ فحصلت عدَّة حركات عصيانية في سبتمبر وأكتوبر سنة ١٨٧٥ أطفئت بسرعة، وأرسلت الدولة عدَّة آلايات من الباشبوزوق منعًا لعودة الثائرين للعصيان.

وفي أوائل شهر أبريل سنة ١٨٧٦ أتى إلى البلغار عدد عظيم من دعاة الثورة والفساد، وعقدوا اجتماعًا في إحدى مدنها حضره مندبون من اللجان المركزية في ويانة وبخارست عاصمة رومانيا، التي كانت لم تزل تحت سيادة الدولة العلية، وقرروا جميعًا في هذا النادي وجوب المبادرة إلى إثارة العصيان مغررين البلغاريين بأن الروسيا مستعدَّة لمدِّهم بالجيوش لو تغلبت عليهم جيوش الدولة، وتدفع لهم أيضًا قيمة ما يتلف من مساكنهم ومزروعاتهم، وأن يكون ابتداء الثورة قتل المسلمين وإيقاد النار في مدينة أدرنة في مائة موضع وفي مدينة فيليبة في ستين موضعًا، ثم يهجم ثلاثة آلاف نفر على مدينة بازار جق.

وفي أول مايو سنة ١٨٧٦ نفذ أغلب هذا القرار، وحصلت عدَّة مذابح في كثير من القرى قتل فيها كثير من المسلمين؛ لتجردهم عن السلاح وعدم إمكانهم ردَّ القوة بمثلها. ولما وصل هذا الخبر إلى الوالي أرسل إلى الآستانة يطلب الجيوش؛ لاتساع نطاق الثورة شيئًا فشيئًا وعدم كفاية العساكر الموجودة تحت أمره، ثم وزع كثيرًا من الأسلحة على المسلمين ونظمهم بهيئة رديف. ولما أتى إليه المدد أمكنه قمع الثورة بواسطة الآلايات المنتظمة والباشبوزوق والرديف، واستعمال الشدَّة مع من يضبط من الثائرين.

ولما كادت تَخِيب مساعي دعاة الفساد أشاعوا بأوروبا أن العساكر العثمانية ارتكبت ما لا يرتكبه المتبربرون، وأسدلوا غطاء الغرض على ما اقترفه البلغاريون من قتل المسلمين في بادئ الأمر، وهوَّلُوا في المسألة، وجعلوا الحبة قبة؛ ليستميلوا الرأي الأوروبي إليهم وفتح المسألة الشرقية، وتكلم بعض وزراء الدول بما يمسُّ كرامة الدولة العلية في مجالس نوابهم، وشدَّدوا عليها النكير، خصوصًا المستر غلادستون — زعيم حزب الأحرار ببلاد الإنكليز — فإنه ألقى الخطب الرنانة وألَّف الرسائل المطولة طعنًا على الدولة، ناسبًا إليها ما لم يسمع بمثله في التاريخ، ناسيًا ما فعلته حكومة بلادهم مع الإيرلانديين وأهالي أوستراليا الأصليين الذين أعدمتهم عساكرها والمهاجرون من سكانها رميًا بالرصاص.

وبهذه المساعي الخبيثة هاج الرأي العام — خصوصًا في إنكلترا — ضد الدولة العلية، حتى أرسل اللورد دربي — ناظر خارجية إنكلترا — رقيمًا إلى السير هنري ليوث — سفيرها بالآستانة — بتاريخ ١٨ سبتمبر سنة ١٨٧٦ ضمَّنه خلاصة تقرير كان أرسله المستر بارنج — سكرتير سفارة إنكلترا بالآستانة — الذي كلف بتحقيق ما نسب للمسلمين، وأمره في آخر هذا الرقيم بعد لوم الدولة على ما ينسبه الأجانب إليها من التقصير أن يطلب مواجهة السلطان عبد الحميد الذي جلس منذ قريب على تخت السلطنة العثمانية، ويطلب منه باسم ملكة دولة إنكلترا التعويض على الثائرين وبناء ما هدم من الكنائس والبيوت على مصاريف الدولة، ومساعدة الأهالي الذين اشتدَّ بهم الفقر على إعادة الأعمال، ومجازاة المأمورين الذين أمروا بإجراء هذه الفظائع، وإناطة إدارة هذه البلاد لوالٍ عادل ذي همة ونشاط بشرط أن يكون مسيحيًّا، وإن كان مسلمًا فيكون له مستشارون من المسيحيين يمكن النصارى من السكان الاعتماد عليهم والثقة بهم … إلى آخر ما جاء بهذا الرقيم المسطر في الكتاب الأزرق. وإليك نصه نقلًا عن مجموعة الجوائب:

قد وصل إلى دولة سعادة الملكة محرراتكم عدد ٩٦٤ في خامس هذا الشهر، من جملتها نسخة من تقرير مستر بارنغ المشتمل على استقصائه عن المنكر الذي جرى منذ قريب على النصارى سكان البلغار، وكانت الدولة مترقبة من سابق تقرير المومأ إليه الذي بعثتم به أن تسمع بأن الجرائر التي اقترفها الباشبوزوق والجراكسة في تلك البلاد كانت فظيعة، فيسوءُها الآن أن تعلم من هذا التقرير التام أن ما كانت تترقبه كان في محله، ثم إن بعض الأخبار التي شاعت بخصوص هذه الجرائم وإن كان غير صحيح إلا أنه لم يبقَ ريب في أن تصرُّف والي أدرنة بكونه أَمَرَ جميع المسلمين بأن يتقلدوا السلاح هو الذي سبب حشد قوم من الفتاك واللصوص فارتكبوا الجرائم، بدعوى أنهم يحاولون إطفاء الفتنة، وهذه الجرائم وصفها المستر بارنغ بأنها أفظع شيء شأن تواريخ هذا القرن.

وقد تبيَّن أيضًا أن أكثر أصحاب الأمر والنهي في الولاية قد أجازوا هذا المنكر أو غضوا النظر عنه، فلم يبالوا بإصلاح الحال أو أنهم أصلحوا ما لا يعبأ به، ومع أنه قبض على ١٩٥٦ نفسًا من البلغاريين لاشتراكهم في العصيان الذي لم يقارنه خطر فلم تجر عقوبة على قتلة الرجال الذين لم يوجد معهم سلاح وعلى قتلة النساء والأولاد إلا عشرين نفسًا منهم؛ فالظاهر أن أصحاب الأمر والنهي في الآستانة لم يُطَعْ لهم أمر، وأنهم لم يطلعوا على حقيقة الحال، وما كان لدولة الملكة أن تظن أنه من الممكن أن الباب العالي يرقِّي أولئك المأمورين الذين أفعالهم معرَّة وضرر على المملكة العثمانية، أو أنه يمنحهم نياشين.

وقد روي أن القتل الذي جرى في باتاق كان في ٩ مايو الماضي، وبقي إلى ٢١ من جولاي (تموز) مكتومًا عن الباب العالي أو غير مبالٍ به، فلم يعرف هذا الأمر إلا من تقرير مستر بارنغ المذكور، حيث علم منه أن ثمانين نفسًا من النساء والبنات أخذن إلى قرى المسلمين وذكر أسماءها ولم يزلن فيها، وأن جثث المقتولين بقيت غير مدفونة، وما أحد بذل الجهد في الاطلاع على مرتكب هذه الشرور، ولا حاجة لي هنا إلى إيراد ما فصله مستر بارنغ في تقريره؛ مما يدل على أن أهل هذه الولاية المنحوسة كانوا هدفًا للأعمال الصادرة عن غلوٍّ ونهب وسلب. وما بدا حتى الآن سعي بليغ في تعويض هؤلاء المضيمين عن الضرر الذي لحق بهم ولا في تأمينهم في المستقبل؛ إذ لم يرجع إليهم ما فقدوه من الماشية والأمتعة، ولم تزل كنائسهم وبيوتهم خرابًا وهم يتضوَّرون جوعًا، وقد هلك عنهم رزقهم من الحرث والأعمال، وما بقي من قراهم سالمًا يأمن من أن يأتي عليه ما أتى على القرى الخربة، ولم يزل العدوان فاشيًا كما اعترف به مدير عورت الآن والباب العالي عاجز أو متقاعس. وقد أخبرت جنابكم بما أحدثه شيوع هذه الشنائع في أهل بريطانيا من الغيظ المحنق، وعندي من اليقين أن مثل هذا الإحساس سرى أيضًا إلى جميع سكان أوروبا، فالآن أقول: إن الباب العالي ليس في وسعه أن يغالب الأفكار العمومية في غير ممالكه، ولا أن يظن أن دولة بريطانيا أو غيرها من الدول التي وقعت على معاهدة باريس تظهر عدم المبالاة بما أصاب فلاحي البلغار من الرزء والجور الناشئ عن الانتقام.

ومهما يكن من الملاحظات السياسية فلا يمكن إباحة هذه الأفعال، فلا بد من التعويض على من أصيبوا بهذا الرزء، وكفالة تأمينهم وسلامتهم في المستقبل، وهذا أحد الشروط التي ينبغي عليها حل المسائل المعترضة الآن. فمن أجل إبلاغ رأي دولتنا بنوع مؤثر إلى حضرة السلطان الذي جلس منذ قريب على تخت سلطنة العثمانية، ينبغي أن تطلبوا مواجهته وتبلغوه على وفق مراد الدولة خلاصة تقرير مستر بارنغ، وتذكروا له أسماء شوكت باشا وحافظ باشا وطوسون بك وأحمد أغا وغيرهم من المأمورين الذين صرح بأعمالهم المنكرة، واطلبوا باسم الملكة ودولتها التعويض والعدالة، وألحوا ببناء ما هدم من الكنائس والبيوت وبإسداء المساعدة اللازمة لإعادة الأعمال والأشغال ولإغاثة الذين حاق بهم الفقر، واذكروا على الخصوص أنه لا بد من البحث عن الثمانين امرأة وإعادتهن إلى أهلهنَّ، وكذلك ألحوا بإجراء عبرة على الذين اشتركوا في تلك الأفعال الشنيعة أو تساهلوا فيها، وينبغي أن يمتحن أولئك الذين أعطوا نياشين ورتبًا لأوهام باطلة في حقيقة سلوكهم وتصرُّفهم، ويجردوا عن منزلتهم إن كان ذلك لم يقع فعلًا، ويبذل السعي البليغ في إعادة الثقة والأمن.

ولهذه الغاية يظهر من الصواب أن تلك الجهات التي جرى فيها الهرج والمرج تُجعَل تحت مأمور ذي همة وإقدام يعين لهذا الخصوص، فإذا لم يكن من النصارى يلزم أن يكون معه مشيرون منهم، بحيث تركن إليهم النصارى وتثق بهم، وهذا الأمر يكون مؤقتًا من دون أن يكون مانعًا لما تتفق عليه الدول في المستقبل، واذكروا أيضًا بكلام أكيد بليغ تهامل المأمورين في تلك الجهات وعدم الكفاية من استقصاء أديب أفندي ومن تقريره الذي أبلغ إلى الدول إبلاغًا رسميًّا؛ إذ لا يعتمد عليه، ومن أجل أن يكون طلبكم مفهومًا اتركوا مع الصدر الأعظم عند انتهاء محاورتكم معه تذكرة هذه الملاحظات التي فوِّضت إليكم بأمر الملكة لتعرضوها على مسامع السلطان.

الإمضاء: دربي

فليتأمل القارئ إلى نسبة التوحش للدولة التي لم تأتِ غير ما تأتيه غيرها من الدول لو حصلت بها ثورة داخلية، مع أن الروسيا ارتكبت، وما زالت إلى الآن ترتكب مع يهود بلادها ما لم يسمع به أيام تيمورلنك من الطرد والنهب والمصادرة، وكذلك مع أهالي بولونيا. وليتذكر المطالع ما فعلته فرنسا في الجزائر، والنمسا والروسيا معًا في بلاد المجر سنة ١٨٤٨، وما فعلته إنكلترا نفسها في إيرلاندا، ويحكم بعد ذلك بأن دعوى دول أوروبا بنشر الحرية والمدافعة عنها حقيقة بالاعتبار أو أنها مجرَّد شباك لا تقصد بها إلا التداخل في الشرق والتهامه قطعة بعد أخرى، وتخليص المسيحيين منهم من سلطان المسلمين الذين ما ارتكبوا معهم إثمًا إلا عدم التعرُّض لدينهم ولغتهم، والمحافظة على جنسيتهم؛ فقوبلوا بالكفران.

(٣-١) حرب الصرب والجبل الأسود

قد علم القارئ مما سلف أن الروسيا كانت تسعى بالاشتراك مع باقي الدول المسيحية لإيجاد الاضطرابات الداخلية في بلاد الدولة العلية الإسلامية لإضعافها، ولما رأت أن مساعيها في البوسنة والهرسك من جهة وبلاد البلغار من جهة أخرى كادت تعود بالخيبة والفشل، أوعزت إلى أميري الصرب والجبل الأسود بإعلان الحرب على الدولة، حتى إذا حارباها وفازا عليها بالغلبة (الأمر لا يتصوره العقل) دخلت بجيوشها الجرارة في ميدان القتال، وأتمت إذلال الدولة العلية — حماها الله من مكايدهم — وإن نصر الله الجيوش الإسلامية على الصرب والجبل الأسود تداخلت الروسيا بجيوشها لمساعدتها ضدَّ الدولة صاحبة السيادة عليهما، فكان قصد الروس حينئذٍ إعلان الحرب على الدولة باتفاق الدول، إن لم تكن جميعها فألمانيا والنمسا بالتحقيق؛ إذ كانت أنظار الأخيرة تطمح إلى توسيع حدودها من جهة بلاد البوسنة والهرسك، ويساعدها البرنس دي بسمارك وزير ألمانيا الأوَّل على ذلك ليوجد للنمسا مصالح في الشرق ويجعل لها فائدة في المدافعة عن الآستانة من أن تحتلها الروسيا.

ولا يظن القارئ أن عمل بسمارك هذا مبنيٌّ على إخلاص للدولة العلية، معاذ الله، بل إنه يريد معاكسة الروسيا في الشرق وعدم تمكينها من احتلال الآستانة؛ انتقامًا منها لمنعه عن محاربة فرنسا ثانيًا سنة ١٨٧٥ للإجهاز عليها حينما رأى نشأتها بعد حرب سنة ١٨٧٠ وسنة ١٨٧١، وقيامها بدفع الغرامة الحربية البالغ قدرها مائتيْ مليون جنيهٍ قبل المواعيد المحدَّدة في معاهدة فرانكفورت.

هذا؛ ولما أوعز إلى الصرب والجبل الأسود بإعلان الحرب على الدولة أخذ أميراهما بالاستعداد، وشراء الأسلحة والمدافع، وجمع الجيوش وتدريبها، وأرسلت الروسيا أحد قوَّادها الجنرال «تشرنايف» الذي فتح مدينة «تشقاند»٢ في أواسط بلاد آسيا إلى بلاد الصرب ليقود زمام جيوشها، فذهب إليها مع كثير من الضباط الروسيين الموظفين في الجيش العامل، وكانوا يقالون مؤقتًا من خدمة الجيش الروسي للالتحاق بالجيش الصربي، وبذا كانت الروسيا هي التي تحارب الدولة العلية باسم الصرب، وكان الحال كذلك في إمارة الجبل. ولما رأت الدولة هذه الاستعدادات جمعت جيشًا جرارًا مؤلفًا من أربعين ألف مقاتل بمدينة «نيش» لصدِّ الصربيين لو تعدَّوا الحدود.

وفي ٨ يونيو سنة ١٨٧٦ أرسل الباب العالي إلى أميري الصرب والجبل يطلب منهما الإفادة عن سبب جمع هذه الجيوش؛ فأجابه بأن ذلك لمنع تعدِّي قبائل الأرنئود على حدودهم وحفظ الأمن في الداخل من جهة، ولجمع الدولة جيوشها على حدود بلادهما من جهة أخرى، مع أن الدولة لم تجمع عساكرها إلا بعد أن آنست منهما العداء، ومع ذلك فاكتفت الدولة بهذا الجواب الركيك المعنى والمبنى.

ثم لما كملت استعدادت الإمارتين الحربية طلب البرنس ميلان — أمير الصرب — من الدولة أن تناط جيوشه بإخماد الثورة في البوسنة والهرسك، بما أن وجود العساكر العثمانية بهما مهدد لأمن بلاده، وطلب البرنس نقولا — أمير الجبل — أن تتنازل له الدولة عن جزء من أراضي الهرسك. ولما لم تقبل الدولة هذه الطلبات، التي لم يقدم على طلبها إلا كل عالم برفضها جاعلها سببًا للحرب المصمم عليها، اجتازت الجيوش الصربية الحدود تحت قيادة الجنرال «تشرنايف» الروسي في أوَّل يوليو سنة ١٨٧٦، وكذلك جيوش الجبل الأسود بدون أن تتعرض لهم الدول، بأن تقيم الحجة على هذا العمل العدائي، بل تربصت حتى إذا فاز أعداء الدولة عضدت الدول طلباتهم، وإن باءوا بالخسران حفظت لهم بلادهم ومنعت الدولة من مجازاتهم على تعدِّيهم بدون سبب إلا دسائس الروسيا والدول المعضدة لها.

ولنذكر هنا بكل اختصار ملخص الأعمال الحربية والوقائع العسكرية التي حصلت بين جيوش الدولة المظفرة والعساكر المصرية التي أرسلت للاشتراك معها في الحرب ومقاسمتها النصر والفخر من جهة، وعساكر الثائرين وضباطهم الروسيين من جهة أخرى، فنقول:

إن الحرب مع الجبل الأسود لم يتَّسِعْ نطاقها لوعورة جبالها، ولعدم إمكان حصول وقائع مهمة بها بين جيوش منتظمة، بل كان كل ما حصل بها عبارة عن مناوشات يكون فيها كل من الفريقين طورًا غالبًا وتارة مغلوبًا، فإنه كان يتعذر على الجيوش العثمانية اقتفاء أثر الثائرين في المفاوز الوعرة، ويستحيل على الجبليين اجتياز صفوف الجيوش المحدقة ببلادهم من كل فج؛ ولذلك فلم تعد مساعدة الجبليين بفائدة تذكر على الصرب. أما من جهة الصرب فقد أجمع المؤرخون العسكريون أن الجنرال تشرنايف ارتكب خطأً عظيمًا وإثمًا كبيرًا في عدم جمع جيوشه في النقطة الوحيدة التي تصل بلاد البوسنة والهرسك بباقي بلاد الدولة العلية؛ فيتحد مع ثائري هاتين الولايتين ويمكنه بكل سهولة الانضمام إلى عساكر الجبل الأسود، إلا أنه لم يتبع هذه الخطة التي أشار بها عليه بعض القوَّاد، بل جزَّأ قوته إلى أربع فرق أغار هو بإحداها على الطريق المؤدية إلى «صوفية» — عاصمة بلاد البلغار الآن — وكان ينسب إليه أنه يريد أن يعين واليًا مختارًا عليها، لكن ما شهده البلغاريون من بسالة رجال الدولة منعهم عن مساعدته فخاب مسعاه، وبسبب تفريق جيوشه لم يأتِ يوم عاشر يوليو إلا وقد انهزمت الفرق الأربع بهمة وشجاعة عثمان باشا الغازي وعبد الكريم باشا السردار الأكرم.

وبعد أن رُدَّتْ جيوش الثائرين على عقبها فكَّر عبد الكريم باشا في توجيه قواه لافتتاح مدينة بلغراد — عاصمة الصرب — ولذلك صمم أوَّلًا على احتلال مدينتي الكسنيناس ودليجراد الواقعتين على طريق العاصمة، وفصل الفرقة القائد لها تشرنايف عن الفرقة التي كانت معسكرة بمدينة زايتسا وتحت قيادة «لاشانين»، وحيث إن فصل هاتين الفرقتين وقطع كل اتصال بينهما لا يكون إلا باحتلال مدينة «نياشيواز» أصدر أوامره إلى أحمد أيوب باشا وسليمان خيري باشا بالتوجه نحوها من جهتين مختلفتين وفتحها بعد الانضمام إلى بعضهما؛ فصدعوا بأمره وفتحوا المدينة عنوة في يوم ٣ أغسطس بعد أن انتصروا في عدَّة وقائع مشهورة، ثم استراحت الجيوش نحو أسبوعين بدون محاربات مهمة.

ومن ٢٠ أغسطس استؤنفت الحرب ثانية بكل شدَّة، واستمرت أربعة أيام متوالية لم يمكن الجيوش المظفرة في أثنائها فتح مدينة الكسنيناس؛ ولذلك أقر رأيه بعد مشاورة من معه من القوَّاد على عدم إضاعة الوقت أمام هذه المدينة الحصينة ومدينة دليجراد، وانتقال الجيوش على ضفة نهر «موراوا» اليسرى بدون أن يشعر بهم العدوُّ، والسير نحو مدينة بلغراد توًّا. وبعد هذا القرار أمر أحمد أيوب باشا بعبور هذا النهر.

وفي أثناء هذه المناورة المهمة التي ربما كان يتوقف عليها النجاح، استمرت المناوشات مع الجيش الصربي من ٢٥ إلى ٢٩ أغسطس حتى تمَّت بدون أن يشعر العدوُّ مطلقًا بذلك إلا لما اجتازت جميع الجيوش العثمانية النهر ولم يجد أمامه أحدًا، فلما علم بإتمام هذه الحركة العسكرية المهمة عبر النهر بجيوشه خلف العثمانيين في أوَّل سبتمبر سنة ١٨٧٦ فلاقوه لقاءَ العدوِّ القادر وصوبوا إليه مدافعهم حتى أوقعوا الفشل في صفوف الصربيين، وولى كثير منهم الأدبار، وركنت آلايات برمتها إلى الفرار قبل أن يصاب منها نفر واحد.

وفي مساء هذا اليوم الذي لم يقم بعده للصرب قائمة، والذي جعل الجيوش على مقربة من بلغراد؛ إذ لم يعد يمنعها مانع عن الوصول إليها واحتلالها، وردت أوامر سرِّية من الآستانة إلى عبد الكريم باشا بتوقيف القتال وعدم الزحف على عاصمة الصرب ريثما تأتيه أوامر جديدة لتداخل الدول بين الفريقين؛ وبيان ذلك أن البرنس ميلان — أمير الصرب — طلب من قناصل الدول لديه في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٧٦ مخابرة دولهم بأن تتوسط بينه وبين الدولة العلية منعًا لسفك الدماء وخوفًا من أن يلحقه عار الغلبة؛ فأبلغت القناصل دولهم هذا الطلب وهي فاتحت الباب العالي في هذا الخصوص فلم يجبها حتى فرق عبد الكريم باشا جميع الجيوش الصربية ولم يبقَ له معارض في طريق بلغراد، فأوعز إليه سرًّا بالتوقف مؤقتًا، وأبلغ سفراء الدول في ١٤ سبتمبر سنة ١٨٧٦ أنه لا يقبل الصلح إلا بعدَّة شروط، أهمها:
  • أولًا: أن يأتي أمير الصرب إلى مقر الخلافة العظمى ليقدِّم واجبات الخضوع والعبودية إلى السدة العلية السلطانية.
  • ثانيًا: أن القلاع الأربع التي خوِّل حق احتلالها إلى الصرب في سنة ١٨٥٢م/١٢٨٣ﻫ مع بقائها تابعة للدولة تحتلها ثانيًا الجيوش العثمانية.
  • ثالثًا: أن يلغى الرديف في بلاد الصرب، وأن لا يزيد عدد الجيش الصربي عن عشرة آلاف مقاتل وبطاريتيْ مدافع لحفظ الأمن الداخلي ليس إلا.

فلما وصل هذا الجواب إلى الدول لم تقبل هذه الاقتراحات قولًا بأنها مجحفة بامتيازات الصرب إجحافًا كليًّا، وزيادة على رفضها زادت على ما اقترحته بخصوص الصرب طلبات أخرى بخصوص البوسنة والهرسك والبلغار التي أطفئت ثورتهم من مدة.

وبعد أن اتفقت جميع الدول الست الموقعة على معاهدة سنة ١٨٥٦ القاضية بالمحافظة على سلامة الدولة العلية (التي معناها في عرفهم تقسيمها) أرسل اللورد دربي — وزير خارجية إنكلترا — إلى السير هنري ليوت — سفيرها في الآستانة — رسالة بإمضائه أمره بتوصيلها إلى الباب العالي، فأوصلها إليه في ٢٥ سبتمبر المذكور مضمونها:

أن طلبات الدولة العلية لا يمكن قبولها بالكلية، وأن الدول ترغب إرجاع حالة الصرب والجبل الأسود إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وأن تمضي الدولة مع الدول الست اتفاقًا بتأسيس إدارة وطنية مستقلة في البوسنة والهرسك؛ حتى يكون للأهالي حق مراقبة أعمال مأموري الحكومة وموظفيها، وكذلك في بلاد البلغار، وإيقاف الحرب فورًا مع الصرب. وبعد أن تداول وزراء الدولة في هذه الطلبات التي لا تقبلها أي دولة فازت على عدوها بالنصر في ميادين القتال، وأهرقت دماء رجالها حفظًا لكرامتها وشرفها من تعدِّي هذا العدوِّ تخومها بدون أن تبدي الدول حراكًا، أجاب الباب العالي على هذه المذكرة السياسية بأنه لا يرى وجهًا لإعطاء هذه الولايات امتيازات إدارية بما أن مجلس المبعوثان سيشكل قريبًا ويكون فيه مندوبون منتخبون من جميع الولايات بدون استثناء، وأن الدولة لا ترى ضرورة لإبرام اتفاق جديد مع الدول لهذا الخصوص ولم تذكر شيئًا عن الهدنة مطلقًا.

ولما لم تصغ الدول لهذه الطلبات العادلة أوعز الباب العالي إلى السر عسكر عبد الكريم باشا باستمرار القتال؛ فاستدعى السر عسكر القائد درويش باشا الذي كان معسكرًا بفرقته في نيش، ولما حضرت العساكر أمر بالهجوم على مدينة «جونيس» التي جعلها الجنرال تشرنايف مقرًّا لمعسكره، فهجمت عليها الليوث الإسلامية في ٢٩ أكتوبر سنة ١٨٧٦، وبعد قتال عنيف تقهقر الصربيون وأنصارهم وأخلوا هذه المدينة ومدينة «دليجراد»، وزحفت الجيوش العثمانية محفوفة بالنصر على مدينة بلغراد عاصمة بلاد الصرب.

ولما وصل خبر هذا الفتح المبين إلى آذان ولاة الأمور في الروسيا وهو خلاف ما كانوا يتوقعونه، أرسل البرنس «غورشاكوف» إلى الجنرال أغناتيف بالآستانة — بعد أن اتفق مع باقي الدول — رسالة برقية في مساء ٣٠ أكتوبر يأمره بأن يطلب من الباب العالي إيقاف الحرب فورًا ومهادنة الصرب والجبل الأسود مدة ستة أسابيع أو شهرين، وإن لم يجب هذا الطلب في مسافة ثمانية وأربعين ساعة ينسحب هو وجميع موظفي السفارة من الآستانة؛ فقبلت الدولة هذا الطلب منعًا للعراقيل السياسية، ومنحت لمحاربيها هدنة مدة شهرين مدَّت فيما بعد إلى شهر مارس سنة ١٨٧٧.

(٣-٢) مؤتمر الآستانة

وفي ٥ أكتوبر سنة ١٨٧٦ عرض وزير خارجية إنكلترا على باقي الدول المنتحلة لنفسها حق التداخل في شئون الدولة العلية اجتماع مؤتمر في مدينة الآستانة لتسوية حالة مسيحيي الدولة بكيفية ثابتة؛ منعًا لحصول الحرب بينها وبين الروسيا التي كانت شارعة في جمع جيوشها والاستعداد للحرب، فلم تجاوب الدول على هذا الاقتراح بجواب صريح؛ لخوفها من عدم امتثال أحد الطرفين لقرارات المؤتمر فتضطر للتألب ضدَّه كما حصل في حرب القرم سنة ١٨٥٦، لكن لما رأت أن الخطر قد ازداد والحروب قربت حتى صارت قاب قوسين أو أدنى، خصوصًا وأن قيصر الروسيا ألقى في مدينة موسكو خطابًا في ١٢ نوفمبر سنة ١٨٧٦ أثنى في خلاله على شجاعة أهالي الجبل الأسود وثبات الصربيين، ولما وصل إليها منشور بتاريخ ١٣ منه من البرنس غورشاكوف مفاده أن الروسيا قد أمرت بجمع جزء من جيوشها على الحدود لحماية المسيحيين ببلاد الدولة بأي طريقة كانت بما أنها لم تَرَ نتيجة من المخابرات السياسية إلا تمكن الدولة من جمع جيوشها من جميع ولاياتها بآسيا وأفريقية، أذعنت جميع الدول لطلب إنكلترا، وأرسلت كل منها مندوبًا أو مندوبين، وأرسلت إنكلترا اللورد سالسبوري وكلفته بأن يمرَّ على باريس وبرلين وويانة ورومة عند ذهابه للآستانة ليستطلع أفكار وزرائها قبل انعقاد المؤتمر ويجري الجميع على أتمِّ وفاق.

ولما وصل المندوبون إلى الآستانة عقدوا جملة اجتماعات ابتدائية من ١١ دسمبر إلى ١٧ منه؛ لتقرير طلباتهم قبل عرضها بصفة رسمية في المؤتمر، ولم يقبلوا مندوبي الدولة العلية في هذه المداولات؛ الأمر الذي يشفُّ عن تحيزهم إلى الروسيا التي كانت هذه الاجتماعات في سفارتها؛ فقرر المندوبون أن تقسم بلاد البلغار إلى ولايتين يكون ولاتها من المسيحيين الأجانب أو التابعين للدولة، وأن الجنود العثمانية لا تحتل إلا القلاع وبعض المدن الكبيرة، وأن تشكل قوة (جندرمه) من المسيحيين يكون ضباطها بين مسيحيين ومسلمين تعينهم الدولة، وأن تشكل لجنة دولية لمدة سنة لمراقبة تنفيذ الإصلاحات المبينة في لائحة الكونت أندراسي، وأن تعطى هذه الامتيازات إلى ولايتي البوسنة والهرسك، وأن يشترط في الصلح الذي يعقد مع الصرب والجبل الأسود أن تتنازل لهما الدولة عن بعض الأراضي. وأخيرًا إذا لم تقبل الدولة هذه الاقتراحات (المستحيل قبولها) ينسحب جميع أعضاء المؤتمر من الآستانة علامة على قطع العلائق السياسية مع الدولة العلية والشروع في اتخاذ الطرق الإجبارية لإكراهها على قبول اقتراحاتها.

وفي يوم ٢٣ دسمبر سنة ١٨٧٦ اجتمع المؤتمر بصفة رسمية في سراي البحرية تحت رئاسة صفوت باشا — ناظر خارجية الدولة — وانتخب هو رئيسًا له لانعقاد المؤتمر في الآستانة، وعضوية كل من أدهم باشا سفير الدولة العلية ببرلين، والكونت «فرانسوا دي بورجوان»، والكونت «دي شودوردي» عن فرنسا، والبارون «وزر» عن ألمانيا، والكونت «كورتي» عن إيطاليا، والكونت «زيكي» من أشراف المجر، والبارون «كاليس» النمساوي عن النمسا، والجنرال «أغناتيف» عن الروسيا، واللورد «سالسبوري»، والسير «هنري ليوت» عن إنكلترا.

وفي يوم انعقاده أطلقت المدافع من جميع القلاع والمراكب إيذانًا بإعلان القانون الأساسي الذي ساوى بين جميع رعايا الدولة كما سبق ذكره في بابه. وبعد أن اجتمع عدَّة دفعات جمعت الدولة مجلسًا عامًّا من ذوات الدولة وأعيانها ورؤساء الديانات في ١٨ يناير سنة ١٨٧٧، وعرضت عليهم اقتراحات المؤتمر، فقال الكل بوجوب رفضها. ومن الغريب أن وكيل بطريرق الأرمن وحاخام اليهود كانا من أشدِّ المعارضين في قبولها، وقالا بما مؤدَّاه أن جميع أبناء طوائفهم مستعدُّون للدفاع عن شرف الدولة العلية واستقلالها استعدادَ المسلمين لذلك؛ إذ الكل صاروا عثمانيين متساوين أمام القانون طبقًا للقانون الأساسي، ثم انفض الجمع، وبلغ عدد الحاضرين نحو مائتين أجمعوا على وجوب الحرب حفظًا لشرف الدولة.

وفي يوم ٢٠ من الشهر المذكور اجتمع المؤتمر الدولي، فتلا صفوت باشا على الحضور ما قررته الجمعية العمومية في يوم ١٨ منه، ثم قال لهم: إن الدولة مستعدَّة لقبول تشكيل مجالس انتخابية في البوسنة والهرسك والبلغار يكون انتخابهم لمدَّة سنة فقط ونصف أعضائها من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، وإنها مصرَّة على رفض اللجان المختلطة كل الرفض؛ لأن ذلك يدل على عدم ثقة الدول بوعود جلالة السلطان، ومصرة أيضًا على عدم إعطاء الصرب والجبل الأسود شيئًا من أراضيها.

وبعد أن تكلم بعض الأعضاء مهددًا الدولة العلية انفضَّ المؤتمر، ثم اجتمع في مساء يوم ٢١ بدون حضور مندوبي الدولة العلية، وأمضوا مضبطة أعمال المؤتمر.

وفي ٢٣ منه سافر المندوبون والسفراء علامة على قطع العلائق بدون أن يقابلوا جلالة السلطان، وتأخر الجنرال أغناتيف قليلًا عن إخوانه بسبب الزوابع في البحر الأسود، وأخذ كل من الطرفين يستعدُّ للقتال والحرب والنزال.

(٣-٣) إخلاص المجر للدولة العلية

ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن أهالي المجر مع بقائهم أجيالًا تابعين للسلطنة العثمانية كما مرَّ كانوا أشدَّ الأمم إخلاصًا للدولة العلية، بل كان المجريون الأمة المسيحية الوحيدة التي خالج فؤادها الإخلاص والولاء للأمة العثمانية في هذا الوقت الحرج الذي كانت فيه جميع الدول المسيحية متألِّبة عليها، وما ذلك إلا لكون الدولة حمت من التجأ إليها من رؤساء الثورة المجرية سنة ١٨٤٨، وامتنعت عن تسليمهم إلى النمسا والروسيا رغمًا عن تهديداتهم، ولولا ذلك لأعدم جميع زعماء المجر، وخصوصًا الوطني الشهير «كسوت»، بخلاف الروسيا؛ فإنها ساعدت النمسا بخيلها ورجلها على إقماع الثورة وإذلال الأمة المجرية بعد أن كادت تفوز بالنجاح وتتمتع بالحرية وتنفصل عن النمسا تمامَ الانفصال كما كانت أمنيتها.

فلما ظهر عداء الروسيا للدولة العلية جهارًا أثناء انعقاد مؤتمر الآستانة تجمهر تلامذة المدارس العليا في بودابست عاصمة المجر، وتباحثوا في الكيفية التي يعربون بها عن ولائهم للدولة العلية؛ فأقروا على إرسال وفد من اثنيْ عشر تلميذًا منهم ليقدم سيفًا ثمينًا لعبد الكريم باشا قائد عموم الجيوش التركية.

فأتى الوفد إلى الآستانة في أوائل يناير سنة ١٨٧٧، وطلب مقابلة السردار الأكرم؛ فأذن لهم، ولما مثلوا أمامه فاه أحدهم بخطبة مناسبة للمقام ذكر فيها ما للدولة من الأيادي البيض على بلادهم بحمايتها زعماء حريتها، وتمنى له ولدولته العلية الفوز والنجاح على الروس أعداء الحرية ومبيديها في بلاد لهستان (بولونيا) والمجر، ثم قدم له السيف، فاقتبل عبد الكريم باشا السيف بكل ارتياح، وارتجل صفوت باشا ناظر الخارجية الذي كان حاضرًا هذه المقابلة خطابًا بليغًا أتى فيه على سابقة ارتباط الأمتين العثمانية والمجرية، وتأسَّف على إصغاء المجر للدسائس الأجنبية وانفصالها عن الدولة العلية، وقال في الختام: إن انفصال الأيالات المسيحية عنها واحدة بعد الأخرى لم يكن إلا نتيجة حسن معاملاتها للسكان المسيحيين، وعدم إجبارهم على اعتناق الدين الإسلامي، وترك دين وعوائد أجدادهم الأولين.

لما انفضَّ مؤتمر الآستانة بعد رفض الدولة والأمة لطلباته غير الحقة وانسحاب أعضائه مع جميع القناصل من الآستانة ما عدا الجنرال أغناتيف الروسي، كتب البرنس غورشاكوف إلى سفراء الروسيا لدى فرنسا وإنكلترا والنمسا وألمانيا وإيطاليا نشرة بتاريخ ٣١ يناير سنة ١٨٧٧ يشرح فيها رفض الدولة العلية لقرار المؤتمر، ويطلب منهم الاستفسار من الدول عما يرغبون إجراءه مع الدولة بعد ذلك؛ حتى يكون عملهم باتفاق قبل أن يجزِم سيده الإمبراطور بما يجب عليه اتباعه لتحسين حال المسيحيين، ويصمم على تنفيذ رغائبه بالقوَّة، وكذلك أرسل صفوت باشا إلى سفراء الدولة لدى الدول منشورًا بتاريخ ٢٥ منه أَبَانَ فيه ما أتاه أعضاء المؤتمر من عقد عدَّة جلسات ابتدائية بدون حضور مندوبي الدولة، واتفاقهم على ما يجب عرضه على الباب العالي قبل انعقاد المؤتمر بصفة رسمية، حتى كأن المجلس لم يعقد إلا لعرض طلبات متفق عليها من قبل وطلب التصديق عليها ليس إلَّا. ثم قال في ختامه: إن الدولة لا يمكنها ولن يمكنها التصديق على شيء من هذه الاقتراحات المزرية بشرفها والمحطة بقدرها أمام أمتها، وطلب منهم تسليم صور منه إلى الدول المعينين لديها، فاحتار وزراء الدول في كيفية حسم هذه النازلة أمام إصرار الدولة على عدم الرضوخ لطلباتهم، وبينما هم يضربون أخماسًا في أسداس أبرمت الدولة الصلح مع إمارة الصرب على شروط أهمها أن تخلي العساكر العثمانية بلاد الصرب فتعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب، بشرط أن لا تبني الإمارة قلاعًا جديدة، وأن يرفع عليها العلم العثماني بجوار العلم الصربي علامةً على بقاء السيادة.

أما الجبل الأسود فلم يتمَّ معه الصلح؛ لطلبه تنازل الدولة له عن بعض الأراضي، بحيث يصير له ميناء على البحر الأدرياتيكي، بل اكتفت الدولة بتجديد أَجَلِ الهدنة معه.

وفي مارس سنة ١٨٧٧ لما رأت الروسيا عدم ورود جواب إليها من الدول عما تنوي إجراءه مع الدولة، وأنها إن لم تبادر بإشعال نيران الحرب تضيع منها الفرصة بعد أن تجشَّمت المصاريف الطائلة في الاستعداد إليه؛ إذ قد تمَّ الصلح مع الصرب، وربما تصالح الباب العالي قريبًا مع الجبل الأسود؛ فتسود السكينة ولا يعود لها وجه للمداخلة، لا سيما وأن مسيحيي الدولة يصبحون عما قليل راضين عنها بسبب مساواتهم مع المسلمين بمقتضى القانون الأساسي، أرسل البرنس غورشاكوف إلى سفيره في لوندرة في ١١ مارس صورة لائحة لإطلاع الحكومة الإنكليزية عليها حتى إذا صادقت عليها عرضها على باقي سفراء الدول بلوندرة، وإذا حازت لديهم قبولًا يصير التوقيع عليها منهم وإرسالها للباب العالي للعمل بها، وإلا فتصير الدول حرة في إجراء ما يلزم لراحة رعايا الدولة المسيحيين، فصدقت عليها إنكلترا ابتداءً، ثم اجتمع جميع السفراء في ٣١ منه بنظارة الخارجية، ما عدا سفير الدولة العلية ذات الشأن (تأمل)، وأمضوا هذه اللائحة بعد تعديلها قليلًا وأرسلوها إلى الباب العالي، وهذا نصها نقلًا عن منتخبات الجوائب:

لائحة لوندرة

إن الدول التي اتفقت على إجراء الصلح في الشرق، واشتركت في مؤتمر الآستانة، تعترف أن آكد الوسائل للحصول على هذه الغاية التي وطنت نفسها عليها هو دوام الاتفاق الذي حصل بينها، ومن لوازم هذا الاتفاق تحقيق المنفعة التي قصدوها لتحسين أحوال النصارى سكان الممالك العثمانية (وفي الأصل تركية)، ولإجراء الإصلاح في بوسنة وهرسك والبلغار الذي قبله الباب العالي بشرط أنه هو الذي يجريه فعلًا، وكذلك عندها علم بإجراء الصلح مع الصرب. أما من جهة الجبل الأسود فإن الدول ترى أن تعيين الحدود وحريَّة السفر في البوجانا أمر مرغوب لإحكام الاتفاق وإدامته، كما أنها ترى أن هذا الاتفاق الذي تمَّ أو سيتم بين الباب العالي وهاتين الولايتين هو وسيلة الصلح الذي هو غاية مرامها، ولهذا تدعو الباب العالي لإحكامه وتوكيده بأن يجعل عساكره في حالة السلم، ما عدا العساكر التي لا بد منها لإبقاء الأمن والطمأنينة، وأن يسرع من دون تأخير في إجراء الإصلاح لتطمين سكان الولايتين وغيرها مما جرت المذاكرة على شروطه في المؤتمر.

وكذلك تعترف أن الباب العالي صرَّح بأنه يجري من هذه الإصلاحات ما هو الأهم، وعندها علم أيضًا باللائحة التي نشرها الباب العالي في ١٣ من فبراير (شباط) سنة ١٨٧٦، وبالإعلان الذي أصدره مدَّة انعقاد المؤتمر بواسطة سفرائه، وبناءً على هذه المقاصد الحسنة التي أبداها ومنفعته الظاهرة في إجراء الإصلاحات حالًا، قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي يستفيد من هذه الفترة الحاضرة؛ فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة والطمأنينة بأوروبا. فإذا أخذ في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز.

فمن رأي الدول والحالة هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وأعمالها في الولايات للمنوال الذي ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى ولم تحسن حال رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق وتكدر موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا تناسب مصلحتها ومصلحة أوروبا عمومًا، ففي مثل هذه الحال تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى ولإبقاء السلم عمومًا.

حرر في لوندرة في ٣١ مارس سنة ١٨٧٧
مونستر، دربي
بوست، ل. ف، مينارايا
ل. داركور، شوفالوف

وقد أتينا على ذكر هذه اللائحة؛ ليرى القارئ تعصب الدول لحماية المسيحيين بالدولة، مع أنه لو تداخلت الدولة في شئون إحداها وطلبت من فرنسا مثلًا عدم التعرض لما يمس الأمة الإسلامية بالجزائر أو مساواة المسلمين بها بالمسيحيين واليهود لشدَّدوا النكير عليها ورموها بالتعصب الديني المتصفين هم به دون غيرهم. ولكن هي القوة قضى التمدن الغربي الحديث أن تسود على كل حقٍّ تحت راية الإنسانية والمساواة، وما هي إلا ألفاظ لا معانيَ لها إلا فيما يلائم مصالحهم وما نحن بمغرورين.

ولما وصلت هذه اللائحة إلى الباب العالي وانتشر خبرها بين العموم، أيقن الكل أنْ لا بد من الحرب؛ إذ من المستحيل أن توافق عليها أيُّ دولة تغار على شرفها ووجودها بين العالم السياسي، وأصدرت الدولة منشورًا إلى سفرائها لدى الدول الست بقصد تبليغه لها، يشفُّ بعبارة صريحة عن عدم تصديقها على هذه اللائحة، وقد أتى فيه محرروه من العبارات المؤثرة الدالة على تعصب الدول ما رأينا معه ضرورة نشره برمته، وها هو نقلًا عن مجموعة الجوائب:

قد وصل إلى الباب العالي البروتوكول الذي وقع عليه في لوندرة في ٣١ مارس سنة ١٨٧٧ ناظر الخارجية بلوندرة، وسفراء ألمانيا وأوستريا وفرنسا وإيطاليا والروسيا، مع الإعلام الذي ألحق به من ناظر الخارجية المومأ إليه، ومن سفيريْ إيطاليا والروسيا. وبعد اطلاع الباب العالي على ذلك تأسَّف جدًّا على أنه رأى أن الدول العظام لم تَرَ من الواجب أن تشترك الدولة العلية في المذكرات التي تثار فيها المسائل المهمة المتعلقة بالدولة، مع أن المراعاة التي أبدتها الدولة في جميع الأحوال لنصائح الدول والتكفل الذي قرن مصالحها بمصالحهم وأصول الإنصاف التي لا نزاع فيها والتعهد الخطير الشأن، تحمل الدولة على أن تظنَّ أنه كان من اللازم أن الدول تدعوها إلى هذا العمل المراد به أن إجراء الصلح في الشرق والاتفاق العام يُبْنَيَان على أساس راسخ عادل.

وحيث جرى الأمر على خلاف المأمول رأى الباب العالي أنه من الواجب عليه أن يعارض فيه، وأن يبيِّن ما عسى أن يحدث منه في المستقبل من المحذور، ولو أن الدول أمعنت النظر فيما اعترض من الخطر، ومن تغيير الحال بعد انعقاد المؤتمر في استانبول لأمكن الوصول إلى هذا الاتفاق المروم. أما في أثناء انعقاد المؤتمر فإن الباب العالي كان معتمدًا على القانون الأساسي (وفي الأصل كونستيتوسيون) الذي تفضَّل به سلطاننا المعظم، متكفلًا بتحقيق إصلاح عام لم يعهد له نظير منذ ابتداء الدولة السلطانية، فرأى أنه من الواجب عليه أن ينكر الطلب المشط في تمييز بعض الولايات بالإصلاح دون غيرها، وينبذ أيضًا كل ما من شأنه أن يجحف باستقلال الدولة العلية وبسلامة ممالكها، وهذا عين ما أعلنته دولة إنكلترا وقبلته سائر الدول؛ فإن هذا الإعلان بني على استقلال الدولة، وعلى أن يكون في بعض الولايات تنظيمات تتكفل بمنع سوء الإدارة من قبل المأمورين وقصرهم عن التصرُّف المطلق، فهذه التنظيمات المطلوبة محققة فعلًا في المنهاج السياسي الجديد الذي أنشئ في الممالك من دون فرق في لغات أهلها ولا في مذاهبهم.

ثم عقد مجلس المشورة العثماني في الآستانة فاجتمعت فيه أعضاؤه بانتخاب جرى على وجه الاختيار والحرية، فإن كان أحد يعارض في طريقة هذا الإصلاح الذي لقرب عهده يظنُّ تأخير الثمرة المطلوبة منه، يقال له إن هذه المعارضة هي ضدُّ ما رامته الدول من الإصلاح. أما التأمين في داخل المملكة فإن الصلح استقرَّ بين الباب العالي والصرب، وما زالت المفاوضة جارية مع وفد الجبل الأسود، وفيها أظهر لهم الباب العالي مساهلة عظيمة. وفي خلال ذلك طرأ من سوء البخت أمر جديد، وهو مبالغة دولة الروسيا في تجهيز عساكرها، فأوجب ذلك على الباب العالي أن يستعدَّ لدفع الخطر عنه، مع أن أقصى مرامه أن يتشبَّث بالوسائل المؤدية إلى السلم والسلامة، وأن يوافق الدول على قدر ما يمكنه، وأن يُزيل من خواطر الناس الريب في إخلاص ما نواه من الإصلاح، وأن يستريح من الفتن التي توجب عليه بذل المال لغير طائل، فاضطراره إلى الاستعداد للدفاع والحالة هذه أوجب عليه أن يستعين بسكان الممالك على غير مراده، وأن يقدم على حرب ربما تكون سببًا في تكدير سلم جميع الأقطار والأمصار، وكان من الضروري أن الدول العظام تهتم بهذه الحال، وكان مما استصوبه الباب العالي لبعض أسباب أن لا يطلب منها طلبًا رسميًّا أن تعتني بهذه المسألة المهمة.

ولكن بعد أن بيَّن اللورد دربي والكونت شوفالوف ما بيناه عند توقيعهما على البروتوكول رأى الباب العالي لزوم مطالعة الدول في إنهاء هذه الارتباكات التي تُفضي إلى الخطر، مما ليس في طاقته إنهاؤه، فأوَّل ذلك أن يبين لها جوابًا عما قاله الكونت شوفالوف في البروتوكول هذه الملاحظات الآتية:
  • (١)

    أن الباب العالي في نهجه طريقة المصالحة مع أمير الجبل الأسود على نحو ما نهجه مع حكومة الصرب أفاد — عن طيب نفس منذ نحو شهرين — أن الدولة العلية تبذل جهدها في الاتفاق معه ولو كان في ذلك بعض خسارة عليها، وحيث إن الباب العالي يرى أن الجبل جزء من الممالك العثمانية، خيَّره في تعديل التخوم بما فيه نفع لحكومة الجبل، وطمع في أن ذلك يُنهي الخلاف في المستقبل، فصار الحصول على المأمول متعلقًا بالجبل.

  • (٢)

    أن الدولة العلية شرعت فعلًا في إجراء الإصلاحات التي وعدت بها، لكن هذا الإجراء لا يكون على وجه التخصيص والترجيح وفاقًا لما تقرر في القانون الأساسي؛ فهو في حرية الدولة أن تنهجه على الوجه المذكور.

  • (٣)

    أن الدولة مستعدة لأن تجعل عساكرها على قدم السلم عندما ترى أن دولة الروسيا فعلت مثل ذلك، وأن المراد من حشد عساكرها مجرد الدفاع، وأنها ترجو من علاقة المودة والمراعاة الحاصلة بينهما أن دولة الروسيا لا تصر وحدها على أن تظن أن رعية الدولة العلية من النصارى معرضون من طرف حكومتهم لخطر يوجب عزو بلادها وما يعقبه من الغوائل.

  • (٤)

    أما من جهة ما يحتمل حدوثه من الاختلال مما يمنع صرف عساكر الروسيا فإن الدولة العلية تجيب عن هذا الشرط الأليم الذي نشأ عن هذا الظن بأن تقول: إنه قد ثبت عند دول أوروبا أن الاختلال الذي حدث في بعض الولايات وكدَّر أحوالها إنما نشأ من إغواء المغوين من الخارج، فالدولة العلية غير مسئولة عنه ولا مطالبة به، فلا حقَّ لدولة الروسيا في أن تعلق صرف عساكرها على حدوث الاختلال.

  • (٥)

    أما إرسال مأمور مخصوص من الدولة العلية إلى سان بطرسبورج للمفاوضة في صرف العساكر، فإن الدولة لا ترى سببًا لرفض فعل يدل على المجاملة والملاطفة مما توجبه طريقة المعاملات السفارية من كلا الطرفين، لكنها لا ترى تناسبًا بين هذا الفعل وبين وضع السلاح الذي لا يجب تأخيره لأيِّ سبب كان؛ إذ يمكن إنجازه بمجرَّد خبر بالتلغراف؛ فالدولة العلية تطلب من الدول أن تتبصر فيما أوجب رقم البروتوكول وفي خطر هذه الحال الحاضرة التي لا مسئولية منها عليها.

ومن الغريب أن الدول رأت من اللزوم أن تذكر في البروتوكول أن من مصلحتها المشتركة إجراء الإصلاح في بوسنة وهرسك والبلغار، وأنه بالنظر إلى حسن مقاصد الباب العالي وإلى ظهور الفائدة له من الإصلاح تؤمل أن يبادر إلى إجرائه فعلًا في تلك الولايات من دون إمهال كما جرت عليه المذكرة في المؤتمر، وأنه متى شرع فيه أوَّل مرة يكون معلومًا عنده أن شرفه ومصلحته يقضيان بالاستمرار فيه؛ فالباب العالي لا يقبل الإصلاح المخصوص بالولايات الثلاث المذكورة، وليس عنده شك أيضًا أن مصلحته — ومن الواجب عليه — أن يقضي حقوق رعيته من النصارى قضاءً كافيًا، ولكن لا يسلم أن الإصلاح يكون مقصورًا على النصارى فقط، بل يجب أن يكون شاملًا لجميع سكان الممالك المحروسة رعية الدولة العلية المتصفين بالولاء والطاعة؛ حتى يكونوا بمنزلة جسم واحد.

وعلى هذا فالباب العالي محقوق بأن يدفع الأوهام التي تُثيرها عبارة البروتوكول من جهة إخلاص قصده ونيته نحو رعيته المسيحيين، وأن يعترض على عدم المبالاة المفهومة من فحوى هذه العبارة بباقي رعيته من المسلمين وغيرهم؛ فمن المنكر أن الإصلاح الذي من شأنه أن يشمل المسلمين بالراحة والمنفعة يكون في عيون أهل أوروبا البصيرة المنصفة مما لا يبالى به ولا يلتفت إليه؛ ولذا كان من قصد الدولة (وفي الأصل تركية) اليوم إحداث تنظيمات مخصوصة يحصل بها لجميع رعاياها التأمين على حقوقهم ومنافعهم المعنوية والمادية على التساوي، من دون فرق وتحسب من موجبات شرفها أن تحافظ على القانون الأساسي، وذلك آكد ضمان وعهد. ولكن إذا رأت نفسها مضطرة إلى دفع المقاصد المراد بها إبقاء العداوة بين رعاياها وحملهم على عدم الثقة بها لم تكن محقوقة بإيجاب ما بني عليه البروتوكول من قصد الإصلاح، كيف وقد قال إن قصد الدول أن تراقب بواسطة سفرائها بالآستانة، وعمالها في الولايات، المنوال الذي تنجز به مواعيد الدولة العثمانية، وقال أيضًا إذا كان هذا الأمل يخيب مرة أخرى فإنها (أي الدول) تستبقي لنفسها أن تتخذ بالاتفاق الوسائل التي تراها أولى وأحرى لتأمين منافع النصارى واستتباب السلم عمومًا، فهذا يوجب على الدولة العلية أن تقيم الحجة عليه وتُنكره أشد الإنكار؛ فإن الدولة من حيث كونها مستقلة لا تذعن بأن تكون تحت مراقبة الدول مفردة كانت أو مجموعة؛ لأنها لما كانت علاقتها مع الدول المتحابة مبنية على الحقوق المتعارفة بين الأمم وعلى المعاهدات لم يكن لها أن تعترف أن سفراء الدول وعمالها الذين وظيفتهم المحاماة عن مصالح رعاياهم يكون لهم حق المراقبة على وجه رسمي؛ فهذا أمر مهين لها ولم يعهد له نظير لدى سائر الدول، وهو أيضًا مناقض لما تقرر في معاهدة باريس التي اتفقت عليها الدولة العلية مع سائر الدول؛ فإنها تصرِّح بعدم المداخلة، وتتخذه أصلًا من أصول السياسة.

فلا يصح إذن إلغاء شيء منها من دون موافقة الباب العالي، فإذا كانت الدول تحتجُّ بتلك المعاهدة فليس لكونها تخولها حقوقًا ليست في حيازتها من دونها، ولكن لتذكر الدول بالأسباب الخطيرة التي حملتها منذ عشرين سنة حبًّا لبقاء السلم العام في أوروبا على أن تتعهد بحفظ حقوق سلطنة الدولة العلية عن الإنهاك. أما ما تقرر في البروتوكول من أن الدول إذا رأت الإصلاح غير منجز يكون لها أن تتشبث بالوسائط الفعالة لإنجازه؛ فإن الدولة ترى في ذلك إجحافًا بشرفها وحقوقها وتخويفًا من شأنه أن يجرِّد أفعالها التي تأتيها عن رضاء ومبادرة عمالها من الاستحقاق، وسببًا يزيد في ارتباكاتها في الحال والاستقبال. فعلى كل حال لا يعوق الدولة العلية شيء عن أن تجزم بإقامة الحجة على البروتوكول المذكور، وأن تعتبره بالنظر إلى ما يتعلق بها خاليًا من الإنصاف ومجردًا عن الأوصاف التي تجعله موجبًا، وحيث ظهر لها أن موضوعه إثارة الظنون والاتهام ونقض حقوق الدولة الذي هو نقض أيضًا لحقوق الناس عمومًا، وطنت نفسها على الدفاع صونًا لوجودها؛ فهي تعلن الآن اتكالًا على الباري تعالى واعتمادًا على العدل أنها تنكر كل ما يحكم به عليها أحد من دون مواطأتها، وجازمة بأن تحافظ على المقام الذي أقامها فيه القادر عز وجل وقدَّره لها، فلا تزال تدفع كل ما من شأنه أن يجحف بالأصول العمومية وبصحة ذلك العهد الذي أوجبته الدول على أنفسها.

ولاعتقادها بأن البروتوكول من قبيل المعدوم تراجع ضمائر الدول الذين تعتقد فيهم بقاء الصداقة والمودَّة كما كان في سالف الزمن. وفي الجملة فإن الوسيلة الوحيدة لإزالة الخطر الذي يخاف منه على السلم هي المبادرة إلى وضع السلاح، والجواب الذي صرَّحت به الدولة آنفًا عن سفير الروسيا يسهِّل للدول الحصول على هذه النتيجة. ولا شك أن الدول لا تريد أن تكلف الدولة بما يخلُّ بحقوقها ويوجب عليها الأضرار والخسائر، فأنت مكلف بقراءة اللائحة على ناظر الخارجبة وترك نسخة منها عنده. ا.ﻫ.

(٣-٤) إعلان الحرب

لم يسع الروسيا بعد رفض الباب العالي للائحة لوندرة، وتصميمه على الدفاع عن شرف الدولة، وعدم الانصياع لطلبات أوروبا المسيحية غير الحقة إلا إعلان الحرب، ولكن قبل إعلانه أمضت مع إمارة رومانيا (الأفلاق والبغدان) معاهدة سرِّية بتاريخ ١٦ أبريل سنة ١٨٧٧ وضعت رومانيا بمقتضاها جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها تحت تصرُّف الروسيا. ثم في ٢٤ منه كتب البرنس غورشاكوف إلى توفيق بك المكلف بمصالح الباب العالي في سان بطرسبورج كتابًا يقول فيه إن سيده الإمبراطور رأى نفسه مضطرًّا بكل أسف أن يعتمد على قوَّة السلاح لتنفيذ مطالبه، وكلفه بأن يخبر دولته بأن الروسيا تعتبر نفسها من هذا اليوم في حالة الحرب مع الدولة، وأن يخبره عن عدد مستخدمي السفارة ليعطي لهم جواز السفر علامة على قطع العلاقات بسبب الحرب، فأبلغ توفيق بك هذا الخطاب إلى الباب العالي، وكان المسيو نيليدوف الذي نيطت به أعمال السفارة الروسية بعد سفر الجنرال أغناتيف قد ترك الآستانة في اليوم الذي قبله؛ قطعًا للعلاقات السياسية، فكتب الباب العالي نشرة تلغرافية إلى سفرائه لدى الدول الموقعة على معاهدة باريس في سنة ١٨٥٦ بتاريخ ٢٥ أبريل يكلفهم بإخبار الدول المعنيين لديها بإعلان الروسيا بمحاربتها للدولة بدون توسط الدول طبقًا للمادة الثامنة من معاهدة باريس المذكورة التي نصها:

إذا حدث بين الباب العالي وإحدى الدول المتعاهدة خلاف خيف منه على اختلال إلفتهم وقطع سلطتهم، فمن قبل أن يعتمد الباب العالي وتلك الدولة المنازعة له على أعمال القوَّة والجبر، يقيمان الدول الأخرى الداخلة في المعاهدة وسطًا بينهما منعًا لما ينشأ عن ذلك الخلاف من الضرر.

وبعد ذلك أصدرت الدولة أوامرها إلى جميع رؤساء الجيوش بملاقاة العدِّو بما جبلت عليه العساكر الشاهانية من البسالة والثبات، وأصدر سيدنا شيخ الإسلام فتويين بتاريخ ٨ جمادى الأولى سنة ١٢٩٤ الموافق ٢١ مايو سنة ١٨٧٧ إحداهما بوجوب القتال على كل مسلم، والثانية بإضافة لفظة «غازي» على اسم جلالة السلطان في الأوامر وعلى المنابر، بناءً على ما جاء في الحديث الشريف «من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا.»

أما دول أوروبا فأظهروا جميعًا عدم المساعدة للدولة ولو أدبيًّا، وقلبوا لها ظهر المجن، بعدما أوصلوا المسألة إلى الحرب بتداخلهم غير الشرعي واقتراحهم على الباب العالي ما لا يمكنه قبوله.

وإن قال معترض مخاتل إن إنكلترا اعترضت على هذه الحرب بجواب أرسله اللورد دربي إلى اللورد أوغسطوس ليفتوس — سفير إنكلترا في عاصمة الروسيا — بتاريخ أول مايو سنة ١٨٧٧، فنقول: إن ذلك لم يكن حبًّا للدفاع عن الدولة العلية، فإنها لم تحرِّك مركبًا ولا جنديًّا لمؤازرتها، إنما كان احتجاجها خوفًا على مصالحها وعلى حرية الملاحة في بوغاز السويس من أن تعبث بها أيدي الروسيا بحجة أن مصر جزء من الدولة العلية وعساكرها متحدة مع جيوش الدولة في محاربتها، لكنها كفت عن المعارضة والتزمت الحياد كباقي الدول بمجرد ما أجابها البرنس غورشاكوف بتاريخ ٧ مايو أن الروسيا ليس من قصدها أن تحصر خليج السويس ولا أن تتعرض لمنع سير السفن فيه؛ فإنها تعتبره بمنزلة مصلحة عمومية تشترك فيها تجارة جميع الأمم، فيجب أن يبقى دائمًا سالمًا من التعرض. أما مصر فإنها جزء من الممالك العثمانية وعساكرها مختلطة بالعساكر التركية؛ ومن ثم يسوغ للروسيا أن تعتبرها محاربة لها، ومع ذلك فإن الروسيا لا تتخذها هدفًا لأعمالها الحربية لما فيها لأوروبا عمومًا وإنكلترا خصوصًا من المصالح.

الأعمال الحربية

إن ما حصل بين الجيوش العثمانية وعساكر الروسيا من الوقائع الحربية لم يزل مسطورًا في ذهن القرَّاء لقرب عهده؛ فإن جميعنا يعلم ما أتاه الغازي عثمان باشا عندما حصرته جنود الروسيا في مدينة (بلفنة) من الأعمال التي شهد له بها العدوُّ قبل الصديق، وما أتاه الغازي أحمد مختار باشا في جهات قارص وأرضروم؛ ولذلك كان يمكننا أن نضرب صفحًا عن تفصيل هذه الوقائع بدون إخلال بموضوع هذا الكتاب، لكن آثرنا تتميمًا للفائدة أن نأتي على تلخيصها بغاية الإيجاز، فنقول:

إنه قبل إعلان الحرب رسميًّا بأربع وعشرين ساعة اجتازت عساكر الروسيا خلافًا لأصول الحرب تخوم رومانيا قاصدة بلاد الدولة العلية التي يفصلها عن رومانيا نهر الدانوب؛ فاحتجت الدولة ضدَّ تحالف رومانيا مع الروسيا مع أنها لم تزل صاحبة السيادة عليها، ولكن أين المجيب والكل يد واحدة؟! ولما لم تجد الدولة من أوروبا أذنًا مصغية أرادت معاقبة رومانيا على هذه الخيانة؛ فأرسلت بعض سفنها الحربية في الطونة لإطلاق قنابلها على سواحلها، فكان هذا الجزاء حاملًا لها على التظاهر بالعدوان والمناداة بالاستقلال في ١٤ مايو سنة ١٨٧٧ والاشتراك فعلًا مع الروسيا في الحرب، وانضمام جيشها البالغ ستين ألف جندي تقريبًا إلى الجيش الروسي.

هذا؛ ومن تأمل في خريطة الدولة العلية يرى أنه يفصلها عن الروسيا ورومانيا حاجزان طبيعيان أهمُّ من الحواجز والمعاقل الصناعية وهما نهر الدانوب وجبال البلقان، فلو اجتيز الأوَّل أمكن جيوش الدولة التحصن في الثاني؛ ولذلك كانت الحرب أوَّلًا على شاطئ الدانوب وبعد عدَّة وقائع حربية ومناورات عسكرية اجتاز الجنرال «زمرمان» الطونة في ٢٢ يونيو.

وفي ٢٧ منه عبر الجيش الروسي بأجمعه النهر وقصد مدينة «ترنوة» فاحتلها، وفي أواسط يوليو احتل البارون «دي كرودر» مدينة نيكوبلي، واحتل الجنرال «جوركو» مضايق البلقان الموصلة لمضيق شيبكا الشهير، وعند وصول هذه الأخبار إلى الآستانة استولى الرعب والقلق على سكانها؛ إذ لو اجتاز الروس مضيق شيبكا لخيف على دار السعادة نفسها من الوقوع في قبضة العدوِّ لا قدر الله. ولولا وضع الآستانة في ١١ جمادى الأولى سنة ١٢٩٤ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٨٧٧) تحت الأحكام العرفية وتوقيف سير القوانين النظامية لحصل بها من الفتن والقلاقل ما يكون عونًا ومعينًا للعدوِّ على التقدم للأمام، لكن انتباه القوة الضابطة منع كل أمر مخل بالراحة. وقد نسب هذا التقهقر المستمر أمام جيوش الروسيا إلى عدم كفاءة السردار الأكرم عبد الكريم باشا وناظر الحربية رديف باشا؛ فعزلا في ٢٢ يوليو وتعين محمد علي باشا٣ قائدًا عامًّا للجيوش العثمانية، واستدعى سليمان باشا الذي كان يحارب سكان الجبل الأسود وانتصر عليهم في عدة مواقع لحضوره مع جيوشه المدربة للمساعدة على صد الروس، وعين محمود باشا داماد صهر الحضرة السلطانية ناظرًا للحربية مؤقتًا، ثم أحيل عبد الكريم باشا ورديف باشا وغيرهم من الضباط العظام، الذين نسب إليهم إهمال أو تقصير وغير ذلك مما سهل على الروس اجتياز الدانوب فجبال البلقان، وحكم على أغلبهم بالنفي إلى جهات مختلفة.
وفي أثناء ذلك أتى الغازي عثمان باشا من معسكره بمدينة «ودين» لمساعدة مدينة نيكوبلي، ولما وصله خبر سقوطها في أيدي الروس قصد مدينة «بلفنة» لأهمية موقعها الحربي ووجودها على ملتقى الطرق العمومية الموصلة بين مضايق جبال البلقان وبلغاريا الغربية والطونة، وأقام حولها المعاقل والحصون المنيعة التي جعلت الاستيلاء عليها من رابع المستحيلات، لكن لاستخفاف الروس بهذه الاستحكامات هاجموها في ٢٠ يوليو فارتدوا على أعقابهم خاسرين، ثم أعادوا الكرة عليها في ٣٠ منه بقوَّة عظيمة مؤلفة من ثلاثين أورطة من المشاة وقدرها من الخيالة ومائة وستة وثمانين مدفعًا؛ فعادوا بخفيْ حنين بعد أن خضَّبُوا الأرض بدمائهم وأفعموا الوديان بجثثهم، وحينما وصل خبر هذا الفوز المبين تلغرافيًّا إلى مسامع السلطان الشريفة أصدر في الحال فرمانًا عاليًا بإظهار الممنونية له ولجميع الجيوش المؤتمرة به تاريخه ٢٠ رجب سنة ١٢٩٤ (الموافق أول أغسطس سنة ١٨٧٧)، وهاك ترجمته:

مشيري سمير الصداقة عثمان باشا

لقد أعليت الشأن العثماني وصيت عساكرنا وناموسهم بغزوك الجديد المضاف إلى خدماتك السالفة الموسومة بشعار البسالة، فالحق تعالى ومفخر الأنبياء يعضدانك في الدارين، وسلم على كافة الأمراء والقوَّاد وعلى جنودي المنصورة بالأفراد؛ أولئك الجنود قرَّة باصرة افتخاري والمقدَّمون على أولادي، فلا جرم أنهم بغزواتهم الغضنفرية يستفزُّون سلطانهم للسرور والممنونية، والله المسئول أن ينيلهم النجاح والسعادة الأبدية، ويوفقهم في سبيل المحافظة على اللواء العثماني لمثل هذه الغزوات، ويوصلهم صوريًّا ومعنويًّا لمراتب المكافآت العاليات، وقد منحتكم النيشان العثماني مكافأة لخدمتكم، وأمرت بتوجيه الرتب وإجراء التلطيفات للأمراء والضباط كما عرضتم، وأنتم مأذونون بأن تعدوا فيما بعد الأمراء والقوَّاد وتبشروهم فورًا بالمكافآت التي يستحقونها متى امتازوا بأثر فداء خارق للعادة، وأن تعرضوا ذلك لدار السعادة، على أنه تقرر لديَّ أن يرسل لطرف حميتكم مأمور مخصوص ليبيِّن لكم جميعًا ممنونيتي وتشكري. ا.ﻫ.

واقعة بلفنة

وبعد تقهقر الروس أمام بلفنة ووصول المدد من جميع الجهات، أمكن العثمانيين الهجوم بعد الاقتصار على الدفاع، وانقسم الجيش إلى ثلاث فرق: الأولى انضمت إلى عثمان باشا في بلفنة للدفاع عنها، والثانية تحت إمرة محمد علي باشا السردار الأكرم، جعلت وجهتها محاربة الجيش القائد له البرنس إسكندر ولي عهد القيصر، والثالثة تحت إمرة سليمان باشا الذي اشتهر أولًا في محاربة ثائري البوسنة والهرسك وأخيرًا في محاربة الجبل الأسود، ووجه اهتمامه لاسترداد مضايق شيبكا من أيدي الروس. وكادت الفرقتان الأخيرتان تتم مأموريتهما فتتحد الجيوش العثمانية وتسير معًا لإرجاع الروس إلى التخوم وقهرهم على اجتياز نهر الطونة خائبين لولا خيانة دي هوهنزولرن — أمير رومانيا — ومجيئه إلى ميدان القتال بنحو مائة ألف مقاتل ملئت قلوبها غلًّا للدولة العلية صاحبة السيادة، ومجيء قيصر الروس بنفسه لتشجيع العساكر على الحرب وبث روح الثبات والإقدام فيهم. فانقلبت الحال ولم تُجد العثمانيون انتصاراتهم المتعددة على الروس حوالي بلفنة وأمام مضيق شيبكا؛ لتوارد المدد يوميًّا من الروسيا.

ثم صمم الروس على محاصرة بلفنة محاصرة أصولية؛ لتيقُّنهم من استحالة أخذها هجومًا؛ نظرًا لمناعة المعاقل والحصون التي أقامها عثمان باشا حولها، وأناطوا هذه المأمورية بالجنرال «تودلين» الذي اشتهر بالدفاع عن مدينة سباستوبول في الحرب السابقة، فجمعوا حولها العدد الكافي من العساكر والمدافع لإتمام حصارها والإحاطة بها إحاطة السوار بالمعصم. وبعد عدَّة وقائع تم حصارها في ٢٤ أكتوبر سنة ١٨٧٧، وصار وصول المدد إليها مستحيلًا، وابتدأت الأعمال للاستيلاء على الحصون الأمامية.

واستمرَّ القتال حولها ولا شيء يثني عثمان باشا وجيوشه عن الدفاع حتى نفد ما كان عنده من الذخائر والمؤن؛ فعزم على الخروج بجيوشه والمرور من وسط الأعداء فيسلموا ويسلم معهم، أو يموتوا شهداء الدفاع عن بيضة الإسلام. ولما عقد على هذا العزم استعدَّ لإنفاذه، حتى إذا كان يوم ١٠ دسمبر سنة ١٨٧٧ أخلت العساكر العثمانية جميع القلاع المحيطة بالمدينة، وخرجوا جميعًا من جهة واحدة مهللين ومكبرين؛ فقابلهم العدو بمقذوفاته الجهنمية. أما الليوث العثمانية فلم تعبأ بهم، بل استمرت في سيرها عدوًا نحو الاستحكامات التي كان أقامها الروس حول المدينة على ثلاثة خطوط متعاقبة، ونفذوا كالسيل المنهمر من أعالي الجبال الذي لا يعوقه شيء في اندفاعه على مدافع الخط الأول والثاني، وكادت تستولي على الخط الثالث وتتخلص من هذا الحصار وتفوز بالنصر المبين لولا أن أُصِيبَ قائدهم عثمان باشا الغازي برصاصة نفذت من ساقه اليسرى وقتلت حصانه؛ فسقط هذا الشجاع على الأرض، وظنت عساكره أنه استشهد، وبمجرد ما شاع خبر موته غير الحقيقي استولى الفشل على جميع الجنود وأرادت الرجوع إلى المدينة، وحيث كان قد احتلها الروس عقب خروجهم منها قابلهم بالنيران من الخلف؛ فصار العثمانيون بين نارين.

وبعد أن دافعوا عن أنفسهم دفاعًا شهد الأعداء بأنه من خوارق الأمور التزموا برفع الراية البيضاء علامة على التسليم؛ فأوقف الروس إطلاق النيران، وتقدم اللواء توفيق باشا — رئيس أركان حرب الجيش العثماني القائد له عثمان باشا — وطلب مقابلة القائد العام الروسي، ولما قابله سأله عما إذا كان معه إذن بالكتابة من عثمان باشا يُجيز له الاتفاق على التسليم، فأجابه أن عثمان باشا جريح ويود لو أتى إليه أحد قوَّاد الروس للاتفاق معه؛ فقبل القائد «جانتسكي» ذلك، وأرسل الجنرال «أستروكوف»، فتوجه هذا الجنرال إلى عثمان باشا في البيت الذي كان دخل فيه للاستراحة، وقال له بعد التحية: إن القائد الذي أرسله لا يمكنه أن يمنحه أي شرط ولا أن يقبل التسليم إلا إذا ألقى العثمانيون أسلحتهم لعدم وجود أوامر عنده من القائد العام الغراندوك نيقولا أخي القيصر.

ولما أجابه عثمان باشا بالإيجاب عاد الجنرال أستروكوف إلى مرسله وأخبره بذلك، فأتى إلى مقر عثمان باشا، وبعد أن هنأه على ما أتاه من الأعمال التي تشهد له بعلوِّ المكانة وتخلد له اسمًا في التاريخ طلب إصدار أوامره إلى جيوشه بإلقاء السلاح؛ فأمر بذلك ثم سلم سيفه.

وبعد ذلك أتى إليه بعربة فركبها قاصدًا مدينة بلفنة، وفي أثناء سيره قابله الغراندوك نيقولا ومعه البرنس شارل أمير رومانيا، فأوقف العربة وسلما عليه مصافحة. وفي صبيحة اليوم الثاني توجَّه عثمان باشا الغازي متكئًا على طبيبه الخاص إلى المحل الذي نزل به القيصر إسكندر الثاني بعد دخوله مدينة بلفنة لمقابلته، وعندما دخل على الإمبراطور قام إجلالًا له وسلَّم عليه وأظهر له إعجابه من دفاعه ومحاولته الخروج من بين صفوف المدافع المحيطة به، ثم قال له: إني أردُّ إليك سيفك علامة على احترامي لك وإكباري لشجاعتك، وأجيز لك أن تحمله في بلادي. وعند انصرافه سلم إليه الجنرال «ماجور أستين» سيفه ثم عاد إلى منزله.

وفي ١٦ دسمبر أنزل في قطار مخصوص إلى مدينة كركوف، حيث أمر بالإقامة إلى انتهاء الحرب، ولنذكر هنا إظهارًا لفضل عثمان باشا وجيوشه أن عدد من كان معه لا يزيد عن خمسين ألفًا، ولم يكن معهم من المدافع سوى ٧٧ مدفعًا مع أن الجيش الروسي الذي خصص لحصار بلفنة بلغ ١٥٠٠٠٠ جندي و٦٠٠ مدفع، ومن ذلك يظهر للقارئ شجاعة العثمانيين وثباتهم أمام العدو. ومما يؤثر عنهم أيضًا أنهم لم يسلموا أعلامهم مطلقًا، بل حرقوا بعضها ووضعوا البعض الآخر في صناديق من حديد ودفنوها في باطن الأرض، ومن قارن هذه الحادثة بحادثة مدينة «متس» التي سلمها المارشال الفرنساوي بازين٤ للعدو، مع أن جيوشه ومدافعه كانت تعادل أو تزيد عن جيوش ومدافع العدو، وسلمها مع ما فيها من الجيوش والمدافع بدون أن يسعى في الخروج كما فعل عثمان باشا، يتحقق له أنه لولا محاربة الدولة العلية البوسنة والهرسك والبلغار ثم الجبل الأسود والصرب قبل محاربتها الروسيا لفازت بلا شك ولا مرية في هذه الحرب الأخيرة، ولكن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء.

الأعمال الحربية في الأناطول

أما من جهة آسيا فكان النصر أوَّلًا في جانب العثمانيين حتى ردُّوا إغارة الروس عن بلادهم، وتبعوهم إلى داخل بلاد الروسيا؛ وذلك أن الجنرال «لويس مليكوف» حاصر مدينة قارص والجنرال «درهو جاسوف» وجَّهَ اهتمامه لفتح مدينة بايزيد، بينما كان باقي الجيش الروسي يجري عدة مناورات عسكرية لإسقاط مدينتيْ أردهان وباطوم، ثم قام الجنرال لوريس مليكوف ببعض جيوشه لمساعدة الجنرال دوفيل على أخذ أردهان.

وفي ١٧ مايو فتحاها عنوة وعادا لتشديد الحصار على قلعة قارص، وقد احتلَّ الجنرال درهو جاسوف مدينة بايزيد في ٢٠ مايو، وانتصر على العثمانيين في ١٠ يونيو. وفي ٢١ منه وفي أثناء ذلك تمكَّن أحمد مختار باشا من ترتيب الجيوش التي أتت إليه من كل فج وأغلبها غير منتظم واحتل مرتفعات «زوين» وتسمى بالتركية «كروم دوزي» بقوَّة عظيمة، وأرسل إسماعيل حقي باشا من جيش الأكراد لمهاجمة الجنرال درهو جاسوف، فأراد الجنرال لوريس مليكوف إسعافه فانتصر عليه مختار باشا انتصارًا عظيمًا في ٢٥ أغسطس سنة ١٨٧٧، لم يسع الروس بعده إلا التقهقر بغاية الفشل ورفع الحصار عن مدينة قارص قاصدين مدينة ألكسندروبول الروسية، وتقهقر كذلك الجنرال درهو جاسوف إلى تخوم الروسيا يتبعه إسماعيل حقي باشا بقوَّة عظيمة.

وبعد ذلك انتصر العثمانيون على الروس في ست وقائع مشهورة منها: واقعة كد كلر التي لما بلغ السلطان خبرها أرسل إلى أحمد مختار باشا فرمانًا بإظهار ممنونيته تاريخه ١٨ شعبان سنة ١٢٩٤، وهاك ترجمته:

مشيري سمير الحمية أحمد مختار باشا

لقد زيَّنتم مهم صحائف تاريخنا العسكري بغالبيتكم التي أحرزتموها في محاربة كدكلر. أما جنودنا الذين ما برحوا نصب أعيننا فقد أثبتوا — على الوجه الأتم في هذه الحرب التي أظهروا بها الثبات والإقدام في صورة خارقة للعادة — امتلاكهم للخصلة العثمانية، على أن مقابلتهم في جميع الوجوه للتدابير الماهرة التي أجراها العدوُّ في ميدان الحرب بحيث أسفرت نتيجتها عن اكتسابهم حربًا ذات شأن وظفر كانت برهانًا جليًّا على كمال انتظامهم العسكري، فأضحت لدينا هذه المظفريات باعثة لكمال التقدير والتحسين، فأتشكر أنا وهيئة الدولة والملة معًا منكم جميعًا، وقد أمرت بترفيع رتب الأمراء الذين شهدتم باستحقاقهم حسبما أنهيتم، وسأتوفق إن شاء الله لأن أعلِّق بيدي نياشين الظفر في صدور سائر أفراد الأمراء والضباط، وقصارى المسئول من جناب الناصر الحقيقي حضرة العادل المطلق الشاهد على صدق دعوانا الحقة في هذه الحرب الحاضرة أن يتعاهد بعد الآن أيضًا بعناية وبمدد روحانية سيدنا الرسول الأمين الذي هو العروة الوثقى في الحاجات عسكرنا بالنصر المبين في حروبهم وغزواتهم، وأن يجعلهم مسرورين بحماية العلم الإسلامي.

هذا؛ وأسلم على رفقائكم في السلاح فردًا فردًا، والحق تعالى لا يعزب عنكم نصرته البالغة الصمدانية. ا.ﻫ.

وبسبب ما ذكر اضطرب الغراندوك ميخائيل — حكمدار عموم بلاد القوقاز — وأرسل يطلب المدد والذخائر، وظلت الجيوش الروسية تدافع حتى أتت إليها عدَّة لواءات من المشاة وعدد عظيم من المدافع.

سقوط قارص

وفي أواخر شهر سبتمبر سنة ١٨٧٧ اتخذ الجنرال لوريس مليكوف خطة الهجوم ثانيًا، ولعدم إرسال جيوش جديدة إلى مختار باشا واستشهاد عدد كبير من جنوده في هذه الوقائع المستمرَّة لم يمكنه مقاومة الجيوش الروسية الجديدة التي لم يُضْنِهَا التعب، بل رجع القهقرى قاصدًا مدينة أرضروم؛ فتبعه القائد الروسي وهزمه في موقع يقال له «آلاجه طاغ»، ثم حاصر مدينة قارص ثانيًا وفتحها عنوة في ١٨ نوفمبر سنة ١٨٧٧ بعد أن حاول من بها الخروج من وسط المدافع الروسية، وغنم منها ثلاثمائة مدفع تقريبًا.

أما مختار باشا؛ فبعد أن جاء لمساعدة قارص وانتصر عليه الأعداء في موقعة «دوه بيون» في ٤ نوفمبر عاد إلى أرضروم حيث حصره العدوُّ ومنع وصول المدد إليه.

وبمجرد وصول خبر سقوط قارص في نوفمبر، وبلفنه في ١٠ دسمبر، أيقن الصربيون أن الفوز والنجاح سيكونان في جانب الروسيا، ولم يتأخروا في إعلان الحرب على الدولة صاحبة السيادة عليهم التي لم ترتكب نحوهم إثمًا إلا احترام دينهم ولغتهم، وأوصل هذا الإعلان إلى الباب العالي المسيو كريستين — سفير الصرب في الآستانة — في ١٤ دسمبر سنة ١٨٧٧؛ أعني بعد سقوط بلفنة بأربعة أيام، وسارت عساكرهم على الفور للانضمام إلى جيوش الروسيا التي بعثتهم إلى هذه الحرب؛ إذ إن البرنس ميلان لم يعلنها إلا بعد أن تقابل مع إمبراطور الروسيا، واتفق معه على ما يُعْطَى له بعد الحرب جزاءَ خيانته.

وقابل الباب العالي هذا العدوَّ الجديد مقابلة عدوٍّ منتظر من يوم لآخر.

وفي ٢٠ دسمبر سنة ١٨٧٧ أرسل الباب العالي لأهالي الصرب منشورًا يظهر لهم فيه غدر حكومتهم وخيانتها، وأنها تسوقهم إلى الدمار والبوار بدون سبب مطلقًا، ويخبرهم بأن جلالة السلطان متبوعه الأعظم قد أمر بعزله من منصب الإمارة جزاء عدم محافظته على العهود، بعد أن عفت عنه الدولة أكثر من مرة؛ فلم يعبأ البرنس بهذا العزل، بل استمر على محاربة متبوعه إلى أن انتهت الحرب، وثبت في وظيفته، وزيدت امتيازاته بمساعدة الدول، ومنح لقب ملك كما سترى.

ومن جهة أخرى فإن إمارة الجبل الأسود لم تتفق مع الباب العالي على الصلح قبل إعلان الروسيا الحرب كما ذكرنا؛ ولذلك اشترك جيشها في القتال بكيفية كانت نتيجتها تعطيل جزء ليس بقليل من عساكر الدولة في محاربته، وعدم إمكان هذا الجزء محاربة الروسيا في جهات البلقان، ومن ذلك يتضح للمطالع ما كان بين الجيشين المتحاربين من التفاوت؛ هذا تساعده رومانيا والصرب والجبل الأسود جهارًا وجميع المسيحيين التابعين للدولة العلية بأوروبا سرًّا، والدول تتمنى له النجاح والفلاح، وذلك بمفرده لا مساعد ولا صديق، وجيوشه أضناها التعب والنصب في محاربة الإمارات والولايات المسيحية التي ثارت قبل الحرب إطاعةً للدسائس الخارجية. ومع هذه المميزات فقد فازت الجيوش العثمانية أكثر من مرة، ودافعت دفاعًا اضطر العدو قبل الصديق إلى الإقرار بشجاعتها والاعتراف بثباتها، في واقعة بلفنة وغيرها، مما يعد منها ولا تعد ما يكفي لقطع لسان كل مكابر خوَّان.

ولما توالت الحوادث المذكورة طلب الباب العالي من الدول التوسط بينه وبين الروسيا لإبرام الصلح وحقن دماء العباد، وأرسل بذلك منشورًا إلى الدول الست العظام فلم يرد له جواب شافٍ، بل كانت كل منها تودُّ انكسار الدولة تمامًا قبل التداخل في الصلح حتى يمكنها التهام قطعة من أملاكها نظير توسطها.

وبعد ذلك استمر القتال في قلب الشتاء بدون انقطاع رغمًا عن تكاثر الثلج وصعوبة مرور المدافع، وبسبب سقوط مدينة بلفنة وخلوِّ الجيوش الروسية التي كانت محاصرة لها من الأشغال؛ وجهت الروسيا جميع جيوشها إلى ما وراء جبال البلقان؛ للإغارة على بلاد البلغار والرومللي الشرقية، واحتلال مدائنها الحصينة بمساعدة الجيش الصربي، فاجتاز الجنرال «جوركو» جبال البلقان ودخل مدينة صوفيا عاصمة البلقان في ٤ يناير سنة ١٨٧٨، ثم احتل مدينة فليبه في مساء ١٥ من هذا الشهر. وأخيرًا دخلت مقدمة فرقة الجنرال سكوبلف٥ مدينة أدرنة في ٢٠ منه، ومنها سار الروس نحو الآستانة وتقدموا بدون أن يجدوا معارضة تذكر إلى مسافة خمسين كيلومترًا فقط من عاصمة الخلافة العظمى.

وفي هذه الأثناء كان أهالي الجبل الأسود قد احتلُّوا مدينة أنتيباري، ووصلوا إلى ضواحي أشقودرة، ودخل الصربيون مدينة نيش؛ ولذلك لم تَرَ الدولة العلية بدًّا من طلب الصلح وقبول ما يطلبه العدو؛ لعدم قدرتها على استمرار القتال وتبديد جيوشها ووصول العدوِّ إلى ضواحي الآستانة.

وحيث قد انتهينا من ذكر الوقائع الحربية بغاية الإيجاز، فلنشرح الآن ما جرى بين الطرفين المتحاربين والدول من المخابرات السياسية، تاركين شرح تفصيلات هذه الحرب بحذافيرها إلى حضرات الضباط المصريين الأفاضل الذين رافقوا المرحوم حسن باشا وحضروا أغلب وقائعها وعلموا أسباب انتصار الروس العسكرية وغيرها. وإننا نرجو أنهم لا يعدموننا ذلك وكلهم من الفضلاء النبلاء الذين يمكنهم بيان ما لا يمكننا ذكره لعدم خبرتنا في الأمور العسكرية، ويكونون بذلك قد قاموا بخدمة عظيمة نحو الملة الإسلامية عمومًا.

أما ما تحمَّله المسلمون من أنواع الإيذاء والتعدِّي من قبل البلغاريين بمجرد سماعهم باقتراب الجيوش الروسية فمما يعجز القلم عن وصفه؛ ولذا هاجر أغلب المسلمين إلى الآستانة هربًا مما كانوا ينتظرونه ووقع فيه فريق منهم من النهب والقتل، وتركوا أملاكهم وأمتعتهم قاصدين ملجأ الخلافة الإسلامية أفواجًا، حتى غصت شوارع الآستانة بهم وأعيت الحكومة الحيلة في تقديم ما يلزم لها من الملبس والمأكل والوقود في هذا الشتاء القارس؛ ولذلك تشكلت عدَّة جمعيات لمساعتهم، فجمعت أموالًا طائلة من جميع الأهالي مع اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ولم يلبث هؤلاء المساكين أن أصيبوا بداء التيفوس فمات كثير منهم، ولولا إسراع الدولة في إبرام الصلح وتوزيعهم على ولايات الأناطول لهلكوا عن آخرهم؛ إذ إنهم كانوا يؤثرون الموت على العودة إلى بلادهم التي احتلها الروس وساد فيها المسيحيون، وكان ذلك منتهى أمل الروسيا التي كانت تودُّ مهاجرة المسلمين عن جميع الولايات المصممة على منحها الاستقلال.

المخابرات الابتدائية والهدنة

هذا؛ أما ما حصل في بلاد مقدونية وتساليا وغيرها وفي جزيرة كريد من الفتن بدسائس مملكة اليونان فلا يعتد به لقلة أهميته، ووعد قناصل الدول الثائرين بالنظر في طلباتهم عند إتمام الصلح مع الروسيا.

وفي أوائل شهر يناير سنة ١٨٧٨ عيَّن الباب العالي كلًّا من نامق باشا وسرور باشا مرخصين من طرفه لمخابرة الغراندوق نيقولا في أمر توقيف القتال، وأرفقهما بمأمورين عسكريين وهما نجيب باشا وعثمان باشا (خلاف بطل بلفنة) لما يختص بالأمور العسكرية.

وفي ١٤ يناير سافر هؤلاء المندوبون إلى قزانلق لمقابلة البرنس الروسي، فوصلوا إليها في ١٩ منه؛ لتعطيل السكك الحديدية، وبعد أن عرضوا ملخَّص مأموريتهم أجابهم أنه سيطلب الاستعلامات اللازمة من جلالة القيصر ويعطيهم الجواب النهائي في مدينة أدرنة التي دخلها الروس في ٢٠ منه كما ذكرنا. ولما وصلوا إليها في معية البرنس ابتدأت المخابرات، وفي ٢٠ منه صار التوقيع على اتفاقين أحدهما بين الغراندوق نيقولا وسرور باشا ونامق باشا؛ مفاده منح الاستقلال الإداري للبلغار، والاستقلال السياسي للمملكتين: «رومانيا» وللجبل الأسود، مع تعديل في حدودهم وإعطائهم بعض أراضٍ من أملاك الدولة، وتقرير غرامة حربية للروسيا تدفع نقدًا أو يستعاض عنها ببعض القلاع والحصون، والآخر بين نجيب باشا وعثمان باشا ومندوبين عسكريين من قبل الغراندوق يختص ببيان شروط المهادنة.

وأوقفت الحركات العدوانية من الساعة السابعة من يوم ٣١ يناير سنة ١٨٧٨، ثم أعلن الباب العالي في ٥ فبراير برفع الحصار عن سواحل الروسيا الواقعة على البحر الأسود، ثم عاد الغراندوق نيقولا إلى سان بطرسبورج عاصمة الروسيا، حيث قوبل بكل احترام وإجلال.

ولما علمت الدولة بالهدنة والاتفاق على مبادئ الصلح طلبت النمسا من إنكلترا عقد مؤتمر من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس المبرمة في سنة ١٨٥٦ ينظر في شروط الصلح خوفًا من أن يكون لها ما يجحف بحقوق الدول الأخرى، فقبلت إنكلترا هذا الطلب، واقترحت أن يكون اجتماع هذا المؤتمر في مدينة باد،٦ ثم توقفت هذه المخابرات بسبب محاولة الروسيا ورغبتها في إنهاء الصلح بدون توسط باقي الدول؛ فإنها لم تبلغ صورة هذه الاتفاقيات إلى الدولة العلية ولا باقي الدول إلا بعد إمضائها بثمانية أيام، ولم تنشر في الجريدة الرسمية إلا في ١٥ فبراير سنة ١٨٧٨.

وفي هذه الفترة اضطربت الأفكار في أوروبا، وأشيع أن العساكر الروسية قد احتلت الآستانة، ومع تكذيب هذه الإشاعة رسميًّا فقد أمرت إنكلترا دونانمتها الراسية في خليج «بزيكا» بالتوجه إلى الآستانة لحماية رعاياها، وفي الحقيقة لمراقبة حركات الروسيا ومنعها بالقوة لو أرادت احتلال الآستانة.

ولما كان الباب العالي قد أباح للدونانمة الإنكليزية المرور من بوغاز الدردنيل أثناء مخابرات أدرنة، أراد الأميرال الإنكليزي المرور بمقتضى التصريح القديم؛ فمنعه حكمدار القلعة (سلطانيه).

ولذا أرسل الأميرال إلى نظارة البحربة يخبرها بذلك، فأمرته بالمرور بالقوَّة، وكتب وزير الخارجية إلى الباب العالي يعلمه بعزمها خوفًا من الطولة وضياع الوقت في المخابرات للحصول على هذا الجواز، فجمع وزير الخارجية سرور باشا الذي أخلف صفوت باشا الوزراء الحاليين والأقدمين، وبعد مباحثة طويلة اكتفى الباب العالي بإقامة الحجة ضدَّ إنكلترا، ودخلت المراكب الإنكليزية أمام الآستانة في مياه البوسفور.

ولنذكر قبل شرح المخابرات السياسية — التي كانت نتيجتها إبرام معاهدة سان أستفانوس، ثم تعديلها بمقتضى معاهدة برلين — بعضَ ما حصل في الآستانة من الأمور الخطيرة، فنقول: إن مجلسي المبعوثان والأعيان دعيا للاجتماع للنظر في شئون الدولة؛ فاجتمعا معًا بهيئة برلمنت في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٤، وألقي عليهما خطاب عن لسان جلالة مولانا السلطان الأعظم شارح حالة الدولة وما وصلت إليه من العسر بسبب الحرب القائمة بينها وبين الروسيا، وإليك ترجمته نقلًا عن مجموعة الجوائب:

يا أيها الأعيان والمبعوثان

إنني أكتسب الممنونية بفتح المجلس العمومي وبمشاهدة مبعوثي الملة، وكما هو معلوم لديكم أنه لما أعلنت دولة الروسيا الحرب على دولتنا في العام الماضي اضطررنا للمقابلة والمدافعة، وما زالت الحرب قائمة، على أن الوقوعات العظيمة الغير المسبوقة قد أثقلت جدًّا مشكلات الحرب؛ لأن الاختلال الذي شبَّ في هرسك منذ عامين ونصف قد ظهر أيضًا في غيرها من بعض المواقع، وقسم من أهاليها المتمتعين بالمساعدات المخصوصة كالتساوي في الحقوق الشاملة كامل تبعتنا والمحافظة على ملتهم ولغتهم على الوجه الأتم سلكوا كيفما كان الحال طريقًا غير مشروعة؛ فأضرُّوا أنفسهم والوطن وإخوتهم الوطنيين وأهالي المملكتين، كذلك أعلنوا الخصومة لدولتنا بدون سبب مشروع حالة كونهم في غبطة ببقاء استقلالية إدارتهم الداخلية، ومع هذا جميعه فالبلاد غير متأخرة عن صرف أسباب المقاومة التي اضطرَّت إليها على حسب مقدرتها، وكما أن العثمانيين كافة أثبتوا بواسطة آثار الحمية التي أظهروها في هذه الحرب امتلاكهم الإحساسات الوطنية في صورة خارقة للعادة، كذلك أضحى ثبات عساكرنا وبسالتهم مستوجبين تحسين العموم وتقديرهم، ولم أزل أطلب معاونة تبعتنا وحميتهم لأجل المحافظة على حقنا المشروع.

على أن حصول استعداد الوصول لإكمال ترتيبات العساكر الملكية، وإبراز العثمانيين غير المسلمين الشوق القلبي والاشتراك الفعلي في المحافظة على الوطن هو معدود من وقوعات دولتنا السارَّة. وبما أن المساعدات التي نالتها التبعة غير المسلمة قد تقوت بكليتها بالقانون الأساسي، وأضحت متساوية أمام القانون وفي حقوق البلاد ووظائفها، فاشتراكها إذن في الخدمة العسكرية التي هي أعظم الوظائف والمدخل الموصل إلى حق المساواة صار أمرًا طبيعيًّا، فإذا كانت آثار معرفة الوظيفة المبرزة في هذا المطلب حرية بالتحسين وأضحى إدخال الأهالي غير المسلمة كذلك في سائر الصنوف العسكرية أمرًا مقررًا.

وبما أن إجراء فعل القانون الأساسي ونفوذه على الوجه الأتم، إنما هو الواسطة الوحيدة لسلامة دولتنا، كانت أكبر آمالي معطوفة؛ أوَّلًا: لاستفادة صنوف تبعتنا بالتمام من سعادة المساواة الكاملة ومن ترقيات بلادنا المدنية والعصرية. ثانيًا: للإصلاحات المالية، ولا سيما لإيفاء تعهداتنا ولتقسيم كل نوع من أنواع التكاليف والمال الأميري (ويركو) وتحصيله في صورة موافقة لقواعد الثروة منزهة عن إضرار الأهالي، ثم لتوفيق بعض مسائل الحقوق الأساسية لاحتياجات العصر لمقصد جريان العدل الكامل في المحاكم، ولإصلاح الأوقاف، ولتسهيل مطلب التصرف في الأراضي، ولترتيب النواحي الذي هو أساس الإدارة الملكية وتقرير وظائفها ولتكميل تنظيمات الضابطة. لكن وا أسفا إن الحرب الحاضرة قد عوَّقت إتمام مفاعيل مقاصدنا هذه الخالصة، على أن مصائب هذه الحرب قد تجاوزت حدودها الطبيعية؛ فكم من الأهالي غير المدافعين الذين بمقتضى القانون الحربي ليسوا بمسئولين عن شيء، وكم من النساء والصبيان أمسوا عرضة للمظالم الغادرة والدموية التي لا تتحمل سماعها المرحمة البشرية! فأؤمل والحالة ما ذكر أن الزمان المستقبل لا يمانع رؤية الحقانية.

أما قوانين اللوائح المتعلقة بترتيبات الدوائر البلدية ووظائفها في دار السعادة والولايات تلك التي تحوَّلت في العام الماضي إلى مجلسكم، فقد تقرر أمرها وصادق مجلس الأعيان والمبعوثان على نظاماتها الداخلية ووضعت في موقع الإجراء، وقد يوجد فيما بين لوائح القوانين التي هيأت شورى الدولة لوائح مهمة متعلقة بقوانين أصول حقوق المحاكمة، والانتخابات العمومية، ووظائف وكلاء الدولة ومجلسهم، وقانون الديوان العالي، وديوان المحاسبات، فقصارى ما أدعوكم لإمالة نظر اهتمامكم إليه إنما هو المذاكرة على هذه اللوائح بأفرادها، وحل بعض المسائل المختلفة المتعلقة بقوانين الولايات والمطبوعات والأموال الأميرية والإدارة العرفية اللواتي جرى عليها البحث في الاجتماع السابق، والمذاكرة كذلك على قانون ميزانية واردات ومصاريف السنة الآتية.

أما عدم تناسي دولتنا الإصلاحات الداخلية في مثل هذا الزمان المشغولة فيه بحرب عظيمة أُقيمه كدليل فعلي على نوايانا بالترقي.

يا أيها المبعوثان!

إن إيجاد الحقائق في المسائل القانونية والسياسية وتأمين منافع البلاد يتوقفان على تعاطي أرباب المشورة أفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون الأساسي يأمركم بذلك فلا أرى احتياجًا لأمر أو لترغيب آخر.

أما مناسباتنا مع الدول المتحابة فهي جارية على صورة إخلاص. هذا؛ ونسأل الحق — جلَّ وعلا — أن يجعل مساعينا مقرونة بتوفيقاته. ا.ﻫ.

وفي ١٧ ذي الحجة من السنة المذكورة قدَّم نوَّاب الأمة عريضة شكر على الخطاب السلطاني المذكور، ولبلاغته وأهمية ما جاء به من الأفكار العالية والآراء الصائبة الدالة على المحبة والإخلاص الوطني بين جميع الطوائف على اختلاف أجناسهم وأديانهم، أتينا على ترجمته، نقلًا عن مجموعة الجوائب:

نسأل المولى خير الناصرين أن يثبِّت الحضرة الملوكية على سرير العدل مع التوفيق وعلو الشأن وطول العمر وكمال الصحة والعافية، فنطق تلك الحضرة في أثناء رسم افتتاح المجلس العمومي اللازم اجتماعه في هذه السنة على حسب حكم القانون الأساسي الذي هو فرمان حرية العثمانيين وبرهان صلاحهم وسلامتهم المتلو يوم الخميس ابتداء كانون الأوَّل (الموافق ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٤) في حضور الحضرة الملوكية، صار سماعه من هيئة المبعوثان بغاية الدقة والتأمل.

ولما كان من النعم الكبرى تمثل المبعوثان في حضور الحضرة السامية وصدور الأوامر من جنابه العالي بالمحظوظية من رؤياه المبعوثان حصل لعموم تبعة العثمانيين مزيد السرور مع الفخر والشرف، ومن الوجوب المثابرة على محافظة الحقوق العثمانية المشروعة بمناسبة المحاربة التي فتحها الروس في هذه الأحوال الحاضرة، فإنها واجبة بالطبع لكل دولة وملة، ولا سيما قد اشتدت مشاكل الحرب بإعلان البغي والخصام من قسم من التبعة العثمانيين الغير المسلمين الذين هم في غاية الراحة وسعادة الحال من كل الوجوه منذ أعصار مضت، فإنهم حافظون حقوقهم ومذاهبهم وألسنتهم، ونائلون المساعدات والمساوات عمومًا على الدوام، خصوصًا أهالي المملكتين؛ فإنهم في أعلى الدرجات متميزون بامتيازات واسعة مخصوصة، وما فعلته الروسيا وأرباب البغي التابعون لها في أثناء ذلك من أنواع الغدر والمظالم المحسرة للقلوب في حق كثير من أولاد الوطن هو من الشقاوة المخالفة للحرية والحقوق الملية والقواعد الإنسانية والمدنية.

وحيث إن محافظة الدولة وحماية حقوق الملة واستكمال استقلال المملكة على ضدِّ الحالة الحاضرة موكول لعهدة الحضرة السلطانية ولازم لها على كل حال، وكانت المسألة محتاجة للدقة فوق العادة والمسارعة في التدابير العاجلة من كل نوع بلا ضياع وقت؛ نقول: إن جميع العثمانيين متحدو الأفكار في معرفة أن المبادرة في إجراء مقتضى الإرادة الملوكية التي تصدر في هذا الباب بغاية السرعة هي من الوجوب، وقد تجاسروا على بذل أرواحهم في سبيل المدافعة عن الوطن والملة في هذه الحرب زيادة عن الطاقة.

فما أبرزوه بمقتضى وظائفهم المرتبة عليهم من آثار الخدمة والغيرة قد استحسن لدى الدولة السنية، وكان ذلك موجبًا لزيادة اشتياقهم واهتمامهم أضعافًا مضاعفة؛ لأن ما بدا منهم من البسالة ضدَّ الروسيا حيَّر أفكار الجميع، وإنما علو الهمم التي يقر بها جميع العالم من كل وجه مقرون باليُمن، وهو لا يكون لو دارت على حقها التدابير السياسية والعسكرية والوسائط الإجرائية على حسب ما أبرزه مولانا المعظم وتبعته الشاهانية من كل وجه، وحيث إن تشكيل العساكر الملكية من المواد المهمة الواجبة أساسًا قد تشكر عموم تبعة الدولة العثمانية لما صدرت به الإرادة السنية في هذا الباب، وستصير المبادرة في المذاكرة في هذا الأمر إلى أن يرد قانون اللوائح المختص بكيفية استخدام صنوف سائر العسكرية من الأهالي غير المسلمين على مقتضى أحكام القانون الأساسي. فعدم كمال إجراء نفود أحكام هذا القانون والتوفيق لإبقاء الإصلاحات المهمة، كإصلاح أحوال أمور المالية وحصول سعادتها وتقسيم الويركو وتحصيله، وتنظيم المحاكم، وإصلاح الأوقاف، وتسهيل تصرفات الأراضي وتشكيلات النواحي، وانتخاب المأمورين، وتنظيمات الضبطية والوظائف التي حالت بينها الغوائل الحاضرة من الحالات التي توجب الأسف.

ومن المسلم أن حضرة مولانا المعظم لم يؤخر آثار نظر ما في الإصلاحات الداخلية مع هذه الغوائل العظمى كما هو مشاهَد من نياته الحسنة وأفكاره الخالصة، ونلتمس من الألطاف الإلهية دفع هذه الغوائل الحاضرة بعناية التوجهات الملوكية واتحاد عموم العثمانيين وإقدامهم وغيرتهم على حسب وظائفهم. ومما هو غني عن البيان أنه سيصير الاجتهاد في التدقيق والمذاكرات في القوانين واللوائح الموعود بإحالتها على هيئة المبعوثَان الموجبة لعمار الملك ورفاهية أهله والتدقيق في حل المسائل المختلفة في بعض القوانين واللوائح التي بقيت من الاجتماع السابق. وعموم الملة ناظرون إلى حضرة مولانا المعظم بنظر الاعتبار، حيث رخص في إرادته السنية بهيئة المبعوثان الترخيص التام فيما هم مأمورون به في القانون الأساسي من اتخاذ أفكارهم بالحرية التامة في المسائل القانونية والسياسية، مع تجديد المساعدة في ذلك، وهم سيشرعون في اتخاذ الأفكار بغاية الدقة والحرية التامة في الخصوصيات المتعلقة بحالنا واستقبالنا.

ومن المعلوم أن جريان المناسبات مع الدول المتحابة بصورة خالصة مما يوجب التشكر، وقد بادرت هيئة المبعوثان بأداء ما وجب عليها من إيفاء مراسم الشكر؛ ليكون في إحاطة الحضرة المعظمة الملوكية، والأمر في كل حال لحضرة سيدنا ومولانا المعظم. ا.ﻫ.

حل مجلس النواب

واستمر اجتماع مجلس النواب العثماني إلى أن قرر السلطان بالاتحاد مع جميع أعيان الدولة وجوب إرجاء اجتماعه لأجل غير محدَّد؛ لعدم ملاءمة الظروف لوجوده، وأُعلن ذلك رسميًّا إليه في يوم ١٤ فبراير سنة ١٨٧٨، وعقب فضه ضُبط كثير من أعضائه ونفوا خارج البلاد بسبب تنديدهم بأعمال الحكومة واعتراضهم على إجراءاتها، ولم يجتمع بعد ذلك إلى الآن.

أما الوزارات فتعاقبت بسرعة غريبة، مع أن الحكمة كانت تقضي بعدم تغييرها وبقاء الوزراء في مناصبهم في مثل هذه الظروف الخطيرة؛ ففي ٧ محرم سنة ١٢٩٥ عُزل أدهم باشا وعين مكانه أحمد حمدي باشا، واستُبدل أغلب النظار (الوكلاء) بغيرهم. وفي غرة صفر من السنة المذكورة؛ أي بعد ذلك بثلاثة وعشرين يومًا أُلغِي لقب الصدر الأعظم واستبدل بلقب رئيس الوكلاء، ووجه هذا المنصب إلى أحمد رفيق باشا الذي كان ناظرًا للمعارف في الوزارة السابقة.

وفي ١٥ ربيع الثاني سنة ١٢٩٥ (الموافق ١٨ أبريل سنة ١٨٧٨) ولي الصادق محمد باشا مسند رئاسة الوكلاء.

وفي ٢٧ جمادى الأولى الموافق ٣٠ مايو، ألغي لقب رئيس الوكلاء وأعيد لقب الصدر الأعظم، وأسند إلى محمد رشدي الملقب بالمترجم، الذي تقلد هذا المنصب أكثر من مرة، ولم يلبث في هذا المنصب إلا ستة أيام، وعزل في ٤ جمادى الآخرة (الموافق ٥ يونيو)، وعين مكانه صفوت باشا الذي كان وزيرًا للخارجية أثناء انعقاد مؤتمر الآستانة قبل إعلان الحرب من الروسيا، واستمر هذا الوزير متقلدًا منصب الصدارة العظمى إلى دسمبر سنة ١٨٧٨، حيث أحيل هذا المنصب إلى عهدة خير الدين باشا.

حادثة جراغان

وفي يوم ١٧ جمادى الأولى (الموافق ٢٩ مايو) حصلت بالآستانة حادثة كادت تكون سببًا لدخول عساكر الروس إليها واحتلالها عسكريًّا؛ وذلك أن شخصًا يدعى علي سعاوي أفندي، بخاري الأصل، أتى إلى الآستانة لطلب العلم، وتحصل على نصيب وافر من العلوم العربية حتى صار على جانب عظيم من الفصاحة في الإنشاد والخطابة، لكنه كان ميالًا إلى إثارة الفتن وإلقاء الدسائس؛ فنفي أَوَّلًا سنة ١٢٨٧ (١٨٦٧)، ومكث خارجًا عن البلاد تسع سنوات، ثم عاد إلى الآستانة بمسعى مدحت باشا، وعين ناظرًا على المكتب السلطاني الذي يتعلم فيه أولاد جلالة مولانا السلطان عبد الحميد، ثم عزل لعدم تحسن أحواله وتداخله في الأمور السياسية.

وبعد عزله أخذ يدبِّر في طريقة لإثارة فتنة في الآستانة لعزل السلطان عبد الحميد وإعادة السلطان مراد إلى عرش الخلافة، وانتهز لذلك فرصة اشتغال الدولة بالمخابرات السياسية واضطراب الأفكار بسبب احتلال الروس لضواحي الآستانة ووجود نحو ١٥٠٠٠٠ ألف نفس من المسلمين المهاجرين من البلاد التي وطئتها عساكر الروسيا بخيولها، ومنهم من هو غير راضٍ عن الحالة الحاضرة، واتفق مع نحوة مائتين منهم على تنفيذ ما يكنه صدره من الفتن، واجتمعوا في اليوم المذكور قبل الظهر وانقسموا إلى قسمين: القسم الأوَّل منهم قصد سراية جراغان من جهة البحر تحت رئاسة زعيم يقال له: صالح بك، والثاني تحت رئاسة علي سعاوي أفندي من جهة البر، وكانوا جميعهم متزيين بزيِّ المهاجرين، ثم اجتمع القسمان عند باب السراية وحاولوا الدخول فيها فمنعهم الحارس فقتلوه ودخلوا السراية، وصاروا يفتشون على السلطان مراد حتى عثروا عليه في حجرته، وسلمه سعاوي أفندي طبنجة.

وفي أثناء ذلك أتت فرقة من الجنود من سراي يلدز المقيم بها السلطان عبد الحميد وحاصرت الثائرين من جهة البر كما حاصرتها قوارب المراكب البحرية من جهة البحر، ولم يمضِ إلا قليل حتى قتل الجند جميع من دخل السراية من الثائرين وفي مقدِّمتهم رئيس العصابة علي سعاوي. وبعد إطفاء هذه الفتنة والقبض على من بقي حيًّا منهم نقل السلطان مراد وعائلته إلى قصر داخل ضمن سراي يلدز العامرة، وبذلك هدأت الأفكار وعادت الناس إلى فتح دكاكينهم بعد أن أغلقوها، وأمنت الدولة امتداد الفتنة ودخول عساكر الروسيا إلى الآستانة بدعوى حماية من بها من المسيحيين.

حريق الباب العالي ومخابرات الصلح

وبعد ذلك بثلاثة أيام؛ أي في يوم ٢٠ جمادى الأولى (الموافق ٢٣ مايو)، التهمت النيران جزءًا عظيمًا من الباب العالي نفسه، وأحرقت دائرة شورى الدولة وتوابعها، ودائرة الأحكام العدلية والتشريفات والداخلية وغيرها، مع جميع ما فيها من الأمتعة والفروشات والأوراق الرسمية.

ومن المظنون أن هذا الحريق لم يكن إلا بفعل أرباب الثورة؛ انتقامًا مما أصابهم من الخذلان في حادثة جراغان.

هذا؛ ولنرجع إلى مخابرات الصلح فنقول: إنه بعد إمضاء الهدنة ومقدمات الصلح في أدرنة ووصول المراكب الإنكليزية إلى مياه الآستانة خوفًا من احتلال الروس لها، طلب القائد الروسي من الدولة إدخال بعض أورط من المشاة بالآستانة، وكتب البرنس غورشاكوف بذلك إلى جميع سفراء دولته لدى الدول العظمى في ١٠ فبراير قائلًا إنه من حيث إن إنكلترا أدخلت بعض مراكبها في البوسفور لحماية رعاياها، وحذت هذا الحذو بعض الدول الأخرى، وطلبت من الباب العالي التصريح لمراكبها بالدخول؛ فالروسيا لا ترى بدًّا من إرسال جزء من جيوشها المعسكرة حول الآستانة إلى داخل المدينة لحماية جميع المسيحيين؛ فاضطربت إنكلترا لهذا البلاغ، وكتبت إلى سفيرها بسان بطرسبورج تحتج ضدَّ هذا الطلب مبينة أن لا تشابه بين إرسال السفن الإنكليزية إلى البوسفور واحتلال الآستانة عسكريًّا بواسطة الجيش الروسي، وكلفته أن يخبر حكومة الروسيا بأنها لا تسمح مطلقًا باحتلال الآستانة، وأنه لو دخلت العساكر الروسية إليها تكون مسئولة عما ينجم عن ذلك من الأخطار.

ولما وصلت هذه الرسالة إلى مسامع البرنس غورشاكوف أحجم عن مشروعه، وبعد مخابرات طويلة قال إنه لا يدخل عساكره إلى الآستانة إلا لو أنزلت إنكلترا بعض عساكرها إلى البر، وما دامت دولة الملكة لا ترغب ذلك فلا خوف على الآستانة من احتلال الروس، وبذلك انتهى هذا الإشكال، وبقيت الجنود الروسية معسكرة خارج المدينة لا تتعدَّى الحدود التي رسمت لها بمقتضى اتفاقية ٣١ يناير الماضي.

وفي أثناء ذلك ابتدأت المخابرات بين الباب العالي والغراندوك نيقولا الذي عاد من سان بطرسبورج بمدينة أدرنة للوصول إلى الصلح النهائي، وعينت الدولة كلًّا من صفوت باشا الذي أعيد في غضون ذلك إلى نظارة الخارجية وسعد الله بك سفيرها لدى إمبراطور ألمانيا ببرلين. لكن قبل وصولهما إلى أدرنة كان توجه إليها نامق باشا؛ ليطلب من الغراندوك عدم دخول الجيوش الروسية إلى الآستانة؛ خوفًا من حصول اضطراب بها يُفضي إلى الحرب بداخلها وتدميرها بما أن المسلمين لا يمكنهم رؤية الآستانة في أيديهم بدون أن يتركوا السكون ويعولوا على الدفاع عنها إلى آخر رمق من حياتهم؛ فأظهر له الغراندوك بعض الصعوبات مع علمه بالمخابرات المتداولة بين الروسيا وإنكلترا بهذا الشأن، وأخيرًا قَبِلَ عدم احتلال الآستانة بشرط أن تحتل مقدمة الجيش الروسي خط بيوك جكمجه وكوجك جكمجه من ضواحي الآستانة، وأن تنسحب العساكر العثمانية إلى ما وراء هذا الخط، وأن ينقل مركز المخابرات من مدينة أدرنة إلى قرية سان إسطفانوس الواقعة على بحر مرمرة؛ فقبلت الدولة هذين الشرطين منعًا لاحتلال الآستانة.

وفي ٢٤ فبراير سافر الغراندوك إلى هذه القرية التي علم اسمها في جميع العالم ولم تكن قبل ذلك شيئًا مذكورًا، وصحبه إليها نحو ألف جندي بصفة حرس، ولم يلبث هذا القدر أن أخذ في الازدياد بتوارد عدَّة آلايات حتى بلغ من بها نحو عشرين ألف مقاتل بدون أن يكون للدولة سبيل لمنعهم.

ثم إن المندوبَيْنِ العثمانيين أتيا إلى سان إسطفانوس، وابتدأت المداولات بينهم وبين الجنرال أغناتيف الذي انتدبته الروسيا لهذه الغاية، وبعد عدَّة اجتماعات أخبرهما المندوب الروسي بوجوب التصديق على الشروط المتقدمة منه قبل يوم ٣ مارس سنة ١٨٧٨ الموافق عيد جلالة القيصر كما هي رغبة الغراندوك، وإلا فتبطل الهدنة وتتقدم العساكر الروسية إلى الآستانة؛ ولذلك لم يتيسَّر للمندوبين العثمانيين أن يفحصا ما جاء في هذه الشروط فحصًا مدققًا؛ لضيق الوقت ولتهديد الجنرال أغناتيف لهم وقطع العلاقات وسوق العساكر عند أدنى معارضة تبدو منهما.

وفي يوم ٣ مارس جمع الغراندوك عساكره الموجودة بسان إسطفانوس للاستعراض احتفالًا بعيد الإمبراطور. ولما أتت الساعة العاشرة صباحًا ولم يأت إليه خبر إمضاء المعاهدة توجَّه إلى قاعة اجتماع المندوبين وطلب منهم التصديق عليها في هذا اليوم وإلا فتسير العساكر المنتظمة للاستعراض نحو الآستانة في مساء اليوم المذكور؛ فاضطرَّ المندوبان العثمانيان إلى التوقيع عليها بدون حصول مداولة في كثير من بنودها.

وفي الساعة الخامسة مساءً خرج الجنرال أغناتيف ومعه صورة المعاهدة ممضاة من مندوبي الدولة إلى الغراندوك، وكان واقفًا أمام الجيوش تحفُّ به أركان حربه، وسلَّمه الصورة؛ فصاح الجند صيحة الاستبشار، وأقام لهم أحد القسوس صلاة حافلة في ميدان الاستعراض، نزل في أثنائها جميع القوَّاد والضباط عن ظهور خيولهم وجثوا على الأرض هم وجميع الجنود شكرًا لله على هذا الفوز غير المنتظر.

ومن غريب ما يُحْكَى عن الجنرال أغناتيف أنه طلب في ٣ مارس المذكور أن يضاف إلى الشروط بند يقضي بأن الدولة العلية تكون ملزمة بالدفاع عن صالح الروسيا لو تشبثت الدول في عقد مؤتمر لتحوير هذا الصلح؛ فرفض المندوبان العثمانيان هذا الطلب بعد أن كتبا بذلك تلغرافيًّا إلى الباب العالي وأتاهما الجواب بالرفض، وبذلك تم الصلح. وفي مساء ذلك اليوم كتب جلالة السلطان تلغرافًا إلى القيصر يهنئه بعيده، وورد إليه الردُّ من القيصر بالشكر والثناء والدعاء باستمرار المحبة والاتحاد بين الدولتين. وهاك نص معاهدة سان إسطفانوس نقلًا عن منتخبات الجوائب:
إن حضرة قيصر الروسيا وحضرة سلطان المملكة العثمانية قد عين كل منهما مرخصين لأجل تقرير وعقد مقدِّمات الصلح؛ رغبة في تأمين بلادهما ورعاياهما من وقوع ما يخل بالراحة والأمنية فيما بعد، وطلبًا لحصول وفوائد المسالمة والراحة العمومية حالًا. فالمرخصان اللذان نصبهما القيصر أحدهما الكونت نقولا أغناتيف، وهو حائز رتبة أمير اللواء وياور القيصر ومن أعضاء المجلس الخصوصي، وعنده نيشان روسي مرصع وهو نيشان «صان علكساندر نويسكي» ونياشين أجنبية متعدِّدة، والمرخص الآخر مسيو نليدوف من قرناء الدائرة الإمبراطورية ومن أعضاء شورى الدولة، وعنده نيشان «صانت ان» من الطبقة الأولى مع السيوف المختصة به وعدَّة من النياشين الروسية والأجنبية، والمرخصان اللذان عينهما حضرة السلطان أحدهما صفوت باشا ناظر الأمور الخارجية الحامل النيشان العثماني المرصع والنيشان المجيدي كلاهما من الطبقة الأولى، والنياشين المتنوعة، والثاني سعد الله بك سفير الدولة العلية في مركز إمبراطورية ألمانيا، وهو حامل النيشان المجيدي من الطبقة الأولى والنيشان العثماني من الطبقة الثانية. فهؤلاء المرخصون من بعد أن اطلعوا على المحرَّرات الرسمية المتعلقة بكيفية ترخيصهم ووجدوها مطابقة للأصول والعادة قرروا المواد الآتي ذكرها فيما بينهم:
  • المادة الأولى: إنه بموجب الخريطة المربوطة بهذه المعاهدة وبمقتضى الشروط والوجوه الآتي ذكرها؛ تقرر تصحيح حدود ممالك الدولة العلية والجبل الأسود؛ وذلك لأجل إنهاء المنازعات والمصادمات المتتابعة الوقوع فيما بينهما؛ فالحدود تمتد من جبل «دوبر وزيجه» على الوجه الذي عينه المؤتمر الذي كان عقد في الآستانة إلى «غوريتو» «وبيلكه»، والحد الجديد يستطيل إلى (غاجقة). وعلى هذا (متوتركيا غاجقو) تبقى في تصرُّف الجبل الأسود، وتمتدُّ الحدود أيضًا من مجمع أنهر «بيوه» و«تاره» وتمر من نهر «درين» إلى جهة الشمال، وتنتهي إلى مجمع هذا النهر مع النهر المسمى «فيم».

    وأما حدود الجبل المذكور الشرقية فتبتدئ من نهر «فيم» إلى «بريرة بولره» ومن «روستراق» إلى «سوق بلانينا»، وبيهور وروستراق تبقيان داخل الجبل، فعلى ذلك يكون تخطيط الحدود هكذا؛ أعني من الجبال المتسلسلة الجامعة لروغوه و«بلاوا» و«كوزنرة» إلى شلب «باقلني»، ومن رءوس جبال «قوبر بونيق» و«باباور» و«بورور» حذاء حدود بلاط الأرناءوط إلى أعلى ذروة جبل «بروقلتي»، ومن هذه النقطة إلى كثيب «بيسقاشيق»، وينتهي الحدُّ على الخط المستقيم إلى عين الماء في «جيسني هوتي»، ويفصل فيما بين جيسني هوتي و«جيسني قاستراني» ويتجاوز ماء «أشقودرة» إلى أن ينتهي لنهر «بويانة»، وهكذا مع النهر إلى مصبه في البحر.

    وبموجب ذلك تبقى نكسيك وغاجقه وأشبوزي ويود غوريجه وزابلياق وبار ضمن الجبل المذكور، وقد يصير تعيين حدود إمارة الجبل قطعيًّا بمعرفة لجنة مركبة من بعض مأموري دول أوروبا، بشرط أن تكون وكلاء الباب العالي والجبل معهم أيضًا، فهذه اللجنة تلاحظ منافع الطرفين وأمنية البلاد الكائنة في الجهتين، ثم تشير في الخريطة إلى التعديلات التي ترى لها لزومًا وتعلم أنها هي الحق، وتوضح في ذلك ما رأته من صالح الجهتين، ثم لا يخفى أن أمر سير السفن في نهر بويانة لم يزل يجلب النزاع فيما بين الباب العالي والجبل الأسود، فلأجل قطع هذا النزاع سيصير تحرير نظام ذلك بمعرفة اللجنة المذكورة.

  • المادة الثانية: إن الباب العالي يثبت استقلال إمارة الجبل الأسود على الوجه القطعي، ثم فيما يأتي تتقرر فيما بين دولة الروسيا والدولة العلية والإمارة المذكورة كيفية المناسبات التي ستكون بين الباب العالي والجبل الأسود، وقضية تعيين وكلاء من طرف الإمارة في الآستانة والبلاد العثمانية المقتضية، ويتقرر أيضًا أمر إعادة أرباب الجنايات الذين يفرُّون من بلاد الدولة العلية إلى الجبل ومن الجبل إلى بلاد الدولة، وأمر إطاعة أهل الجبل المقيمين أو المارِّين في بلاد الدولة العلية وانقيادهم إلى نظامات ومأموري الدولة طبق الحقوق الجارية بين الدول والعادات والمعاملات القديمة التي كانت تجري بحقهم في بلاد الدولة.

    وستنعقد أيضًا مقاولة فيما بين الباب العالي والجبل الأسود لأجل توضيح وتنظيم المسائل المتعلقة بالإنشاءات العسكرية في قرب الحدود وأحوال ومناسبات الأهالي المتجاورة هناك، وإذا اختلف الباب العالي مع الجبل الأسود في بعض مسائل ولم يكن فصلها باتفاقهما، فتحكم بينهما دولتا الروسيا وأوستريا، ومن بعد هذه المعاهدات إذا وقعت مباحثة أو مصادمة فيما بين الباب العالي والجبل ما عدا المطاليب الملكية الجديدة ينبغي أن يفوِّضا أمرها إلى دولتي الروسيا وأوستريا، وهما باتفاقهما يفصلانها بينهما. وقد تقرر أنه من بعد إمضاء مقدِّمات الصلح إلى عشرة أيام يجب على عساكر الجبل الأسود أن تخرج من البلاد الغير الداخلة في ضمن الحدود المذكورة أعلاه.

  • المادة الثالثة: إن إمارة الصرب تكون مستقلة، ويكون حدها بموجب الخريطة المربوطة لهذه المعاهدة مجرى نهر «درين»، وتبقى «كوجك أزورنيق» و«سقار» في إدارة الصرب، ويمتدُّ هذا الحد إلى منبع نهر «رازوه» الكائن جوار «أستايلاق» على حسب الحدود القديمة، وتبتدئ الحدود الجديدة من هنا؛ أعني مع مجرى نهر «رازوه» إلى نهر «راسقه» ومنه إلى يكي «بازار» ومن يكي بازار يصعد الخط الفاصل ويمرُّ من جوار قريتي «مهنتره» و«أرغويج» إلى أعلى النهر المذكور حتى ينتهي إلى منبعه، ويمتدُّ إلى «بوسور بلاتينا» الكائنة في وادي «إيبار» وينزل مع الماء الجاري الذي يصب في النهر المذكور ومنه يسير مع أنهر «إيبار» و«سيديج» و«لاب» إلى منبع نهر «ياتنسه» الكائن في جبل «غراباشينجه بلانينا»، وبعدها يمر من التلال الفاصلة بين نهري «قربوه» و«ترينجة» ومن أقصر الطرق الموجودة على مصب نهر «ميو واجقه»، حتى ينتهي أيضًا إلى نهر «ويرنجه» ويسير مع هذا النهر، ويقطع ميو واجقه وبلانينا ويصل إلى جهة موراوه في قرب قرية «قاليمانس»؛ ومن هنا يسير إلى قرب قرية «إستابقوجي» ويجتمع هناك مع نهر «بلوسينه»، وهكذا مع النهر إلى موراوه، ويمتدُّ من النهر إلى جهة فوق حتى يصل إلى «قوتقاويجه»، ويقطع سوق بلانينا ويجتمع بنهر «نيساوه» ويتصل بقرية «قرونراج»، ومنها يمر من أقصر الطرق ويمتدُّ على حدود الصرب القديمة إلى جنوب شرق «قره ول بور»، وعلى هذا الخط يتصل بنهر الطونه.

    وتقرر إخلاء «أطه قلعة» وهدمها وترتيب لجنة مركبة من مأموري الدولة العلية والصرب لأجل تعيين خط الحدود على الوجه القطعي في برهة ثلاثة أشهر، ويكون ذلك بمعاونة مأمورين من طرف دولة الروسيا، وهذه اللجنة تفصل أيضًا المسائل المتعلقة بجزائر نهر «درين» وتقطعها، وحينما تبتدئ هذه اللجنة بتعيين الحدود الفاصلة بين بلاد الصرب والصقالبة ينبغي أن يكون وكيل واحد من طرف الصقالبة يشترك معهم في هذا الأمر.

  • المادة الرابعة: إن المسلمين الذين لهم أملاك في البلاد التي صار إلحاقها بالصرب إذا لم يريدوا الإقامة هناك، فلهم الخيار إن أحبوا أجروا أملاكهم وإن أحبوا أقاموا وكلاء من طرفهم لأجل حفظها واستغلالها، والمسائل المتعلقة بأموالهم الغير المنقولة تفصلها لجنة مركبة من مأموري الدولة العلية والصرب بإعانة مأمورين من طرف دولة الروسيا في ظرف سنتين، وهذه اللجنة تفصل أيضًا في برهة ثلاث سنين أمر فراغ الأملاك الميرية والموقوفة والمسائل المتعلقة ببعض الأشخاص الذين لهم علاقة ونفع في الأملاك المذكورة، وذلك يكون غبَّ انعقاد المعاهدة فيما بين الدولة العلية والصرب. والأناس المقيمون أو الذين يجولون في بلاد الدولة العلية من تبعة الصرب تكون المعاملة معهم على القواعد الكلية بمقتضى الحقوق الكائنة بين الدول، وقد تقرَّر أنه من بعد إمضاء مقدِّمات الصلح إلى خمسة عشر يومًا يجب على عساكر الصرب أن تخرج من البلاد التي ليست داخلة في ضمن الحدود المذكورة أعلاه.
  • المادة الخامسة: إن الباب العالي قد أثبت استقلال رومانيا؛ أعني المملكتين، ولها أن تطلب من الدولة العلية تضمينات الحرب، وتجري المذاكرة بهذا الشأن فيما بينهما، وعندما تنعقد المعاهدة بين الدولة العلية ورومانيا رأسًا تنال تبعة رومانيا الأمن والامتياز طبق تبعة دول أوروبا.
  • المادة السادسة: تقرَّر أن تكون البلغارستان — أعني بلاد الصقالبة — إمارة مختارة في إدارتها تدفع مبلغًا معلومًا إلى الدولة العلية، ويكون مأمورو الحكومة والعساكر الملية من المسيحيين، ويصير تعيين حدودها على الوجه القطعي بمعرفة لجنة مركبة من مأموري الدولة العلية والروسيا، وذلك قبل خروج عساكر الروسيا من الرومللي. وهذه اللجنة تبين هناك في الخريطة التعديلات التي ينبغي إجراؤها، وتلاحظ ملية أكثر الأهالي، وتوضح المنافع المحلية تطبيقًا لفنِّ تخصيص الأراضي، وتقرِّر تعيين وتبيين مقدار اتساع ملك الصقالبة في خريطة وجعلها أساسًا في قطع الحدود، وخط الحدود يبتدئ من حدود الصرب الجديدة ومن غرب «ورانثره» إلى سلسلة الجبل الأسود، ومن جهة الغرب يمرُّ من غرب «قومانوه» و«قوجاني» و«قلقان دلن» إلى جبل «قوارب»، ومن هناك يمر من نهر «وبوجيجه» إلى درينه، ويلتفت إلى جهة الجنوب إلى حدود غرب قضاء «أخرى» حتى ينتهي إلى جبل «ليناس»، ومنه يمر من غربي كوريجه وإستاوره، ويتصل بجبل «غراموس»، وكذلك يمرُّ من ماء «قاستريا» ويلتصق بنهر «موغلينجه»، ويسير مع النهر إلى «يكيجه» ويمر عن نهر «واراد يكيجه»، ومن مصب نهر «وادار» وقرية «غاليقو» إلى قراء «بارغه» و«صارى كوي».

    وهناك يمرُّ من وسط عين الماء المعبر عنه «بشيك كل» إلى مصب نهري «أستروما» و«قره صو»، ومن السواحل إلى «بوروكل»، ويمتد إلى الشمال الغربي ويمرُّ من سلسلة جبل «رودوب» إلى جبلي «جالتبه» و«أوشوه»، ويمرُّ من جبال «أشك قولاج» و«جيبليون» و«قره قولاس» «وجيقلر» إلى نهر «أرده»، ويلتفت لجهة الجنوب ويمر من قراء سوكوتلي وقره حمزه وأرنادكوي وأقارجي وإينجه إلى «تكه دره سي» في قرب «أدرنة» ومن «تكه دره سي» و«جورلي دره سي» إلى «لوله برغوسي»، ومن هنا وعن نهر «صوجق دره» إلى قرية «سوركن»، ومنها من التلال، ويقطع «حكيم طابيه سي» حتى يتصل في ساحل البحر الأسود ويبتدئ أيضًا من «منقاليه»، ويترك السواحل ويمر من شمال حدود لواء طولجي ومن فرق راسوه إلى نهر الطونة.

  • المادة السابعة: إن أمير الصقالبة يصير انتخابه من طرف الأهالي بالحرية التامة، والباب العالي يثبته بانضمام آراء الدول، ولا يجوز انتخاب أحد من أقارب دول أوروبا الجالسين على سرير الملك للإمارة المذكورة، وحينما تنحل الإمارة كذلك يكون انتخاب الأمير الجديد على هذا المنوال وهاته الشروط.

    وقد تقرر أنه ينبغي من قبل انتخاب الأمير أن يجتمع مجلس معتبري الصقالبة إما في «فلبه» وإما في «طرنوي» تحت نظارة مأمورين من طرف الروسيا وفي حضور مأمورين من طرف الدولة العلية، وتؤسس نظامات هذه الإدارة المستقلة توفيقًا لأمثالها؛ أعني لنظامات المملكتين التي تنظمت في سنة ١٨٣٠ غبَّ انعقاد مصالحة «أدرنة»، وعند تأسيس تلك النظامات ستصير وقاية حقوق ومنافع الأهالي من المسلمين والروم والأولاخ وغيرهم الموجودين والمختلطين مع الصقالبة، وتقرر أيضًا إحالة تأسيس هذه الإدارة الجديدة في البلغارستان مع ما يلزم من النظر في صور إجرائها لعهدة مأمورين موظفين من طرف دولة الروسيا من هنا إلى سنتين، وفي انقضاء السنة الأولى من تأسيس الإدارة الجديدة إذا لم يحصل اتفاق في هذا الشأن فيما بين الروسيا والباب العالي ودول أوروبا؛ يكون للدول المشار إليها حق أن يوظفوا مأمورين برفق مأموري الروسيا.

  • المادة الثامنة: ليس لعساكر الدولة العثمانية حق بعد هذا للإقامة في البلغارستان، وسيصير هدم القلاع القديمة الكائنة هناك بمعرفة الحكومة المحلية. وإن الباب العالي له حق أن يتصرَّف بالأدوات الحربية الموجودة في قلاع الطونة التي صار إخلاؤها من العساكر بموجب سند المتاركة الذي تحرر في ٣١ كانون الثاني والآلات الحربية الكائنة في مدينتيْ شمني ووارنة وجميع الأملاك المتعلقة بالحكومة العثمانية كيفما شاءت. وتبقى عساكر الروسيا في البلغارستان مقيمة إلى أن ينتهي ترتيب العساكر الملية المحلية الكافية لحفظ الراحة وتوطيد الأمنية، وإذا اقتضت الحال يقومون فعلًا بإعانة المأمورين.

    وسيصير تعيين عدد العساكر الملية بالاتفاق فيما بين الدولة العلية ودولة الروسيا، وإن مدَّة إقامة عساكر الروسيا في البلغارستان تكون سنتين والعساكر التي تبقى هناك بعد خروج جميع عساكر الروسيا من بلاد الدولة العلية تكون عبارة عن ست فرق مشاة وفرقتين خيالة، وجميعها خمسون ألفًا، ومصروف هؤلاء العساكر يكون على بلاد الصقالبة، ويكون لها طرق مراسلات في المملكتين في شطوط البحر الأسود من جهة وارنة وبرغوس، وفي مدَّة إقامتها هناك يكون لها المخازن المقتضية على الشطوط المذكورة.

  • المادة التاسعة: إن المرتب السنوي الذي يلزم على البلغارستان إيفاؤه إلى الدولة العلية يتسلم إلى البنك الذي يعينه الباب العالي، وهذا البنك يصير تعيينه بمعرفة دولة الروسيا والدولة العلية وسائر الدول، وذلك في انتهاء السنة الأولى من ابتداء إجراء أصول الإدارة الجديدة، ومقدار ذلك المرتب يتأسس بالنظر لإيراد البلاد والأراضي التي تكون في إدارة الإمارة على الحساب المتوسط، والبلغارستان تتعهد بالقيام بالتعهد الذي على الدولة العلية إلى شركة سكة الحديد في طريق وارنة وروسجق غبَّ المذاكرة مع الباب العالي وإدارة الشركة المذكورة، ومسألة سكة الحديد الأخرى الموجودة ضمن الإمارة يصير فصلها بمعرفة الدولة العلية وحكومة الصقالبة وإدارة الشركة.
  • المادة العاشرة: إن الباب العالي له حق أن ينقل ويجلب عساكر ومهمات وذخائر من الطريق المعينة في داخل البلغارستان إلى الأيالات العثمانية التي وراء البلغارستان، ولأجل عدم وقوع مشاكل في هذا الخصوص، وتأمين الإيجابات العسكرية العثمانية سيوضع نظام بالاتفاق مع الباب العالي والإمارة من ابتداء تعاطي هذه المعاهدة إلى ثلاثة أشهر في ذلك. وهذا الحق المتعلق بالمرور والعبور يختصُّ بالعساكر النظامية فقط دون الباشبوزوق والجراكس والعساكر المعاونة، والباب العالي كذلك له أن يتعاطى البوسطة عن طريق الإمارة ويستعمل مسالك التلغراف في مخابراته، فهذان الأمران كذلك يصير تعيينهما وتنظيمهما في المدَّة والشروط المحررة أعلاه.
  • المادة الحادية عشرة: إن المسلمين وغيرهم من أصحاب الأملاك إذا أرادوا الإقامة في خارج الإمارة لهم أن يحفظوا أملاكهم ويؤجروها أو يفوِّضوا أمر إدارتها إلى من يريدونه. ثم إن مأمور الدولة العلية ومأمور الصقالبة يجتمعان تحت نظارة مأمور الروسيا ويفصلون المسائل المتعلقة بتصرُّف الأملاك وفي منافع مسلمي الصقالبة، وذلك يكون في ظرف سنتين. والأملاك الميرية والموقوفة يصير تعيين أمرها إما بالبيع وإما باستعمالها على الوجه الذي يكون فيه النفع الزائد لجهة الباب العالي، ويصير تعيين ذلك بمعرفة لجان مخصوصة محدودة في السنتين المذكورتين، والأراضي التي تبقى بدون صاحب عند انقضاء السنتين يصير طرحها في المزاد وتباع ويؤخذ ثمنها ويدفع إلى أيتام وأرامل المصابين في الأحوال الأخيرة من المسلمين والمسيحيين.
  • المادة الثانية عشرة: إن القلاع الكائنة على نهر الطونة يصير هدمها جميعًا ولا يبقى من بعد هذا على سواحل الطونة قلعة ما مطلقًا، ولا يجوز وجود سفن حربية في مياه رومانيا والصرب والصقالبة سوى السفن الصغيرة والفلوكات المختصة والمستعملة في الأمور الانضباطية فقط، وحقوق ووظائف وامتيازات لجنة الطونة المختلطة تبقى بتمامها على أصلها.
  • المادة الثالثة عشرة: إن الباب العالي يتعهد بتنظيف البحر في مضيق «سنه»، وإرجاعه إلى حاله السابق ليصلح لمرور السفن منه، ويتعهد أن يضمن العطل والضرر الذي حصل للتجار بسبب منع مرور السفائن من نهر الطونة مدَّة الحرب، وسيصير خصم ٥٠٠٠٠٠ فرنك من أصل دين لجنة الطونة إلى الباب العالي لأجل هذا الأمر.
  • المادة الرابعة عشرة: إن الإصلاحات التي تبلغت إلى مرخصي الباب العالي في أوَّل جلسة مؤتمر الآستانة ينبغي حالًا وضعها في موقع الإجراء في بوسنة وهرسك مع التعديلات التي ستقرر فيما بين دولة الروسيا وأوستريا، ويجب أن لا يطلب من هاتين الأيالتين بقايا الأموال الميرية، وأن لا يؤخذ شيء من الواردات إلى ابتداء شهر مارس سنة ١٨٨٠، بل تصرف كلها في الاحتياجات المحلية ويسدُّ بها عوز الأهالي والعيال الذين أصيبوا في الأحوال الأخيرة، ومن بعد انقضاء المدَّة المذكورة يتعين المبلغ الذي يلزم على الأهالي دفعه في كل سنة إلى الحكومة المركزية بالاتفاق فيما بين الدولة العلية ودولتي الروسيا وأوستريا.
  • المادة الخامسة عشرة: يتعهد الباب العالي بإجراء أحكام النظام الأساسي الذي وضع في سنة ١٨٦٨ المختص بجزيرة كريد طبق مطلوب الأهالي الذي بينوه مقدَّمًا، ويلزم إجراء الإصلاحات المماثلة لنظامات كريد في «ترحالة» و«يانية» وفي سائر جهات الروم إيلي، التي ليس لها نظامات مخصوصة، ويصير تشكيل لجنة مركبة من الأهالي المحلية في كل أيالة لأجل ترتيب وتأليف النظامات الجديدة، ثم يصير تقديمها إلى الباب العالي، والباب العالي يتذاكر مع دولة الروسيا في ذلك.
  • المادة السادسة عشرة: إن خروج عساكر الروسيا من الأرمنستان وإرجاع تلك البلاد إلى الدولة العلية يمكن أن يُفضي إلى المناقشة والاختلاف فيما بينهما؛ فلهذا يتعهد الباب العالي حالًا بإجراء الإصلاحات على حسب الاحتياجات المحلية في الولايات التي سكانها أرمن، وتأمين المسيحيين من تعدِّي الأكراد والجراكسة.
  • المادة السابعة عشرة: إن الباب العالي سيعلن العفو العمومي عن المتهمين في الأحوال الأخيرة، ويطلق سبيل المحبوسين والمنفيين بسبب ذلك.
  • المادة الثامنة عشرة: إن الباب العالي يتعهَّد بالتبصر بعين الدقة إلى ما بينه وكلاء الدول المتوسطة في خصوص قضاء قوتور وتعيين الحدود الإيرانية على الوجه القطعي.
  • المادة التاسعة عشرة: إن مبالغ التضمينات الحربية التي طلبها حضرة قيصر الروسيا هي في مقابلة الأضرار والخسائر التي تكبدتها دولة الروسيا بسبب هذه الحرب، والباب العالي قد تعهَّد بدفعها، فمن هاته المبالغ أولًا ٩٠٠٠٠٠٠٠٠ روبل في مقابلة مصروف العساكر والأدوات الحربية والأشياء التي بليت، وثانيًا ٤٠٠٠٠٠٠٠٠ روبل لأجل الأضرار الحاصلة في سواحل بلاد الروسيا الجنوبية وفي إخراجات البضائع التجارية وفي طرق الحديد، وثالثًا ١٠٠٠٠٠٠٠٠ روبل في مقابلة الضرر الحاصل من الهجوم على قوقاس، ورابعًا ١٠٠٠٠٠٠٠ روبل لأجل الخسائر التي حصلت لتبعة الروسيا المقيمين في الممالك العثمانية ولتأسيساتها.
    فعلى ذلك تكون هذه المبالغ من حيث المجموع عبارة عن ١٤١٠٠٠٠٠٠٠ روبل (يعني ٢٤٥٢١٧٣٩١ ليرة عثمانية وريال مجيدي أبيض ونصف). هذا؛ وإن القيصر المشار إليه قد لاحظ ضيق حال الدولة العلية من جهة المال، وتأمل في مقاصدها التي نوَّهت عنها في هذا الشأن، ووافق بالقبول على أن تترك الدولة العلية الأراضي المحررة أسماؤها أدناه عوضًا عن القسم الأكثر من المبالغ المذكورة:
    • أولًا: لواء طولجي، يعني قضاء كيليا، وسنه ومحمودية وإيساقجي وطولجي وماجين وبابا طاغي وخرسوه وكوستنجه ومجيديه والجزائر الكائنة في نهر طونة، قد تركتها الدولة العلية جميعًا، إلا أن الدولة الروسية ليس لها فكر بإلحاق هاته البلاد إلى ملكها، بل إنها تحفظ حق مبادلة هذه البلاد بقطعة بساربيا التي أخذت منها بموجب معاهدة سنة ١٨٥٦، فحدود قطعة بسارابيا من جهة الجنوب طرف من أراضي كيليا ومصب نهر الطونة، والجهات التي يصطادون بها السمك في النهر يصير تفريقها بمعرفة مأمورين من طرف الروسيا ومن حكومة المملكتين في برهة سنة واحدة اعتبارًا من تاريخ تعاطي هذه المعاهدة.
    • ثانيًا: أردهان وقارص وباطوم وبايزيد مع الأراضي الحاوية عليها إلى جبل صوغاتلي سيصير تسليمها إلى دولة الروسيا، وحينئذٍ الحدود الفاصلة تكون هكذا: أعني يبتدئ الخط الفاصل من الجبال التي فيما بين المياه الجارية والمنصبة في نهري «هوبا» و«جورق»، ويمر من الجبال المتسلسلة الواقعة في جنوب قضاء وارتوين ومن جوار قريتي «والات» و«بشاكت» ومن فوق «درونيك» و«كقي» و«هوجه زار» و«بجقين طاغ»، ومن الجبال الفاصلة للمياه التي تختلط بنهريْ «تورقم» و«جورف» ومن فوق قراء «يالي» و«هين» و«لم كليسا» إلى أن ينتهي لنهر تورتم، ومن هنا يمر من سيوري طاغ ويتصل بقرية نريمان، ويلتفت إلى وجهة الجنوب حتى يصل إلى «زوين»، ومن زوين يمر من غربي طريق أردوست خراسان إلى جنوب جبل صوغانلي، ويتصل بقرية «كليجمان»، ومنها يمر من جبل «تريا» ومن قرية خمير ومن أون رست مسافه، ومن تلال «طاندور» ومن جنوب وادي بايزيد، وينتهي في الجهة الجنوبية من «قازلي كول»، وهذا المحل هو الحدُّ الفاصل قديمًا فيما بين حدود أراضي الدولة العلية وأراضي دولة إيران.

      وإن الأراضي التي صار إلحاقها بممالك الروسيا ومذكورة في الخريطة المربوطة لهذه المعاهدة يصير تعيين حدودها قطعيًّا، بمعرفة مأمور من طرف الروسيا، ومأمور من طرف الدولة العلية، وهما يلاحظان قواعد تخطيط الأراضي وقضية تأمين حسن إدارة القضوات.

    • ثالثًا: إن الأراضي التي صار تركها لدولة الروسيا كما هو محرر أعلاه قد اعتبرت بمبلغ ١١١٠٠٠٠٠٠٠ روبل. وأما الباقي من التضمينات وهو ٣٠٠٠٠٠٠٠٠ روبل ما عدا ١٠٠٠٠٠٠٠ روبل، التي هي مقابلة خسائر تبعة الروسيا وتأسيساتها، ستتفق دولة الروسيا مع الدولة العلية على قضية دفعها وتأمين إيفائها.
    • رابعًا: إن عشرة الملايين روبل التي تخصصت لتبعة الروسيا ومؤسساتها يصير تسويتها هكذا: أعني أن سفارة الروسيا في الآستانة تُجري التدقيقات اللازمة بهذا الشأن على مستدعيات أرباب العلاقة، وتعرض الكيفية إلى الباب العالي، والباب العالي يجري التسوية على مقتضى عرض السفارة.
  • المادة العشرون: إن الباب العالي يتعهَّد بأن يستعمل التدابير المؤثرة سريعًا في خصم الدعاوى المنازع فيها منذ سنين عديدة المتعلقة بتبعة الروسيا، وأنه إذا اقتضى الأمر يدفع تضمينات وينفذ أحكام الإعلامات.
  • المادة الحادية والعشرون: إن أهالي البلاد التي تسلمت إلى الروسيا إن أرادوا الهجرة منها لهم أن يبيعوا أملاكهم وأراضيهم ويهاجروا، وقد أُعطي لهم مهلة في ذلك ثلاث سنين من تاريخ تعاطي هاته المعاهدة، فالذين لا يبيعون أملاكهم في هذه المدَّة ولا يهاجرون يدخلون في حكم الروسيا عند انقضاء تلك المدة، والأملاك الميرية والموقوفة يصير بيعها على حسب الأصول التي يعينها مأمور الروسيا ومأمور الدولة العلية في بحر السنين المذكورة، وهما يتمِّمَان أيضًا كيفية نقل الأدوات الحربية الموجودة في المحلات التي هي الآن في يد الروس، سواء كانت من البلاد التي سُلِّمَتْ إلى دولة الروسيا أو غيرها.
  • المادة الثانية والعشرون: إن القسيسين والزوَّار الذين يسكنون أو يسيحون في الممالك العثمانية في الروم إيلي والأناطول من تبعة الروسيا سينالون الحقوق والامتيازات التي ينالها القسيسون والزوَّار من تبعة سائر الدول سوية، وسفارة الروسيا الكائنة في الآستانة وقناصلها يحمون حقوق الأشخاص المذكورة وذواتهم ومؤسساتهم والرهبان وغيرهم الموجودين في الأماكن المقدسة، وبالخصوص في «إينوروز»؛ فهم حائزون حقوقهم التي كانوا حائزين عليها في السابق ويحفظون الديورة الثلاثة الكائنة في (إينوروز) مع مشتملاتها المتعلقة بهم كسائر الديورة والمؤسسات المذهبية الكائنة لغيرهم هناك سوية.
  • المادة الثالثة والعشرون: إن المعاهدات والمقاولات التي كانت موجودة فيما بين الدولة العلية والروسيا، المتعلقة بالتجارة والمحاكمة، وبتبعة الروسيا المقيمين في الدولة العلية، وتعطلت أحكامها بسبب هذه الحرب؛ ينبغي أن تجري أحكامها كما في السابق. وإن دولتي الروسيا والعثمانية قد أعادوا المناسبات التي كانت قبل هذه الحرب في الأمور التجارية وغيرها بمقتضى أحكام المعاهدات والمقاولات المذكورة، ما عدا المواد التي نسختها هاته المعاهدة.
  • المادة الرابعة والعشرون: إن خليج الآستانة وخليج جناق قلعة — سواء كان في زمن الحرب أو زمن الصلح — يكون مفتوحًا للسفن التجارية التي تريد المرور منه إلى بلاد الروسيا من الدول التي تكون على الحياد، والباب العالي ليس له من بعد هذا أن يضع الحصر الغير المؤثر على الشطوط الموجودة فيما بين البحر الأسود وبحر الآزاق والمخالف لمضمون معاهدة باريس التي صار إمضاؤها في ٤ أبريل سنة ١٨٥٦.
  • المادة الخامسة والعشرون: إن عساكر الروس يخرجون من بلاد الدولة العلية الكائنة في أوروبا (الروم إيلي) ما عدا البلغارستان، وذلك من تاريخ انعقاد الصلح القطعي إلى ثلاثة أشهر. هذا؛ وإن العساكر المذكورة لهم أن يأتوا الأساكل الموجودة في البحر الأسود وبحر مرمرة عند السفر للركوب في السفائن التي تُحضرها أو تستأجرها دولة الروسيا؛ حتى لا يكونوا مُجْبَرين على تمديد مدة الإقامة في الممالك العثمانية وفي رومانيا. وأما خروج عساكر الروسيا من الأناطول فيكون بعد انعقاد الصلح القطعي بستة أشهر، ولهم أن يأتوا إلى طرابزون لأجل الركوب في السفن، ومن هناك يسافرون إلى القريم أو القوقاس.
  • المادة السادسة والعشرون: إن أصول الإدارة والأوامر التي وضعتها دولة الروسيا في البلاد التي دخلتها عساكرها، والتي ينبغي تسليمها إلى الدولة العلية بموجب هاته المعاهدة، تكون باقية وجارية إلى حين توجه العساكر منها، وليس للباب العالي المشاركة في الأحكام ولا للعساكر العثمانية الدخول إليها قبل ذلك. بناءً على هذا فإن أمير عساكر الروسيا يخبر الضابط الذي يعينه الباب العالي عن سفر عساكر الروسيا، وليس للباب العالي أن يجري الأحكام من قبل أن تُسَلَّم له القلاع والأيالات.
  • المادة السابعة والعشرون: إن الباب العالي لا يجازي أحدًا بسوء من تبعته الذين دخلوا في المناسبات مع دولة الروسية في زمن الحرب، وليس لمأموري الدولة العلية أن تمنع أو توقف أحدًا من الأهالي الذين يرغبون أن يسافروا مع العساكر.
  • المادة الثامنة والعشرون: إن أسرى الحرب يصير إرجاعهم تحت نظارة مأمورين مرتبين من طرف الدولتين، وذلك عقب تعاطي مقدمات الصلح، وهؤلاء المأمورون يسافرون إلى أودسه وسيواستابول. وأما مصروف أسرى العساكر العثمانية فتدفعه الدولة العلية في ظرف ست سنوات على ثمانية عشر قسطًا بموجب الدفتر الذي يحرره المأمورون المذكورون. وأما قضية مبادلة الأسرى فيما بين حكومتي رومانيا والصرب وإمارة الجبل الأسود فيصير إجراؤها على هذا الأساس، إلا أنه يصير تنزيل العدد الذي تسلمه الدولة العلية من العدد الذي تسلمته من الأسرى.
  • المادة التاسعة والعشرون: إن حضرة إمبراطور الروسيا والحضرة السلطانية سيثبتون هذه المعاهدة، ووثائق التثبيت تكون معاطاتها في سان بطرسبورج بظرف خمسة عشر يومًا، أو بوجه أسرع من ذلك إن أمكن. وكذلك يجري التصديق رسمًا على الشروط المذكورة في هذه المعاهدة على حسب الأصول الجارية في المعاهدات الصلحية. وإن الدولتين المتعاهدتين من تاريخ تعاطي المعاهدة يعدُّون أنفسهم رسمًا بأنهم متعهدون بأن مرخصي الطرفين قد أمضوا هذه المعاهدة كما يأتي تصديقًا لمضمونها. حرر في أياستفانوس في ١٩ شباط الرومي و٣ آذار (مارس) الإفرنجي سنة ١٨٧٨.
محل الإمضاء
كونت أغناتيف، صفوت، نليدوف، سعد الله

إن معاهدة مقدمة الصلح التي صار إمضاؤها في هذا اليوم؛ أعني ١٩ شباط و٣ آذار سنة ١٨٧٨ قد حصل سهوٌ بها في الجملة الأخيرة من المادة الحادية عشرة؛ فلذلك زيدت العبارة الآتية، واعتُبِرت جزءًا متممًا للمعاهدة المذكورة، وهي «إن الذين يقيمون أو يسيحون في الممالك العثمانية من أهالي البلغارستان يكونون تابعين للقوانين العثمانية.»

أياستفانوس في ١٩ شباط و٣ آذار سنة ١٨٧٨
صفوت، أغناتيف، سعد الله، نليدوف

ومن تأمل إلى خريطة الدولة العلية يتَّضِح له أن الروسيا قد محت تركية أوروبا بأجمعها تقريبًا من العالم السياسي، ولم يبقَ للدولة بها إلا أربع قطع صغيرة لا اتصال بين ثلاثة منها إلا بطريق البحر، ولا بين الثالثة والرابعة إلا بطريق ضيقة تمر بين أراضي الصرب والجبل الأسود، ولا يزيد اتساعها في بعض المواضع عن خمسة كيلومترات، بحيث يتيسر لإحدى الإمارتين منع الجيوش العثمانية من المرور وقطع الطريق عليها كلية؛ والقطعة الأولى هي مدينة الآستانة وضواحيها، والثانية مدينة سلانيك والبحيث جزيرة القريبة منها، والثالثة مكونة من بلاد أبيروس وجزء من بلاد الأرنئود، والرابعة من إقليمي البوسنة والهرسك، وما بقي من أملاكها أعطي منه جزء للصرب وآخر للجبل الأسود وشكل الباقي بصفة إمارة مستقلة إداريًّا تسمى إمارة بلغاريا تمتدُّ من الطونة إلى البحر الأسود شرقًا وبحر الأرخبيل جنوبًا، وتحيط بمدينة الآستانة من جميع جهاتها البرية. وزد على ذلك ما اشترط من احتلال الجنود الروسية لبلاد بلغاريا مدَّة سنتين لاستتباب الأمن بها.

أما في آسيا، فأخذت قلاع قارص وباطوم وبايزيد إلى حدود أرضروم تقريبًا.

واعترف الباب العالي ضمن هذه المعاهدة باستقلال كل من الصرب والجبل الأسود ورومانيا استقلالًا سياسيًّا تامًّا، وبالتنازل لمملكة رومانيا عن إقليم الدبروجه مقابل سلخ إقليم بساربيا من رومانيا وضمها إلى الروسيا لتنظيم حدودها؛ حتى يكون كل من نهري البروث والطونة من ابتداء اتحاد البروث معه إلى البحر الأسود فاصلًا بين رومانيا والروسيا. ولم يراعَ في هذه التقسيمات صالح الأمم المراد سلخها عن الدولة ولا حدودها، بل أضافوا إلى إمارة البلغار بلادًا كثيرة أغلب سكانها من الأروام والصرب، وإلى الصرب والجبل الأسود بلادًا بها كثير من الأرنئود المسيحيين والمسلمين؛ ولذلك كان كل من هذه الأمم غير راضٍ عن هذه المعاهدة التي لم يراعَ فيها إلا صالح سياسة الروسيا، وحرروا عدَّة مكاتبات موقع عليها من كثير من أعيانهم وأرسلوها إلى سفراء الدول طالبين النظر في هذه المعاهدة وصون حقوقهم، وكذلك كان الرأي العام الأوروبي ناقمًا على الروسيا لوجود إمارة البلغار المراد إنشاؤها محيطة بالآستانة من كل جهة مع أنها عبارة عن ولاية روسية، خصوصًا وأن جيوشها ستحتلها مدَّة سنتين، وهيهات إن أخلتها بعد هذا الميعاد.

أما إنكلترا فكانت أكثر الدول تخوُّفًا من نتائج هذه المعاهدة؛ لوجود عساكر الروسيا على مقربة من بوغاز البوسفور؛ وخوفًا من ازدياد نفوذ الروسيا في الهند بعد ظهورها على الدولة العلية.

ولذا كانت أشدَّ معارضةً من غيرها في معاهدة سان إسطفانوس، وتودُّ تعديلها رغمًا عن الروسيا؛ لتظهر أمام الهنود بمظهر القوَّة والبأس ونفوذ الكلمة في أوروبا، بما أن سلطتها على بلاد الهند مبنية على الوهم أكثر من قوَّة السلاح، ومعارضة النمسا سببها رغبتها في مشاركة الروسيا في بقايا دولة الإسلام بأوروبا باحتلالها إقليمي البوسنة والهرسك؛ ليكون لها بذلك سبيل في المستقبل إلى الاستيلاء على ميناء سلانيك الضرورية لعدم وجود موانئ بحرية لمملكتها سوى مدينة «تريسته»، التي تدعي إيطاليا أحقيتها فيها وتطمح أنظارها إلى احتلالها يومًا ما.

أما ألمانيا فكانت مساعدة أدبيًّا للروسيا، ويقال إنها عرضت على النمسا احتلال البوسنة والهرسك برضا الروسيا، لكنها رفضت هذا الاحتلال ما لم يكن بقبول جميع الدول؛ إذ إنها كانت ترى احتلالها لهما بدون رضا الباب العالي وباقي الدول يسبِّب لها عراقيل كثيرة في المستقبل، وكانت فرنسا على الحياد المطلق؛ لقرب انخذالها في حرب البروسيا وميلها إلى السكون لتعويض ما فقدته من المال والرجال في هذه الحرب المشئومة.

وكذلك إيطاليا لم يكن لها صالح في هذه المسألة ولا تودُّ الاشتباك في حرب أوروبية لقرب عهد تمام استقلالها وسعيها في تقوية وحدتها السياسية، فيتضح من ذلك أن المعارضة كانت منحصرة أولًا في إنكلترا لا حبًّا في الدولة العلية الإسلامية بل خوفًا على نفوذها في الهند، وثانيًا في النمسا لعدم اشتراكها في منافع هذه المعاهدة.

ولهذه الأسباب كانت إنكلترا أوَّل منبه للروسيا على أن كل شرط يتفق عليه بينها وبين الدولة ويكون مخالفًا لنصوص معاهدة سنة ١٨٥٦ المبرمة في باريس، أو يختص بمنفعة عمومية أوروبية، لا يعمل به إلا بعد تصديق الدول الضامنة لمعاهدة باريس المذكورة.

وكتبت بهذا المعنى الى الحكومة الروسية بتاريخ ١٤ و٢٩ يناير سنة ١٨٧٨؛ أي قبل التوقيع على الاتفاقيات التي أمضيت في مدينة أدرنة في ٣١ من الشهر المذكور بين الدولة والروسيا، وقبلت بكل انشراح اقتراح النمسا في ٥ فبراير القاضي باجتماع مؤتمر دولي في مدينة بادن للنظر في اتفاقيات أدرنة كما سبق في موضعه.

ثم في ٧ مارس دعت النمسا جميع الدول ثانية لعقد مؤتمر في مدينة برلين للغاية نفسها، واختارت برلين ليكون المؤتمر تحت رئاسة البرنس بسمارك المعضد لها على احتلال البوسنة والهرسك؛ فقبلت الدول هذه الدعوة إلا إنكلترا؛ فإنها علقت قبولها على أن يكون من اختصاص المؤتمر المزمع انعقاده النظر في جميع بنود معاهدة سان إسطفانوس، سواء كانت مختصة بمنفعة عمومية أوروبية أو لا، وعارضت الروسيا في هذا الاشتراط، ودارت المخابرات بينهما وبين النمسا للتوفيق بين الطرفين، واشتدَّت العلاقات بين الروسيا وإنكلترا، وأخذت هذه تستعد للحرب، وعينت اللورد نابيراوف مجدلا قائدًا عامًّا للجيوش البرية واللورد ولسلي٧ رئيسًا لأركان حربه، وأمرت بجمع الرديف واستعداد المراكب الحربية، واشترت أربع مدرعات كانت أوصت عليها بعض الدول في معاملها، وجمعت أغلب سفنها الحربية في جزيرة مالطة لتكون على مقربة من الآستانة، وكذلك أمرت بإحضار عدد ليس بقليل من جيوشها الهندية إلى هذه الجزيرة للغاية نفسها؛ ذلك ما دعا اللورد دربي — وزير الخارجية — إلى تقديم استعفائه بما أنه كان ميالًا لسياسة الملاينة معارضًا لكل ما من شأنه ازدياد النفور بين دولته والروسيا، خلافًا للورد بيكونسفيلد٨ كبير الوزراء وباقي زملائه. ولما قُبل استعفاؤه عُين اللورد سالسبوري وزيرًا للخارجية، وكان أشدَّ الناس ميلًا لإكراه الروسيا على تعديل معاهدة سان إسطفانوس ولو بالقوَّة؛ لإضرارها بالمصالح الإنكليزية.

وفي صبيحة تعيينه؛ أي في اليوم الأوَّل من شهر أبريل سنة ١٨٧٨، أرسل إلى جميع سفراء إنكلترا لدى الدول العظام منشورًا بيَّن فيه مضارَّ المعاهدة المذكورة وأوجه خللها، وضرورة نظرها برمتها في مؤتمر دولي. وكانت هذه النشرة سببًا لعدم نجاح مأمورية الجنرال أغناتيف في ويانة، وكان أُرسِل إليها للسعي في الاتفاق مع النمسا على عدم اشتراكها مع إنكلترا لو انتشبت الحرب بينها وبين الروسيا بسبب معاهدة سان إسطفانوس، وهي — أي الروسيا — تتعهَّد لها بإعطائها إقليمي البوسنة والهرسك، فلما رأت النمسا من إنكلترا هذا الثبات والاستعداد للحرب برًّا وبحرًا لم تجب مندوب الروسيا بجواب شافٍ حتى ترى ما تقضي السياسة الإنكليزية بعرضه عليها، فتنحاز إلى الفريق الذي تكون سياسته أكثر ملاءمة لصالحها الخصوصي.

وحينما وصل منشور اللورد سالسبوري إلى سان بطرسبورغ وعرض السفير الإنكليزي صورته على البرنس غورشاكوف، أخذ يفكر في طريقة للتخلُّص من هذه المشكلة بدون وصول إلى الحرب والقتال، مع استمرار الاستعداد له إذا دعت الحاجة، واكتتب كثير من البلديات وأغنياء الروس، بل وعموم الأهالي بمبالغ وافرة لإنشاء عمارة بحرية وتسليح المراكب التجارية بالمدافع للقبض على سفن إنكلترا التجارية والإضرار بمصالحها. ثم في ٩ أبريل أجاب البرنس غورشاكوف على لائحة سالسبوري بمنشور أرسله إلى جميع سفراء دولته لدى الدول العظام، وكلفهم بتبليغه إليها في أقرب وقت، وأرفق هذا المنشور بلائحة دحض فيها جميع اعتراضات اللورد سالسبوري على معاهدة سان إسطفانوس مراعيًا في ذلك صالح الروسيا تاركًا باقي المصالح ظهريًّا.

وبعد ذلك انقطعت المخابرات، وأخذ كل من الفريقين يستعدُّ للحرب، وأحضرت إنكلترا إلى مالطة عدة ألايات من الجنود، وكانوا لم يسبقْ لهم الحضور لأوروبا قبل هذه الدفعة، واشتغلت الروسيا بإخماد هيجان مسلمي البلغار الذين أخذوا يؤذون كل من يعثرون به من جنود الروسيا ويدافعون عن أنفسهم ضدَّ تعدِّيات مسيحيي البلغار، ويقابلونهم بمثل ما يرتكبه البلغاريون معهم من أنواع التعدِّي والظلم؛ اعتمادًا على مساعدة الروس لهم ولاحتماء هؤلاء الوطنيين في الجبال صعب على الروسيا قمعهم؛ فامتدت هذه الحركات الثورية إلى جميع جهات البلغار وضواحي صوفيا إلى حدود الصرب. واستمر الحال على هذا المنوال إلى أواخر شهر مايو والجنود الروسية محتلة جميع ضواحي الآستانة والمراكب الإنكليزية أمامها من جهة البحر.

ولما أقبل فصل الصيف فشت الأمراض بين عساكر العدوِّ ومات منهم عدد كثير؛ فلهذه الأسباب ولنضوب خزينة الروسيا وعدم إمكانها احتمال هذه الحالة، التي وإن لم تكن حالة حرب بالمرة، فلم تكن أيضًا حالة سلمية. ولمناسبة اشتداد المرض على البرنس غورشاكوف — وزير الروسيا الأوَّل — استقلَّ الإمبراطور بسياسة بلاده، وكتب إلى خاله غليوم الأوَّل٩ — إمبراطور ألمانيا — بالمثابرة على التوسط بينه وبين إنكلترا للوصول إلى وضع حد لهذه الحالة الغير المرضية التي لو استمرت لجعلت الروسيا على شفا الإفلاس، وأوعز إلى المسيو شوفالوف سفيره بلوندرة بأن يفاتح اللورد سالسبوري بأنه مستعد للتساهل مع إنكلترا مبدئيًّا في نظر جميع بنود معاهدة سان إسطفانوس، إلا أنه يود أن يعلم قبلًا ما تريد إنكلترا إدخاله عليها من التعديلات؛ حتى تكون على بينة من الأمر قبل إرسال مندوبها إلى المؤتمر.

فجدِّدت المخابرات وانقشعت الغيوم المتراكمة في جو أوروبا السياسي، وبعد أن توجَّه المسيو شوفالوف إلى سان بطرسبورغ للمفاوضة مع أرباب السياسة هناك، وعرض طلبات إنكلترا عليهم شفاهًا؛ إذ إن المكاتبات ربما تكون نتيجتها تأخير هذه الحالة السيئة، عاد إلى لوندرة. وفي ٣٠ مايو سنة ١٨٧٨ تمَّ الاتفاق بين هذا السفير واللورد سالسبوري على ما تريد إنكلترا إدخاله على معاهدة سان إسطفانوس من التعديلات، وحررت بذلك لائحة أمضى عليها الفريقان، وأضيف عليها ذيل بناءً على طلب النمسا التي سبق عرض هذا الاتفاق عليها قبل التوقيع عليه.

ويظهر من الاطلاع على هاتين الورقتين الرسميتين أن إنكلترا صادقت على أهمِّ شروط معاهدة سان إسطفانوس، وقبلت تشكيل إمارة البلغار الجديدة بعد تقليل مساحتها، وتشكيل الجزء الجنوبي منها بهيئة ولاية مستقلة تقريبًا لا تلبث أن تنضمَّ إلى إمارة البلغار، وأبقت سواحل بحر الروم تابعة للدولة العلية بما فيها مدينة «قوله» خوفًا من أن تتخذها الروسيا مع الزمن مرسًى لمراكبها، وهو الأمر الذي تسعى إنكلترا جهدها في منعه حفظًا لسيادتها على البحار.

احتلال إنكلترا لجزيرة قبرص

لكنها مع ذلك لم تكن مطمئنَّة البال مرتاحة البلبال من قوَّة الروسيا، بل لم تزل تخشى تقدُّمها نحو الآستانة مرة أخرى أو نحو بلاد الأناطول، فتمتلك منابع نهري الفرات والدجلة، ثم تسير شيئًا فشيئًا إلى الجنوب متبعة مجرى هذين النهرين العظيمين، فتصل إلى بغداد فالبصرة فخليج فارس الموصل لبحر الهند؛ ولذلك ظهرت للدولة العلية في مظهر الصديق المخلص وكتبت إلى المسيو «ليارد» — سفيرها بالآستانة — في إعمال الفكرة للوصول إلى إقناع الباب العالي بوجوب إبرام معاهدة دفاعية مع حكومة إنكلترا لصدِّ الروسيا لو تقدَّمت نحو بلاد الأناطول.

ويتعهد الباب العالي لحكومة جلالة الملكة بإجراء الإصلاحات اللازمة لتحسين حال المسيحيين بهذه الجهات؛ حتى لا يميلوا للروسيا ولا يقبلوا عساكرها بصفة منقذين كما حصل في بلاد البلغار، وأن تسمح الدولة العلية لإنكلترا باحتلال جزيرة قبرص وإدارة شئونها؛ لتكون على مقربة من حدود الروسيا، ويتسنى لها صدُّ هجماتها لو مست الحاجة، وتعدَّت الجيوش الروسية الحدود التي ستحدَّد لها في مؤتمر برلين المزمع انعقاده قريبًا، فقام المستر لايارد بهذه المأمورية، وربما كانت ابتدأت المخابرات بهذا الشأن قبل ذلك، حتى لم يأت يوم ٤ يونيو سنة ١٨٧٨ الذي تولَّى فيه صفوت باشا منصب الصدارة العظمى كما مرَّ في موضعه إلا وتم الاتفاق على هذه المعاهدة الدفاعية، وقبل الباب العالي تسليم إنكلترا جزيرة قبرص غنيمة باردة اعتمادًا على وعد هيهات أن تقوم به إنكلترا لو دعت الضرورة، إلا أن وجود الاضطراب بالآستانة والخوف من احتلال الروس، وظروف الحال هوَّنت على الدولة قبول هذا الاقتراح وتضحية هذه الجزيرة رغبة في حفظ باقي أملاكها، وتعديل معاهدة سان إسطفانوس بكيفية أرجح لصالحها.

أما صالح إنكلترا في احتلال هذه الجزيرة فظاهر لمن له أقل اطلاع على الماجريات السياسية وسياسة إنكلترا الاستعمارية وعلى موقع الجزيرة المذكورة. فلا يخفى أن الهند بالنسبة لإنكلترا بمنزلة الروح من الجسد، وسياستها دائرة على حفظ هذه المستعمرة من التعدِّي وحفظ الطرق المؤدية لها، فباحتلالها إقليم رأس الرجاء الصالح في طرف أفريقيا الجنوبي صارت آمنة على هذا الطريق وإن كانت بعيدة.

لكن لما كانت طريق مصر والسويس أخصر الطرق الموصلة لهندها العزيزة احتلت بوغاز جبل طارق، فسادت على الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، ثم باحتلالها جزيرة مالطة سادت على الجزء الأوسط منه، وكان إذن من المحتم عليها احتلال إحدى النقط المهمة في شرق هذا البحر لتسود عليه من جميع أطرافه وتجعله بحيرة إنكليزية. ولما رأت ارتباك الدولة العلية بعد هذه الحرب، التي كان يمكن لدول أوروبا منعها، لو اتبعوا نصوص معاهدة باريس وكانوا لها مخلصين، أرادت انتهاز هذه الفرصة العديمة المثال لأخذ هذه الجزيرة لتكون على مقربة من بوغاز السويس وإسكندرية مصر من جهة ولميناء إسكندرونة التي في عزمها إنشاء خط حديدي منها إلى خليج فارس؛ لتنقيص المسافة بينها وبين مستعمراتها الهندية من جهة أخرى، وقد تمَّ لها ذلك بحسن سياستها وحذق رجالها واحتياج الدولة لمساعدتها في هذه الظروف الخطيرة.

ولم تحدِّد إنكلترا في هذا الاتفاق ميعادًا لجلائها عنها، ثم في أوَّل يوليو أثناء انعقاد مؤتمر برلين اتفقت إنكلترا مع الباب العالي على إضافة ذيل إلى اتفاق ٤ يونيو يبيِّن فيه كيفية إدارة الجزيرة والخراج الذي يدفع عنها، وحدَّدت أجل خروجها منها تحديدًا جعلت به احتلالها أبديًّا؛ إذ إنها علقت خروجها منها على خروج الروسيا من مدينتيْ باطوم وقارص اللتين أضيفتا إلى أملاك الروسيا إضافة قطعية، فصار احتلال قبرص بذلك احتلالًا قطعيًّا، ومع ذلك أي ضمان لدى الدولة العلية على خروج الإنكليز من قبرص لو أخلت الروسيا هاتين المدينتين أو إحداهما مع استحالة ذلك تقريبًا. وإليك نص معاهدة ٤ يونيو سنة ١٨٧٨ نقلًا عن مجموعة الجوائب:

لما كان كل من ملكة مملكة بريطانيا وإرلاندة المتحدة وإمبراطورة الهند وجناب السلطان المعظم، متصفين بينهما بالمقاصد الودادية لإحكام وتوسيع العلاقة الحبية الكائنة الآن بين السلطنتين، جزما بعقد معاهدة دفاعية لتأمين الأراضي في آسيا (الأناطول) فيما بعد التي تخص الحضرة العلية السلطانية، وبناءً على هذه الغاية انتخبا وعينا المرخصين الآتي بيانهما:

عينت ملكة مملكة بريطانيا وإرلاندة المتحدة وإمبراطورة الهند حضرة الأنورابل «وستين هنري ليارد» سفيرها الأعلى لدى الباب العالي.

وعينت الحضرة العلية السلطانية حضرة دولتلو صفوت باشا ناظر الخارجية للدولة العلية.

وبعد أن أظهر كل منهما المحررات المرخصة لهما في إجراء هذه المصلحة، ووجدت مطابقة للأصول، اتفقا على المواد الآتية:
  • المادة الأولى: إذا كانت الروسيا تستولي على باطوم أو أردهان أو قارص أو إحداها، وأرادت بعد ذلك أن تستولي على بعض الأراضي الكائنة في آسيا التابعة للحضرة السلطانية، كما تقرر أمرها في المعاهدة الصلحية الباتَّة؛ فإن إنكلترا تتعهد بأن تتحد مع الحضرة العلية السلطانية لحماية تلك الأراضي بقوَّة السلاح. وفي مقابلة ذلك تَعِد الحضرة السلطانية إنكلترا بأن تجري في ممالكها الإصلاحات اللازمة التي سيحصل الاتفاق بعد هذا بينهما على كيفية إجرائها، وأن تحمي المسيحيين وغيرهم من رعيتها القاطنين في بلادها، ولغاية تمكين إنكلترا من اتخاذ الوسائط والتدابير اللازمة لإجراء ما تعهد به رضي السلطان المعظم بأن إنكلترا تستولي على جزيرة قبرص وتدير أمورها.
  • المادة الثانية: تجديد إمضاء هذه المعاهدة من طرف الدولتين المذكورتين يكون بعد تاريخ إمضاء هذا بشهر واحد أو أقل إذا أمكن. وقد صار إمضاء هذه المعاهدة وختمها في قسطنطينية في الرابع من شهر جون الإفرنكي من سنة ١٨٧٨.
الإمضاء: أ. ﻫ. ليارد، صفوت
قد حصل الاتفاق بين كل من الأنورابل «سراوستن هنري ليارد»، وحضرة فخامتلو دولتلو صفوت باشا الصدر الأعظم للحضرة العلية السلطانية، حالة كونهما مرخصين من دولتهما على تذييل المعاهدة المذكورة التي أمضيت في ٤ جون سنة ١٨٧٨.
صار من المعلوم بين الدولتين المذكورتين بأن دولة إنكلترا رضيت بالشروط الآتية فيما يتعلق بالاستيلاء على قبرص وإدارتها:
  • أولًا: يبقى في الجزيرة محكمة شرعية يناط لعهدتها النظر في متعلقات المصالح الدينية التي تخص مسلمي الجزيرة لا غير.
  • ثانيًا: إن نظارة الأوقاف بالآستانة تعين أحد المأمورين المسلمين ليقيم في الجزيرة؛ لينظر باتفاقه مع مأمور تعينه دولة إنكلترا على إدارة الأملاك والعقارات والجوامع والمساجد والمقابر والمدارس والمكاتب، وغيرها من الإدارة الدينية في الجزيرة.
  • ثالثًا: إن دولة إنكلترا تدفع إلى الباب العالي الزائد من إيراد الجزيرة بعد أداء مصاريفها، وهذه الزيادة تعتبر بمناسبة الزيادة التي تحصلت في الجزيرة في السنين الخمس الماضية وقدرها سنويًّا ٢٢٩٣٦ كيسًا (١١٤٦٨٠ ليرة عثمانية)، وبعد هذا يبالغ في تحقيقها. ويستثنى من ذلك إيراد الأملاك الميرية التي تباع أو تؤجر في المدَّة المذكورة.
  • رابعًا: يسوغ للباب العالي أن يبيع أو يؤجِّر — بدون مانع — الأملاك أو الأراضي وغيرها من العقارات التي هي أملاك ميرية أو أملاك همايونية، التي إيرادها غير داخل ضمن إيراد الجزيرة.
  • خامسًا: يسوغ لمأموري دولة إنكلترا في الجزيرة أن يشتروا جبرًا بأسعار مناسبة الأراضي أو الأملاك التي يرون شراءها لازمًا لإجراء أشغال نافعة.
  • سادسًا: إذا كانت الروسيا تعيد إلى تركيا قارص أو بقية الجهات التي انتصرت عليها ودخلت في حوزتها في أرمينيا في الحرب الأخيرة؛ تخلي إنكلترا جزيرة قبرص، فتكون المعاهدة المذكورة الممضاة في ٤ جون منسوخة وملغاة الإجراء.
تحريرًا في قسطنطينية في ١ جولاي (تموز) سنة ١٨٧٨
الإمضاء: أ. ﻫ. ليارد، صفوت

ومن الغريب أن خبر هذه المعاهدة لم يشع إلا في ٧ يوليو لما أشرفت أعمال مؤتمر برلين على النهاية، وكتمت إنكلترا خبرها بكل اجتهاد، ولم تعرضها على البرلمان إلا بعد أن تحققت أن العلم بها أصبح لا يضرُّ بسير مداولات المؤتمر ولا يتيسَّر لمندوبي الدول الاعتراض عليها؛ خوفًا من انفصام عرى المؤتمر ورجوع الأمور إلى ما كانت عليه من الشدَّة واقتراب الحرب، وكذلك أخفت الاتفاق الذي أُمضي بينها وبين الروسيا في ٣٠ مايو إلى أن اجتمع المؤتمر كما سيأتي:

هذا؛ ولما أبلغت إنكلترا البرنس بسمارك أنها قد اتفقت مع الروسيا — ولو لم تطلعه رسميًّا على صورة الاتفاق — دعا بسمارك كافة الدول العظام تلغرافيًّا في ٣ يونيو سنة ١٨٧٨ لإرسال مندوبيهم للاجتماع في برلين في يوم ١٣ يونيو، وأجابت الدول بالقبول في اليوم نفسه أو في صبيحة اليوم التالي، واشترطت فرنسا في قبولها عدم تعرُّض المؤتمر للمسائل التي لم ينصَّ عنها في معاهدة سان إسطفانوس، وخصت بالذكر القطر المصري وبلاد الشام.

وفي يوم ١٣ يونيو انعقد المؤتمر تحت رئاسة البرنس دي بسمارك وعضوية كل من السياسيين المذكورة أسماؤهم في أوَّل المعاهدة، وأرسلت بعض الأمم ذوات الشأن مندوبين من طرفها لتقديم طلباتها ورغباتها إلى المؤتمر ولو لم يكن مصرَّحًا لهم بحضور الجلسات إلا إذا طُلبوا للاستفهام منهم عن بعض أمور تخصُّ من أرسلهم، فأرسلت حكومة رومانيا المسيو براسيانو والمسيو كوجولنيسيانو، وأرسلت الصرب المسيو ستيش، وأناب أمير الجبل الأسود البرنس بتروفتش والمسيو رادوفتش، وحكومة اليونان المسيو دلياني والمسيو رنجاني، وكذلك طائفتا الأرمن واليهود وشاه العجم الذي أرسل إلى برلين أحد سفراء دولته ليدافع عما قُرِّرَ إعطاؤه إليه في معاهدة سان إسطفانوس.

وفي أوَّل جلسة قدَّم مندوبو الدول العظام الأوراق المؤذنة بتعيينهم، وقرر المؤتمر بعض الإجراءات الابتدائية؛ مثل تعيين الكتبة وكاتب السرِّ وحافظ الأوراق … إلى غير ذلك، ثم توالت جلساته إلى يوم ١٣ يوليو سنة ١٨٧٨؛ أي مدَّة شهر كامل، انعقد المؤتمر في خلاله عشرين مرة. وليكون المطالع على بيِّنة مما حصل في هذه الجلسات نذكر له ما حصلت فيه المداولة في كل جلسة من الأمور المطروحة أمامه بكل اختصار.
  • ففي الجلسة الأولى: عين الرئيس وباقي موظفي المؤتمر، وتليت بعض خطب شكر وثناء، وطلب في آخرها اللورد بيكونسفيلد أن تسحب الروسيا عساكرها من ضواحي الآستانة؛ فعارضه البرنس غورشاكوف، وطلب انسحاب الدونانمة الإنكليزية أولًا من مياه البوسفور. واشتدَّ الخلاف بينهما اشتدادًا كاد يفضي إلى عدم نجاح المؤتمر لولا تداخل البرنس بسمارك بحكمته، وتقريره أن هذه مسألة يجب الاتفاق عليها بين الروسيا وإنكلترا خارجًا عن المؤتمر؛ فانتهى الإشكال. ويظهر أنه لم تحصل مكالمة بهذا الشأن فيما بعد لبقاء الجيوش والدونانمة في مركزيهما.
  • وفي الجلسة الثانية: المنعقدة في ١٧ يونيو؛ عرض المركيز دي سالسبوري على المؤتمر قبول مندوبي اليونان، وتنوقش في حدود إمارة البلغار.
  • وفي الجلسة الثالثة: المنعقدة في ١٩ منه؛ تُنُوقش في مسألة قبول مندوبي اليونان في المؤتمر.
  • وفي الرابعة والخامسة والسادسة: المنعقدة في ٢٢ و٢٤ و٢٥ منه؛ استمرت المناقشة في مسألة البلغار.
  • وفي السابعة: المنعقدة في ٢٦ منه؛ تمت المناقشة في مسألة البلغار، وتُنُوقِشَ في حدود الصرب.
  • وفي الثامنة: المنعقدة في ٢٨ منه؛ تداول المؤتمر في احتلال دولة أوستريا والمجر لولايتي البوسنة والهرسك، وتوسيع حدود الصرب والجبل الأسود.
  • وفي التاسعة: المنعقدة في ٢٩ منه؛ حصلت المداولة فيما يختص بمملكة اليونان والولايات اليونانية الباقية للدولة العلية وولاية الرومللي الشرقية.
  • وفي العاشرة: المنعقدة في أوَّل يوليو؛ استمرت المناقشة في الرومللي الشرقية.
  • وفي الحادية عشرة: المنعقدة في ٢ منه؛ تداول المؤتمر في حرية الملاحة في نهر الطونة، وفيما يختص بالحصون والمعاقل القائمة على ضفتيه، وفي الغرامة الحربية.
  • وفي الثانية عشرة: المنعقدة في ٤ منه؛ اعترض مندوبو الدولة العلية على احتلال دولة أوستريا والمجر لإقليمي البوسنة والهرسك، وتحدَّدت إمارة الجبل الأسود، واستمرت المداولة بمسألة نهر الطونة، وابتدأت المناقشة في مسائل الطوائف الدينية الغير الإسلامية عمومًا ومسألة الأرمن خصوصًا.
  • وفي الجلسة الثالثة عشرة: المنعقدة في ٥ منه؛ تداول المجلس في توسيع حدود مملكة اليونان وبقاء امتيازات قبائل المرديت.
  • وفي الرابعة عشرة: المنعقدة في ٦ منه؛ تُنُوقش في وجوب قبول مندوب العجم وسماع أقواله، وفي حدود الروسيا من جهة آسيا، وفي مسألة الأرمن والبوغازات (البوسفور والدردنيل)، وجلاء العساكر الروسية عن الولايات المحتلة لها بأوروبا وآسيا. وفي البند الخامس عشر في معاهدة سان إسطفانوس المختص بالإصلاحات المراد إجراؤها لتحسين حالة المسيحيين الباقين تحت حكم سلطان العثمانيين.
  • وفي الجلسة الخامسة عشرة: المنعقدة في ٨ منه؛ تداول المؤتمر في وجوب تنازل الدولة العلية عن وادي قوتور لبلاد العجم، وتم اتفاق أعضائه على مسألة الأرمن، وتحددت تخوم رومانيا والصرب والبلغار والرومللي الشرقية، واستمرت المناقشة في مسألة الطوائف الغير الإسلامية الأخرى، وتبودلت الآراء في الطرق الواجب اتخاذها لتنفيذ قرارات هذا المؤتمر.
  • وفي الجلسة السادسة عشرة: المنعقدة في ٩ منه؛ استمرت المداولة في إعطاء قوتور للعجم وفي طرق تنفيذ قرارات المؤتمر، وتُنُوقش في تحديد سنجق صوفيا، وفي كيفية تحرير المعاهدة النهائية.
  • وفي الجلسة السابعة عشرة: المنعقدة في يوم ١٠ منه؛ تحددت تخوم الروسيا في جنوب باطوم، وحصلت المكالمة في إخلاء الأراضي الباقية للدولة من الجيوش الأجنبية، وعرض مشروع قاضٍ بجعل مضيق شيبكا المشهور حرًّا غير تابع لدولة أو إمارة؛ ليقام فيه بناء لدفن كل من قتل فيه من الجنود، وجدِّدت المداولة في الطرق الضامنة نفاذ هذه القرارات، وتُلِيَ جزء من مشروع المعاهدة المراد التوقيع عليها.
  • وفي الجلسة الثامنة عشرة: المنعقدة في يوم ١١ منه؛ استمرت المداولات في طرق تنفيذ المعاهدة، وتلي جزء من مشروعها، وتحدَّدت تخوم الروسيا من جهة آسيا، وسمعت اقتراحات إنكلترا بالنسبة لبوغازي البوسفور والدردنيل، وتبودلت الآراء فيما كانت تدفعه الصرب ورومانيا من الجزية النقدية، وفي توزيع دين الدولة العلية العمومي، وفي إرسال لجنة أوروبية لتسكين الثورة في البلغار.
  • وفي الجلسة التاسعة عشرة: المنعقدة في يوم ١٢ منه؛ تُلِيَ جواب الروسيا على اقتراحات إنكلترا المختصة بالبوغازين، وتمت تلاوة المعاهدة.
  • وفي الجلسة المتممة للعشرين: المنعقدة في يوم ١٣ يوليو سنة ١٨٧٨ (الموافق ١٠ رجب سنة ١٢٩٥)؛ وقَّع جميع المندوبين على صورة المعاهدة النهائية، وكان توقيعهم باعتبار ترتيب حروف المعجم الإفرنكي من أوَّل اسم كل دولة من الدول العظام، بأن وقع أوَّلًا مندوبو ألمانيا، ثم النمسا، والمجر، ثم فرنسا، ثم بريطانيا العظمى، ثم إيطاليا، ثم الروسيا، ثم الدولة العثمانية. وقد جمعت محاضر هذه الجلسات بأجمعها ونشرت في الكتاب الأزرق الإنكليزي في مجلد لا ينقص عدد صفحاته عن ٢٥٠؛ فعلى من أراد الوقوف على ما حصل فيها تفصيلًا من المناقشات والمداولات الاطلاعُ عليها، حيث يجد بها ما يشفي غليله ويقف على آراء الدول أجمع فيما يختص بالمسألة الشرقية.
وإليك نص معاهدة برلين نقلًا عن مجموعة الجوائب:

بسم الله القادر على كل شيء

لما كان حضرة سلطان العثمانيين، وحضرة ملكة مملكة بريطانيا المعظمة وارلانده، وإمبراطورة الهند، وحضرة إمبراطور جرمانيا، وملك بروسيا، وحضرة إمبراطور أوستريا، وملك بوهيميا، وملك هنكاريا، وحضرة رئيس جمهورية فرنسا، وحضرة ملك إيطاليا، وحضرة إمبراطور جميع الروسيا، يريدون — لأجل إقرار الراحة العامة في أوروبا — إنهاء المسائل التي ظهرت في الشرق بسبب تقلبات الأحوال فيها في هذه السنين الثلاث، وبسبب الحرب التي أعقبتها معاهدة أياسطفانوس؛ استقر رأيهم جميعًا على عقد مؤتمر يكون أحسن الوسائل لأجل الاتفاق بحسب ما تقرَّر في معاهدة أياسطفانوس، وبناءً على ذلك عينت الذوات الملوكية المشار إليهم وحضرة رئيس جمهورية فرنسا مرخصين، وهم:

حضرة ملكة مملكة بريطانيا العظمى وارلانده وإمبراطورة الهند، عينت الأونورابل بنيامين دزرائيلي الذي هو كبير وزراء إنكلترا، والأنورابل روبرت آرثر تالبت غاسكون سيسل مركيز سالسبوري الذي هو ناظر خارجية إنكلترا، والأونورابل لورد أودوليم ليوبولد روسل الذي هو سفير من الطبقة الأولى لإنكلترا لدى حضرة إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا.

وعين حضرة إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا البرنس بسمارك كبير الوزراء في بروسيا، وبرنارد أرنست دوبولوي مستشار الخارجية، والبرنس هوهنلوه شلنغفورست سفير ألمانيا لدى رئيس جمهورية فرنسا.

وعين حضرة إمبراطور أوستريا وملك بوهيميا وملك هنكاريا الكونت أندراسي وزيره الخاص ووزيره في الأمور الخارجية، والكونت لويس كاروليي سفيره لدى إمبراطورة جرمانيا وملك بروسيا، والبارون «هنري دوما يمول» سفيره لدى ملك إيطاليا.

وعين حضرة رئيس جمهورية فرنسا موسيو وليم هنري وادنجتون أحد أعضاء مجلس الأعيان ووزيره في الأمور الخارجية، وشارلس رايموند كونت دوصان فاليه من أعضاء مجلس الأعيان وسفير فرنسا لدى إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا، وفيلكس دسيرز المكلف بإدارة الأمور السياسية في دائرة الخارجية.

وعين حضرة ملك إيطاليا الكونت لويس كورتي أحد أعضاء مجلس الأعيان ووزيره في الأمور الخارجية، وإدورد كونت دولوني سفيره لدى إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا.

وعين إمبراطور جميع الروسيا البرنس ألكسندر غورجيقوف وزيره في الأمور الخارجية، والكونت دوشوفالوف من قرناء الحضرة الإمبراطورية ومن أعضاء المجلس الخاص وسفيره لدى دولة بريطانيا، وبول ذوبريل سفيره لدى إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا.

وعين حضرة سلطان العثمانيين ألكسندر قره تيودوري باشا وزيره في الأمور النافعة، ومحمد علي باشا المشير في عساكره، وسعد الله بك سفيره لدى إمبراطور جرمانيا وملك بروسيا.

فاجتمعوا في برلين بحسب إشارة دولة أوستريا وهنكاريا، وبموجب استدعاء دولة جرمانيا، ومعهم سائر المحررات المؤذنة بالترخيص. فبعد أن وجدت مطابقة للأصول وقع بينهم الاتفاق على المواد الآتية:
  • المادة ١: صارت الآن البلغار إمارة مستقلة في أمورها الداخلية (إدارة مختارة) تدفع خراجًا في كل سنة إلى الباب العالي، وتكون تحت تابعية الحضرة السلطانية، ويكون لها حكومة مسيحية وعساكر وطنية.
  • المادة ٢: تكون إمارة البلغار عبارة عن الأراضي الآتي ذكرها، وهي أن حدود تلك الأراضي من جهة الشمال تبتدئ من حدود الصرب القديمة وتمرُّ عن يمين ساحل نهر الطونة وتنتهي إلى محل في شرق سيلستريا، وهذا المحل سيصير تعيينه من طرف المؤتمر الذي يشكل من مأموري دول أوروبا. ومن هنا أيضًا يتصل الحد في البحر الأسود ويمر من جنوب منقاليا التي صار إلحاقها برومانيا. أما من جهة الجنوب فإنه يبتدئ من مصب النهر ويمر من جوار القرى المسماة «هوجه كوي» و«سلامكوي» و«إيواجق» و«قولبه» و«صوجيلق» على شاطئ النهر إلى جهة فوق المحاذية لوادي «قامجق»، ومن جنوب «بليبه» و«كمجالق» على بعد من «جنكه» مقدار مترين ونصف، ويتجاوز «دلي قامجي»، ويمر من شمال «حاجي محله»، ويصعد إلى ذروة المحل الكائن فيما بين «تيكنلك» و«إيدوس بره سا»، ومنه إلى بلقان قرين أباد «وبلقان» «ويره زويقه»، ومن بلقان «قرغان» الواقع في شمال المحل المسمى «قوتل» إلى أن يتصل بمحل «تيمورقبو».

    وعلى هذا يكون مروره من سلسلة البلقان الكبير الأصلية، ويمتدُّ على جيمع مساحته إلى أن ينتهي إلى ذروة «قوزيقه»، ومن هنا يترك ذروة البلقان ويلتفت إلى جهة الجنوب ويسير من بين قريتي «بيرتوب» و«دوزنجي»، ويغادر قرية «بيرتوب» المذكورة الى البغار وقرية دوزنجي إلى شرق الروم إيلي، ويتصل بنهر «طوزلي دره»، ويسير مع مجرى النهر إلى مصبِّه في نهر «طوبولينجه»، ثم إلى نهر «أسموسكيو» الذي يصب في نهر طوبولينجه المذكور بجوار قرية «بتريجوه»، ويترك من الأراضي الكائنة في نهر أسموسكيو المذكور مقدار كيلومتر و٢ إلى شرقي الروم إيلي، ويمرُّ من مقسم المياه فيما بين أسموسكيو ونهر «قامنيفه»، ويلتفت إلى الجنوب الغربي من التل المسمى «وونجاق»، وينتهي رأسًا إلى النقطة المذكورة في خريطة أركان حرب دولة أوستريا عدد ٨٧٥، ومن هنا يقطع بخط مستقيم الجهة العليا من وادي أهتمان، ويمر من بين بوغدينه و«قره ولي»، ويتصل بالخط في مقسم أنهر المريج فيما بين أسقر وقمرلي وحاجيلر، ويسير مع الخط المذكور من تلال و«لنيا» و«موغيلا» إلى الممر الواقع في نقطة عدد ٥٣١ وإلى المحلات المسماة «أزمايليقا» و«ره وسومناتيقه»، ويدخل من بين «سيوري طاش» و«قاد رتبه»، ويتصل بحدود لواء صوفية.

    ومن هنا يبتدئ من «قادرتبه» إلى جهة الجنوب الغربي، ويمر من بين نهر قره صو ونهر «أستروما قره صو»، ويسير مع خط مقسم المياه، ومن تلال الجبال المسماة «تيمورقبو» و«أسقوفنيه» و«قاضيمسار بلقان» و«حاجي كدك» تجاه بلقان قابتنبيق، ويتصل بحدود لواء صوفيه القديمة، وكذلك يمر من بلقان فابتنبيق المذكور ومن بين وادي «ريلسقارقا» ووادي «بسقرارقا»، ويسير مع خط مقسم المياه، ويدور تل «ودينجه بلانينا»، وينزل إلى وادي «أستروما» في المحل الذي يختلط به نهر أستروما مع نهر ريلسقارقا، ويدع قرية «براقلي» للدولة العلية، ويصعد من جنوب قرية «بلشينقة» إلى فوق، ويمر من أقصر خط إلى سلسلة «غولما بلانياتا» وتل «غينقة»، ويتصل بحدود لواء صوفيه ويترك كامل منشأ صوهارقا للدولة العلية.

    ويلتفت إلى جهة الغرب من جبل «رجينقا»، ويدور جبال قارونا يابوقا وحدود لواء صوفيه القديمة من جبل «قرني وره»، ويمر من فوق مياه «أكريصو» و«لبنيقه»، ويطلع إلى تلال «بابنا بولانا» حتى ينتهي أيضًا إلى جبل «قرني وره» المذكور، ومن هذا الجبل يمر من تلال «أرسترزر» و«ويله غوصو» و«مسيد بلانينا»، ومن بين «أوستروما» و«موراوه» مع خط مقسم المياه إلى غاسينا وقرنه طراوه ودار قوسقه ودرانيقه بلان.

    وبعدها من فوق دوشا قلادانق، ومن مقسم أنهر صوقوه وموراوه، ويذهب رأسًا إلى المحل المدعو «أستول»، ومن هنا ينزل إلى الطريق الموصلة إلى صوفيه وبيروته، ويقطع في هذه الطريق ألف متر، ومنه عن طريق ويدليا بلانينا، ويصعد على خط مستقيم إلى جبل «رادوجينا» الكائن في سلسلة البلقان الكبير، ويترك قرية دويقنجي إلى صربستان وقرية «سناقوس» إلى البلغار، ثم يلتفت إلى جهة الغرب، ويدور تلال البلقان المسمى «سبروق» من صوب أستاره بلانينا، ويتصل بشرقي حدود إمارة الصرب القديمة بجوار «تولا أسميلوه قوفه»، ويسير على هاته الحدود حتى ينتهي إلى نهر الطونة عند «راقويجه».

    ثم إن هذه الحدود جميعها سيصير تعيينها بمعرفة لجنة مركبة من وكلاء الدول الممضية على المعاهدة، وحصل الاتفاق أوَّلًا على أن هاته اللجنة تنظر بالاعتناء في خصوص محافظة حدود بلقان شرقي الروم إيلي الكائن تحت سلطة الدولة العلية، وثانيًا أن لا يصير إنشاء استحكام في أطراف «صماقو» بمسافة ١٠ كيلومترات.

  • المادة ٣: يكون انتخاب أمير البلغار من أهلها بحرية تامة وإقرار الباب العالي برضا دول أوروبا العظام، ولا يصح انتخاب أمير عليها من بيوت الدول المذكورة، فإذا توفي عن غير ولد يكون انتخاب أمير بعده على الشروط والأصول المقررة.
  • المادة ٤: بعد انتخاب الأمير تجتمع أعيان البلغاريين في طرنوي لترتيب أحكام ونظامات تخص الإمارة. وفي الجهات التي يكون سكانها من الترك وأهل رومانيا والروم وغيرهم، يلزم مراعاة حقوقهم ومصالحهم فيما يتعلق بقضية الانتخاب وترتيب الأحكام الأساسية.
  • المادة ٥: المواد الآتية تكون أساسًا للحقوق العمومية في البلغار، وهي أن الاختلاف في المذاهب والاعتقادات لا يخرج أحدًا من الأهلية والجدارة من تمتعه بالحقوق المدنية والسياسية، أو بدخوله في الوظائف الميرية أو العمومية ونواله الشرف، أو استعماله الصنائع والحرف المختلفة كيفما كان مقرُّه. فإن الحرية أو مباشرة جميع الأعمال الدينية ينبغي تأمينها لجميع الناس القاطنين في البلغار من أهلها ومن الأجانب أيضًا، ولا يسوغ اتخاذ مانع لترتيب درجات أرباب المذاهب المختلفة أو لعلاقتهم مع رؤسائهم الروحانيين.
  • المادة ٦: تكون إدارة «البلغار المؤقتة» تحت إدارة مأمورين من دولة الروسيا الإمبراطورية إلى أن تنتظم فيها القوانين الأساسية، ويستدعى مأمور من طرف السلطنة العثمانية والقناصل الذين تنتخبهم الدول التي وقعت على هذه المعاهدة بقصد مراقبة أعمال «الإدارة المؤقتة» المذكورة؛ فإذا حصل خلاف بين القناصل المذكورين فإبرام العمل يكون على حسب أكثرية الآراء، كما أنه إذا حصل خلاف بين أكثرية آراء المذكورين والمأمورين من طرف إمبراطورية الروسيا أو المأمورين من طرف الحضرة السلطانية تجتمع سفراء الدول بالآستانة الذين وقعوا على هذه المعاهدة في مؤتمر «كنفرانس» ليقرَّ رأيهم على إنهاء الخلاف المذكور.
  • المادة ٧: تشكيل «الإدارة المؤقتة» المذكورة لا يبقى أكثر من تسعة أشهر اعتبارًا من يوم التوقيع على هذه المعاهدة. وبمجرد انتخاب الأمير تصير مباشرة إجراء الأحكام الجديدة، فتصير تلك الأحكام دستورًا للعمل، وتكون الإمارة قد حازت استقلاليتها الإدارية (إدارتها المختارة) حوزًا تامًّا.
  • المادة ٨: جميع المعاهدات التجارية والسفرية والاتفاقات التي جرت بين الدول الأجنبية وبين الباب العالي — والتي لم يزل عملها جاريًا — تبقى مرعية الإجراء مع إمارة البلغار؛ فلا يصح تبديل شيء منها مع إحدى الدول المذكورة بدون رخصة منها، ولا يسوغ وضع شيء من الضرائب على البضائع التي ترسل إلى إحدى الجهات في مرورها على البلغار، وتكون معاملة جميع الأهالي ورعايا الدول وتجارتهم في الإمارة على قدم مساواة تامة، وتبقى امتيازات وخصائص الأجانب المقرَّرة في المعاهدت (التي أمضيت بين الدول والباب العالي) مرعية الإجراء في الإمارة ما دام لم يحصل تعديلها برضا الدول.
  • المادة ٩: الويركو السنوي الذي يجب على إمارة البلغار أن تدفعه في كل سنة إلى متبوعها الحضرة السلطانية يكون دفعه إلى البنك الذي يعينه الباب العالي، ويكون تعيين المبلغ عند ختام السنة الأولى من جريان نظاماتها الجديدة باتفاق بين الدول الموقعة على هذه المعاهدة. وهذا الويركو يحسب بمناسبة إيراد الإمارة، وحيث إنها ستحمل جانبًا من ديون السلطنة العمومية يلزم للدول أيضًا أن يتذاكروا على مقدار الدين الذي يعين على الإمارة، وذلك عند مذاكرتهم في أمر الويركو.
  • المادة ١٠: جميع التعهدات والاتفاقات التي وعدت السلطنة العثمانية بإجرائها مع شركة سكة الحديد بين وارنة وروسجق تدخل في عهدة إمارة البلغار، اعتبارًا من مبادلة التوقيع على هذه المعاهدة. أما تسوية الحسابات السابقة التي كانت بين الشركة المذكورة وبين الباب العالي، فأمرها يكون بين الباب العالي وحكومة البلغار والشركة المذكورة. وكذلك دخل في عهدة البلغار وسائر تعهدات الباب العالي مع دولة أوستريا وهنكاريا ومع الشركة المنوط بعهدتها تشغيل سكك الحديد في الروم إيلي، فيما يتعلق بإتمام السكك المذكورة واتصالها في الأراضي التي دخلت الآن في حوزة البلغار، ويكون عقد شروط الاتفاقات اللازمة لتسوية هذه المسائل بين دولة أوستريا، وهنكاريا، والباب العالي، والصرب، وإمارة البلغار عند إقرار الصلح.
  • المادة ١١: بعد هذا لا تبقى العساكر العثمانية في البلغار، وهدم سائر القلاع والحصون يكون على مصروف حكومة الإمارة في ظرف سنة واحدة أو أقل من ذلك إن أمكن. وينبغي لتلك الحكومة أن تتخذ وسائط معجلة لذلك، ولا يسوغ لها أن تبني بدلها حصونًا جديدة، ويكون للباب العالي حق في أن يتصرَّف في المهمات الحربية وغيرها من الأشياء التي هي ملك له الباقية في حصون الطونة، التي أخلتها العساكر العثمانية بموجب الهدنة التي حصلت في ٣١ يناير (كانون الثاني)، وكذلك التي في شمله (شمنى) ووارنة.
  • المادة ١٢: المسلمون وغيرهم الذين لهم أملاك في البلغار ويريدون السكنى خارجًا عنها يبقون متمتعين بأملاكهم، فيمكنهم والحالة هذه إيجارها إلى غيرهم وإدارتها بمعرفة من ينتخبونه. وتشكَّل لجنة مؤلفة من الترك والبلغاريين لتسوية جميع المسائل المتعلقة بكيفية نقل وتشغيل أملاك الوقف لحساب الباب العالي والمسائل المتعلقة بالذين لهم مصالح فيها، وهذه التسوية تكون في ظرف سنتين. ثم إن البلغاريين الذين يسافرون أو يسكنون في باقي أطراف الممالك العثمانية يكونون تحت الأحكام والقوانين العثمانية.
  • المادة ١٣: تشكل على جنوب البلقان ولاية تحت اسم «ولاية الروم إيلي الشرقية»، وتكون تحت تابعية الحضرة السلطانية تابعية سياسية وعسكرية، بشرط أن تكون مشمولة باستقلالية إدارتها، ويكون واليها نصرانيًّا.
  • المادة ١٤: حدود «ولاية الروم إيلي الشرقية» تكون متصلة بحدود البلغار من جهتي الشمال والشمال الغربي، والولاية المذكورة تكون عبارة عن الأراضي الكائنة ضمن الدائرة الآتي ذكرها. فحدُّ هذه الولاية يبتدئ من البحر الأسود، ويسير على النهر الواقع في جوار القرى المسماة «هوجه كوي وسلام كوي وإيواجق وقولبه وصوجيلق» إلى جهة فوق محاذيًا لوادي «دلي قامجق»، ويمر من فوق «جكنه» مقدار مسافة كيلومترين ونصف تقريبًا، ويتصل بجنوب قراه «بليبه» و«كمجالق»، ثم يصعد إلى التل الكائن فيما بين «تبكنلك» و«أبدوس» و«برؤسا»، ويمر من بلقان «قرين أباد» وبره زويجه و«قزغان» حتى يصل إلى «تيمورقبو» بالجهة الشمالية من «قوتل». وبعدها يدور جميع سلسلة البلقان الكبير وينتهي إلى «قوزيقه»، وفي هذه النقطة؛ أعني من ذروة البلقان الكائن على غربي حدود الروم إيلي، ينزل إلى جهة الجنوب مارًّا من بين قرية بيتروب التي تركت البلغار وبين قرية دوزانس الباقية في الروم إيلي، ويصل إلى نهر «طوزلي دره».

    ويسير مع النهر إلى مجمعه مع نهر طوبولينقا، وكذلك يمرُّ مع هذا النهر إلى مجمعه مع نهر (سمووسقيو) في جوار قرية «بتريسووا»، وعلى هذا يترك للروم إيلي الشرقية في شطوط مجاري هاته الأنهر محلًّا مقدار كيلومترين، ثم يتبع الخطوط الفاصلة للمياه المذكورة، ويسير إلى جهة فوق على طول أنهر «سمو وسقبور» و«قامنيقا»، ويلتفت إلى الجنوب الغربي في تل «ووانجاق»، ويصل إلى المحل المبين في خريطة أركان حرب دولة أوستريا عدد ٨٧٥، ثم يقطع على خط عمودي مجرى نهر «إيجمان دره» من الأعلى، ويمر من بين «بوغدينا» و«قارولا» حتى يصل إلى الخط الفاصل الكائن فيما بين نهريْ «أسقر» و«ماريقا»، ويسير على طول الموضح في الخريطة المذكورة تحت رقم ٥٣٠ من تلال «وولينا موجيلا» و«جمابليقا» و«روه سومناتيقا».

    ويجتمع بحدود لواء صوفيه فيما بين «سبوري طاش» و«قادرتبه»، فعلى هذا تفرق حدود الروم إيلي والبلغار من جبل «قادرتبه»، ثم الخط الفاصل المذكور يمر إلى قدام من بين أنهر ماريقا وتوابعه وبين أنهر «مستاقره صو» واتباعه تابعًا استقامة الخطوط الفاصلة لهذه المياه، ويتوجه إلى جهتي الجنوب الشرقي والجنوب مارًّا من تلال جبل «دسبوط» إلى صوب جبل «كروشوا»، وهذا الجبل كان مبدأ الحدود التي عينتها معاهدة أياسطفانوس، ثم الخط المذكور يتبع الخط المعين في المعاهدة المذكورة؛ أعني أنه يبتدئ من هذا الجبل ويمر على سلسلة «قره بلقان» من تلال «قولا قلي طاغ واشك جبلي وقره وقولاس وايشيقلر»، ويسير جهة الجنوب الشرقي حتى ينتهي إلى نهر «واردا»، ويسير مع هذا النهر على طوله حتى يصل إلى قرية «أطه قلعة»، وتبقى هذه القرية في سلطة الدولة العلية. ومن هنا يصعد ذروة جبل «بش تبه»، ثم ينزل ويمر من جسر «مصطفى باشا»، ويتجاوز نهر المريج من جهة فوق بمسافة خمسة كيلومترات، ثم يتوجه إلى جهة الشمال مع بين الأنهر الصغار التي تصبُّ في نهري «خاتلي دره» و«مريج»، ويسير على خط مقسم المياه إلى المحل المسمى «كودلربايري»، ومن هنا يلتفت إلى جهة الشرق ويمتد إلى «صقار بايري»، ومنه إلى وادي «طونجه» وإلى «بيوك دربند».

    ويترك «بيوك دربند» و«صوجاق» إلى جهة الشمال، ثم يسير من بين الأنهر التي تصب في نهر طونجه من جهة الشمال وفي نهر المريج من جهة الجنوب على خط مقسم المياه ويصعد إلى تل «قيبلر»، وتبقى قيبلر في الروم إيلي الشرقية، ثم يلتفت إلى جهة الجنوب ويمر من بين المياه الكائنة فيما بين نهر المريج من جهة الجنوب وبين قريتي «بلورن» و«التلي» التي تصب في البحر الأسود، ويصل إلى جنوب قرية «المالي»، ويدور تلال «ووسنه» و«زواق» من شمال المحل المسمى «كراكلق»، ويسير مع الخط الفاصل فيما بين نهري «دوكه» و«قره أغاج» حتى يتصل بالبحر الأسود.

  • المادة ١٥: يكون للحضرة السلطانية حق في أن تباشر محافظة الحدود البرية والبحرية، وذلك بأن تبني في تلك الحدود استحكامات وتقيم فيها عساكر، ولتأمين الراحة العمومية في ولاية «الروم إيلي الشرقية» يشكل فيها ضبطية أهلية وعساكر داخلية، ومذاهب الأهالي الذين تؤلف منهم هذه العساكر والضبطية تكون مرعية، ويكون تعيين ضباطهم من طرف الحضرة السلطانية. وقد تعهدت الحضرة السلطانية بأن لا توظف في حصون الحدود عساكر غير نظامية كالباشي بوزق والجراكسة. وفي جميع الأحوال لا يسوغ للعساكر النظامية المذكورة أن تتعدى على الأهالي، وعند مرورهم في الولاية (لاستقرارهم في الاستحكامات) لا يسوغ لهم الإقامة فيها.
  • المادة ١٦: يكون للوالي حق في أن يستدعي العساكر العثمانية إذا حصل ما يخلُّ بالراحة الداخلية والخارجية، فإذا وقع ما يوجب ذلك يخبر الباب العالي نوَّاب الدول بالآستانة عن قراره وعن السبب الذي أحوجه إليه.
  • المادة ١٧: يكون تعيين والي (ولاية الروم إيلي الشرقية) مدة خمس سنين من طرف الباب العالي باتفاق الدول.
  • المادة ١٨: بمجرد مبادلة التوقيع على هذه المعاهدة تشكل لجنة أوروباوية للنظر في تراتيب إدارة «ولاية الروم إيلي الشرقية» بالاتفاق مع الباب العالي، ومن خصائصها أن تبين في ظرف ثلاثة أشهر وظيفة مأمورية الوالي وما له من الاستطاعة، وترتيب الولاية الإدارية والنظامية والمالية، ويكون ابتداء أشغالها تنظيم اختلاف أحكام الولايات وما حصل عليه المذاكرة في الجلسة الثامنة من المؤتمر الذي عقد في الآستانة. وبعد أن يحصل القرار على جميع المصالح المتعلقة بالولاية المذكورة يصدر فرمان من طرف الحضرة السلطانية فيبلغه الباب العالي إلى الدول.
  • المادة ١٩: يناط بعهدة اللجنة الأوروباوية المذكورة — بالاتفاق مع الباب العالي — إدارة المالية في الولاية إلى أن تنجَز القوانين الجديدة المراد وضعها.
  • المادة ٢٠: جميع المعاهدات والاتفاقات والمعاملات التي جرى تداولها بين الباب العالي والدول الأجنبية، أو التي ستعقد فيما بعد، يكون معمولًا بها في «ولاية الروم إيلي الشرقية» كما هو جارٍ في سائر السلطنة العثمانية، وجميع الامتيازات والخصائص التي حازتها الأجانب على اختلاف وظيفتهم ومصلحتهم تبقى محترمة في الولاية المذكورة. وقد تعهَّد الباب العالي بأن جميع أحكام السلطنة هناك فيما يخص المذاهب المختلفة يكون معمولًا بها ومرعية الإجراء.
  • المادة ٢١: تبقى حقوق الباب العالي وتعهداته فيما يتعلق بسكك الحديد في الروم إيلي الشرقية معمولًا بها ومرعية الإجراء.
  • المادة ٢٢: تكون قوَّة الروسيا في البلغار وفي «ولاية الروم إيلي الشرقية» مؤلفة من ست فرق من المشاة وفرقتين من الخيالة، وجميع ذلك لا يزيد على ٥٠٠٠٠ نفر، وتكون مصاريفهم على الولايات التي يتبوَّءونها، وتبقى علاقتهم ومواصلتهم مع الروسيا بواسطة رومانيا بحسب الاتفاق الذي يحصل بين الحكومتين المذكورتين. وفضلًا عن ذلك تكون بواسطة مراسي البحر الأسود مثل وارنة وبورغاس؛ حتى يمكن لهم أن يتخذوا هناك مخازن للوازمهم مدَّة إقامتهم، وتقرَّر أيضًا أن إقامة العساكر الإمبراطورية في «ولاية الروم إيلي الشرقية» والبلغار تكون مدَّة تسعة أشهر، اعتبارًا من يوم مبادلة التوقيع على هذه المعاهدة. وقد تعهدت دولة الروسيا الإمبراطورية أنه قبل انقضاء هذه المدَّة تمنع مرور عساكرها من رومانيا فتخلو منهم إمارة البلغار.
  • المادة ٢٣: قد تعهد الباب العالي بأن يجري في جزيرة كريد النظامات التي تقرَّرت فيها في سنة ١٨٦٨ والتعديلات التي يرى من العدل إجراءها، وكذلك يجري في بقية الولايات نظامات وقوانين على ما تقتضيه المصالح الداخلية كما في كريد مما لم ينصَّ عليه في هذه المعاهدة نصًّا خصوصيًا إلا فيما يتعلق بإلغاء الضرائب كما هو جارٍ الآن في كريد. ويشكل من طرف الباب العالي لجان مخصوصة يكون أكثر أعضائها من الأهالي؛ للنظر في متعلقات النظامات اللازم إجراؤها في كل ولاية، ثم تعرضها على الباب العالي للتروِّي فيها، وقبل أن يعمل بها وتجعل دستورًا للعمل يلزم الباب العالي أن يستشير اللجنة الأوروباوية المنعقدة للنظر في أحوال الروم إيلي الشرقية.
  • المادة ٢٤: إذا فرض أنه لم يقع اتفاق بين الباب العالي ودولة اليونان، فيما يتعلق بتعديل الحدود كما تقرر في المادة ١٣ من مضبطة مؤتمر برلين، فدول جرمانيا وأوستريا وهنكاريا وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا والروسيا تحفظ لنفسها عرض التوسط بين الفريقين تسهيلًا للمذاكرات.
  • المادة ٢٥: تتبوَّأ عساكر أوستريا وهنكاريا ولايتيْ بوسنة وهرسك، ويناط بها أيضًا أمر إدارتهما. وحيث إنها لا تريد أن تتولى إدارة سنجقية يكي بازار الممتدة بين الصرب والجبل الأسود على الخط الجنوبي الشرقي ما وراء ميتر ووسته، فالإدارة العثمانية تبقى معمولًا بها هناك، وحيث إن المراد إقرار الأحوال السياسية الجديدة وحرية المواصلات وتأمينها، فدولة أوستريا وهنكاريا تحفظ لنفسها الحق بأن يكون لها «قشل» وطرق تجارية وعسكرية في جميع الجهات المذكورة. ولهذه الغاية تحفظ لنفسها هي والدولة العثمانية أن تتفقا على المواد المتعلقة بهذه المسألة.
  • المادة ٢٦: قد اعترف الباب العالي باستقلال الجبل الأسود، وكذلك اعترفت به بقية الدول الموقعين على هذه المعاهدة الذين لم يعترفوا به سابقًا.
  • المادة ٢٧: اتفق الموقعون على هذه المعاهدة على أن استقلال الجبل الأسود يكون مربوطًا بالمواد الآتية؛ وهي: لا يسوغ التمييز في الاعتقادات الدينية في الجبل، فلا يخرج أحد من الأهلية والجدارة لجميع ما يتعلق بتمتعه بالحقوق المدنية والسياسية، أو بدخوله في الوظائف الميرية أو العمومية، أو نواله الشرف، أو استعماله الصنائع والحرف المختلفة كيفما كان مقرُّه؛ فلجميع الأهالي التابعين للجبل الأسود وللأجانب أيضًا الحرية التامة في جميع المتعلقات المذهبية، ولا يسوغ اتخاذ مانع ما في ترتيب درجات أرباب المذاهب المختلفة أو في علاقتهم مع رؤسائهم الروحانيين.
  • المادة ٢٨: قد صار تعيين حدود الجبل الأسود كما سيأتي: وهي أنها تبتدئ من «إيلينو برودو»، وتسير إلى شمال «قلوبوق»، وتمر من فوق «تره بنيجه»، وتصل بمحل «غرانقارو»، وتبقى غرانقارو ضمن لواء هرسك، ومنها يصعد الخط الفاصل إلى جهة فوق من نهر غرانقارو، ويصل إلى محل يبعد عن النهر الذي يصب في «سييلقه» مقدار كيلومتر فقط، ومن هنا يسير على أقصر طريق ويصعد إلى التلال التي في جوار «تره بنيجه»، ثم يذهب إلى «بيلاتوه» ويترك هذه القرية للجبل، ثم يسير من التلال إلى جهة الشمال، وعلى قدر الإمكان يمر بعيدًا عن طريق «بيلكه» و«قوريتو» و«غاجقه» مقدار ٦ كيلومترات، ويصل إلى الطريق الكائنة فيما بين «سوينا بلانينا» وجبل قوريله، ومنها عن جهة الشرق يمتد إلى جبل أورلين ويترك قرية «وارتقويجي» الهرسك.

    ثم يمتد من الشمال الشرقي، ويدع «روانه» داخل الجبل ويمرُّ من تلال «لبرسليك» و«ولجاق»، ويسير من أقصر طريق وينزل إلى نهر «بيوه»، ويتجاوز هذا النهر ويصل إلى «تاره» الكائنة بين «قرقويقه» وبين «وندوينه»، ومن «تاره» يصعد إلى «موجقواق» ويتصل بمحل «سقوج زرو»، ومن هنا إلى قرية «صوقولار»، ويجتمع بالحدود القديمة، ثم يمرُّ إلى تلال «مقرابلانينا»، وتبقى قرية «مقراد» داخل الجبل، ويمر أيضًا من السلسلة الأصلية إلى الطريق المذكورة في خريطة أركان حرب أوستريا تحت رقم ٢١٦٦، ومن فوق مقسم المياه الواقع بين «ليم» و«درين» وبين «سيونه زم»، ثم يتصل بالحدود الجديدة بعد مروره فيما بين قبيلة «قاجي دره قالويجي» وبين «قوسقارجنة» و«قلامنتي» و«غرودي»، وبعد ذلك ينزل إلى صحراء «بودغوريجة»، ويترك قبائل «قوسقارجنة وقلامنتي وغرودي وهوتي» لبلاد الأرناءوط، ويتصل «ببلاونيقه».

    ومن هنا يمرُّ من جوار جزيرة «غوريقه طوبال»، ويتجاوز ماء أشقودرة، ويسير رأسًا من «غوريقه» طوبول إلى التلال، ويمرُّ من مقسم المياه الكائن فيما بين «مغورد» و«قاليمد» مع خط المقسم المذكور، ويترك «ميرقويق» داخل الجبل، وينتهي إلى بحر ونديك «فينيسيا» عند قرية «فروجي»، ثم يلتفت إلى الشمال الغربي ويمر في الساحل من بين قرى «سوسانه» و«زويسي»، ويتصل بمنتهى الحدود الجديدة في جهة الجنوب الشرقي فوق «ورسوته بلانينا».

  • المادة ٢٩: انضمام أنتواري (باري) وخطوط البحر التي تخصها إلى الجبل الأسود مشروط على الصورة الآتية: وهي أن يعاد على الدولة العثمانية الأراضي الكائنة على جنوب تلك الجهة إلى بويانا، من ضمنها دولستجو، ويضم إلى دلماتيا مرسى سيزا والأراضي المتعلقة بها إلى غاية حدودها الجنوبية كما هي مبينة بالتفصيل في الخريطة، ويكون للجبل الحرية المطلقة التامة للسفر في نهر بويانة، ولكن لا يسوغ له أن يبني على النهر حصونًا أو استحكامات إلا ما لزم للمحافظة على أشقودره خاصة، فتكون تلك الحصون والحالة هذه غير خارجة عن دائرة مسافتها حول المدينة المذكورة بستة كيلومترات (٦٠٠٠م أو نحو عشرة أميال)، ولا يكون له بواخر حربية ولا راية، ولا يسوغ لأي دولة كانت أن تدخل بواخرها الحربية إلى مرسى التواري.

    أما الحصون الكائنة في أرض الجبل بين النهر وشط البحر فتهدم بالكلية، ولا يسوغ إعادة بنائها، ويفوَّض لعهدة أوستريا وهنكاريا إدارة البحرية والصحية في التواري وفي شطوط الجبل. وعلى الجبل أن يستعمل القوانين والاصطلاحات البحرية على موجب القوانين والاصطلاحات الجارية في ولماسيا «بأوستريا». وقد تعهدت أوستريا وهنكاريا بأن تحمي بواخر الجبل الأسود التجارية، ويلزم للجبل أن يتفق مع أوستريا وهنكاريا على مد سكة الحديد، وإنشاء طرق عادية في الأراضي التي دخلت حديثًا في حوزته، وعلى تأمين حرية المواصلة عليها.

  • المادة ٣٠: المسلمون وغيرهم الذين يملكون عقارات في الأراضي التي انضمت إلى الجبل الأسود ويريدون أن يستوطنوا خارجًا عن الإمارة لهم حق بأن يبقوا مالكين عقاراتهم بإيجارها أو تشغيلها بواسطة من يختارونه، وتشكل لجنة مؤلفة من مأمورين من العثمانيين وأهل الجبل الأسود لتسوية المسائل التي تتعلق بكيفية نقل الأملاك أو حرثها أو إدارتها، سواء هي من أملاك الوقف أو الأملاك الميرية التي للباب العالي، فتجرى تسوية جميع متعلقات الذين لهم مصلحة فيها، وهذه التسوية تكون في ظرف ثلاث سنين.
  • المادة ٣١: على إمارة الجبل الأسود أن تتفق مع الباب العالي على ما يتعلَّق بتعيين وكلاء من طرفها في الآستانة أو في جهات أخرى من السلطنة العثمانية مما يرى لازمًا. أما أهل الجبل المقيمون في السلطنة العثمانية أو المسافرون فيها فيكونون تحت أحكام الدولة العثمانية على حسب الأصول المقررة بين الدول وعلى حسب العوائد المقررة مع الجبل.
  • المادة ٣٢: يلزم أن عساكر الجبل الأسود تُخلي الأراضي التي هم الآن مستولون عليها مما لم يدخل في حدود إمارة الجبل الجديدة، وذلك في ظرف عشرين يومًا، اعتبارًا من يوم التوقيع على هذه المعاهدة، أو أقل من هذه المدة إذا أمكن، كذلك يلزم للعساكر السلطانية أن تخلي في المدة المذكورة الأراضي التي دخلت الآن في حوزة الجبل.
  • المادة ٣٣: حيث إنه يلزم الجبل الأسود أن يتحمَّل جانبًا من الديون العثمانية العمومية في مقابلة الأراضي الجديدة التي دخلت في حوزته بموجب شروط الصلح، فتعين نواب الدول الأجنبية في الآستانة هذا المبلغ بالاتفاق مع الباب العالي على أصول عادلة.
  • المادة ٣٤: لما كان الموقعون على هذه المعاهدة معترفين باستقلالية إمارة الصرب، فقد ربطتها بالشروط المحررة في المادة الآتية:
  • المادة ٣٥: لا يسوغ التمييز في الاعتقادات الدينية في الصرب ضد أحد حتى يخرجه من الأهلية والجدارة لجميع ما يتعلق بتمتعه بالحقوق المدنية والسياسية، أو بدخوله في الوظائف الميرية أو العمومية، أو نواله الشرف، أو استعماله الصنائع والحرف المختلفة كيفما كان مقرُّه. فلجميع الأهالي التابعين للصرب والأجانب أيضًا الحرية التامة في جميع المتعلقات المذهبية، ولا يسوغ اتخاذ مانع ما في ترتيب درجات أرباب المذاهب المختلفة أو في علاقتهم مع رؤسائهم الروحانيين.
  • المادة ٣٦: إمارة الصرب تكون مالكة للأراضي الموجودة في ضمن الحدود الآتي ذكرها، وهي أن الخط الفاصل يمرُّ على طول الخط الحالي ومن مصب نهر «درينا» في نهر صاوا، ويذهب مع المجرى ويترك «أزرونبق وزخار» للإمارة ولا يترك الخط المذكور؛ أعني الحدود القديمة إلى «قابونيق»، ثم يفترق في ذروة جبل قابونيق عن الخط المذكور، ويسير من جنوب الجبل على طول حدود نيش الشرقية، ويمر من تلال «ماريقا وماردار بلانينا»، وهذه التلال هي الخط الفاصل بين أنهر «إيلبار وسينيقيا وطوبليقا»، وعلى هذا تبقى بره بولاد للدولة العلية، وبعده يسلك خط مقسم المياه إلى جهة الجنوب من بين «برونيقا» و«مدودجا»، ويترك وادي «مدود جاكله» للصرب، ويصعد إلى تل «قولجاق بلانينا»، ويكون هو الخط الفاصل فيما بين الأنهر المسماة «بولجينا وترنيقا وموروا» ويصل إلى تل «بولجنيقا».

    ثم يذهب من تجاه «قاينا بلانينا» إلى مجمع أنهر «قوانسقا وموراوه»، ويتجاوزه ويسير على الخط الفاصل فيما بين مياه النهر الذي يختلط بنهر موراوه في جوار «قوانسقا» و«تره دوس»، ويتصل «ببلانينا إيليجه» فوق «ترغوبست»، ومن هنا؛ أعني من ذروة جبل إيليجه يمتد إلى ذروة جبل «قلتروق»، ويمر من المحلات المدروجة في الخريطة تحت عدد ١٥١٦ و١٥٤٧ ومن «بابينا غورا»، وينتهي إلى جبل «قرني وره»، ثم يبتدئ من هذا الجبل ويجتمع بحدود البلغار؛ يعني يمر من تلال «أستره سرو ويلوغلو ومسيد بلانينا»، ويسير على خط مقسم المياه الواقع فيما بين أستروما و«موراوه»، وينتهي إلى المحلات المدعوة «غاسينا وقرنه يراوه ودار قوسقوه ودراينيقه بلان»، وبعدها يمرُّ من فوق «دشاني قلادنق»، ومن أعلى مقسم مياه «صوقوه وموراوه»، ويذهب رأسًا إلى «أستول»، ومن هنا ينزل إلى قرية «سفوزه» من جهة شمالها الغربي، ويقطع طريق «بيروت» بمسافة مقدار ألف كيلومتر وعن صوفيه، ويصعد على خط مستقيم إلى «ويدليق بلانينا»، ويمر من جبل (رادوجينا) الواقع في سلسلة البلقان الكبيرة، ويترك قرية «دوقنجي» لإمارة الصرب وقرية «سناقوس» إلى البلغارستان.

    ثم يسير من ذروة هذا الجبل إلى جهة الشمال الغربي ويمرُّ من بلقان «سبروق» ومن أستارا «بلانينا»، ويصعد إلى تلال البلقان، وفي جوار «قولا أسميلجوه قوقه» يتصل بحدود الصرب الشرقية القديمة، ويسير على هذه الحدود إلى نهر الطونة، وينتهي عند النهر في «راقويجه».

  • المادة ٣٧: لا يغير شيء في الصرب من الشروط الحالية فيما يخص العلاقات التجارية الكائنة بين الممالك الأجنبية وبين إمارة الصرب إلى أن يجري بدلها اتفاقات جديدة، ولا يسوغ أن يؤخذ على البضائع التي تمر في الصرب مرسلة إلى جهة أخرى شيء من العوائد أو الرسومات. أما المزايا والامتيازات الشاملة الآن رعايا الدول الأجنبية في الصرب وحقوق الأحكام وحماية القناصل لرعاياهم على الأصول المعمول بها الآن؛ فتبقى مرعية الإجراء إلى أن يحصل اتفاق بين إمارة الصرب والدول الأجنبية على تعديلها.
  • المادة ٣٨: التعهدات التي تعهد بها الباب العالي مع دولة أوستريا وهنكاريا، أو مع شركة سكة الحديد في الروم إيلي، أو فيما يتعلق بإتمام السكك الحديدية وتشغيلها في الأراضي التي دخلت في حوزة الصرب؛ تبقى مرعية الإجراء عند إمارة الصرب. وعند التوقيع على هذه المعاهدة يجري اتفاق بين دولة أوستريا وهنكاريا والباب العالي والصرب وإمارة البلغار على قدر ما يخصها لتسوية هذه المسائل.
  • المادة ٣٩: المسلمون الذين يملكون عقارات في الأراضي التي انضمت إلى الصرب، ويريدون أن يستوطنوا خارجًا عن الإمارة، لهم الحرية بأن يبقوا مالكين عقاراتهم بمؤجراتها، أو تشغيلها بواسطة من يختارونه، وستشكل لجنة مؤلفة من مأمورين من العثمانيين والصربيين لأجل تسوية جميع المسائل التي تتعلق بكيفية نقل وإدارة الأملاك المتعلقة بالوقف أو الأملاك الميرية التي للباب العالي، وكذلك تسوية جميع متعلقات الناس الذين لهم مصلحة فيها، وهذه التسوية تكون في ظرف ثلاث سنين.
  • المادة ٤٠: تكون معاملة رعية الصرب القاطنين في السلطنة العثمانية أو المسافرين فيها بحسب أصول الأحكام والقوانين المتداولة بين الدول إلى أن تحصل معاهدة بين الدولة العثمانية والصرب.
  • المادة ٤١: يلزم لعساكر الصرب إخلاء جميع الأماكن التي لم تدخل في حوزة إمارتهم في ظرف خمسة عشر يومًا، اعتبارًا من يوم التوقيع على هذه المعاهدة، كذلك يلزم للعساكر السلطانية أن تُخلي في المدة المذكورة الأماكن التي دخلت في حوزة الإمارة.
  • المادة ٤٢: حيث إنه يتعيَّن على الصرب حمل جانب من الديون العثمانية العمومية في مقابلة الأراضي الجديدة التي حازتها بموجب هذه المعاهدة، فسفراء الدول الأجنبية في الآستانة يعينون مبلغ قيمة الأراضي المذكورة على صورة عادلة بالاتفاق مع الباب العالي.
  • المادة ٤٣: لما كان الموقعون على هذه المعاهدة معترفين باستقلالية رومانيا فربطتها بالشرطين الآتيين:
  • المادة ٤٤: لا يسوغ التمييز في الاعتقادات الدينية في رومانيا ضد أحد حتى يخرجه عن الأهلية والجدارة لجميع ما يتعلق بتمتعه بالحقوق المدنية والسياسية، أو بدخوله في الوظائف الميرية أو العمومية، أو نواله الشرف، أو استعماله الصنائع والحرف المختلفة كيفما كان مقرُّه؛ فلجميع الأهالي التابعين لرومانيا والأجانب أيضًا الحرية التامة في جميع المتعلقات المذهبية، ولا يسوغ اتخاذ مانع ما في ترتيب درجات أرباب المذاهب المختلفة أو في علاقتهم مع رؤسائهم الروحانيين، فتكون معاملة رعايا جميع الدول، سواء كانوا من التجار أو غيرهم، في رومانيا بدون تمييز في المذهب على قدم مساواة تامة.
  • المادة ٤٥: إمارة رومانيا تعيد على حضرة إمبراطور الروسيا أراضي بيسارابيا التي كانت انفصلت من الروسيا بموجب معاهدة باريس التي أمضيت في سنة ١٨٥٦، وحدودها في الجهات الغربية من مجرى نهر البروث، وفي الجنوب من نهر «كيليا» وفم «ستاري استانبول».
  • المادة ٤٦: يضم إلى رومانيا الجزر الثلاث التي على الطونة وجزر «يلان طاغ» وسنجقية طولجي، وهي تشمل أقضية كيليا وسولينا ومحمودية وزانجة وطولجي وماجين وباباطاغ وهرسوا وكوستنجه ومجيديه، وما عدا ذلك يعطى لها أيضًا الأراضي الكائنة على جنوب الدبروجه إلى أن تصل إلى خط يبتدئ من شرقي سيلستريا ويمتد إلى البحر الأسود على جنوب منغاليه، ويكون تعيين تخوم تلك الحدود في تلك المواقع بمعرفة اللجنة الأوروباوية المنوط بعهدتها تعيين حدود البلغار.
  • المادة ٤٧: مسألة تقسيم المياه والصيد تعرض على لجنة الطونة الأوروباوية فتكون حكمًا عليها.
  • المادة ٤٨: لا يجوز وضع رسومات أو عوائد في رومانيا على السلع التي تَرِدُ إليها بقصد إرسالها إلى جهة أخرى.
  • المادة ٤٩: يسوغ لرومانيا أن تعقد مع الدول الأجنبية اتفاقًا لتسوية مسألة امتيازات وظائف قناصلهم فيما يتعلق بحماية رعاياهم في الإمارة، إلا أن الحقوق الحالية تبقى مرعية الإجراء ما دام لم يحصل اتفاق عمومي بين الإمارة والدول.
  • المادة ٥٠: تبقى رعية رومانيا القاطنون في الممالك العثمانية أو المسافرون فيها، أو رعايا العثمانيين المسافرون في رومانيا أو القاطنون فيها، متمتعين بالحقوق التي تشمل رعايا بقية الدول الأوروباوية إلى أن تعقد معاهدة لتسوية امتيازات القناصل ووظائفهم بين الدولة العثمانية ورومانيا.
  • المادة ٥١: تعهدات الباب العالي ووظائفه فيما يتعلق بإتمام الأشغال النافعة وما أشبهها في الأراضي التي دخلت في حوزة رومانيا تعود إلى عهدة رومانيا.
  • المادة ٥٢: لأجل زيادة تأمين حرية السفر في نهر الطونة التي اعترف أنها من المصالح الأوروباوية قرَّ رأي الموقعين على هذه المعاهدة بأن جميع الحصون والاستحكامات الموجودة الآن على النهر من عند المحل الذي يقال له «أبواب الحديد» إلى فم النهر تهدم بالكلية؛ فلا يسوغ بعد هذا بناء غيرها، ولا يجوز سفر إحدى البواخر الحربية على الطونة إلى «أبواب الحديد» إلا البواخر الصغيرة المعينة لخدمة الضبطية في النهر وخدمة الكمارك، ولكن يسوغ لبواخر الدول الموجودة في فم نهر الطونة لأجل الحراسة أن تسافر في النهر إلى غاية «غلاتس».
  • المادة ٥٣: تبقى لجنة الطونة الأوروباوية مقررة في وظائفها ولرومانيا فيها نائب، وتجري عمال وظائفها إلى «غلاتس» بحرِّية تامة مستقلة عن مداخلة مأموري تلك الأراضي، وتبقى أيضًا سائر معاهداتها واتفاقاتها وأشغالها وأعمالها وقراراتها فيما يتعلق بامتيازاتها وخصائصها ووظائفها ثابتة الإجراء.
  • المادة ٥٤: قبل نهاية الأجل المقرَّر لبقاء لجنة الطونة الأوروباوية بسنة واحدة يلزم للدول أن يتفقوا على تطويل سلطتهم، أو على التعديلات التي يرون إجراءها من اللازم.
  • المادة ٥٥: جميع النظامات المتعلقة بالسفر في النهر وبوظائف الضبطية فيه من «أبواب الحديد» إلى «غلاتس» يكون ترتيبها وتنسيقها من طرف اللجنة الأوروباوية بمساعدة نواب من طرف الممالك الكائنة بسواحل النهر، ويصير تأليفها بالنظامات الموجودة أو التي ستحدث في أمور النهر أسفل من «غلاتس».
  • المادة ٥٦: يلزم للجنة الطونة الأوروباوية أن تتفق مع الدول فيما يتعلق بتنوير الفنارات الكائنة على جزر «يلان طاغ».
  • المادة ٥٧: قد فُوِّضَ لأوستريا وهنكاريا الأشغال اللازم إجراؤها لإزالة موانع السفر التي تحدث من «أبواب الحديد» والشلالات، ويلزم على الممالك المجاورة للنهر من الجهة المذكورة أن تجري جميع التسهيلات اللازمة لمصلحة تلك الأشغال. أما المواد المقررة في المادة الرابعة من معاهدة لوندرة التي أمضيت في ١٣ مارس سنة ١٨٧١ فيما يتعلق بأخذ ضرائب مؤقتة لسد مصاريف تلك الأعمال والأشغال؛ فتبقى منوطة بدولة أوستريا وهنكاريا.
  • المادة ٥٨: الباب العالي يسلِّم إلى إمبراطورية الروسيا في آسيا (الأناطول) أراضي أردهان وقارص وباطوم، مع مرسى باطوم وجميع الأراضي الكائنة بين تخوم الروسيا والتركية القديمة والتخوم الآتي بيانها، وهذه الحدود الجديدة تبتدئ من البحر الأسود على حسب الخط المقرر في معاهدة أياسطفانوس إلى نقطة في الجهة الشمالية الغربية من «خورده» وعلى جنوب «أرتوين»، وتمتد على خط مستقيم إلى نهر «جورك»، وبعد عبوره هذا النهر يسير شرقي «أشمشين»، ويستمر على خط مستقيم في الجنوب، وهناك يلاقي حدود الروسيا المشروحة في المعاهدة المذكورة، وذلك في نقطة على جنوب «ناريمان» مع بقاء مدينة «أولتي» في حوزة الروسيا.

    ثم يبتدئ الخط بالقرب من «ناريمان» إلى جهة الشرقية، ويكون مروره من «تربنيق»، وبعد دخول مدينة «تربنيق» في حوزة الروس يسير إلى «بنك شاي» مجاريًا نهره إلى أن يصل إلى «باردوز»، وبعد دخول مدينة باردوز ويكي كوي في عهدة الروسيا يؤخذ نقطة من غرب قرية «قره أونجان» تجعل الحدود عليها على خط إلى أن يصل إلى «مجنجرت»، ومنها على خط مستقيم إلى أن يصل إلى تلال «قباداغ»، فيستمر على خط مصب نهر «ألاركس» في الشمال ومصب نهر «مراد صوي» في الجنوب إلى أن يصل إلى حدود الروسيا القديمة.

  • المادة ٥٩: إمبراطور الروسيا يصرح هنا بأن غاية مقصده أن يجعل «باطوم» مرسًى حرًّا (معنى حرًّا أن تكون البضائع معفاة من جميع رسومات الدخول أو الخروج).
  • المادة ٦٠: تعيد الروسيا على تركيا أودية الشغراد ومدينة «بايزيد» التي سلمت للروسيا بموجب المادة ١٩ من معاهدة أياسطفانوس، وقد سلم الباب العالي إلى مملكة إيران مدينة «قطور» وأراضيها كما قرَّ عليه رأي اللجنة الإنكليزية والروسية التي أنيط بعهدتها تعيين تخوم تركيا وإيران.
  • المادة ٦١: الباب العالي يتعهد بأن يجري بدون تأخير في الولايات التي سكانها من الأرمن سائر الإصلاحات والتحسينات التي تحتاج إليها أمورها الداخلية، وأن يتعهد بتأمينهم من تعدِّي الجراكسة والأكراد عليهم، ويفيد الدول الأجنبية المرَّة بعد المرة بالتشبثات التي اتخذها لهذه الغاية، وهي تراقب كيفية إجرائها.
  • المادة ٦٢: حيث إن الباب العالي أظهر رغبته في إبقاء أصول حرية الديانة وتوسيع مداها توسيعًا مطلقًا؛ فإن الموقعين على هذه المعاهدة ينزلون هذه الرغبة منزلة الفعل، فلا يسوغ التمييز في الاعتقادات الدينية في جميع أطراف السلطنة العثمانية حتى يخرج أحد من الأهلية والجدارة بجميع ما يتعلق بتمتعه بالحقوق المدنية والسياسية، أو بدخوله في الوظائف الميرية أو العمومية، أو نواله الشرف، أو استعماله الصنائع والحرف المختلفة كيفما كان مقرُّه، ويؤذن لجميع الناس بأن يؤدُّوا الشهادة في جميع المحاكم بدون تمييز أحد في الدين. واستعمال سائر الأمور الدينية يكون بحرية؛ فلا يكون مانع ما لترتيب درجات أرباب المذاهب المختلفة أو لعلاقتهم مع رؤسائهم، ويكون الإكليروس (أصحاب الرتب الكنائسية) والزوَّار والرهبان من جميع الأمم الذين يسافرون في الممالك العثمانية في الروم إيلي والأناطول حائزين حقوقًا واحدة وامتيازات وخصائص واحدة، وفوِّض إلى القناصل ونوَّاب الدول الأجنبية في تلك الممالك حق في حماية أولئك المذكورين وحماية محلاتهم الدينية والخيرية حماية رسمية في الأماكن المقدَّسة أو غيرها.

    أما الحقوق المسلمة لفرنسا فلم تزل مرعية الإجراء، وصار من المعلوم المقرَّر هنا أنه لا يسوغ تبديل حال من الأحوال الحاضرة في الأماكن المقدَّسة. أما زوَّار جبل أثوس من أي جنس كانوا فيبقون حافظين لأملاكهم وامتيازاتهم ومنحهم السابقة، ويبقون متمتعين بمساواة تامة في الحقوق والمزايا.

  • المادة ٦٣: تبقى معاهدة باريس التي أمضيت في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦ ومعاهدة لوندرة التي أمضيت في ١٣ مارس سنة ١٨٧١ مرعية الإجراء، وذلك فيما يتعلق بالمواد التي لم تنسخها ولم تعدلها هذه المعاهدة.
  • المادة ٦٤: يقع التصديق على هذه المعاهدة بعد ثلاثة أسابيع أو أقل إن أمكن. وللشهادة بذلك أثبت الموقعون أسماءهم على هذه المعاهدة بعد أن وضعوا عليها أختامهم.
تحريرًا في برلين في يوم الثالث عشر من شهر جوليه (تموز) من سنة ١٨٧٨
الإمضاء
فون بسمارك، سالسبوري، فون بولوي، أودروسل
هوهنلوه، كورتي، أندراسي، لاوني
كاروليبي، غور جيقوف، هايمرل، شوفالوف
وادنطون، دوبريل، صان فاليه، قره تيودوري
ديبريس، محمد علي، بيكنسفيلد، سعد الله

ومن تأمل نصوص هذه المعاهدة يرى أن الدولة العلية لم تربح منها شيئًا يذكر، فأهم ما جاء فيها أن صارت حدود إمارة البلغار لا تتجاوز جبال البلقان، لكن فُصلت ولاية الروم إيلي الشرقية بأجمعها عن الدولة، وحظر عليها إقامة جيوشها بها، وصار تعيين واليها باتفاق الدول، وردَّت سواحل الأرخبيل بما فيها ميناء قوله إلى الباب العالي، فصار ما سمحت أوروبا ببقائه له من البلاد بتركية أوروبا متصلًا ببعضه، لكن سلمت ولايتي البوسنة والهرسك إلى مملكة النمسا والمجر لاحتلالها وإدارتها لأجل غير محدود، أو بعبارة أخرى ملكتا لها تمليكًا تامًّا باتفاق جميع الدول.

ومن جهة أخرى أضيف إلى مملكة اليونان جزء ليس بقليل من الأراضي لتوسيع حدودها من جهة الشمال مع أنها لم تشترك في الحرب، ولم يكن لها أدنى حق في طلب أقل تعويض، سواء كان نقديًّا أو مستبدلًا بأراض. وكذلك وسعت حدود الصرب والجبل الأسود، وأعطيت لأمير الجبل ميناء مهم على بحر الأدرياتيك، وهي ميناء أنتيفاري (باري)، وزيادة على ذلك تعرض المؤتمر للإصلاحات الداخلية المراد إجراؤها لتحسين حال المسيحيين، وخصوصًا الأرمن (انظر بند ٦١).

ومن الغريب أنها ألزمت الدولة العلية أن تفيد الدول الأجنبية المرَّة بعد المرَّة عن الإجراءات التي اتخذتها للوصول إلى هذه الغاية، وعلى الدول مراقبة ذلك؛ أي إن الدول جعلت لنفسها حق المراقبة على أمور دولتنا العلية الداخلية بحجة حماية المسيحيين عمومًا وحماية الأرمن من تعدي الأكراد والجراكسة. ثم أتت في البند الثاني والستين على بيان ما يجب مراعاته في حق باقي الطوائف الغير الإسلامية؛ فمن يتأمل في معاهدة برلين يَرَ أنها لم تقلَّ إحجافًا بحقوق الدولة العلية عن معاهدة سان إسطفانوس، بل إنها أشدُّ وطأة وتأثيرًا على نفوذ العثمانيين؛ إذ أعطت كثيرًا من أراضيها إلى دول لم تشترك قط في الحرب، مثل اليونان والعجم، ودولة النمسا والمجر، واشتركت وانتصرت عليها العساكر العثمانية مرارًا في بادئ الأمر، ولولا مساعدة الروسيا لها وسوقها جيوشها الجرَّارة لنجدتها لأجهزت الدولة العلية عليها؛ كالصرب والجبل الأسود، وناهيك ما فيها من التداخل في أمورها الداخلية المحضة.

وإلى هنا نمسك عنان القلم عن الدخول في موضوع ما ألمَّ بالدولة العلية المحروسة من المصائب بسبب هذه المعاهدة، ولا نتعرَّض لذكر إخلال بلغاريا بها بطردها أميرها إسكندردي باتمبرج وانتخاب الأمير فردينان بدون قبول الدول، ولا إلى ضم الروم إيلي الشرقية إليها، ولا إلى عدم احترام الروسيا لبنودها بتحصينها ميناء باطوم، ولا إلى احتلال فرنسا للقطر التونسي، ولا إلى دخول عساكر إنكلترا إلى ديارنا المصرية لإخماد الثورة العرابية وبقائها بها إلى الآن بدعوى الإصلاح؛ فإن جميع هذه الأمور حديثة العهد منطبعة بأسبابها في عقول القرَّاء، لا سيما وأن الخوض فيها يستدعي الخروج عن موضوع هذا الكتاب التاريخي والدخول في المسائل السياسية المحضة، مما ليس من شأننا التوسع فيه الآن.

(٤) الدستور العثماني «النهضة الوطنية والإصلاحات في الدولة العلية»

توفي السلطان سليمان القانوني سنة ١٥٦٦م والدولة العلية في إبان مجدها وأوج عظمتها، وكانت ممالكها تُحَدُّ شرقًا بالحدود الهندية وغربًا بالمحيط الأطلانطي، وكانت أوروبا ترهب سطوته وتخشى قوته.

فخلفه من بعده ملوك لم يتعقَّبوا خطواته ولم ينهجوا منهجه، لا سيما وقد تألبت عليها الدول الأوروبية، واختلفت عليها الفتن الداخلية؛ فبدأت في الانحطاط، وانسلخت منها أجزاء كثيرة، وكانت أحيانًا ترتقي وأحيانًا تنحطُّ، إلى أن تولى الخلافة السلطان سليم الثالث سنة ١٧٨٩ والبلاد في اختلال، والأحكام في ضعف والانكشارية قابضون على زمام الأمور، يولون من شاءوا من السلاطين ويخلعون من شاءوا، ويقتلون من لم يسر وفاق أهوائهم وأغراضهم، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها، فهاجه حب الإصلاح، وصرَّح بميله إلى تنظيم الجند على النمط الحديث وتسليحهم بالأسلحة الحديثة الاختراع، فلم يوافق ذلك الانكشارية فبطشوا به؛ فمات والإصلاح في مهده.

على أن الفكرة رسخت في أذهان العثمانيين؛ فتلقاها السلطان محمود وعمد إلى الإصلاح من الوجهة الإدارية والعسكرية؛ فبدد جند الانكشارية وأحلَّ محلهم جيشًا منظمًا، وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام، ولكنه توفي ولم يتمِّم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيمًا غير تام.

وكانت فكرة الإصلاح قد سرت بين فئة من رجال الدولة؛ فأقاموا يبثونها على عهد السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأنًا وأعلاهم يدًا مصطفى رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا.

فلما توفي السلطان محمود وخلفه السلطان عبد المجيد نشر خط الكلخانة المشهور سنة ١٨٣٩ميلادية؛ أي في ٢٦ شعبان سنة ١٢٥٥ هجرية، فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا.

وأخذ رجال الدولة منذ إصدار ذلك الخط الهمايوني ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع القضاء.

ثم تألفت لجنة جمعت أعاظم الأساتذة العثمانيين؛ فألفوا المجلة الشرعية التي صدرت الإرادة الشاهانية من السلطان عبد العزيز عام ١٢٨٩ هجرية بالسير حسب نصوصها، وسن قانون الأراضي سنة ١٢٧٤ هجرية، وقانون الطابو سنة ١٢٧٥ﻫ، وقانون الجزاء سنة ١٢٧٤ﻫ. وكل هذه القوانين مقتبسة من القوانين الفرنسية مع مراعاة نصوص الشريعة الإسلامية.

ثم وضع قانون التابعية العثمانية، وتنظيم المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظامات الإدارة الملكية، ونظام إدارة الولايات، ونظام شورى الدولة. ووضعوا نظامًا للمعارف، ونظامًا للمطبوعات، ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظامًا للرسومات، وآخر للمعادن، وغيره للطرق والمعابر، وغير ذلك مما يقتضيه سير الحضارة ويلائم حالة الأمة، وبالجملة فإنهم لم يتركوا شيئًا من لوازم إدارة الدولة حتى دونوا له قانونًا.

فمجموع هذه القوانين والنظامات كان معروفًا في بلاد الدولة العلية بالدستور.

ومع ذلك فكان الحكم مطلقًا وإرادة السلطان فوق كل قانون. وفي المدة الوجيزة التي جلس فيها السلطان مراد على سرير الملك كان مدحت باشا وحزبه الحر قد انتهى من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس المبعوثين.

(٤-١) القانون الأساسي والسلطان عبد الحميد

خلع السلطان مراد سنة ١٢٩٣ هجرية، الموافق ١٨٧٦م، وجلس السلطان عبد الحميد على عرش الخلافة، وكان قد وعد رئيس الأحرار مدحت باشا قبل جلوسه على العرش بمنح القانون الأساسي وإمتاع الأمة العثمانية بالحرية.

إلا أن عبد الحميد أظهر حين جلوسه علامات دلَّت على إخلافه وعده؛ فمن ذلك أنه جمع أعداء الأحرار وأضداد القانون الأساسي وعيَّنهم في السراي لتقوية مركزه، مع أنه وعد مدحت باشا بتعيين الشاعر العثماني الكبير نامق كمال بك زعيم الانقلاب باشكاتبًا، وضياء باشا الأديب السياسي الشهير مشيرًا للمابين؛ فأخلف وعده، كما أنه كان يسعى جهده لاستمالة الرأي العام إليه، فكان يخدع الأهالي، إلا أن الأحرار لم ينخدعوا، واستعدوا للمناضلة في سبيل القانون الأساسي.

وكانت الدولة في ذلك الوقت تحارب الصرب فهزمتها، واستولى العثمانيون على قلعة «ألكسناج»؛ فطلب أمير الصرب توسط الدول، فراجعت الباب العالي بعد أن قررت وقف الحرب لمدة بموافقة الباب العالي. وقد اشترط الباب العالي شروطًا لعقد الصلح مجملها أن يحضر أمير الصرب إلى الآستانة ويعرض طاعته على السلطان، وألا تجند الصرب أكثر من ١٠٠٠٠ جنديًّا، وأن تحتل الجنود العثمانية القلاع الصربية كلها، وأن تهدم جميع الاستحكامات المقامة في ميدان القتال، وأن تدفع الصرب التعويضات الحربية، وأن يقوم بإنشاء الخطوط الحديدية في الصرب شركات عثمانية بموافقة الباب العالي.

ولكن هذه الدول رفضت هذه الشروط، وطلبت من الباب العالي إبقاء الصرب على ما كانت عليه قبل الحرب، ومنح البوسنة والهرسك التي كانت ثائرة أيضًا إدارة مستقلة مع منح البلغار مثلها.

فكان ذلك سببًا لطمع الصربيين؛ فقرروا محاربة الدولة، ونظم جيوشهم المهندسون الروسيون، ولكن كان الانهزام نصيبهم؛ فاستولى العثمانيون على ألكسناج ودلغراد، وساروا نحو العاصمة بلغراد؛ فاستنجد أمير الصرب بالروسيا، فأمر قيصرها سفيره في الآستانة بتقديم بلاغ شديد اللهجة إلى الباب العالي، وقررت بعد ذلك عقد مؤتمر في الآستانة للنظر في أمر البلقان.

وبالجملة فقد كان مركز الدولة العلية حرجًا للغاية؛ لأن أوروبا كلها تألَّبت عليها، وكان يشتمُّ من بلاغ سفير الروسيا رائحة الحرب؛ فقرر الوكلاء إذ ذاك منح القانون الأساسي للتخلص من هذه الغوائل، واقتنع السلطان عبد الحميد بوجوب تنفيذه؛ لأنه كان من المستحيل قبول طلبات أوروبا، ولاتِّقاء الأخطار التي تنجم من رفض تلك الطلبات كان الواجب إجراء بعض الإصلاحات، والإصلاح الذي لا تتمكن أوروبا من انتقاده هو تنفيذ القانون الأساسي.

وفي ذلك الوقت تعيَّن مدحت باشا صدرًا أعظم؛ وذلك لأن الدول الأوروبية كلها تَثِق به؛ لعلمها أنه رئيس الأحرار وواضع القانون الأساسي.

وقرر السلطان عبد الحميد تعيين مدحت باشا؛ كي ينظر في مسألة المؤتمر الأوروبي الذي قررت الدول عقده في الآستانة.

فكان أول ما قام به مدحت باشا هو إنهاء المنازعات بين الدولة وبين الصرب والجبل الأسود وبلغاريا، فتمكن من إنهائها في زمن قصير، وبدأ يسعى جهده لإعلان القانون الأساسي في الساعة التي سيجتمع فيها المؤتمر الدولي في الآستانة.

وفي اليوم السابع من شهر ذي الحجة سنة ١٢٩٥ اجتمع الوكلاء والعلماء والأمراء وغيرهم في الباب العالي، ثم أقبل مدحت باشا وقرأ الإرادة الشاهانية التي منحت الأمة العثمانية الدستور والحرية؛ فهتفوا له جميعًا وحيَّاه العثمانيون من صميم قلوبهم، وإذ ذاك أُطلقت القنابل تحيةً للقانون الأساسي، وكان أعضاء المؤتمر الدولي مجتمعين في الطوبخانة، وبينما كانوا يتباحثون في النقط التي سيتناقشون فيها سمعوا القنابل وهي تدوي، فقام صفوت باشا ناظر الخارجية وقال للأعضاء: «إن الأمة العثمانية قد نالت مطالبها الشرعية وهي تتمتع بحريتها الشرعية، فلا لزوم لهذا الاجتماع بعد هذا الانقلاب.» فوجم الجميع وظلوا ساكتين. فطلب سفير الروسيا المناقشة في الموضوع، ولكن المندوبَين العثمانيين انسحبا وخرجا، وقد قام العثمانيون بمظاهرة ضد اجتماع المؤتمر الدولي وطلبوا الحرب.

اجتماع مجلس المبعوثين الأول

اجتمع مجلس المبعوثين لأول مرة سنة ١٨٧٧م في سراي طولمه باغجه، وافتتحه السلطان عبد الحميد بخطابة مطولة بحث فيها — بعد مقدمة تاريخية — عن الامتيازات التي مُنحت للعناصر غير المسلمة، ثم القروض التي عقدت بعد حرب القرم، ثم الاختلالات المالية التي حدثت أثناء حكم السلطان عبد العزيز في عصيان البوسنة والهرسك، ثم وجوب منح القانون الأساسي لتخليص الدولة من الاضمحلال والانقراض ثم قال: «عليكم أيها الأعضاء هذه السنة أن تضعوا النظامات الداخلية للمجلس، وقانون الانتخاب، وقوانين إدارة الولايات والنواحي، وقانون البلدية، وأصول المحاكمات المدنية، وقانون ترقية الموظفين، وقانون المطبوعات، وديوان المحاسبات، والتدقيق في الميزانية.»

على أنه لم يكد ينتظم مجلس المبعوثين وينظر في شئون الدولة حتى صدرت الإرادة الشاهانية بفضه؛ فتقوَّضت كل أركان ذلك البناء، وابتُليت الأمة بطور استبداد جديد لم تعهد نظيره حتى في عصور الظلمات.

هدم السلطان عبد الحميد ما بناه الأحرار، ولكن رغمًا من ذلك لم تَمُت الفكرة في رءوس العثمانيين؛ فإن هذا الجسم على قوته الكامنة — بل على ضعفه الظاهر — لم يَقْوَ على تحمل أذى الحكومة الحميدية بما انتابته من ضروب الظلم، لا سيما وألوية الحكومات الدستورية قد انتشرت من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وكواكب الحرية قد سطعت في كل مكان.

فبدأ الأحرار يعملون ليل نهار حتى انتصروا ذلك الانتصار الباهر عام ١٩٠٨؛ فنالت الأمة العثمانية الدستور بجهاد جيشها الباسل.

انتشرت الفكرة الوطنية من عهد مدحت باشا، وساعد على انتشارها قصائد الشاعر العظيم نامق كمال بك، الذي أدركه الموت في سجن ماغوسه.

ألف نيازي بك أول عصابة في رسنة، وسار على أثره أنور بك ورائف بك وحسن بك وصلاح الدين بك.

أما إدارة الحركة فكانت في سلانيك، والجمعية العمومية للاتحاد والترقي في باريس.

وكان الجميع يجتهدون لنشر الأفكار الحرة والمبادئ الدستورية.

ومما ساعدهم على نشر أفكارهم أنه لم يكن بينهم خائن؛ فقويت حركتهم واتسعت حتى أصبح لا يمكن بقاؤها تحت طي الخفاء.

وكانت لجنة الاتحاد والترقي وقفت مقدمًا على القوى التي يمكنها أن ترتكن عليها فوجدتها كافية، وهذه القوى مؤلفة من الفيلقين الثاني والثالث المعسكرين في «مناستر وأسكوب وأدرنة وأزمير»، ومن الفيلق الرابع المعسكر في أرض روم.

فكان من المستحيل على الحكومة الحميدية إرسال الفيلق الأول المعسكر في الآستانة لمحاربة الدستوريين؛ لأنه لا يمكن تجريد العاصمة من الجند، ومع ذلك فكان أغلب الضباط منضمين إلى الدستوريين.

وكان جنود الفيلق الثاني والثالث أكثر من غيرهما؛ فبدأ الدستوريون يؤلفون عصابات وطنية لمقاومة الحكومة إذا حاولت عرقلة مساعيهم.

فقامت عصابة نيازي بك، ثم ظهرت عصابة أنور بك ورائف بك وحسن بك وغيرهم.

وانتهى الدستوريون من وضع الخطة في أواخر شهر يونيو سنة ١٩٠٨، فأرسلت الحكومة الحميدية شمسي باشا لاقتفاء أثر عصابة نيازي بك، ولكنه قتل قبل أن يبدأ في مهمته، وأرسلت أيضًا من أزمير ثلاثين فرقة من فرق الرديف؛ فانضمت إلى الدستوريين وقوت صفوفهم.

وفي يوم ٢١ و٢٢ و٢٣ يوليو أرسل الدستوريون التلغرافات إلى الصدر الأعظم من سالونيك ومناستر وأسكوب وسيريس، هددوا فيها الآستانة بالزحف عليها إذا لم يعلن الدستور، فلما وصلت هذه التلغرافات إلى السلطان عبد الحميد أصدر الإرادة الشاهانية بمنح الدستور والقانون الأساسي.

الحادثة الارتجاعية وخلع عبد الحميد

تفرق شمل المستبدين منذ إعلان الدستور، وازداد النفور بينهم وبين لجنة الاتحاد والترقي؛ فأخذوا يفكرون في اجتثاث أصول الفساد الذي يزعمونه، فشجعوا أولًا الجرائد على الكتابة ضد الجمعية.

ثم قامت حامية الآستانة بإيعاز من أركان السراي، ولخصوا مطالبهم في شكل ديني كي ينضم إليهم أهالي الآستانة، وها هي مطالبهم:
  • (١)

    إحياء الشريعة.

  • (٢)

    عزل الصدر الأعظم وناظري الحربية والبحرية.

  • (٣)

    طرد أحمد رضا بك وحسين جاهد بك وجاويد بك ورحمي بك وطلعت وإسماعيل حقي بك … إلخ من المجلس.

  • (٤)

    عزل محمود مختار باشا لأنه لم يشترك معهم.

  • (٥)

    العفو عنهم.

فعقد مجلس المبعوثين اجتماعًا فوق العادة، ومع أن عدد الأعضاء لم يتجاوز الخمسين فإنهم قرروا إجابة مطالب الثوار، وانتخبوا وفدًا منهم ليبلغ السلطان قرارهم؛ فتعيَّن إذ ذاك توفيق باشا صدرًا أعظم وأدهم باشا ناظرًا للحربية، وقرر العفو عن الجنود؛ فبدأ أولئك يطلقون البنادق احتفالًا، وكان يبلغ عدد أولئك ثلاثين ألفًا.

واجتمع المجلس مرة أخرى بعدها؛ فقرر قبول استقالة الرئيس أحمد رضا بك.

وانقلبت لهجة الجرائد انقلابًا إجباريًّا؛ فباتت تتكلم عن السلطان عبد الحميد كما كانت تتكلم عنه أيام الاستبداد.

وكانت الحالة كذلك في الآستانة، فوردت الأنباء بمجيء الجنود من الروم إيلي لحماية الدستور ومجلس المبعوثين.

ثم حاصر جيش الحرية الآستانة، فأوفد المبعوثون وفدًا لمقابلته.

ودخل الجيش تحت قيادة محمود شوكت باشا الآستانة وحاصر يلديز، وحدثت هناك موقعة كبيرة انتهت بتسليم حامية يلديز.

ولكن السلطان عبد الحميد استمرَّ على المقاومة؛ فقرر جيش الحرية أن يحمل الحملة الأخيرة؛ فأطلقت القنابل على حامية الباب العالي والنادي العسكري واستولت عليهما.

ثم قبضت على الكثيرين من أنصار الحكم القديم الذين أثاروا الفتن، ومن بينهم مراد بك الداغستاني، وأعدم الجواسيس رميًا بالرصاص، ويقدر عدد القتلى ﺑ ١٢٠٠ قتيل. وحاصرت الجنود الدستورية بعدها قشلاقات أسكودار فاستولت عليها، ولم يبقَ إذ ذاك أي خطر على القانون الأساسي، فعاد أعضاء البرلمان إلى الآستانة، واجتمعت الجمعية العمومية لتتداول في أمر السلطان عبد الحميد.

وكانت النتيجة عزل السلطان عبد الحميد وتولية السلطان رشاد مكانه.

figure

وتمَّ يوم ٢٧ أبريل سنة ١٩٠٩ تتويج السلطان رشاد باسم السلطان محمد الخامس. وبالجملة فإن أنصار الاستبداد أثاروا فتنتهم الأخيرة، فوقع الدستور في أزمة شديدة وتشتت شمل عشاقه وحماته، وترقب الملأ أن يعيد السلطان عبد الحميد ما فعله مع الدستور الأول، ولكن كانت الروح الدستورية قد قويت في قلوب العثمانيين وارتكزت على قوة الجند؛ فاحتمل أنصار الدستور تلك الضربة بالصبر والثبات، وتجدد النزاع الطبيعي بين الاستبداد والحرية، وانتهى بخلع السلطان عبد الحميد.

١  سياسي مجري شهير، ولد سنة ١٨٢٣، وتربى في مدرسة «بودابست» الكلية، واشتغل بالسياسة في سنة ١٨٤٨. كان من أهم دعاة الثورة، وساعد المسيو «كسوت» على طلب الحرية والمحاربة للحصول عليها. وفي أثناء الثورة سافر إلى الآستانة وتحصَّل من جلالة السلطان عبد المجيد على وعد بالمساعدة، ومنها قصد بلاد الإنكليز، وهناك وصله خبر الحكم عليه بالإعدام غيابيًّا؛ فلم يجسر بالعودة إلى بلاده، وبعد أن أقام خارجًا عنها نحو عشر سنوات أذن له بالرجوع إليها؛ فعاد إلى وطنه سنة ١٨٥٩. ولما تمَّ الوفاق بين المجر والنمسا على أن يكون لكل من الأمتين حكومة مستقلة ومجلس نواب مخصوص؛ انتخب أندراسي وكيلًا لمجلس الأمة، ثم رئيسًا لمجلس وزراء المجر، وحضر بهذه الصفة تتويج فرنسوا جوزيف ملكًا على المجر، ثم عين وزيرًا لخارجية النمسا والمجر سنة ١٨٧١. ولما انتشبت الحرب التركية الروسية سنة ١٨٧٧؛ لزم الحياد ولم يساعد الدولة العثمانية حسب رغبة أهالي المجر؛ فنفر أبناء وطنه منه، ودعوه بخائن الوطن؛ لاختلاسه ولايتي البوسنة والهرسك منها بدون حق، ثم أبرم مع ألمانيا التحالف الذي صار ثلاثيًّا بانضمام إيطاليا إليه، واستقال من الأشغال سنة ١٨٧٨ طلبًا للراحة. وتوفي سنة ١٨٩٠.
٢  مدينة قديمة إسلامية بأواسط آسيا كثيرة العمارة والتجارة، يبلغ عدد سكانها ١٢٥ ألف نسمة، واحتلها الجنرال تشرنايف الروسي سنة ١٨٦٥، ولم تزل تابعة للروسيا.
٣  هو روسي الأصل ومسيحي الدين، ثم اعتنق الدين الإسلامي. وفي سنة ١٢٦١ دخل في سلك العسكرية، وفي سنة ١٢٨٧ وصل إلى رتبة فريق. ولما ابتدأت الحرب الروسية أحسن إليه برتبة المشيرية، وأرسل إلى جهات الرومللي.
٤  مارشال فرنساوي، ولد سنة ١٨٢١، ولما بلغ العشرين من عمره دخل العسكرية بدرجة عسكري، وسافر إلى بلاد الجزائر؛ فترقى فيها تدريجيًّا حتى وصل إلى رتبة لواء سنة ١٨٥٤، وأعطيت إليه رتبة فريق في حرب القرم، ثم رتبة مشير (مارشال) في محاربة المكسيك. وفي حرب سنة ١٨٧٠ جعل قائدًا عامًّا للجيش المحافظ على مدينة متس وضواحيها؛ فسلم جيوشه ومهماته للبروسيا في ٢٨ أكتوبر سنة ١٨٧٠، ثم حوكم أمام مجلس عسكري في سنة ١٨٧٣، وحكم عليه بالإعدام بعد التجريد من جميع رتبه ونياشينه، وعفت عنه الحكومة مستبدلة الإعدام بالسجن المؤبد؛ فجرد وسجن، ثم هرب وأقام بمدينة مدريد (المسماة في كتب العرب بجريط) حتى توفي سنة ١٨٨٨.
٥  قائد روسي، ولد سنة ١٧٤٣، واشتهر في محاربة وفتح عدة أقاليم بأواسط آسيا. وفي سنة ١٨٧٣ احتلَّ مدينة خيوة عنوة، وامتاز في هذه الحرب الروسية الأخيرة، وبعد انقضائها عاد إلى بلاد تركستان، وحارب بعض قبائلها. وتوفي بغتة في مدينة موسكو سنة ١٨٨٢ غير بالغ الأربعين من عمره.
٦  مدينة جميلة بإمارة باد، وتسمى بادن أو بادن بادن بالتكرار، وبها حمامات معدنية حارة يقصدها كثير من الناس للاستحمام بها، ولا يزيد عدد سكانها الأصليين عن ثلاثة عشر ألف نسمة.
٧  اللورد نابير هو الذي حارب طيودوس — ملك الحبش — وفتح حصن مجدلا الشهير، فأضيف إلى اسمه تذكارًا لانتصاره. وأما اللورد ولسلي فهو الذي حارب العرابيين في التل الكبير، وانتصر عليهم في سبتمبر سنة ١٨٨٢.
٨  سياسي إنكليزي شهير، ولد سنة ١٨٠٥، واشتغل أولًا بتأليف الروايات ثم بالكتابة في الجرائد. وأخيرًا ترشح للانتخاب؛ فدخل مجلس العموم، وامتاز فيه بالبراعة في الخطابة، وكان من حزب المحافظين، ثم دخل في الوزارة، وعين وزيرًا للمالية في سنة ١٨٥٢ و١٨٥٩ و١٨٦٦، وصار رئيسًا لحزب المحافظين بعد موت اللورد دربي، وعين رئيسًا للوزارة في سنة ١٨٦٨، ثم خلفه غلادستون، وعاد إلى رئاسته ثانيًا سنة ١٨٧٤، وبقي إلى سنة ١٨٨٠، وحضر مؤتمر برلين في سنة ١٨٧٨. وتوفي سنة ١٨٨١. وصار بعده اللورد سالسبوري رئيسًا لحزب المحافظين، ولم يزل كذلك حتى الآن.
٩  ولد هذا الإمبراطور سنة ١٧٩٧، وعين وصيًّا على أخيه فريدريك غليوم الرابع حين أصيب بضعف قواه العقلية سنة ١٨٥٧، ثم عُيِّنَ ملكًا على بروسيا بعد موت أخيه المذكور في سنة ١٨٦١، وحارب الدانمارك سنة ١٨٦٢، والنمسا سنة ١٨٦٦، وانتصر عليها في واقعة «سادوا». وفي سنة ١٨٧٠ حارب فرنسا الحرب المشهورة، وفاز على نابليون الثالث في سيدان في أول سبتمبر سنة ١٨٧٠. وفي ١٨ يناير سنة ١٨٧١ توج إمبراطورًا على ألمانيا بسراي فرساي بضواحي باريس أثناء حصار هذه المدينة. وفي أكتوبر من السنة المذكورة أمضى معاهدة فرانكفورت التي أخذ بمقتضاها إقليمي الألزاس واللورين، وكان من أكبر مساعديه في هذه الأمور البرنس دي بسمارك والدوك دي مولتك. وتوفي سنة ١٨٨٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤