قوت القلوب

١

كان المجنون يترنَّم بأوراد الفجر في مطلَع الخريف عندما تَناهَى إليه تحت النخلة صوتُ ساكن الماء مناديًا .. هُرِعَ إلى حافَة النهر وهو يقول: أهلًا بأخي عبد الله البحْريِّ ..

فقال الصوت: إني أعجَب لشأنكَ.

– لماذا؟

– طالما قتلتَ المنحرف لانحرافه، فما بالُك تُجَنِّبُ الآثمينَ الفضيحةَ؟

فقال المجنون بأسًى: أشفقتُ أن يُصبِح الصباحُ فلا تجد الرعية سلطانًا ولا وزيرًا ولا حاكمًا ولا كاتمَ سرٍّ ولا رجلَ الأمن فيأخذها أقوى الأشرار.

– وهل أَجْدَتْ حكمتُك؟

– أراهم يعملون وقد ملأ الحياء قلوبهم وقد خبروا ضعفَ الإنسان.

فهمس عبد الله البَحْري: في مملكتنا المائية نجعل الحياء شرطًا ضمن شروطٍ عشرةٍ يجب أن تتوافر في حُكامنا.

فقال المجنون متنهدًا: ويلٌ للناس من حاكمٍ لا حياء له.

٢

تأخَّر الوقت برجب الحمَّال خارج البوابة .. ولدى عودته في الظلام رأى أشباحًا تفتح مدفنًا وتدخله .. وعَجبَ لما يدعوهم لذلك قُبيل الفجر، فأغراه قلبه باقتحام لغزٍ غيرِ يسيرٍ .. وما لَبثَ أن تسلَّق السور فانبطح على بطنه وراح ينظر نحو الفِناء على ضوء شمعةٍ خافتٍ أمسك بها شبحٌ .. رأى نفرًا من العبيد تفتح قبرًا منعزلًا كأنما أُعِدَّ للخدم، ثم رآهم يحملون صندوقًا فيُودعونه القبر ويُهيلون عليه الترابَ .. انتظر حتى فارقوا المكان .. فكَّر أيضًا في الذهاب ولكنَّ الصندوقَ أَلَحَّ عليه .. ماذا يحوي؟ ولماذا دفنوه في هذه الساعة المتأخرة؟ .. ولم تُعْفِهِ نفسُهُ من المتاعب فوثَب إلى الفِناء .. وبهمَّةٍ وإصرارٍ فتَح القبر واستخرج الصندوق .. ولولا قوَّتُه وتمرُّسه بحمل الأحمال ما استطاع أن يفعل .. وعالج الصندوق حتى فتَحه وأشعل شمعةً يحتفظ بها في رحلاته، وألقى نظرةً فارتعَد إشفاقًا ورعبًا .. ثمَّة جاريةٌ كالبدر في تمامه مكشوفةَ الوجه، في ثوبٍ لا كفن، ميتة ولا شكَّ ولكنها تبدو كنائمةٍ .. أدركَ أنَّ ملابسات الدفن تُومئ إلى جريمةٍ ما .. كما أدركَ أنَّه ورَّط نفسه في مَأْزِقٍ ما كان أغناه عنه .. وفي الحال توثَّب للفِرار دون أن يُفكِّر في إعادة الصندوق إلى قبره أو إغلاقه.

٣

وعندما وثَب إلى الخلاء وجد أمامه شبحًا فتقلَّص قلبه، ولكنه سمِعَ صوت المعلم سحلول تاجر المزادات يتساءل: من هنا؟

فأجاب مُخفيًا ارتباكه ما استطاع: رجب الحمَّال يا معلم سحلول.

فسأله ضاحكًا: ماذا كُنتَ تفعل في الداخل؟

فأجابه على البداهة: ربنا أمر بالستر يا معلم.

أراد أن يوحي إليه بأنَّ وراء السور امرأةً، فضحك سحلول وتساءل متهكِّمًا: ألا يُوجد في هذه المدينة رجلٌ فاضل؟!

٤

استعبده الخوف .. لم يعرف من قبلُ المآزق الخطيرة .. لاح له النطعُ كمصيرٍ مظلمٍ .. صلى الفجر بجسده، أما عقلُه فاستأثَرتْ به الوساوس .. سوف تُكتشفُ الجثةُ .. يشهد سحلول برؤيته وهو يثب من فوق سور المدفن .. وهو الحمَّال المرشَّح لحمل الصندوق .. فإما الهروبُ وإما الاعترافُ بالحقيقة قبل أن تُكتشفَ .. وهو مرتبطٌ بالأهل والأرض .. ليس كقرينه السندباد الغائب في البحر .. وهو أيضًا ممن يعطف عليهم المعين بن ساوي كبيرُ الشرطة .. فليقصدْه وليعترفْ بين يدَيه بكل شيء.

٥

عقب الصلاة عزم على لقاء المعين بن ساوي، ولكنه رآه مسرعًا فوق بغلته وبين حرسه .. تَبِعه على الأثَر فوجدَه ماضيًا نحو دار الزيني ينتظر منصرفه. وكان سليمان كبير الشرطة ثائرًا، وكانت داره تُعاني اضطرابًا شاملًا .. لقي الحاكم كبير الشرطة ساخطًا وقال له بغضبٍ: ما هذا الذي جرى في دار الإمارة؟ هل رجعنا إلى أيام الفوضى؟

فوجم المعين وسأل عمَّا جرى، فقال الحاكم: جاريَتي قوت القلوب لا أثَر لها، كأنَّ الأرض ابتلعَتْها.

فَذُهِلَ المعين وتساءل: متى حدَث ذلك؟

– رأيتُها أمسِ، والآن لا وجود لها.

– ماذا قال أهل الدار؟

– يتساءلون مثلي وقد ركبهم الخوف.

تفكَّر المعين قليلًا، ثم قال: لعلها هربَت!

فاحتُقِن وجه سليمان الزيني بدمٍ أسود، وصاح: كانت أسعد الجواري، عليكَ بالعثور عليها.

نطَق بها بثورةِ وعيدٍ واضحة.

٦

أمام باب الدار وجد رجب الحمَّال في انتظاره .. تقدَّم منه حانيَ الرأس، وقال: مولاي .. لديَّ ما أقولُه.

فقاطَعه بحدَّة: اغرب عن وجهي .. أَهذا وقت كلامٍ يا غبي؟

فقال الحمَّال بإلحاح: حِلمكَ يا سيدي .. إنَّها جريمة قتل .. الجثة خارج البوابة، والتأجيل حرام.

انتَبه الرجل إلى قوله متسائلًا: أيُّ جريمة؟ .. وما دخلُكَ فيها؟

فقصَّ عليه القصة بسرعةٍ ولَهْوجةٍ والآخر يتابعه باهتمامٍ متزايد.

٧

مع أوَّل شعاعٍ للنور حمل الصندوق إلى بهو دار الإمارة .. أحدَق به سليمان الزيني والمعين بن ساوي ورجب الحمَّال .. قال كبير الشرطة بحزن: اهتديتُ إلى مكان قوت القلوب وجئتُ بها، ولكنها للأسف جثَّة هامدة!

ارتجف سليمان الزيني رغم رزانته تحت ضغطِ عواطفِه .. فتح المعين بن ساوي الصندوق .. انحنى فوقه الزيني بوجهٍ يطفح بالحزن مغمغمًا: «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون» .. أغلق المعينُ الصندوق وهو يُتمتِم: أطال الله بقاءكَ وهوَّنَ من أحزانكَ.

صاح سليمان: الويل للمجرم .. اكشِف لي الأسرار التي أطاحت بسعادتي.

– مولاي .. ما زال اللغز لغزًا .. كيف غادرتِ الدار؟ أين قُتلَت؟ مَن قتلَها؟ إليكَ يا مولاي شهادة تطوَّع بها هذا الحمَّال.

وروى له الشهادة، فرمى الزيني رجب بنظراتٍ من نار، وقال له: أيها القذر، أنتَ أنتَ القاتل، أو عندك خبره.

فهتف الحمَّال مرتعدًا: وربِّ السموات والأرض ما أخفيتُ عنكم كلمةً واحدة.

– اخترعْتَ أسطورةً تتستَّر بها على فعلتكَ.

– لولا صدقي ما ذهبتُ بنفسي إلى كبير الشرطة معترفًا بما شاهَدتُ.

غير أنَّ المعين بن ساوي فاجأه بما لا يتوقع، قائلًا: في هذا كذبتَ يا رجل .. (ثم متلفتًا إلى الحاكم) .. لقد قُبِضَ عليه في مكان الجريمة.

فذُهل رجب .. لم يُصدِّق أذنَيه .. سأله: ماذا قلتَ؟

فكرَّر الرجل: لقد قُبض عليكَ ولم تجئْ بنفسك.

– أنتَ تقول ذلك؟

فقال بازدراءٍ مصطنع: الواجب فوق الرحمة.

فصرخ في وجهه: لن تُفلِتَ من الله يا مفتري.

فقال له الزيني: اعترفْ وجنِّب نفسكَ أهوال التعذيب.

فقال رجب بيأسٍ: كبير الشرطة كذَّاب .. لا علم لي بشيءٍ سوى ما قلُتُ.

وتذكَّر الواقعة الوحيدة التي أخفاها فواصل: أَحضِروا المعلم سحلول تاجر المزادات فقد رأيتُه قريبًا من المدفَن.

٨

جيء بالمعلم سحلول .. لم يغيِّر شيء من هدوئه المألوف .. سُئل عما دعاه للتواجُد قُرب المدفن في تلك الساعة من الليل، فقال: تستوي جميع الأمكنة والأزمنة عندي بحكم عملي.

وقصَّ عليهم حكاية ضبطه مصادفة لرجب وهو يَثِب من فوق السور .. فسألَه المعين: أتعتقد أنَّه القاتل؟

فقال بهدوءٍ: لا بيِّنةَ لديَّ، ثم إنَّه لا يُوجد قاتل بلا قتيل، فأين القتيل؟

– في هذا الصندوق.

فابتسم ابتسامةً غامضة، وقال: دعوني أَرَهُ.

فتَح المعين الصندوق ونظر سحلول إلى الجثَّة مليًّا، ثم قال: الجارية ما زالت تنبض بالحياة.

تَرقرقَ الأمل في عينَي الزيني ورجب، على حين صاح به المعين: أَتسخرُ منا يا مجرم؟!

فقال مخاطبًا الزيني: أَسرِع بإحضار طبيبٍ وإلا ضاعت الفرصة.

٩

جاء الطبيب عبد القادر المهيني، وفي الحال عكَف على فحص «الجثة» .. رفع رأسه وقال: ما زالت حيةً!

ندَّت عن الزيني آهةُ سرورٍ، على حين اصفرَّ وجه المعين بن ساوي حتى حاكى وجوه الموتى .. وواصل عبد القادر: دُسَّ لها قدْرٌ من البنج يكفي لقتل فيل!

وراح يعالجها حتى لفظَت ما في بطنها وحرَّكتْ رأسها .. صاح الحمَّال: الحمد لله رب المظلومين.

وقال سحلول وهو يختلس من كبير الشرطة نظرةً خفيةً: سوف تكشف لنا سر الحكاية.

١٠

مضت مدةٌ مشحونة بالصمْت والانفعالات، حتى عادت قوت القلوب إلى وعيها .. رأت وجه الزيني أوَّلَ ما رأت فمدَّت له يدها مستغيثة، فقال برقَّةٍ: لا تَخشَيْ شيئًا يا قوت.

فهمسَت: إنِّي خائفة.

– إنَّكِ بين أحضان الأمان فابتَسِمي.

لمحَت المعين بن ساوي فاضطربَت هاتفةً: هذا الوحش.

ساد صمتٌ مذهل .. قالت: لا أدري كيف أخذَني إلى دارٍ خالية، هدَّدني بالقتل إذا لم أُذعِن لرغباته الدنيئة، ثم لم أعُد أدري شيئًا حتى الساعة.

تركَّزتِ الأعين فوق كبير الشرطة .. صاح الزيني: أيها الكلبُ الخائن.

جرَّده من سيفه وخنجره، وهو يقول: ما أَسرعَ أن يَدبَّ الفساد من جديد!

وأمر بسجنه حتى يُحقِّقَ معه بنفسه، على حين أعلن براءة الحمَّال وتاجر المزادات، واستبقى المعلم سحلول قليلًا، فقال له: إنِّي مدينٌ لك بالكثير يا معلم سحلول، ولكن خبِّرني أَلَكَ خبرةٌ بالطب؟

فأجاب باسمًا: كلا يا مولاي، ولكن لي خبرة بالموت!

١١

قال سليمان الزيني للمعين بن ساوي: ما تصوَّرتُكَ خائنًا أبدًا، وظننتُ أنَّ المحنة التي وقعنا فيها جميعًا قد طهَّرتْنا، وأنَّ حياتنا ستقوم على العدل والنقاء، وإذا بكَ تخون الأمانة وتستهين بالكرامة وتتمادى في الفسق والجريمة.

فقال المعين: لا أُنكِر شيئًا مما تقول، لقد أعلَنَّا توبة، ولكن الشيطان لم يتبْ بعدُ.

– لا عُذر لكَ، ولأجعلَنَّ منكَ عبرةً لكلِّ مُعتبِر.

– مهلًا .. لستُ صيدًا سهلًا، والشرُّ انبثقَ من داركَ.

– عليكَ اللعنة.

فقال بهدوء: لي شريكٌ هي الست جميلة زوجتكَ.

ارتجف الرجل غاضبًا، وصاح: ماذا قلتَ؟

– دعَتْني بدافع الغَيْرة، وأَغرتْني بالتخلُّص من جاريتكَ المفضَّلة قوت القلوب.

– خائن ومفترٍ.

– يجدُر بكَ أن تُحقِّق مع زوجتكَ أولًا.

– زَعْمٌ باطلٌ، لن يُنجيَكَ من النطعِ.

فقال الرجل بتَحدٍّ: سأُطالِب بتحقيقٍ عادلٍ، وسيجري عليَّ ما يجري عليها .. فالشريعة فوق الجميع.

١٢

ما بين يومٍ وليلةٍ شاخ سليمان الزيني وتهدَّم .. ولم تتوانَ، فقرَّرَ ست جميلة حتى أقرَّت بتدبيرها .. تصدَّى للحقيقة بحَيرةٍ بالغةٍ .. إعلان الحقيقة يعني القضاء على أمِّ أولاده كما يعني القضاء على مركزه .. والحق واضحٌ، ولكن تبيَّن له أنَّه أضعفُ من أن يتخذ القرار الحقَّ .. وجد نفسه منحدرًا إلى العفو عن الاثنَين، كي تبقى جميلةُ في داره كما يبقى المعين في وظيفته .. واتخذ القرار المتهالك وفقَد شَرفه.

غيرَ أنَّ قوت القلوب صارحَتْه بأنَّه لا بقاء لها في داره بعد اليوم، ولا أمان لها فيها .. فاضطُر إلى عتقها وتزويدها بالمال، وتركَها تذهب آخذةً معها قلبَه.

١٣

خفقَت قلوبٌ بالأسى .. تَناجَى قمقام وسنجام، والمجنون وعبد الله البحري .. حزنوا لسقوط التائبين .. أما قوتُ القلوب فعاشت وحيدة في دارِ جميلة .. عاشت في أمانٍ من الحاجة ولكن في غشاءٍ من الوحشة .. ومع أنَّ سيدها استجاب لطلبها وأَكرمَها، ولكنَّها لم تُعفِه من الملامة لتفريطه فيها، ومرارة الوحدة تشتعل جحيمًا بالحب الخائب .. وسعى إليها طُلاب الزواج حبًّا وطمعًا، فرفضَتْهم جميعًا .. رفضَت حسن العطار، كما رفضَت جليل البزَّاز .. ورغب فيها آخرونَ عن بُعْدٍ كالمعين بن ساوي، وتساءل رجب الحمَّال أَليس مِن حقِّ مَن أحيا ميتًا أن يملكه؟

١٤

ووقعَت أحداثٌ بسيطة لم ترمشْ لها أعيُن المدينة ولكنها هزَّت أفئدة أصحابها .. تزوج إبراهيم السقَّاء من ست رسمية أرملةِ جمصة البلطي .. وعرض بيتُ المال دار جمصة البلطي للبيع فأمر سليمان الزيني بدفن رأس جمصة في مقابر الصدقة .. ولم يَفُتِ المجنونَ أن يشهد دفن رأسه، وقال لنفسه: إنَّه أول إنسان يُشيِّع نفسه إلى دار البقاء .. وسعد بزواج أرملته من إبراهيم السقَّاء؛ لأنَّ وحدتَها أمست تنغِّص عليه صفوه .. وثقُل على المعين بن ساوي الشعور بالنبذ، فبدأ صفحةً جديدة في التعاون المريب مع التجار والأغنياء .. وأمطرتِ السماء في ذلك الخريف على غير عادة.

١٥

وكان ثلاثة أشباح يخترقون الظلمة صامتين .. وتحت دار قوت القلوب نادتهم أوتارُ عودٍ وصوتٌ شجيٌّ تهادى إليهم يُناجي رطوبة الخريف:

من عادة الدهر إدبارٌ وإقبالُ
فما يدومُ له بين الورى حالُ
كم أحملُ الضَّيْم والأهوالَ يا أسفي
من عيشةٍ كلُّها ضَيْمٌ وأهوالُ!

ثقلَت خطاهم حتى توقَّفتْ، وهمس أحدهم: هذا مطلبنا يا دندان!

طرق شبيب رامة السيَّاف الباب، ففتحَت جارية تسأل عن الطارق.

فقال شهريار: دراويش من رجال الله ينشدون مؤانسةً شريفة.

غابتِ الجارية قليلًا، ثم رجعَت فقادَتْهم إلى حجرة استقبالٍ ناعمة الوسائد والمفارش قد أُسدل على ديوانها الرئيسي ستارٌ يحجُب صاحبة الدار .. تساءلَت قوت القلوب: تريدون طعامًا؟

فقال شهريار: بل نريد مزيدًا من غناء.

فكرَّرتِ الصوت على مقامٍ جديد حتى سبَح الرجال في طربٍ رائقٍ .. وقال شهريار: أَأنتِ مغنيةٌ يا هذه؟

فهمسَت: كلا يا رجال الله.

فقال السلطان: صوتُكَ ينطق بحزنٍ دفينٍ.

– وأيُّ حيٍّ يخلو من حزن؟

فتساءل برقةٍ: ماذا يُحزنكِ وداركِ ناطقةٌ بالنعيم؟

فلاذت بالصمت، فعاد شهريار يقول: احكي لنا حكاياتكِ فصناعتنا في الحياة مداواة القلوب الكليمة.

فشكَرتْه ثم قالت: سرِّي لا يُباحُ به يا رجالَ الله.

وأصرَّت على الصمت، فاستأذنوا في الانصراف والسلطان ضيِّق الصدر بصمتها .. ومال على أُذن دندان قائلًا: آتِنِي بسرِّ هذه المرأةِ الصامتة.

١٦

مطالبُ السلطان جبالٌ ثِقالٌ، لا تنزاحُ عن كاهله حتى يُحقِّقها، وهو أعلم بغضبه إذا خاب له مطلب، وما زال السلطان متأرجحًا بين الهدى والضلال فلا تُؤْمَن غضبتُه .. لذلك استدعى حاكم الحيِّ سليمان الزيني .. وصف له موقع دار قوت القلوب، وقال: في الدار امرأةٌ غامضةٌ، ذاتُ صوتٍ عذبٍ، وهمٍّ خفيٍّ، يريد مولانا السلطان فؤادها صفحةً مبسوطة لا خفاء فيها.

زُلزلَت نفس الزيني، وأدرك أنَّه مسوقٌ إلى الاعتراف .. سيتحرَّى دندان عن الحقيقة لدى كلِّ من يأنس عنده قُدرةً على كشف الأسرار من الرجال، وعلى رأسهم الفضلُ بن خاقان .. ستُهْدَى إليه الحقيقةُ عاجلًا أو آجلًا، فليكن على الأقل صاحبَ الفضل في الاعتراف تقرُّبًا من السلطان .. وهو ذو خُلقٍ؛ فلم يطمئنَّ قلبه لحظةً بتصرُّفه ويفضل عنه بأي سبيل.

وأفضى إلى الوزير دندان بمكنون سرِّه.

١٧

ولما تلقَّى شهريار الحقيقة من وزيره غضِب وهتف: لا بُدَّ من ضرب عنقَي المعين وجميلة زوجة الزيني.

غير أنَّ غضبه فتَر فجأةً .. لعلَّه تذكَّر هروبه ليلًا عاريًا والإثم يطارده. ولعلَّه تذكَّر أن الزيني والمعين كانا من خيرة الرجال. على أنَّه فصل الرجلَين من عملهما، وصادر أموالهما، كما أمر بجلد جميلةَ والمعينِ .. ووهب قوت القلوب عشرة آلاف دينار، وسألها بعطفٍ: ماذا تطلبين أيضا يا جارية؟

فقالت قوت القلوب: أسألكَ يا مولاي العفوَ عن سبيل الزيني.

فتبسَّم السلطان وسألها: يبدو أنَّكِ ما زلتِ تُحبينه.

فغضَّتْ بصرها حياءً، ولكنه قال بحزمٍ: لقد صدَر أمرنا بتولية الرجال الجدد ولا رجوع فيه، بذلك يصبح الفضل بن خاقان حاكمًا، وهيكل الزعفراني كاتمَ سرٍّ، ودرويش عمران كبيرًا للشرطة.

فشفَّتْ عيناها عن دمعٍ يودُّ أن ينطلقَ، فقال شهريار: بيدكِ أنتِ أن تَعْفي عنه ولعلَّكِ خيرٌ له من الإمارة!

فلثمَت موطئ قدمَيه، وهمَّت بالانصراف، فسألها: ماذا نويتِ يا جارية؟

فأجابت ببساطة وبعينَين مُغرورقتَين: العفو يا مولاي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤