نور الدين ودُنيازاد

١

غمر نورُ القمر أشجارَ البلْخِ بميدان الرماية، فالتمعَت أزهارُها البنزهيرية الناعمةُ .. وغمر نورُ القمر أيضًا قمقام وسنجام المُسْتلقِيَين فوق غُصنٍ من أغصان الشجرة الكبرى، في ليلةٍ مازجت فيها أنفاسَ الشتاءِ المُوَدِّع أنفاسُ الربيعِ المتحفِّز .. قال قمقام: ما أطيبَ الزمنَ إذا جرى تحت رضا العناية!

فقال سنجام: إذا استقرَّتِ السكينةُ سمعْتَ همساتِ الأزهارِ وهي تُسَبِّحُ بحمد الله.

– ماذا ينقصُ الإنسانَ ليحظى بنعمة الزمان والمكان؟

– هذا ما يُحيِّرني يا أخي، أَلم يوهب العقلَ والروح؟

وأرهف قمقام أذنَيه في حذرٍ، ثم تساءل: ثمَّة نذيرٌ في الجو؟

عند ذلك حطَّ فوق غصنٍ قريبٍ عِفريتٌ وعِفريتة ثَمِلَين بالمجون، فهمس سنجام: سخربوط وزرمباحة!

فهمس قمقام: الكفر والشر.

وضحك سخربوط ساخرًا، وقال معلِّقًا: نحن نستمتع بالكون بلا خوفٍ.

فصاح به قمقام: لا سرورَ لمن خلا من الله قلبُه.

فتساءلَت زرمباحة ساخرةً: حقًّا؟

وتبادلَت مع رفيقها الغرام، فتطاير من عناقهما الشررُ .. اختفى قمقام وسنجام فَنَدَّ عن حنجرتَي سخربوط وزرمباحة هُتافُ انتصارٍ، وقال لها: غبتِ عَني دهرًا.

فقالت ضاحكةً: لعبتُ لعبة في معبد بالهند، وأين كنْتَ أنتَ؟

– قمتُ برحلةٍ فوق الجبالِ.

فقالت زرمباحة بإغراءٍ: رأيتُ لدى عودتي فتاةً جميلةً بهرني جمالُها والحقُّ يُقالُ.

– أنا أيضًا رأيْتُ شابًّا جميلًا في حيِّ العطور لا نظيرَ لجماله بين البشر.

– إنَّ نظرةً على فتاتي ستمحو من ذاكرتكَ صورةَ فتاكَ.

– هذه مغالاةٌ لا مُسَوِّغَ لها.

– تعالَ وانظر بعينَيكَ.

– أين تُوجد فتاتُك؟

– في قصر السلطان نفسِه.

وفي غمضة عين كانا في جناح البهاءِ بقصر السلطان .. تراءت فتاةٌ آية في الجمال وكانت تنزع عباءتَها المطرَّزةَ بأسلاكٍ من ذهبٍ لترتديَ حُلَّةَ نومِها المصنوعةَ من الحرير الدِّمشْقي .. قالت زرمباحة: دنيازاد أخت شهرزاد زوجة السلطان.

– جمالها يفوق الحياة حقًّا .. لِم يحظَى بهذا الجمال كائنٌ سريعُ العطَب؟

– صدقتَ؛ فهو ما يتألَّق إلا أيامًا معدوداتٍ ثم يعبث به الزمن.

– لذلك تلَذُّ الشماتةُ بهم.

– لهم عقلٌ، ولكنهم يحيَون حياة الأغبياء.

– لشدَّ ما تبدو خالدةً!

– لعلَّكَ الآن تسلِّم أنَّها أجمل من فتاكَ؟

فقال سخربوط بعد تردُّد: لا أدري .. تعالَي لتنظري بنفسكِ.

في أقلَّ من لحظةٍ كانا في دكان شابٍّ آية في الحسن، كان يُغلِق الدكان ويُطفِئ السراج ويهمُّ بالذهاب .. قال سخربوط: هذا نور الدين بيَّاع العطور.

– جماله فائقٌ أيضًا، مَن هو صاحبكَ؟

– بيَّاعٌ كما تَرَيْن، وما يهمُّنا أصلُه.

– هو أليَقُ الذكورِ بفتاتي وهي أليقُ الإناثِ به.

– يعيشان في مدينةٍ واحدةٍ ويفصل بينهما ما يفصلُ بين السماءِ والأرض.

– هذا هو العبَثُ، فكيف نُتَّهم نحن بأننا العابثون؟!

– كيف لا يتنافسُ الخُطَّابُ في فتاتك؟

– مهلًا، يتمناها كثيرون، منهم يوسفُ الطاهرُ حاكمُ الحي، ومنهم كرم الأصيل صاحبُ الملايين، ولكن مَن الكُفءُ لأخت السلطانة؟!

– زرمباحة، هذا الكون مُثقَلٌ بالحماقة.

وهتفَت زرمباحة بسرور: جاءتني فكرة.

– ما هي؟

– فكرةٌ جديرةٌ بإبليسَ نفسِه.

– أشعلتِ أشواقي!

– نجمعُ بينهما في دُعابةٍ ماكرة.

٢

انبهرَت عينا دنيازاد السوداوان .. إنَّه حفل زفافٍ سلطاني سيكون أحدَ أعاجيبِ الترف والأُبَّهة .. القصر يموج بأضواء الشموع والقناديل، يتلألأ بجواهر المدعوِّين والمدعوَّات، يهزج بأغاني المطربين والمطربات .. حتى السلطان شهريار باركَها، أهداها جوهرة الدخلة، قال لها: مباركةٌ ليلتُكِ يا دنيازاد.

وانتظَرتْ في المخدع آخرَ الليلِ في ثوبٍ مُحلًّى بالذهب والمَرجان والزمرُّد .. ودَّعَتْها أمُّها وأختُها شهرزاد، فانتظَرَت وحيدةً في المخدع، وشَردَ ذهنُها لا يشغلُها إلا ترقُّبُها القلقَ وقلبها الخفَّاق .. انفتَح الباب .. دخل نور الدين في أبهى حلةٍ دِمشقية وعمامةٍ عراقيةٍ ومركوبٍ مغربي .. تقدَّم منها كالبدر في تمامه، وجلا القناعَ عن وجهها .. ركع على ركبتَيه .. ضم ساقَيها إلى صدره .. تنهَّدَ قائلًا: ليلةُ العمرِ يا حبيبتي.

ومضى ينزع ملابسها قطعةً قطعةً في صمْت المخدع المليء بالألحان الباطنية ..

٣

فتحَت دنيازاد عينَيها وقد نضحَت الستارةُ بالضياء .. وجدَت نفسها مغموسةً في ذكريات النبع المبارك .. شفتاها نديتانِ بالقُبَل، أذناها ثملتان بأعذب الكلمات، خيالها مُفعَم بحرارة التنهُّدات .. العناقُ لم يَبْرح جسدَها ولا الحنان .. هذه هي الصباحية .. ولكن .. سرعان ما هبَّت عليها رياحُ الوعي الصارمةِ .. أين العريسُ؟ .. ما اسمه؟ .. متى تمَّتْ مقدماتُ الزفاف؟ .. ربَّاه! .. لم تُخطبْ ولم تُزفَّ ولم يجرِ في القصر حفل .. إنَّها تُنتَزعُ من الحُلمِ كمن يُساقُ إلى النطْع .. أَكان حُلمًا حقًّا؟ ولكنَّ العهدَ بالأحلام أن تتلاشى لا أن ترسخَ وتتجسدَ حتى لتُلمَس وتُشَم .. ما زالت ترى العريس رؤية العين وتستشعر مسَّهُ وحنانَه .. ما زالت الحجرةُ مُعبَّقةً بأنفاسه .. وثبَت إلى الأرض فاكتشفَتْ عُرْيَها، اكتشفَت حبَّها المسفوح .. انْقَضَّتْ عليها رعْدَةٌ نافذةٌ مرعبة .. هتفَتْ في يأس: إنَّه الجنون.

ونظرت فيما حولها بذهول، وهتفَتْ مرَّةً أخرى: إنُّه الهلاك.

ولاح لها الجنونُ كوحشٍ يطاردُها.

٤

أما صحوةُ نورِ الدينِ فكانت غاضبةً ثائرةً عندما رأى حجرة نومه البسيطةَ بمسكنه القائم فوق دكانه بحيِّ العطورِ .. أَكان حُلمًا؟ .. لكنه حُلمٌ عجيبٌ له قوةُ الحقيقةِ وثقلُها .. ها هي ذي العروس بجمالها حقيقة لا يمكنُ أنْ تُنسَى أو تُمحَى من القلب .. ومتى وكيف تجرَّد من ملابسه؟ .. ما زال يشُمُّ الشذا الطيِّبَ الذي لا نظير له بين عطوره .. ما زال يرى المخدع الفاخر بستائره ودواوينه وسريره العجيب.

– ما معنى العبثِ مع مؤمنٍ صادقٍ مثلي؟

ولم تُعذِّبه الحقيقةُ وحدَها ولكن أيضًا عذَّبه الحُب.

٥

قَهقهَت زرمباحة وسألَت سخربوط: ما رأيك في هذا العشق المستحيل؟

– مداعبةٌ فريدةٌ حقًّا.

– لا عهد للبشر بمثلها.

فقال سخربوط مُتردِّدًا: ليس دائمًا، إنهم مُولَعون بخلق الأوهام.

– ولكن كيف؟

– ما أكثر الذين يتوهَّمونَ في أنفسهم الذكاء، أو الشِّعر أو الشجاعة!

فقالت مسترسلةً في الضحك: يا لهم من حمقى!

فقال بحقد: إني أعجب لماذا فُضِّلوا علينا؟

٦

سلَّمَت دنيازاد بأنَّ سرَّها أثقلُ من أن تحملَه وحدَها .. هُرعَتْ إلى جناح شهرزاد عقبَ ذهابِ شهريار إلى مجلس الحكم .. وما إن رأتها شهرزاد حتى قالت بقلق: ماذا بكِ يا أختي؟

فجلسَت على وسادةٍ عند قدمَي السلطانة، ورفعَت إليها عينَين مستغيثتَين، وقالت وهي تَنْشِج في البكاء: ليتَه كان مرضًا أو موتًا.

– أعوذ بالله، افترقنا أمسِ على خير حال.

– ثم وقع ما لا يقع في دنيا العقلاء ..

– حدِّثيني؛ فقد بدَّدتِ طمأنينةَ نفسي.

فأسدلَت عينَيها ثم قصَّت عليها قصتَها التي بدأَت بزفافٍ وهمي وانتهت بدمٍ حقيقي .. تابعتها شهرزاد بقلقٍ وريبة، ثم قالت برجاء: لا تُخفي شيئًا عن أختِكِ.

– أحلفُ لك بربِّ الكون أنِّي ما أضفتُ إلى قصَّتي حرفًا ولا نقصتُ منها.

فتساءلَت شهرزاد: أَيكون وغْدًا من رجال القصر؟

– كلا .. كلا .. ما وقعت عليه عيناي من قبلُ.

– أيُّ عقلٍ يقبلُ قصَّتَك؟

– هذا ما أُحَدِّثُ به نفسي، إنَّها قصةٌ شبيهةٌ بقصصكِ العجيبة.

– قصصي مستوحاةٌ من عالَمٍ آخَر يا دنيازاد.

فقالت متنهِّدة: لقد وقعتُ أسيرةَ صدقِ عالَمكِ الخفي، ولكني لا أريد أن أكون ضحيتَه.

فقالت شهرزاد بأسًى: سأعرف الحقيقةَ عاجلًا أو آجلًا، ولكنَّي أخشى أن تدهمَنا الفضيحة قبل ذلك!

– هو ما يقتلُني خوفًا وغمًّا.

– إن عرف السلطانُ حكايتَكِ استيقظَت من جديد شكوكُه، وارتدَّ إلى سوء ظنِّه بجنسنا، وربما أرسل بي إلى الجلَّاد ورجع إلى سيرته الأولى.

فهتفَت دنيازاد: معاذ الله أن يُصيبكِ سوءٌ من ورائي.

وتفكَّرَت شهرزاد مليًّا، ثم قالت: فلنحفظْ قصتَكِ سرًّا، ولن يدريَ بها السلطانُ ولا أبي .. سأدبِّرُ ما ينبغي فِعلُه مع أمي، ولكن يجب أن تعودي إلى دارنا بحجةِ الحنينِ إلى أهلك.

فتمتَمَت دنيازاد: ما أتعسَ حظِّي!

٧

دعا نور الدين أمَّه كليلة الدمر، فجاءت عجوزٌ مُتحرِّكة الشفتَين بتلاوةٍ غير مسموعة، يحمل وجهُها النحيلُ آثار جمالٍ قديم .. أجلَسها إلى جانبه على كنبةٍ خراسانية، وسألها: هل زارنا غريبٌ وأنا نائم؟

فقالت بدهشة: ما طَرقَنا طارقٌ.

– ألم يصدُر عن حُجرتي صوت؟

– أبدًا، إني أنام ولا تنامُ حواسِّي، وأخفَتُ الأصوات يُوقِظني، لماذا تَطرحُ أسئلةً غريبة؟

فقال بعد تردُّدٍ وحياء: لعله حُلم، ولكنه ليس كالأحلام.

– ماذا رأيتَ يا بُنيَّ؟

– رأيتُني في حضرة فتاةٍ جميلة!

فابتسمَت كليلة، وقالَت: إنَّها دعوةٌ من الغيب للزواج.

فقال بحدَّة: كانت حقيقةً ملموسة ومشمومة، لا أدري كيف أشُكُّ فيها، ولكني لا أستطيع تصديقها أيضًا.

فقالت العجوز ببساطةٍ: لا تشغَل بالك وتزوَّج.

– هل سمعتِ من قبلُ عن حقيقةٍ تتلاشى في حُلْم؟

– ربنا قادر على كل شيء، ستنسى كل شيء قبل مرور ساعة.

فتنهَّد قائلًا: نعم.

وكان يعلم أنَّه يكذب، وأنَّه لن ينسى، وأنَّ قلبه يخفُق بحبٍّ حقيقي، وأنَّ محبوبه كائنٌ متجسد لا يُنسى ولا يُمحى أثَرُه من الوجدان.

٨

فتح نور الدين دكَّانه وطالع الناس بوجهٍ جديد .. عُرفَ طيلةَ عمره اليافعِ بجماله الصافي وبحضور البديهة في المعاملة، ولكنَّه بدا ذلك الصباح الربيعي شاردَ اللب، حائرَ الطرف .. يتساءل الذين يستبشرون بطلعته عمَّا غيَّره واستأثر بخياله .. ويتساءل هو طيلةَ الوقت عن حُلمه العجيبِ الذي فاق الحقيقةَ في الوجود والدسامة والأثَر .. وقد بلغ العشرين من دون أن يتزوجَ لرغبةٍ قديمةٍ في الزواج من حسنية أختِ صديقه فاضل صنعان .. تردَّد قديمًا بين رزقه المحدود وثراءِ أبيها الواسع، وتردَّد بعد ذلك لمعارضة أمه في الزواج من ابنة رجلٍ خالَط العِفريتُ حياتَهم .. قالتِ العجوزُ: ابعد عن الشر؛ فلا ندري عن هذه الأسرار شيئًا.

وأبقى على مودَّته لفاضل، تاركًا حسنية للزمن، ولكن أين حسنية الآن؟ بل أين الدنيا وما فيها؟ لا وجودَ إلا لتلك الصورةِ الباهرةِ والمخدعِ الوثيرِ والسريرِ الذي يفُوق في حجمه غرفةَ نومِه كلَّها .. لقد رأى رؤيا حقيقية، ومارس حبًّا حقيقيًّا، وها هو يُحب حبًّا يتضاءل بالقياس إليه أيُّ حبٍّ حقيقي .. ها هو يُعاني فتور الحياة ووحشتَها وكآبتَها وحزنَها الأبديَّ في البعد عنها .. أما شذاها فيُعبِّقُ به أنفَه، وأما مُناجاتُها فتُردَّد مع أنفاسه .. وتذكَّر صباه الذي أنفَقه في كنف الشيخ البلخي يتعلمُ القراءةَ والكتابةَ ومبادئَ الدين .. عندما أخذ من ذلك كفايتَه وهمَّ بتوديع الشيخ قال له الرجل: ما أجدرَكَ بالعشق!

فهم أنَّه يدعوه إلى الاستمرار معه، فقال له: والدي مريض، وعليَّ أن أحلَّ محلَّهُ في الدكان.

فقال الشيخ: ما أقبلُ في صحبتي عاطلًا.

فقال كالمعتذر: حسبي العبادةُ والتقوى.

وما أخلفَ الظنَّ في ذلك وما حادَ عن الصراط، وها هو يتذكر بتلقائيةٍ قول الشيخ: «ما أجدَركَ بالعشق!» تُرى هل يجْدُر به أن يزورَ الشيخَ مستنصحًا؟ .. ولكنه خاف، وسلَّمَ بأنَّ سِرَّهُ جديرٌ بأن يُطوى في الصدر .. راح يُتابع تيارَ النساءِ المحجبَّاتِ .. هل يمكن أن تكون حبيبته إحداهُن؟ إنَّها موجودةٌ على أيِّ حال، ما يُداخله شكٌّ في ذلك .. موجودةٌ في مكانٍ ما وفي هذا الزمان دون غيره .. لعل أشواقَنا تهيمُ في جنونٍ مُجِدَّةً وراء التلاقي .. لعل الذي صنع معجزة الحُلم يَعِدُ بمعجزةٍ أخرى تأويله وتحقيقه .. لا يمكن أن يتلاشى حُلمٌ كهذا كأن لم يكن .. لا يمكن أن تشتعل أشواقٌ بهذه القوة دونما سببٍ أو غاية .. لا بُدَّ أن يصلَ العاشق .. بالعقل أو الجنون لا بُدَّ أن يصل .. ولكن ما أضيعَ الباحثَ بلا دليل!

٩

سعد الوزير دندان برجوع دنيازاد إلى داره الرحيبة، أما الأمُّ فعانت وحدها — بعد دنيازاد — معاشرةَ السرِّ الأليم .. قالت لِابنتِها بحزنٍ وغضب: زلَّتْ قدمُكِ يا دنيازاد.

فقالت دنيازاد باكيةً: إنِّي مُسلِّمةٌ أمري لرب العالمين.

– لن تكون العاقبة خيرًا.

فكرَّرتْ باستسلام: إنِّي مسلِّمةٌ أمري لرب العالمين.

وعندما لاحتِ الأمارات كالنذير، أقدمت المرأة على إجهاض ابنتها مستغفرةً ربَّها .. وقالت بأسًى: نحن نؤجِّل البلاء، ولكن ما العملُ إذا جاء عريس؟

فهتفَت دنيازاد: لا رغبة لي في الزواج.

– وماذا نقول لأبيك إذا وجده كفئًا؟

فردَّدتْ دنيازاد: إنِّي مسلِّمة أمري لرب العالمين.

وإذ خلَت إلى نفسها تناستِ الأخطارَ المُحدِقةَ بها فلم تذكُرْ إلا حبيبها الغائب .. عند ذاك تستهينُ بالموت، ولا تأبَه للعار، وتتساءل بوجْدٍ وعذاب: أين أنتَ يا حبيبي؟ كيف وصلتَ إليَّ؟ ما سِرُّكَ؟ ماذا يُبعِدكَ عني؟ أَلم يَأْسِرْكَ جمالي كما أسَرني جمالُكَ؟ أَلم تَلفَحْكَ النارُ المشتعلةُ في روحي؟ ألا تَرِقُّ لعذابي؟ ألا تفتقدُ حُبِّي وأشواقي؟

١٠

وعَرضَ من الأحداث عارضٌ اهتزَّت له القلوب .. فقد مضى المنادي على بغلته ينادي رعية السلطان، مذيعًا نبأَ هجومِ ملكِ الروم على أحد الثغور، ونهوضِ الجيش للجهاد ودفع الغزاة .. جاشت الصدور بالقلق، واكتظَّت المساجد بالمصلين، وارتفَع الدعاء للسلطان شهريار بالنصر .. وفي المساء هُرعَ الناس إلى مقهى الأمراء فامتلأ بروَّاده من السادة والعامة .. وجمعَت أريكةٌ واحدةٌ بين حسن العطار بن إبراهيم العطار وفاضل صنعان ونور الدين .. لم يكن للقوم من حديثٍ إلا الحربُ .. وسُمعَ الطبيبُ عبدُ القادرِ المهيني وهو يقول: إنكم لم تَشهَدوا غزوًا للعدو، ما هو إلا عاصفةٌ من الهلاك تجتاح المدُن وأهلها.

فقال جليل البزَّاز: جيشُ الله لا يُغلَب.

فقال معروف الإسكافي: لله حكمتُه أيضًا.

فقال رجب الحمَّال: قد تقع سفينة السندباد في الأسر!

فقال له علاء الدين بن عجر الحلاق: لا تفكِّر إلا في ذاتكَ وصاحبك!

عند ذاك قال عجر الحلاق: رأيت حُلمًا عجيبًا!

ولكن أحدًا لم يسأله عن حُلمه، لسوء ظنِّهم بصدقه، ولِعلمِهم بلهفته على إقحام نفسه في شئون الآخرين.

وارتعَد نور الدين لذكر الحُلم، وقال لصاحبَيه حسن وفاضل: ليس أعجبَ من الحُلم في حياة البشر.

فسمع صوتًا يقول معلِّقًا على قوله: صدَق ما قلتَ يا بُني.

فالتفت إلى الأريكة المجاورة، فرأى سحلول تاجرَ المزاداتِ والتحفِ يرمُقه باسمًا، فقال له: إنَّك حكيمٌ ومجرِّبٌ يا سيدي.

فقال سحلول: من مَلَك الحُلمَ مَلَك الغدَ!

مال إلى مناقشته بكل قلبه ولكن فاضل — مستذكرًا ما سبق أن ردَّده صديقُهُ الغائبُ عبدُ الله الحمَّالُ — لكَزه بكوعه خفيةً وهمس في أذنه: دَعْكَ منه.

فتساءل نور الدين: ولكنَّه ذو تجربةٍ.

فهمس فاضل صنعان: إنَّه غامضٌ أيضًا كالحُلم.

وسُمعَ الطبيبُ عبدُ القادرِ المهيني وهو يقول: في تقديري أنَّ جيشَ السلطانِ سينتصرُ ولكنَّ البومةَ ستَنعِقُ في بيت المال.

١١

وجعل نور الدين يتَنهَّد في أسًى متسائلًا، أما لهذا الشوق من نهاية؟ .. كلَّتْ عيناه من النظر وأُرهقَ القلبُ .. وراح يتجوَّل في الطرقات، حينًا في النهار، وحينًا في الليل، منجذبًا بصفةٍ خاصَّةٍ إلى مواقع النساء في أسواقهنَّ الأثيرة .. وأكثرَ من مرَّةٍ يمُرُّ أمام دارِ الوزيرِ دندان في الوقت الذي تقف فيه دنيازاد وراء المشربيةِ مُستطلِعةً ولكنه لا يراها ولا تراه .. وتتجلَّى له التجربةُ الفريدةُ خارقةً من الخوارق مستقرَّةً في عزلةٍ بعيدًا عن مجال الأمل، أو تُهامِسه مراتٍ كحقيقةٍ مذهلةٍ ستكشف له النقابَ عن وجهها، وقتما تشاء رحمة الله .. ومرةً أخرى رأى في آخر الليل شبحًا مقبلًا .. تكشَّفَ له عندما أُلْقِيَ عليه ضوءُ فانوسٍ مُعلَّقٍ بأعلى باب دارٍ عن وجه قَزَمٍ .. إنَّه كرم الأصيل صاحب الملايين فماذا أخرجه من داره الرائعةِ في مثل هذه الساعة من الليل؟ ماذا يُؤرِّقُه وعمَّ يبحثُ؟ .. تُرى لو وقع أسير حُلمٍ مثلَه فهل كان يُغني عنه ماله في العثور على آسِرِه؟! وانقبَض قلبه لِمَرآهُ، لغير سببٍ واضحٍ.

١٢

كرم الأصيل يُحب المشي في الليل في الطرقات الخالية .. إنَّه صديق الأماكن، فما يخلو مكانٌ منه من عمارةٍ أو بيتٍ أو وكالةٍ يملِكُها .. وله في داره الرحيبة زوجةٌ وعشراتٌ من الجواري ولكنَّه لا يملك القلوب كما يملك البشر والأشياء .. بقُدرته أن يغيِّر المصائر ولكنه عاجز عن تغيير صورته أو حجمه .. لذلك كثيرًا ما تبدو له الدنيا كئيبةً مثل وجهِه .. تدفعه المعاملةُ لِغشْيانِ الناسِ ولكنه يُحب الوحدة والليل .. لا يُحب الغناء ويضيق بالسمَر ويعشق المال ويعبُد القوة .. لم يهنأ بقبوله نديمًا للسلطان، يؤدي الزكاة ولا يمارس الصدقة، يُعنَى بلحيته ويُعجَب بها؛ فهي أجمل ما فيه بثرائها وتماديها، أنجب من البنات عشرينَ ولم يُنعَمْ عليه بذكرٍ واحدٍ، وهو صاحب الملايين، وأغنى رجالِ الحيِّ، بل أغنى رجالِ المدينةِ.

وهو أيضا عاشقٌ .. ولعل ذلك ما جعل نورَ الدينِ يتابعُ شبحه بقلبٍ مُبهَمٍ وتأثُّرٍ عميق.

١٣

أُلقيَ عليه العشقُ عندما سقط النقاب عن وجه دنيازاد فوق الهودج في حفل عاشوراء .. خفق قلبه الغارق في هموم الأعمال كما يَبرُق برقٌ في سحابٍ مكفَهرٍّ .. ومال نحو بيومي الأرمل كبيرِ الشرطةِ، وهو من عبيد جودِهِ: من الجاريةُ؟

فأجابه باسمًا: دنيازاد أختُ السلطانةِ!

انقبَض صدره وأيقن أنها لا تُشتَرى بالمال.

هكذا يمضي في الليل في رُفقة من ذكرياتٍ غير سارَّةٍ .. ولمَّا لمح نور الدين تجاهُلَه .. إنَّه يحسدُه لجماله ويحتجُّ غاضبًا على حسدِه لشخصٍ من البشر .. ومرَّ بدار سحلول تاجر المزادات والتحف .. قال لنفسه: «سيُمسي ذلك الرجل منافسًا لي في الثراء». وكان يعتبره من القلَّة النادرة التي تُلزِم الآخرينَ باحترامها فكَرهَه أكثر مما يكره الآخرين .. واتجه نحو داره وهو يقول: كرم الأصيل، عبد الله البلخيُّ، من ذا يقرأ لنا الغيب؟ كان يجب أن تكون ثَرْوتي من السرور أضعافَ أضعافِ ما أحرزه!

١٤

قال له البواب: مولاي، حسام الفقي كاتم السر ينتظر عودتكم في البهو.

ماذا جاء به في هذه الساعة المتأخرة؟ .. مضى إليه من فوره .. تعانقا .. قال كاتم السر: سيدي يوسف الطاهر حاكم الحي ينتظرك الآن في داره.

– أيُّ أمرٍ عاجلٍ وراءكَ؟

– لا أدري إلا أنَّه أمرٌ هامٌّ.

ذهبا مسرعَين .. وانفرد به يوسف الطاهر وهو يقول مداعبًا: على قَدْر أهل العزم.

فتفحَّصه كرم الأصيل باهتمامٍ، فواصل الرجل: انتصر جيشُنا، أنت أول رجلٍ تُزَفُّ إليه البشرى.

فتمتَم في حَيرةٍ: منَّةٌ من رب العالمين.

فحدَجه الحاكم بنظرةٍ طويلةٍ، ثم قال: بيت المال تكلَّف فوق طاقته.

انقبَض صدره وأدركَ كلَّ شيءٍ، فقال يوسف الطاهر: السلطان في حاجةٍ إلى قرضٍ، يُسَدَّدُ عقب جمع الخَراج.

فتساءل فيما يشبه الدُّعابةَ: وما شأني أنا وذاك؟

فضحك يوسف الطاهر، وقال: اختصَّكَ السلطان بذلك الشرف.

فتساءل دون ابتهاجٍ: كم؟

– خمسة ملايين من الدنانير!

لا مفرَّ ولا اختيارَ، ولكنِ التمعَتْ فكرةٌ في رأسه الخبير في المساومة .. قال: فرصةٌ للقرب من السلطان والطموح إلى ثواب الرحمن.

– أحسنْتَ.

فقال بهدوءٍ: ولكن ثمَّة رجاءٌ لم أكن أدري كيف أُفصِحُ عنه.

فصمَت يوسف الطاهر باسمًا، فقال كرم الأصيل: يد دنيازاد، أملي الأخير في شرف القرب.

دُهِشَ يوسف الطاهر ولكنه لم يُبدِ دهشةً .. تذكَّر كم تمنَّى دنيازاد لنفسه .. حَنقَ على مُحدِّثِه فوق ما تصوَّر .. لكنه قال بهدوءٍ: سيُرفعُ الرجاءُ كما تشاءُ!

١٥

– وقَع المحذور!

هكذا ردَّدتِ الأمُّ وهي في غاية الاضطراب، ودنيازاد كانت تتوقَّعه على أيِّ حالٍ .. قالتِ الأمُّ: جاء العريس، حَظِيَ برضا السلطان وموافقة أبيكِ!

ترى من يكونُ؟! هل ادَّخَر القَدَرُ معجزةً جديدةً فيها الشفاءُ؟ تساءلَت عيناها دون أن تتفوَّهَ بكلمةٍ، فقالتِ الأمُّ: إنَّه كرم الأصيل صاحبُ الملايينِ!

قطَّبتْ دنيازاد وخطف اليأسُ دمَ وجنتَيْها، فقالتِ الأمُّ: الفضيحة تدُقُّ الباب كالرعد.

فبكت دنيازاد قائلةً: إنِّي بريئةٌ والله شهيدٌ.

– هيهاتَ أن تَجدي مُصَدِّقًا لحكايتكِ!

– الله حسبي.

– عنده العفو والمغفرة.

– أليس لي حقُّ القبولِ أو الرفضِ؟

فقالت الأمُّ مستنكرةً: إنَّها رغبة السلطان.

فتأوَّهَتْ قائلةً: ليتَني أهربُ من هذه الدنيا.

– تكون فضيحةً أكبرَ وقد لا تَسلَم أختُكِ من العواقب.

فأفحمَتْ في البكاء حتى قالت أمُّها: ليت المشكلاتِ تُحَلُّ بالدموع.

فهتفَت دنيازاد: لكني لا أملكُ إلا دموعي!

١٦

قال سخربوط لزرمباحة وهو يضحك بسرورٍ: اللعبة تتمادى في التعقيد، وسوف تتمخَّض عن عواقبَ مثيرةٍ.

فقالت زرمباحة مشارِكةً في سروره: تسليةٌ نادرةٌ.

– تُرى هل تنتحر الجميلة أم تُقتلُ؟

– الأجمل أن تُقتلَ وينتحرَ أبوها.

– هل ثمَّة مجالٌ للمزيد من العبَث؟

– بل نَدَعُ الأمورَ تجري في مجراها ما دامت في غير حاجةٍ لتدخُّلنا.

– الحق أنِّي أخافُ.

فقاطعَتْه متسائلةً: ممَّ تخافُ يا حبيبي؟

– أن يتسلَّل الخبر من حيث لا ندري.

فقالت بازدراءٍ: لا تكن متشائمًا.

فضحك سخربوط ولم يَنبِسْ.

١٧

انتشر نبأ خطبة كرم الأصيل لدنيازاد في الحي، ساحبًا وراءه ذيلًا عريضًا من البهجة والتطلُّعات والسخريات .. حَلمَ الفقراء بمطرةٍ منهمرةٍ من الصدقات من رجلٍ لم يعرف حتى حُب الصدقة .. وفرح الأعيان بهذه المصاهرة بين السلطان وحيِّهم .. وجَرتِ الهمسات منذرةً باقتران القرد بالمَلاك .. وناحت دنيازاد في وحدَتها مناجية المجهول: «أين أنتَ يا حبيبي؟» .. «متى تجيء لإنقاذي من الدمار؟» وراح نور الدين يتخبَّط بين الطرقات وقد أثار نبأ القِران أحزانه، مناجيًا المجهول أيضًا: «أين أنتِ يا حبيبتي؟» .. وتابع قمقام وسنجام المناجاة المتبادَلة في أسًى عميق، حتى قال سنجام لزميله: انظر ماذا يفعل الزمان والمكان!

فقال له قمقام: إنَّ أنَّاتِ البشَر من قديم تتدفَّق في نهر الحسرات بين الكواكب.

ومَرَّ تحت الشجرة المعلم سحلول مُهروِلًا، فقال قمقام بصوتٍ مسموع: إنَّه ماضٍ إلى مهمَّة.

فقال سحلول بحَيرةٍ: أحيانًا أتلقى أوامرَ غيرَ مفهومة!

ومضى في سبيله.

١٨

انتهى سحلول إلى سور دار المجانين ووقف في الظلماء .. همس لنفسه: لولا الإيمان لتساءلتُ عن معنى ذلك.

وسلَّط إرادته على الأرض فيما بينه وبين زنزانة جمصة البلطي فانشَقَّ نفقٌ لا يستطيع البشر شقَّهُ في أقلَّ من عام .. وفي ثوانٍ كان واقفًا في الظلام فوق رأسِ جمصة البلطي يسمع شخيره المنتظمَ .. هزَّه برفقٍ، فاستيقظ متسائلًا: من؟

فقال له: لا أهمية لذلك، جاءكَ الفرج، هاتِ يدكَ لأنطلقَ بكَ إلى الحرية.

استسلم جمصةُ له غيرَ مصدِّقٍ حتى غمَره هواء الربيع الرطيب .. تمتم جمصة: يا رحمةَ الله! من أنتَ أيها الغريب؟ من أرسلكَ؟

دفعَه سحلول وهو يقول: إلى مقامكَ المنعزل القديم على شاطئ النهر!

١٩

عندما ذهب الغريب قال جمصة البلطي لنفسه: ليس هذا من عمل الإنس، تذكَّرْ ذلك يا جمصة، تذكَّرْ وتفكَّر.

عاش بين المجانين حتى أَلِف الجنون .. أدرك أنَّه سِرٌّ مُغلَقٌ وكشفٌ مثير .. تمنَّى أن يغوص في أعماقه ويُجابه تحدياتِه .. ولمَّا أنعشه الهواء جرى قلبه إلى أكرمان ورسمية وحسنية، تمنَّى لو يزور الرَّبْع ويُخالط أنفاس الأحبة .. لكن من يكون؟ لقد حلقوا شعر رأسه ولحيته وجلَدوه مرتَين، لا وجود اليوم لجمصة ولا لعبد الله .. إنَّه اليوم بلا هوية ولا اسم، مليءٌ بالأشجانِ والنزوعِ إلى التقوى .. أوى إلى النخلة عند اللسان من النهر .. تذكَّرَ صديقَ الأحلامِ عبد الله البحْري .. رجع يقول: كائنٌ بلا هوية، غايته فوق الأكوان، ولكن تذكَّرْ وتفكَّرْ، فلم يَجِئْكَ الفرج بغير ما سبب!

٢٠

حُملَت دنيازاد إلى السراي ليُحتفَل بزفافها في رحاب السلطان تنفيذًا لرغبته السامية .. اجتاحت رياحُ الرعب المثقلَة بالغُبار قلبَ العروس وشقيقتِها صاحبةِ الحكايات .. نصحَت شهرزاد أختَها بادِّعاء المرضِ ورجَتِ السلطانَ تأجيلَ الزفافِ حتى تبرأَ من مرضها .. واستُدعيَ الطبيبُ عبدُ القادرٍ المهيني فتولَّى العلاجَ، وسرعانَ ما ساوَرَته شكوكٌ .. كان فَطِنًا أريبًا ذا خبرة بالنفوس لا تقلُّ عن خبرته بالأجساد، فرجح لديه أنَّ العروسَ راغبةٌ عن القرد، ولكنه تغابى بلباقة، متعاطفًا مع رغبتها، دافنًا سِرَّها في بئر مهنته المصونِ، فقرَّر أنَّ العلاج سيطولُ .. غيرَ أنَّ كرمَ الأصيل ضاق بالقرار، وساوَرَته شكوكٌ أيضًا، فتضرَّع إلى مولاه أن يأذنَ له في عقد الزواج على أن يؤجَّل الزفافُ لحين الشفاء .. وافق السلطان، وجِيءَ بكبير القضاةِ فعقَد الزواج، وبذلك باتت دنيازاد زوجةً شرعيةً لكرم الأصيل صاحبِ الملايين .. وانتظر قومٌ بهجةَ الأفراحِ على لهفةٍ، وتَوَقَّعَ آخرونَ سقوطَ الكارثة.

٢١

وقادَت أقدامُ نور الدين الحائرة صاحبَها ذاتَ مساءٍ إلى النهر، فخلا إلى نفسه عند اللسان .. في خَلوةٍ ناعمةٍ بأنفاس الربيع، مشتعلةٍ بألسنة الأشواق .. ترامى إليه صوتُ مناجاةٍ فأيقن أنَّه صوتُ عابد، فانجذب نحوه ناشدًا راحةً وسلوى .. عثَر على الشيخ تحت النخلة فأشفَق من مقاطعته وجلس يستمع .. ولمَّا انتهى الرجل سألَه: من أنتَ؟ .. وماذا جاء بك؟

فأجاب نور الدين: إنِّي معذَّب، وأنتَ؟ من هذه الناحية يا عم؟

– لا تهم النواحي من جعل قُرَّةَ عينه في العبادة، ولكن ما سِرُّ عذابِك؟

– لي حكايةٌ غريبة!

دفعَتْه رغبةٌ قويةٌ للاعتراف فحكى له حُلمه بتفاصيله وما أعقبه من جنونٍ، ثم سأله: هل تُصدِّقني؟

فأجاب الرجل: المجانين لا يكذبون.

– هل عندكَ تفسيرٌ للسِّر؟

– وراءكَ ملاكٌ أو شيطانٌ ولكنَّهُ حقيقة!

– وكيف أبرأ من أشواقي؟

فقال بهدوءٍ: نحن نُكابِد أشواقًا لا حصر لها لتقودنا في النهاية إلى الشوق الذي لا شوقَ بعده، فاعشَقِ اللهَ يُغْنِكَ عن كل شيء.

فقال نور الدين بعد صمتٍ: إنِّي مؤمنٌ صادق العبادة، ولكنني ما زلتُ عاشقًا لمخلوقات الله.

– إذن فلا تكُفَّ عن البحث.

– نال مني التعبُ والأرقُ.

– العاشق لا يتعب.

فقال باهتمام: يُخَيَّلُ إليَّ أنَّكَ ذو خبرةٍ.

– عرفتَ رجلًا لم يُحرم ممن يُحب فحسب، ولكنه حُرم من الوجود ذاته!

– بالموت؟

– بل في الحياة!

– هل داخلَكُما شكٌّ في عقلي؟

– إنَّه الجنونُ نفسُه.

– والعقلُ أيضًا.

فقال بعد تردُّدٍ: إنَّك تغمُضُ وتزداد غموضًا.

فتساءل بنبرةٍ باسمةٍ: إذنْ ماذا تقول عن حُلمك؟!

٢٢

ورجع نور الدين إلى المدينة يخوض بحار الظلمات .. لم يبُلَّ العابد غُلَّتَه أو بالكاد فعل .. فحثَّه على البحث ولم يعِدْه بالظفَر ولا أنذَره باليأس، ثم وضح أنَّه من المبتلَين .. لم يُخلق نور الدين للزهد في الدنيا ولكنه خُلق لعشق الله في الدنيا .. على ذلك فارق الشيخ عبدَ اللهِ البلخيَّ يوم فارقه .. لم يملك في تلك اللحظة إلا اليقينَ بأنَّ محبوبته كائنةٌ في مكانٍ ما، وأنَّها منطبعةٌ بأثَر حُبه .. بذلك حدَّثَته نسائم الربيع الهائمة في الليل، كما حدَّثَته ومضات النجوم الهابطة بين القباب والمآذن .. وهتف بصوتٍ مرتفع في وحدَته: خفِّف عذابي يا لطيفًا بالعباد.

وإذا بصوتٍ عميقٍ يسأل: من الشاكي في هذه الساعة من الليل؟

انتَبه إلى شبح رجلَين يعترضانِ سبيله، فتساءل: أمن رجال الشرطة أنتما؟

فأجاب صاحب الصوت: نحن تاجرانِ غريبانِ نتسلَّى عن طول ليلنا بالمشي في حيِّكم العريق.

– أهلا بكما ومرحبًا.

– ماذا تشكو أيها الشابُّ؟

وقال زميله: الناسُ للناس، ولا تضيع الشكوى بين أهل المروءة.

فقال نور الدين مدفوعًا بكرمه: أدعوكما إلى داري المتواضعة وهي قريبة.

وضمَّتْهم حجرةٌ أنيقة، وقدَّم لهما زلابية وقدحَين من الكركديه .. حامَا حول شكواه، سألهما عن موطنهما، قالا إنَّهما من سمرقند .. حامَا حول شكواه مرةً أخرى .. قال: يبوحُ الحائر بِسِرِّه للغريب.

فقال ذو الصوت العميق: وقد يجد عنده ما لا يخطُرُ على بال.

فقال نور الدين متنهدًا: فلتُمطرنا السماء مطرةً غير متوقَّعة.

واندفع يحكي لهما حكاية حُلمه العجيبِ حتى تلاشى صوتُه في صمتٍ شامل وهو يرنو إليهما في حياءٍ .. ثم قال ذو الصوت العميق: تعارَفْنا بالقلوب كما يجدُر بأهل الكرم، ولكن آن لنا أن نتعارف بالأسماء، أما أنا فعز الدين السمرقندي، وهذا شريكي خير الدين الأنسي.

فقال نور الدين: نور الدين بيَّاع الروائح العطرية.

– تجارةٌ جميلة مثل وجهك.

– هل داخلكما شكٌّ في عقلي؟

– معاذَ الله، الله لا يضع جماله إلا حيث يريد أن يضع رضاه.

– هل صدَّقتُماني؟

فقال عز الدين: أجل أيها الشاب، إني جوَّاب بلدان، وقد سمعتُ من حكايات الأولين ما لا يخطُر على قلب بشر؛ لذلك لا أشكُّ في حقيقة حُلمك.

فانتعش قلب نور الدين بالآمال، وتساءل: هل يمكن أن أبلغ المراد بالوصول إلى محبوبتي؟

– ما أشكُّ في ذلك.

فتأَوَّه متسائلًا: ولكن كيف ومتى؟

فقال الرجل: بالصبر والإصرار يتحقق الوصول.

وسأله خير الدين الأنسي: أأنت في حاجة إلى مالٍ؟

فقال متنهدًا: لا أسأل الله إلا الوصول.

فقال عز الدين: أبشر بفرج الله القريب.

٢٣

رأت شهرزاد السلطان منفعلًا كما لم تَرَه من قبلُ .. كان في الشرفة المطلَّة على الحديقة وقد فرغ من صلاة الصبح وراح يتناول إفطارًا من الحليب والتفاح .. عما قليلٍ سيرتدي زيَّهُ الرسميَّ ويذهب إلى مجلس الحكم، ولكنَّه يبدو في ساعته كطفلٍ سعد باكتشافٍ جديدٍ .. قال: ليلةَ أمسِ صادفتُ في تَجْوالي حكايةٌ كأنَّها إحدى حكاياتكِ يا شهرزاد.

فقالت باسمةً رغم كَربِها الدفينِ: تَكرارُ الحكايات آيةُ صدقِها يا مولاي.

– أجل، أجل .. أسرارُ الوجود شائقةٌ وألذُّ من الخمر.

– متَّعكَ الله بالوجود وأسراره يا مولاي.

فقال بعد تمهُّلٍ: الحق أنَّني في حركةٍ دائبةٍ لا تتوقَّفُ ولا يهدأُ القلبُ، يتَنازعُني بياضُ النهارِ وظلامُ الليلِ.

فقالت بمرحٍ تُغطِّي به على فتور روحها: هكذا الرجلُ الحيُّ.

– مهلًا، جاء دوري لأحكيَ لكَ حكايةً غريبةً.

وقدَّم لها حُلم نور الدين بيَّاع الروائح العطرية .. وانتبه إلى وجهها قائلًا بدهشةٍ: ما أشدَّ تأثُّرَكِ يا شهرزاد!

فقالت كالمعتذرة: استيقظتُ اليوم متوعكةً.

– لسعةُ رطوبةٍ لا تلبثُ أن تزولَ وسوف يراك الطبيب، أما أنا فأريد أن أُكَلِّفَ المنادين بالسير بالحكاية لأجمع بين العاشقَين.

فقالت بحرارةٍ: بل التمهُّلُ أولى بنا أن يتعرَّض بريئانِ لألسنة السوء!

ففكَّر مليًّا، ثم تساءل: ألستُ قادرًا على حمايتهما؟!

وقالت شهرزاد لنفسها: إنَّ هذا الرجل لم يكن يشغله إلا ضربُ الأعناقِ، وما زال شيطانُه ذا سطوةٍ لا يُستَهانُ بها، ولكنه لم يعُدْ يستأْثِرُ به.

٢٤

وقالت شهرزاد لأمِّها المقيمةِ في السراي بِعِلَّة رعاية دنيازاد في مرضها: ثمَّة خارقةٌ من الخوارق تُطالبُنا بمزيدٍ من الحكمة.

فتنهَّدتِ الأمُّ قائلةً: لا يصلُح قلبي لتلَقِّي الحوادث الجديدة.

– أمي، لقد تجلَّتْ حقيقةُ صاحب الحُلم!

ففغَرت المرأة فاها، ثم تمتمَت: لا تُحدِّثيني عن الأحلام.

– ما هو إلا نور الدين بيَّاع الروائحِ العطرية.

وقصَّت عليها مغامرة السلطان بحروفها .. عند ذاك قالت الأم بذهولٍ: ما في وُسْعِ مثلِهِ أن يتسلَّلَ بليلٍ إلى سراي السلطان.

– لو صح ارتيابُك يا أمِّي لهان عليها أن تهرُبَ معه.

– ولكن ما الفائدة؟ أختكِ زوجةٌ شرعيةٌ لكرم الأصيل، والكارثة تقترب ساعةً بعد أخرى.

– وسوف ينادي المنادون بالحكاية، ولا يبعد أن تنكشف حقيقتها.

فزفَرت الأم قائلة: الخطر يَدهَمنا.

– هي الحقيقة المرعبة.

– هل ننتظر كالمطروح فوق النطْعِ؟

فقالت شهرزاد باضطرابٍ: إنِّي خائفة، على دنيازاد وعلى نفسي أيضًا، لا أمان للسفَّاك، إنَّ شرَّ ما يُبْتَلى به الإنسانُ أن يتوهَّم أنَّه إلهٌ.

– إنَّه كالموت، لا مفرَّ منه.

– يتراءى لي أحيانًا أنَّه يتغيرُ.

– أبوكِ يقول ذلك أيضًا.

– لكن ماذا يدور بداخله؟ .. ما زال في نظري لغزًا غامضًا لا أمانَ له.

فقالتِ الأم بقلقٍ: قد تُعجِبه الحكاية وهي بعيدةٌ، أما أن تقتحم داره وتتعامل معه فشيءٌ آخرُ، قد تُعاوِده وساوسُه.

– وينقلب شيطانًا كما كان أو أفظع.

– وما ذنبكِ أنتِ؟

– أرى أن نُشْرِكَ دنيازاد في همومنا.

– إني أُشفِق من ذلك كلَّ الإشفاق.

– إلامَ نهربُ من الحقيقة وهي تُطوِّقُنا؟

واستأذنَتِ القهرمانة مرجان في الدخول .. قدَّمتْ لشهرزاد رسالةً وهي تقول بخوفٍ: اختفت سيدتي دنيازاد تاركةً هذه الرسالةَ.

قرأتْ شهرزاد الكلماتِ الآتية: عفوا يا مولاي السلطان.

لا قِبَل لي بعصيان أمرِك بالزواج من كرم الأصيل، ولا طاقةَ بي للزواج منه، فاخترتُ أن أقضي على نفسي والله غفورٌ رحيم.

شهقَتِ الأم وأُغمي عليها.

٢٥

راح المنادون يُذيعون الحُلم العجيب ويدعُون العاشقَين للتلاقي في رحاب السلطان .. في ذات الوقت تلقَّى السلطانُ نبأ انتحار دنيازاد بالحزن والسخط، وأصدر أمرَهُ بالعثور على جثتها في أيِّ موضعٍ من الأرض .. وغضِب كرم الأصيل غضبًا شديدًا دعاه إلى الاعتكاف بعيدًا عن شماتة الشامتين وسخرية الساخرين، فلم يكنْ يغادرُ داره إلا عند انتصاف الليل .. أما يوسف الطاهر — حاكمُ الحيِّ — فقد تَلقَّى الخبر في دَفْقةٍ امتزج فيها السرور بالحزن العميق .. سُرَّ بتحرُّرِ دنيازاد من قبضة الرجل القرد، ولكنه حزن بعمقٍ على موت الفتاة التي تمناها لنفسه، والتي من أجلها فكر جادًّا في تدبير مؤامرةٍ لاغتيال كرم الأصيل.

٢٦

كان المجنون يتأمَّل في ظلمة الليل تحت النخلة عندما انتبه إلى شبحٍ يقترب على ضوء النجوم .. سَمِع صوت أُنثى يُحيِّيه، وتقول: باسم الله أسألكَ أن ترشدني إلى سفينةٍ تُبعِدني عن المدينة.

فسألها بِرقَّةٍ: أتهرُبينَ من فعلٍ يغضب الله؟

فقالت بحرارةٍ: ما أغضبتُ الله في حياتي قطُّ.

صوتُها ذكَّره بأكرمان وحسنيةَ، فمازج حنان الأرض أشواق السماء في قلبه، فقال برقَّةٍ مشعشعةٍ بالندى: عليكِ بالانتظار حتى مطلعِ الفجر، واللهُ يتولَّاكِ برحمته.

– هل أستطيع الانتظار هنا؟

فابتسم ابتسامة لم ترَها، وقال: خُلق العراء للهاربين! أين تذهبين؟

– أريد أن أبعُد عن المدينة.

– ولكنك وحيدةٌ ولعلك جميلةٌ!

فلاذت بالصمت، فقال: لعل الله يعينكِ بيدي إن شئتِ؟

فقالت بامتنان: ما أريد إلا أن تُيسِّر لي السفر.

فتساءل بقلقٍ: عهد الله إنَّكِ لم تُخلِّفي وراءك أذًى لإنسان؟

فقالت بصوتٍ متهدجٍ وقد اطمأنَّتْ إليه: إني مظلومةٌ، غادرتُ داري لأقتلَ نفسي، ثم خفْتُ أن يلقاني الله غاضبًا.

– لماذا يا ابنتي؟

فنَشجَت باكيةً، فهتف مخاطبًا السماء: إنَّك أعلم أين تضع رحمتكَ.

– بريئة ومظلومة.

– ما أُحب أن أتطفَّل على سِرِّ قلبكِ.

فاستسلَمتْ قائلة: إنَّكَ من العباد الطيِّبين وإليكَ أبوح بسِرِّي.

وراحت تَحكي حكايتَها، فقاطعَها متسائلًا: أأنتِ صاحبة الحُلم؟

فهتفَت متسائلة: كيف عرفتَ ذلك؟

– عرفتُه من شريكك في نفس المكان، وسمعتُه بعد ذلك من المنادين.

– عقلي عاجزٌ عن متابعتكَ، هل تعرف شريكي في الحُلم؟

– المنادون يُردِّدون اسمه في كل مكان، إنَّه نورُ الدين بيَّاع الروائح العطرية.

فقالت وكأنما تُخاطب نفسها: المنادون؟! وراءهم السلطان! يالَلعجَب! نور الدين .. نور الدين .. لكنِّي متزوجةٌ، بل إني ميتةٌ.

وأكملَت قصَّتها فقال الرجل: اذهَبي إلى زوجكِ!

فهتفَت بإصرارٍ: الموتُ أهونُ.

– اذهَبي إلى زوجكِ نورِ الدينِ!

فتساءلَت بذهول: ولكنني زوجةٌ شرعيةٌ لكرم الأصيل!

فقال بحزم: اذهبي إلى نور الدين ودعي الفجرَ يطلُع!

٢٧

قال سخربوط محتدًّا: ماذا أرى؟ .. الأمور تسير نحو حلٍّ سعيدٍ!

فقالت زرمباحة مداريةً مرارةً: انتظرْ، مازال الطريق مليئًا بالأشواك.

ولمحا تحت الشجرة سحلول يمضي مُهروِلًا في الظلام، فتساءل سخربوط: مهمَّة طارئة أيها المَلاكُ؟

وقالت زرمباحة: لعلها لنا لا علينا.

مضى سحلول دون أن يُعيرَهما التفاتةً.

٢٨

في الصباح الباكر غادر نور الدين داره ليفتح دكانه .. وجد عند الدكان فتاةً محجبةً كأنما تنتظرُ .. عليها رداءٌ من القز الدِّمشْقِيِّ يُفصِحُ عن هُويَّةٍ سامية .. تطلَّعتْ إليه باهتمامٍ ثم ندَّت عنها آهةٌ عميقة .. عَجِب لشأنها وتَلقَّى من قلبه نبضاتٌ موحيةٌ بإلهاماتٍ غامضة .. ما لبثَتْ أن أسفَرتْ عن وجهٍ مضيءٍ ورنَتْ إليه بثباتٍ واستسلامٍ وشغف .. مرَّ دهرٌ وهما غائبانِ عن الوجود وغائصانِ في حُلمٍ ينفُث السحر والوجْدَ .. رقَّتْ نسائمُ الربيع، خفَّ وزنُهما، أُفعِما بشذا الزرقة السماوية .. أَنْسَتْهُمَا السعادةُ الهابطةُ ذكرياتِ العذابِ والحَيرةِ، فحلَّ السلام بالأرض، وتلاحمَت الأيدي بحركة عَفويَّةٍ مثل غناء الطير .. هتَف: كائنٌ وحي، حقيقةٌ لا حلمٌ، هنا في هذه الساعة من الزمان.

فهمسَت بصوتٍ متهدجٍ: نعم .. أنت نور الدين وأنا دنيازاد!

– أيُّ رحمةٍ هدتكِ إلى مقامي؟

فتدافعَت الكلمات من ثَغرها تَروي المأساة والفرج، فقال بنشوةٍ: كان علينا أن نطمئن إلى أنَّ المعجزة لا تقع عبثًا.

– ولكنَّ الرعدَ أقوى من هديل الحمام.

فقال بإصرار: معًا وإلى الأبد.

– كان ذلك قدَرًا مقدورًا.

– لنذهب إلى السلطان.

فانطفأَت شعلةُ حماسها، وهي تقول: ولكني متزوجةٌ من كرم الأصيل.

فقال بحدَّةٍ: وعدُ السلطان أقوى.

فقالت بأسًى: والعثَراتُ لها قوَّتُها أيضًا.

ولكنه كان من السُّكْر في غايةٍ.

٢٩

انعقَد المجلس السلطاني في الضُّحى وشَهِده كبار رجال الدولة .. مثَل أمام العرش نور الدين بيَّاع الروائح العطرية، ودنيازاد أخت السلطانة .. قال السلطان مُتجهِّمًا: دهمَتنا العجائبُ الغامضةُ، وقد علَّمَتنا الأيام والليالي بأن نخصَّ العجائبَ باهتمامنا، وأن ندُقَّ باب الغموض حتى تتفتَّح مصاريعُه عن الضياء، غير أنَّ هذه العجيبة المتنكِّرة في حُلمٍ اقتحمَتْ عليَّ داري.

صمَت السلطان فخفَق قلب الوزير دندان، وشَحبَ وجها دنيازاد ونور الدين .. قوًى متضاربة تتَنازع قلب السلطان ولا شكَّ .. ما زال الماردُ القاسي، سَحَرتْه الحكاياتُ ولكنَّها لم تُغيِّر من جوهره، وإذا به يقول ووجهه يزداد تَجهُّمًا: ولكنَّ وعد السلطان حقٌّ!

فزال الكرب عن قلوبٍ كثيرةٍ وأشرقَت وجوهٌ بنور الأمل .. وعند ذاك قال المفتي: ولكن السيدة دنيازاد متزوِّجةٌ بحكم الشرع.

فأصدَر السلطان أمره إلى دندان، قائلًا: أحضِر كرم الأصيل.

فقام يوسف الطاهر حاكمُ الحيِّ العتيق، وقال: مولاي، وُجِد كرم الأصيل ميتًا ليلة أمسِ غير بعيدٍ من داره.

اجتاح الخبرُ القلوبَ فزلزلَها، وسرعان ما تذكَّرتْ مصارعَ الحكامِ والأعيانِ .. وقام بيومي الأرمل كبير شرطة الحي، فقال: عثَر رجالنا على المجنون الهارب يهيم على وجهه ليلًا في الحي بعد بحثٍ طويلٍ خائبٍ عنه فألقَوا القبض عليه.

فسأله السلطان: هل تتَّهمونه بقتل الأصيل؟

– إنَّه ينسب إلى نفسه الجرائم كافَّةً في مباهاةٍ وعِزَّة.

– أَليس هو الرجلَ المصرَّ على الزعم بأنَّه جمصة البلطي؟

– هو نفسه وما زال مصرًّا على ذلك.

وهنا قال يوسف الطاهر: نستأذن مولانا في ضرب عنقه؛ فهو آمن من إرجاعه إلى دار المجانين.

فقال السلطان: حدَّثني وزيري دندان بأنَّ النفق الذي هرب منه لا يمكن أن يصنعه بشرٌ!

فقال بيومي الأرمل بتسليمٍ: هو كذلك يا مولاي.

تردَّد السلطان طويلًا حتى شعَر المقرَّبونَ بأنَّ الخوف يساورُه لأوَّل مرَةٍ في حياته، ولمَّا أدرك دندان ذلك، قال بلباقةٍ: ما هو إلا مجنون يا مولاي، ولكن به سرٌّ لا يُستَهانُ به فليُتركْ وشأنه .. وما من مملكةٍ إلا وبها نفرٌ من أمثاله لهم دورُهم في العناية الإلهية، أرى يا مولاي أن يُتركَ وشأنهُ وأن يُبحثَ عن القاتلِ بين الشيعة والخوارج.

فقال السلطان، شاكرًا في باطنه لوزيره لباقتَه: أحسنتَ النصيحةَ يا دندان.

ثم نظر إلى دنيازاد ونور الدين وقال: لكما الوعد فتزوَّجا، وسيكونُ لدنيازاد جميعُ مخصَّصاتِها من بيت المال.

وتجلَّل المجلس بالسلامة والسعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤