الفصل السادس والعشرون

هل اخترعت مصر الحضارة

مما يؤسف له أكبر الأسف أن الجامعة المصرية لم تستطع إغراء الأستاذ إليوت سمث للقدوم إلى مصر والتدريس بالجامعة، فقد بخلت عليه حكومتنا بخمسمائة جنيه، مع أن مثل هذا الرجل لا يضن عليه بمال، وخاصة بالنسبة إلينا نحن المصريين، فإننا أمة تحتاج إلى الدعاية في أوروبا لتحسين سمعتنا عند الأوروبيين ورفع مقامنا في عيونهم، وليس في العالم رجل رفع من شأننا وجعل لنا المقام الأول في التاريخ مثل إليوت سمث.

كان إليوت سمث قبل عشرين سنة أستاذًا في مدرسة الطب بقصر العيني، وكان يدرس الجماجم المصرية القديمة ويقابلها بالجماجم الحديثة في مصر وأوروبا وآسيا، وكان التشريح درسه الأصلي ولكن هواه كان في «المصرلوجية»، ينقب عن الآثار ويبحث عن جماجم أسلافنا ويقيس رءوس الفراعنة ويستقرئ أدوات مصر القديمة وآلاتها، وفي أحد الأيام حوالي سنة ١٩٢٠ التمع بذهنه خاطر غريب، وهو أن المصريين أول من عرفوا الزراعة والحضارة في العالم وأن الآثار الحجرية التي توجد الآن بإنجلترا أو بالهند أو بأمريكا هي من آثارهم بالذات أو بالثقافة المنقولة عنهم.

وهذا الخاطر الغريب قد صار علمًا يتباحثه العلماء في جميع أقطار الأرض المتمدينة، وصارت له كتب ضخمة ومختصرة قرأت أنا وحدي منها إلى الآن ثلاثة كتب وسأوالي القراءة في هذا الموضوع إلى يوم أموت، وذلك لا لأني أجد في هذه الكتب علمًا صحيحًا وكشفًا عظيمًا لتاريخ الإنسان فقط بل لأني أشعر فيه من الارتياح، بل الزهو، ما يجعلني أنبسط لقراءة هذه الكتب الجديدة وأهش لهذه النظريات الرفيعة.

وكيف لا أزهو، بل كيف لا تزهو أنت أيها القارئ المصري عندما تعرف أن الأقدار قد اصطفتنا من بين أمم العالم كله لكي ننشر على الناس مبادئ الحضارة ونخرج الإنسان من بداوة الغابة والصحراء إلى الزراعة والصناعة، ونخطط أول المدن، ونرسم أول الحكومات، ونخلق أول الآلهة، ونستنبط النحاس والذهب، وننحت الحجر وننشئ علمي الكيمياء والفلك، ونضع للناس — أجل لجميع الناس — شرائع الزواج؟

هذا ما يقرره الأستاذ إليوت سمث هو وطائفة كبيرة الآن من العلماء، وهذه النظرية ترفع من مقامنا في عيون العلماء الذين كانوا يعتقدون أننا شرقيون منحطون لا ننتفع من العالم ولا ننفعه. ثم هي مع ذلك نظرية صحيحة يدعمها الاستقراء ويقول بها غير المصريين من العلماء.

ولكن الأستاذ إليوت سمث يزيدنا وجاهة ومقامًا للتاريخ من حيث إنه يقول إن المصريين كانوا شعبًا لا يختلف من حيث بنية الجسم واللون عن الشعوب التي كانت تعاصره في ذلك الوقت في إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وهو يقول ذلك بناء على مشاهداته عندما قابل رءوس المصريين القدماء برءوس قدماء الأوروبيين، وإذا عرفت أن بعض العلماء يعتقد أن أسلافنا كانوا زنوجًا أو شبيهين بهم، وأن البعض أيضًا يعتقد أنهم يمتون إلى أصل مغولي، أدركت قيمة هذا البحث الجديد في الدعاية لمصر.

والخلاصة أن العلماء يتجهون إلى القول بأن مصر هي التي أفشت الحضارة في العالم، وأن المصريين القدماء لم يكونوا أمة شرقية، بل كانوا أمة غربية الدم والمزاج، وأن غربيتها هذه هي التي يسرت على أوروبا اصطناع حضارة المصريين؛ لأن الأوروبيين وجدوا أن القائمين بهذه الحضارة يمتون إليهم بنسب الدم وقرابة العصب فلم يتوجسوا شرًّا من بدع المصريين بل نقلوها واصطنعوها وارتقوا بها.

والآن أيها القارئ أسألك: إذا كانت الأقدار قد قيضت لآبائنا أن يثبوا بالإنسان إلى نور الحضارة فهل يليق بنا نحن أبناءهم أن نركد فلا نبتدع ولا نثب؟

كلا. إننا لن نكون حفدة أولئك الجدود العظام ما لم نقف في مقدمة الأمم، نعمل لخير العالم كما عملوا، ننطوي على النية الحسنة التي انطووا عليها، ونبشر بحضارة جديدة، ونغامر من أجل رقي الإنسان ونلتحق بتلك الشعوب التي خرج منها هؤلاء الجدود فنلبس لباسهم ونسير معهم ونتثقف بثقافتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤