الفصل الحادي والخمسون

البذرة

«فلتكن تلك البذرة الحسنة أو القدوة الفاضلة للجيل القادم»

عند الألمان أمثولة تقصها الأم على ابنها، ويرويها الكبير للصغير كي تكون غرسًا صالحًا يلذ لهم ويوجه قوى الناس للخير والبر. يسمعها الصبي فتنطبع بذهنه، وتختلط بدمه وتتأصل في عناصره، فإذا شب عمل بها واتجه نحو الغاية المقصودة منها، والمثل الشائع بين الأمة كمثل الأمثولة التي تقص على الصغار للعظة والعبرة، كلاهما يدل على عقلية هذه الأمة وما تتشوف إليه. بل يكن معرفة طبائع الأمم وأخلاقها من أمثالها.

يقول الألمان في أمثولتهم:

«إن سائحين كانا قد نزلا في قرية، فبينما هما قاعدان في خان إذا بنار قد شبت في القرية

فقال أحدهما: ليس هذا شأني.

ولكن الآخر نهض، وعدا نحو النار، فأنقذ بعض الناس وكثيرًا من الأثاث، فلما عاد إلى رفيقه سأله هذا: ومن أمرك بأن تخاطر بنفسك لمصالح غيرك؟

فقال الرجل الشهم: إن الذي أمرني بهذا هو الذي أمرني بأن أدفن البذرة كي تنبت وتكثر.

فقال الآخر: ولكن لو كنت أنت قد دفنت في هذه النار؟ فأجابه الثاني: إذن كنت أكون هذه البذرة».

فهذه أمثولة جميلة، لو أن أحد شعرائنا وضعها في مقطوعة يحفظها الصغار، لكانت من خير المحفوظات التي تقوم الأخلاق وتغرس في نفس الناشئ روح البذل والتضحية، ففيها معنى الإيثار، وبذل النفس لمصلحة الغير، ثم فيها هذا المعنى الخطير وهو أن كل كلمة نتفوه بها أو عمل نعمله هو بمثابة البذرة التي تنبت وتثمر آلاف البذور.

وهذا يبعثنا إلى أن نحاسب أنفسنا، فلا نزرع من البذور إلا أصلحها فكلمة السباب التي ننطق بها أو نكتبها هي بذرة سوء، ستنبت كالشوك بين الجيل الجديد الذي ينشأ على تعلمها والتلفظ بها، وخواطر الحقد والحسد والجبن والأثرة التي نتفوه بها أو نكتبها ستجد صدى في نفوس الذين يسمعونها أو يقرءونها فينشئون عليها نشأة سيئة.

فكل منا زارع، وما من عمل نأتيه أو كلمة نتفوه بها إلا وهي بمثابة البذرة تنمو وتربو وتثمر الثمرة الصالحة أو السيئة، وذلك لأننا نعيش بين الناس، فهم قدوة لنا ونحن قدوة لهم، وهم يتأثرون بأعمالنا وأقوالنا كما نتأثر نحن بهم، وأكبر عامل في الأخلاق، بل يكاد يكون العامل الوحيد فيها، هو القدوة، فنحن ننشأ على غرار من حولنا من الناس الذين نعاشرهم أو نلابسهم في معاملة أو زمالة أو نحو ذلك، ومرجع هذه القوة التي نراها في القدوة هو ما فطرنا عليه من المحاكاة لغيرنا، فنحن نحاكي الناس في حركاتهم وكلامهم وأعمالهم على غير وعي منا، بحيث إننا نحب ونكره الناس والأشياء، أو نعجب بهم، في أكثر الأحيان إن لم نقل فيها كلها، تقليدًا ومحاكاة وليس عن سبيل التفكير والاختيار، فإذا كان هؤلاء الناس يبذرون البذرة الصالحة في القول والعمل نشأنا مثلهم، وإذا كانوا عكس ذلك ينطقون بهجر القول ولا يستحيون من فاسد أعمالهم فإننا نقتدي بهم ونسير سيرة السوء التي يسيرون عليها، ومن هنا نفوذ الكاتب أو الزعيم، أو أي إنسان آخر له وجاهة المال أو الحسب أو المركز، فإنه يستطيع بالقول أو العمل أن يكون قوة للخير أو الشر وأن يكون بذرة تنبت للجيل الذي يليه فينتفع أو يستضر بها في أخلاقه، ويجب لهذا السبب أن تكون فينا روح ذلك الألماني الذي يرمي بنفسه في النار كي ينقذ بعض الناس أو الأشياء راضيًا بأن يكون كالبذرة تدفن في التراب كي ينتفع بها أبناء الجيل القادم إذا لم ينفع أبناء الجيل الحاضر، وإذا كنا نؤمن بأن الوسط يؤثر في الإنسان فإننا يجب ألا ننسي أننا أنفسنا أحد أجزاء هذا الوسط الذي يتألف منه الكل، وكما أن الوسط السيئ يجعل اللص الكبير رئيس المنسر، والعاهر السكير والمبذر من الأبطال الشهام، فكذلك الوسط الحسن لا يقر بالبطولة والشهامة إلا للرجل الطاهر الذي يسعى للخدمة فيعمل لتأسيس مدرسة أو مستشفى أو إصلاح أحوال العمال أو نحو ذلك مما هو في نسق الرقي الحديث وشهامة القرن العشرين، فيجب أن نكون نحن تلك البذرة الحسنة والقدوة الفاضلة للجيل القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤