الفصل السادس

الاعتدال

كان أحد المتهكمين يقول إن الاعتدال دليل الضعف، وقد يكون كذلك في بعض الحالات، فمن الناس من يتورع عن الخمر أو يعتدل في تناولها لما يرى من أثرها السيئ في صحته، ومنهم من يعتدل في الطعام لأن معدته ضعيفة وإن كانت نفسه نهمة.

ولكن هناك اعتدالًا يجب أن نصطنعه للقوة لا للضعف، فيجب مثلًا أن نعتدل في الرياضة البدنية حتى نجد وقتًا للرياضة الذهنية، ويجب أن نعتدل في درس العلوم حتى نتمكن من درس الآداب، ويجب أن نتوسط ولا نغلو في جمع المال كي نتمتع بالأصدقاء والكتب وهناء العائلة والنزه.

فالحياة الكاملة أو التي تنشد الكمال يحتاج صاحبها إلى الاعتدال والتوسط؛ لأن هذه الحياة لا تبلغ القوة والسلطان على الوسط الذي تعيش فيه حتى يأخذ صاحبها بطرف من جميع مهام هذا العالم، فحياة الأديب الذي يدمن النظر في الأدب قد تنتهي به إلى أن يصير دودة من ديدان الكتب يؤثر الجملة المزخرفة والعبارة المبهرجة على متع الحياة الحقيقية، والكتاب مهما قيل في مدحه هو نسخة مترجمة عن الحياة وليس هو الحياة بالذات، وحياة العالم الذي يكتب عن العلم ولا ينظر في الأدب هي أيضًا حياة ناقصة تدعو إلى قصر النظر وضيق الذهن، وإنما الحياة المثلى هي حياة الاعتدال بين شهوة العلم وشهوة الأدب، وكذلك يمكن القول عن رجل الأعمال المكب على جمع المال، المنغمس في شهوة الحصول على أعراض العالم، يكد طول يومه وبعض ليله في اقتناء الدور والمصانع والأراضي كأنه أحد الفعلة الذين يعملون عنده. بل قد يكون الفاعل أكثر تمليًا للحياة وتمتعًا بمسراتها منه.

وقل مثل ذلك في سائر الناس، فالواجب أن نعتدل ونقنع من الحصول على بعض أشياء كي نجد من الوقت والقدرة ما نتمكن بهما من التمتع بأشياء أخرى؛ لأن الحياة أوسع وأعظم من أن يسعها الإكباب على عمل واحد وإدمان النظر والاجتهاد فيه.

ولقد كان المسيح يتكلم عن «الحياة الوفيرة» المليئة بالتجارب والمتع، وكان يتخيل هذه الحياة كمثل أعلى إزاء ما كان يرى من حياة ضنية يعيشها الناس، وكم من الناس الآن يعيش حياة ضنينة لا يعرف من الدنيا سوى عمله الذي يربح منه قوته، يكب عليه بكل قوته ويتعامى عن كل ما حوله كأنه لم يخلق إلا ليأكل.

لقد كان «جيته» الألماني — ولا يزال — مضرب المثل في التمتع بالحياة. كان أديبًا وكان عالمًا، وكان سائحًا وكان موظفًا كبيرًا، بلا السياسة وحنكته الدسائس، وعرف الحب شابًا وكهلًا، وكان يعرف للطعام الحسن قيمته، ويشرب أجود الخمور في الليل وأجود أنواع الشاي في النهار، فعاش بذلك حياة وفيرة لم يضن فيها على نفسه بشيء من متعها.

ولسنا جميعنا في كفاية جيته، وقد لا نستطيع أن نتمتع بما تمتع به، بل قد تكون بعض متعه آلامًا لبعض الناس، وإنما قصدنا أن نقول إنه ينبغي لنا الاعتدال في العمل الذي نزاوله كي تتاح لنا الفرصة للتمتع بالحياة، فإن تعدد وجوهها يقتضي أن نلم بها كي نعرفها دون مبالغة أو إدمان في أحدها.

فالاعتدال فضيلة يدعونا إلى ممارستها الإحساس بالقوة لا الإحساس بالضعف، فيجب على المعتدل ألا يخشى تهكم المتهكمين، وكم في الحياة من متع نجهلها ونحرم أنفسنا منها وهي على مدى الذراع في متناول كل إنسان لو أراد، فنحن نعيش مثلًا في مصر التي هي أصل حضارة العالم أجمع بشهادة العلماء، ومع ذلك نجهل آثارها التي تكشف لنا عن تاريخ العقل الإنساني وضلالاته، ونحن نعيش في عصر حافل بالمخترعات والمكتشفات، وأي شيء أمتع للنفس من أن ندرس هذه الأشياء ونجربها. أجل، ندرس آلة الطيارة ونركبها فنغذي الذهن والإحساس معًا. أليس من العار أن نموت قبل أن نركب الطيارات ونقضي حياتنا مكبين على عملنا كأننا مسخرون له؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤