الفصل الرابع

الحقيقة

من أنت يا أنا؟ أيها الكائن داخلي.

أيها الغريب الذي لا يريد أن يبتعد عني؟

يبحث الإنسان عن الأسرار، لكن أكبرَ سرٍّ يحمله بين جوانبه. أتصور أحيانًا في النهايات القصوى للزمان، وبعد أن تخرج الحقيقة من البئر حاملة سياطها، ما الذي يمكن أن تقوله للبشرية، أي سر سينكشف أخيرًا، أي ضوء سينير الظلمات؟ ذلك الصوت البعيد القادم من وراء العوالم الخفية، ما الذي يمكن أن يخبرني به؟

تبدو لي الحياة أحيانًا كما لو أنها ليلة واحدة طويلة تنامها البشرية، وستستيقظ في حلم آخر، زرقة في داخل زرقة. الحقيقة منيعة عن الجنس البشري، لكنها دائمًا تحدِّق إلينا بجفون مفتوحة. أحتاج الكثير من التفكير للتعمق في الحقيقة، لكن القليل من الكلمات قادرة على قول ما هو أساسي، وما هو أساسي هو أنني أفضِّل الحياة على الحقيقة، أفضل الوجود على الفكر، أفضِّل الإحساس بالغيوم على فهم الغيوم.

التأجيل بالنسبة لي يعني التشبُّث بالحياة، رفض الحقيقة. أعتقد أنه من رحمة القدير بنا أنه منَحَنا هذه النعمة: التيه، القدرة على النسيان، التأجيل الدائم لمواجهة الحقيقة.

هكذا أمضي تحت المطر الخفيف في الشارع الطويل الذي يَفصل الثانوية عن المنزل، من هنا إلى هناك تزدحم الأفكار في ذهني، كما لو أن رأسي يشبه محطة لا تتوقف عن الحركة. تؤلمني الوجوه العابرة في سطحية الحياة، في الضمور اللاإنساني لمعنى الحياة المعاصرة. ما هو مؤسف هو أن اللامبالاة أصبح لها طابعٌ قومي. البلادة الألفية هذه هي أولى علامات الانحطاط البشري الأخير. هذا هو زمن الكينونة الحرجة.

في المساء عندما أكون في المزرعة، أندسُّ في بركة الحزن، في العمق الباطني للأشياء، كل الأشياء لها ما تقوله لو تمكنت فعلًا من الكلام. الكلب الذي يتعقَّبني، ما الذي كان سيقوله لو عبَّر عن وجوده؟ القط الغارق في تأملاته، أشجار التين المنتصبة هناك بكل بهاء. يظهر لي أن كل شيء في هذا العالم يتكلم لغة خاصة به. الطبيعة كلها محرومة من التعبير، لكنها ليست محرومة من اللغة. واللغة هي البئر المدهشة التي تخرج منها المعاني، إنها عطاء السماء في هذا العالم. السعادة بالنسبة لي تتمثل في جرعات الإحساس، كلما توقفت عن التفكير وانغمست في بواطني أكون قريبًا من ذاتي، قريبًا من تلك الأفكار التي ليس مصدرها الفكر، بل مصدرها الشعور. أجلس لساعات تحت شجرة التين في صمت كلِّي حتى بيني وبين نفسي. أريد أن أترك الأشياء تأخذ فرصتها في الكلام، أن تفصح هذه الشجرة عن شِعْرها الخاص، أن أستبطن التأملات العميقة لهذا القط الممدَّد في بهو المنزل، أن أترك العصافير تنشد فلسفتها الخاصة، فلسفة بدون «أنا» مفكرة، بدون مفاهيم أو حجج منطقية.

لو كانت حياتي ستئُول برمَّتها إلى الزوال لما كانت هناك أية مشكلة، لكنني مع ذلك هنا، تحت هذا المطر الخفيف الذي يُداعب وجهي. هدوء الصباح اللامُعبَّر عنه، النعومة التي لا يمكن نقلها إلى كلمات. يبدو لي أن أعظم فلسفة لن تظهر أبدًا إلى الوجود، وأجمل قصيدة لن يتمكن أي شاعر من كتابتها. سيظل دائمًا هناك معنى غائب، جمال غير معبَّر عنه، لن تطلع عليه أية امرأة من البشر. الحقيقة النهائية هي أنني لن أصل أبدًا إلى الحقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤